القواعد الفقهیه

اشارة

سرشناسه : فاضل لنکرانی، محمد، 1310 - 1386.

عنوان و نام پدیدآور : القواعد الفقهیه/ تالیف محمد الفاضل اللنکرانی.

وضعیت ویراست : ویراست

مشخصات نشر : قم: مرکز فقهی ائمه اطهار (ع) ، 1434 ق. = 1392 .

مشخصات ظاهری : 592ص.

شابک : 30000 ریال 978-600-5694-73-4 :

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربی.

یادداشت : چاپ چهارم.

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره : BP159/8 /ف18ق9 1392

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 3407660

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

القواعد الفقهیه

تالیف محمد الفاضل اللنکرانی

ص :4

ص :5

ص :6

المقدمة

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِیمِ

الحمد للّه الذی نور قلوبنا بأنوار العلوم و المعارف و بصّر أفهامنا بالتدبر فی الأحکام الدینیة و المعالم و هدانا إلی أشرف العلوم الإلهیّة و الصلاة و السلام علی أشرف الأنبیاء و المرسلین و علی آله الطیبین المنتجبین.

و بعد فإن من نافلة القول التأکید علی أهمیة علم الفقه و مکانته الرفیعة بین العلوم المختلفة، و لا شکَّ فی أنّ للقواعد الفقهیة و هی تشکل کلیات یطبِّقها الفقیه علی جزئیاتها الدور الکبیر فی اشتمال علم الفقه علی هذه الأهمیة.

و الجدیر بالذکر أن هذه القواعد الفقهیة لم تتناولها أقلام الفقهاء و المحققین بالدراسة و البحث المستوعبین، من هنا فلا بدّ لنا من أجل تنقیح و إیضاح قاعدة فقهیة ما بشکل کامل، تتبع و استقراء جزئیاتها المبثوثة فی الأبواب المختلفة للفقه.

ص:7

و نحن فی هذا المجال نتعرض بشکل إجمالی إلی بعض البحوث التی ترتبط بهذه القواعد.

کلمة «القاعدة» لغویاً:

هذه الکلمة من حیث اللغة موضوعة لما هو الأساس لشیء سواء أ کان مادیّاً أو معنویاً، علی نحو ینعدم الشیء و یضمحل بسبب انتفائه فالبیت مثلاً ینعدم بانعدام أساسه و الدین یندرس باندراس أساسه و العلم ینتفی بانتفاء القواعد الکلیة الموجودة فیه. قال ابن منظور (1):

«و القاعدة أصل الأُسّ و القواعد الأساس و قواعد البیت أساسُه و فی التنزیل وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ ، و فیه فَأَتَی اَللّهُ بُنْیانَهُمْ مِنَ اَلْقَواعِدِ . قال الزجاج: القواعد أساطین البناء الّتی تعمده و قواعد الهودج خشبات أربع معترضة فی أسفله ترکب عیدان الهودج فیها» .

و أما بحسب الاصطلاح: فهی قضیة کلیة منطبقة علی جمیع جزئیاتها.

قال التهانوی: «هی تطلق علی معان ترادف الأصل و القانون و المسألة و الضابط و المقصد و عرفت بأنها أمر کلی منطبق علی جمیع جزئیاته عند تعرف أحکامها منه» (2).

من هنا فیشترط فی کلمة «القاعدة» المستعملة فی العلوم الرائجة أن تکون قضیة کلّیة أو غالبیة، و لا یعتبر ان تکون أساساً للعلم علی نحو ینتفی بانتفائها فمثلاً لو انتفت قاعدةٌ واحدةٌ من قواعد الفقه أو النحو أو الرجال

ص:8


1- 1) لسان العرب 3:361.
2- 2) کشاف اصطلاحات الفنون 5:1177 1176.

أو غیرها لم ینتفِ العلمُ بانتفائها فتدبر!

ما المقصود بالقاعدة الفقهیة؟

اشارة

اعلم انهم اختلفوا فی تعریف القاعدة الفقهیة و ذکروا لبیان حدودها کلمات کلها غیر خالیة عن الإیراد و الإجمال فهنا خلاف بین مدرسة الإمامیة و مدرسة العامة کما وقع الخلاف بین علماء کل واحد من المدرستین نفسیهما و لتنقیح البحث فیها و فی الأمور المتعلقة بها یجب الکلام علیها فی جهات:

الجهة الاولی: فی اعتبار الکلیة فیها و عدمه.

فقد وقع الخلاف بین العامة فی أن القاعدة الفقهیة هل تجب ان تکون کلیّة أم لا بل تکفی کونها أکثریة؟ فذهب الحموی الی الثانی فقال: ان القاعدة هی عند الفقهاء غیرها عند النحاة و الأُصولیین إذ هی حکم أکثری لا کلی، ینطبق علی أکثر جزئیاته لتعرف أحکامها (1).

و وافقه بعض من المالکیة فقال أکثر قواعد الفقه أغلبیة (2).

و ذهب بعض منهم إلی الأوّل فقال: هی أصول فقهیة کلیة فی نصوص موجزة دستوریة تتضمن أحکاماً تشریعیة عامة فی الحوادث الّتی تدخل تحت موضوعها (3).

فالخلاف واقع بینهم فی الکلیة و عدمها و ذکروا أیضاً ان هذه النقطة

ص:9


1- 1) شرح الأشباه و النظائر 1:22.
2- 2) تهذیب الفروق تحت الفرق الثانی 1:36.
3- 3) المدخل الفقهی العام 2:941.

هی الجهة المائزة من أسباب الفروق و الاختلاف بین القواعد الفقهیة و القواعد الأُصولیة فهی کلیة دائماً بخلاف القواعد الفقهیة.

هذا و لکن لا یُری لهذا الخلاف عین و لا اثر بین الإمامیة، و السّر فی ذلک أنّ تقیید القاعدة الفقهیة بکونها غالبیة ناشئةٌ عن عدم التدبر فی مفهوم القاعدة و الخلط بینه و بین الاستثناء فتخیّلوا ان الاستثناء فی قضیة یخرجها عن کونها قاعدة، مع انه لا یخرجها عن ذلک العنوان، نعم یخرجها عن الکلیة و لکن هذا غیر خروجها عن عنوان القاعدة و الذهاب الی کون القاعدة الفقهیة أکثریة، فمثلاً قاعدة المؤمنون عند شروطهم قاعدة فقهیة مسلّمة و لها استثناءات ذکرت فی مبحث الشروط کعدم کون الشرط مخالفاً للکتاب و السنّة و غیر ذلک. فلا بدّ من بیان تبیین معنی القاعدة و التدبر فی مدلولها و التحقیق أنها قضیة مشتملة علی جزئیات مشترکة فی عنوان واحد أو شیء واحد.

الجهة الثانیة: فی الفرق بین القاعدة الفقهیة و الضابط الفقهی.

فذهب کثیرٌ من العامة إلی أن القاعدة الفقهیة أعم من الضابط الفقهی بمعنی انها لا تختص بباب واحد من أبواب الفقه بخلاف الضابط. قال ابن نجیم:

ان القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتی و الضابط یجمعها من باب واحد (1).

و قد أیده السیوطی و أبو البقاء (2).

ص:10


1- 1) الأشباه و النظائر، الفن الثانی:192.
2- 2) الکلیات، فصل القاف فی القسم الرابع:48.

و التحقیق عدم صحة هذا الفرق لانه متفرع علی تسلیم لزوم جریان القاعدة الفقهیة فی أکثر من باب واحد و هو غیر مسلِّم فإن القاعدة الفقهیة لا یلزم ان تکون جامعة للفروع من أبواب مختلفة بل یکفی ان تکون جامعة للفروع من باب واحد، و لذا قاعدة الإمکان مثلاً مختصة بباب الطهارة و لیست ضابطاً.

هذا و الحق ان بین الضابط الفقهی و القاعدة الفقهیة فرقا من وجهین:

الوجه الأوّل: ان الضابط الفقهی هو القضیة الّتی ترد فی مقام بیان الملاک و الشرائط لما هو الموضوع للحکم بینما القاعدة الفقهیة لا تکون بصدد بیان الموضوع أو المتعلق بل امّا ان تکون بصدد بیان حکم کلی أو بصدد بیان ملاک کلی مرتبط بالأحکام لا الموضوعات کقاعدة ان العلل الشرعیة معرّفات و لتوضیح ذلک نذکر نماذج و أمثلة للضابط:

ألف: قد ذکر الفقهاء من جملة محرمات الإحرام و الحرم، الصید البرّی و قد اختلفوا فی المائز بین الحیوان البرّی و البحری و أنه ما هو الضابط و الملاک فی کون شیء بریاً أو بحریاً فقال المحقق فی الشرائع: هو ما یبیض و یفرخ فی الماء لکن المستفاد من بعض الروایات (1)و الکلمات ان المعیار فی الحیوان البحری هو العیش فی الماء و عدم هلاکه فیه و قال والدنا المحقق المعظم: و الذی یقوی فی النظر ان ثبوت ضابطة شرعیة تعبّدیة بالإضافة إلی عنوانی صید البحر و صید البر و لو بالإضافة إلی بعض مصادیقهما، علی خلاف ما هو المتفاهم منهما عند العرف و اللغة، مستبعد جدّاً (2).

ص:11


1- 1) الوسائل، أبواب تروک الإحرام، الباب السابع، ح 1.
2- 2) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، کتاب الحج 3:339.

ب: ذهب الفقهاء إلی ان الضابط فی صحة الشرط مثلاً عدم کونه مخالفاً للکتاب و السنة فهذا ملاک لصحة الشرط و ضابط لها و لیس قاعدة فقهیة بل القاعدة هی المؤمنون عند شروطهم.

ج: قد وقع الخلاف فی ضابط المثلیة و القیمیة فی مبحث الضمان و المراد من الضابط فیهما، بیان حقیقة المثلیة و القیمیة و شرائطیهما عند العرف أو الشرع و أما القاعدة الواردة فیه فهی لزوم کون الأداء فی المثلی بمثله و فی القیمی بقیمته.

د: فی مبحث القصاص قد وقع النزاع فی ضابط العمد و الخطأ فی القتل و القاعدة فیهما جواز القصاص فی العمد و الدیة فی الخطاء.

ه: الضابط فی کون شیء عقداً أو إیقاعاً، عبادة أو معاملة، فقد ذکر الشهید (1)ان کل حکم شرعی یکون الغرض الأهم منه الآخرة یسمی عبادة و کل حکم شرعی یکون الغرض الأهم منه الدنیا یسمی معاملة.

و: الضابط فی الصغیرة و الکبیرة، فان قوله علیه السلام لا صغیرة مع الإصرار (2)، لیس من القواعد الفقهیة بل هو بیان لملاک الکبیرة و أیضاً قولهم کل ما توعد الشرع علیه بخصوصه فإنه کبیرة و کل معصیة توجب الحد فإنها کبیرة.

ز: الضابط فی التعبدیة و التوصلیة و قد یسمی بالضابط الأُصولی.

فتلخص من جمیع ذلک کله ان الضابط انما هو فی دائرة ذکر الملاک و الشرائط للموضوع أو المتعلق فقط بینما ان القاعدة الفقهیة لا تکون بصدد

ص:12


1- 1) القواعد و الفوائد، الجلد الأول، قاعدة 7:36.
2- 2) الوسائل 11:268.

بیان شرائط الموضوع و إنما تکون بصدد بیان أحکام شرعیة کلیة.

الوجه الثانی: ان الضابط الفقهی لا یلزم ان یستند إلی الشارع و یؤخذ منه بل کثیر من الضوابط المذکورة فی الفقه قد أخذت من العرف فراجع و تدبّر.

الجهة الثالثة: فی الفرق بین القاعدة الفقهیّة و النظریة الفقهیة.

فذهب جمع من العامة الی عدم وجود الفرق بینهما، قال أبو زهرة فی کتابه المسمی بأُصول الفقه:

«القواعد الفقهیة هی النظریات العامة الفقهیة» .

و لکن ذهب بعض آخر منهم إلی وجود الفرق بینهما فقالوا:

«ان النظریة العامة هی غیر القاعدة الکلیة فی الفقه الإسلامی فإن هذه هی بمثابة ضوابط بالنسبة إلی تلک النظریات. . و قد ترد قاعدة بین القواعد الفقهیة ضابطاً خاصاً بناحیة من نواحی تلک النظریات فقاعدة العبرة فی العقود للمقاصد و المعانی مثلاً لیست سوی ضابط فی ناحیة مخصوصة من أصل نظریة العقد» (1).

فیستفاد من عباراتهم ان الفرق بینهما فی نقطتین:

النقطة الاولی: ان القاعدة الفقهیة متضمنة للحکم الشرعی الفقهی فی حد ذاتها بخلاف النظریة العامة فإنها غیر متضمنة للحکم الفقهی کنظریة الملک و نظریة الفسخ.

النقطة الثانیة: ان القاعدة الفقهیة غیر مشتملة علی الأرکان و الشرائط بخلاف النظریة العامة.

ص:13


1- 1) المدخل الفقهی العام 1:235.

هذا و الذی ینبغی ان یقال ان وجود الفرق بینهما أیضاً مما لا ینکر الّا ان الصحیح فی مقام الفرق ان یقال ان النظریة العامة هی المباحث المرتبطة ببعض الموضوعات الرائجة فی الأبواب المختلفة من الفقه و الدخیلة فی کثیر من الفروعات المتشتتة المتفرقة و تکون کالمبنی و الأساس للمباحث الأخر، کالبحث عن العرف و تعریفه و مدی دخالته فی الأحکام و البحث عن الحکم و حقیقته و أقسامه و البحث عن الملک و الفرق بینه و بین الحکم فالنظریة العامة مشتملة علی قضایا متشتتة و لیست قضیة واحدة بخلاف القاعدة الفقهیة و عمومیة النظریة باعتبار ارتباط الموضوع بأبواب مختلفة من جهة و بسعة البحث عن جمیع شئونه من جهة أخری فمثلاً نظریة الحکم لا یرتبط بباب واحد و لیست بقضیة واحدة بل یبحث فیها عن الحکم و شرائطه و القواعد المرتبطة به و الأقسام المتصوّرة فیه فإنهم لما رأوا ان لعنوان الحکم دخلاً أساسیاً فی کثیر من المباحث الفقهیة و الأُصولیة وجدوا من اللازم البحث عنه مستقلا و جمع الأُمور المرتبطة به فی بحث واحد و من هنا یتضح أن النظریة العامة لیست مختصة بالبحث عن عنوان بنظر الفقه و الفقیه بل یشمل ما إذا کان الموضوع دخیلاً فی علوم متعددة فإن البحث عن الحکم مرتبط بالفقه کما انه مرتبط بالأُصول و الکلام أیضاً.

تتمیم: قد تکون النظریة العامة مشتملة علی عدة قواعد من قواعد الفقه کنظریة العرف فإنها مشتملة علی قاعدة العادة محکمة و قاعدة استعمال الناس حجة یجب العمل به.

الجهة الرابعة: فی الفرق بین القاعدة الفقهیة و القاعدة الأُصولیة.

اشارة

و البحث فی هذه الجهة یقع فی مقامین:

ص:14

المقام الأوّل: فی الفرق بینهما بنظر العامة:

فقد ذکروا للفرق بینهما وجوهاً خمسة و أوّل من فرق بینهما علی ما قیل هو شهاب الدین القرافی فی کتابه المسمی بالفروق.

الوجه الأوّل: ان الموضوع فی القواعد الأُصولیة هو الأدلّة و الأحکام فإن القاعدة الأُصولیة حد وسط بین الأدلّة و الأحکام و یستفاد بها الأحکام من أدلّتها بینما ان الموضوع فی القواعد الفقهیة هو فعل المکلّف.

الوجه الثانی: ان القواعد الأُصولیة کلیة بخلاف القواعد الفقهیة فإنها غالبیة.

الوجه الثالث: ان القواعد الأُصولیة آلة لاستنباط الأحکام الشرعیة بخلاف القواعد الفقهیة فإنها عبارة عن حکم الجزئیات المتشابهة المشترکة فی علة واحدة.

الوجه الرابع: ان القواعد الفقهیة متأخّرة عن الفروع فی الوجود الذهنی و الواقعی لأنها جمع اشتات و ربط بینهما و أما القواعد الأُصولیة فإنها متقدمة علی الفروع لتوقف الاستنباط علیها.

الوجه الخامس: ان القواعد الأُصولیة أمور استنباطیة و الأحکام تستنبط منها بخلاف القواعد الفقهیة فإنها أمور تطبیقیة و الفروع مندرجة تحتها.

و یرد علی الأوّل ان الموضوع فی بعض القواعد الفقهیة لیس فعل المکلّف کقاعدة لا ضرر فان الموضوع فیه هو الحکم الضرری بناء علی تفسیر المشهور.

و علی الثانی: انا قلنا سابقاً ان الاستثناء فی القواعد الفقهیة لا یدلّ

ص:15

علی الغالبیة و لا ملازمة بین الاستثناء و بین کون القاعدة أغلبیة.

المقام الثانی: فی الفرق بینهما بنظر الإمامیة

فنقول یستفاد من کلمات الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم وجوه شتی.

الوجه الأوّل: ما یستفاد من بعض کلمات الشیخ الأعظم (1)و تبعه المحقّق النائینی (2)من ان نتیجة المسألة الأُصولیة نافعة للمجتهد فقط بخلاف القاعدة الفقهیة فإنها نافعة للمقلّد أیضاً و بعبارة اُخری اعمال القاعدة الفقهیة مشترک بین المجتهد و المقلّد.

و قد أورد علیه المحقّق الخوئی (3): بانا نسلّم کون النتیجة فی المسألة الأُصولیة نافعة بحال المجتهد فقط و لکن لا نسلّم اشتراک النتیجة بین المجتهد و المقلّد فی القاعدة الفقهیة فمثلاً ان قاعدة ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده من أی طریق یعلم المقلّد ان البیع مثلاً من العقود الّتی یکون فی صحیحها الضمان و مثلاً قاعدة الصلح جائز بین المسلمین الّا ما خالف کتاب الله، فمن أی سبیل یتوجه المقلّد ان هذا الشرط هل هو موافق للکتاب أو مخالف له.

و الظاهر عدم ورود الإشکال لأن المقصود من کون النتیجة نافعة للمقلّد، انه قادر علی التطبیق و معنی هذا ان المقلّد بعد السؤال و الفحص عن ان البیع من العقود الّتی یکون فی صحیحها الضمان، یقدر علی تطبیق القاعدة و یحکم بان فی فاسدها أیضاً الضمان. و بعبارة اُخری انه قدّس سرّه یعتقد بان القواعد الفقهیة من باب تطبیق المضامین و من الواضح ان التطبیق

ص:16


1- 1) فوائد الأُصول فی ابتداء بحث الاستصحاب.
2- 2) فوائد الأُصول، الجزء الأوّل ص 19 من طبع جماعة المدرسین.
3- 3) المحاضرات 1/ 10.

غیر مختص بالمجتهد.

الوجه الثانی: ما ذکره المحقّق النائینی قدّس سرّه (1)من ان القواعد الأُصولیة متضمنة للأحکام الکلیة الّتی لا ربط لها بالعمل بلا واسطة بخلاف القاعدة الفقهیة فإنها و إن کانت قد تکون متضمنة للحکم الکلی الّا انها تصلح لاستفادة الأحکام الجزئیة منها فی الموارد الجزئیة فمثلاً قاعدة ما یضمن تکون صالحة لاستفادة الضمان منها فی البیع الشخصی المعین الفاسد و بعبارة اُخری ان الفرق بینهما من باب الفرق بین الکلیة بمعنی عدم التعلق بالعمل بلا واسطة و الجزئیة بمعنی التعلق بالعمل بلا واسطة.

و فیه: أن اللازم بیان الفرق بین القاعدة الأُصولیة و الفقهیة و ما ذکره من الجزئیة شامل للمسألة الفقهیة أیضاً و بعبارة اُخری لسنا فی مقام الفرق بین القاعدة الأُصولیة و الفقهیة فقط بل فی مقام الملاک لکون القاعدة فقهیة و ما ذکره جار فی المسألة الفقهیة مع انها لیست بقاعدة فقهیة فتدبر! هذا مع تفسیر الکلیة و الجزئیة بالمعنی الّذی ذکر علی خلاف ما هو الظاهر منهما مضافاً إلی ان بعض المسائل الأُصولیة قد تکون صالحاً للأحکام الجزئیة کالاستصحاب فتأمّل.

الوجه الثالث: ما ذهب إلیه المحقّق الخوئی قدّس سرّه (2)من ان استفادة الأحکام الشرعیة من المسألة الأُصولیة یکون علی نحو التوسیط و الاستنباط بخلاف القاعدة الفقهیة فإن الأحکام الشرعیة تستفاد منها علی نحو التطبیق أی تطبیق الکلی علی الجزئی.

ص:17


1- 1) فوائد الأُصول، الجزء الأوّل ص 19 من طبع جماعة المدرسین.
2- 2) المحاضرات 1/ 8.

و أشکل علیه الشهید الصدر قدّس سرّه (1)بإشکالین:

الإشکال الأوّل: ان مسألة الاستنباط موجودة فی بعض القواعد الفقهیة و لا تختص بالقواعد الأُصولیة و لم یذکر قدّس سرّه له مثالاً.

الإشکال الثانی: لو کان ملاک الفرق بینهما من هذه الجهة للزم ان یکون الخلاف بینهما ناشئاً من اختلاف کیفیة طرح البحث فی قاعدة فمثلاً قاعدة ان النهی عن الشیء هل یقتضی الفساد لو طرحت بعنوان البحث عن الاقتضاء لکان البطلان مستنبطاً من الاقتضاء و أما لو صیغت بأنه هل العبادة المنهی عنها باطلة أم لا فتأتی مسئلة التطبیق، فهذا الإیراد یدلّنا علی ان الفرق الجوهری بینهما شیء آخر و الاستنباط و التطبیق یکونان من آثاره.

فتبیّن ان هذا الوجه أیضاً غیر تام.

الوجه الرابع: ان القاعدة الأُصولیة یتم الاستعانة بها فی جمیع أبواب الفقه بخلاف القاعدة الفقهیة.

و فیه: ان بعض القواعد الفقهیة مرتبط بجمیع أبواب الفقه فمثلاً قاعدة ان علل الشرع معرفات بناء علی کونها قاعدة فقهیة و أیضاً قاعدة لا ضرر تجری فی العبادات و المعاملات و العقود و الإیقاعات نعم بعض القواعد الفقهیة مختص بباب واحد.

الوجه الخامس: ما یستفاد من کلمات السید المحقّق الإمام الخمینی قدّس سرّه (2)من ان القواعد الأُصولیة آلیة بخلاف القاعدة الفقهیة فإنها

ص:18


1- 1) بحوث فی علم الأُصول 1/ 22.
2- 2) تهذیب الأُصول ج 1.

استقلالیة.

و هذا الفرق متین جدّاً و لکن لا یستفاد منه الملاک فی کون القاعدة فقهیة فتأمّل.

الوجه السادس: ان الاستنتاج فی القاعدة الأُصولیة غیر متوقّف علی القاعدة الفقهیة بخلافها فإنها متوقّفة علی القاعدة الأُصولیة (1).

هذا و هنا فروق أیضاً بینهما من جهة المصدر و المدرک فیهما و سیأتی فی الجهة السابعة.

الجهة الخامسة: فی تقسیم القواعد الفقهیة

فهنا تقسیمان:

التقسیم الأوّل: ما ذکره الشهید الأوّل (2)فإنه قسم القواعد الفقهیة لا باعتبار کل باب بل باعتبار الموضوعات و إلیک ما ذکره ملخصاً:

ألف: القواعد المرتبطة بالاجتهاد ب: القواعد الجاریة فی المناکحات ج: القواعد الموجودة فی القضاء د: قواعد باب الجنایات ه: قواعد العبادات و: قواعد العقود ز: قواعد الإرث ح: قواعد الحدود ط: قواعد الدیات

ص:19


1- 1) الأُصول العامة للفقه المقارن ص 43.
2- 2) القواعد و الفوائد.

ی: قواعد القصاص فهذا التقسیم باعتبار الأبواب و الموضوعات و الظاهر انه لم یکن بصدد التقسیم الصناعی للقواعد الفقهیة و إنما استقصی القواعد المختلفة فی الأبواب المتعددة و لا حظها و نظّمها باعتبار الموضوعات المختلفة و بناء علی ذلک لم تکن منحصرة فیما ذکره بل کلما ازداد التتبع و الاستقصاء ازدادت القواعد و الموضوعات.

التقسیم الثانی: ما ذکره الشهید الصدر قدّس سرّه (1)فإنه قسمها إلی خمسة أقسام:

القسم الأوّل: ما لیس بقاعدة بمعناها الفنی کقاعدة لا ضرر فإن القاعدة متقومة بشیئین الأوّل ان تکون أمراً کلیاً و الثانی وجود نکتة ثبوتیة واحدة ترجع إلی حقیقة واحدة و هی فی الأحکام الشرعیة و القواعد المجعولة الشرعیة عبارة عن وحدة الجعل کقاعدة علی الید و حجیّة خبر الثقة و فی المجعولات غیر الشرعیة کقاعدة الملازمة بین وجوب الشیء و وجوب ذیه عبارة عن الوحدة النفس الأمریة امّا مثل قاعدة لا ضرر فإنها مجموعة من التشریعات العدمیة جمعت فی عبارة واحدة فبما انها غیر راجعة إلی نکتة واحدة و جعل واحد بل کلها فی عرض واحد فلیست بقاعدة بالمعنی الفنی لها و هذا نظیر ان یقال کل حکم ثبت للرجل فی المعاملات فهو ثابت للمرأة أیضاً فهو تجمیع جعول متعددة تحت تعبیر ثانٍ.

القسم الثانی: ما یکون قاعدة بمعناها الفنی مع دلالتها فی نفسها علی حکم واقعی کلی مجعول بجعل واحد کقاعدة ما یضمن الّتی ترجع إلی ضمان

ص:20


1- 1) بحوث فی علم الأُصول، الجزء الأوّل.

الید فهی قاعدة دالّة علی نکتة ثبوتیة واحدة تدلّ بنفسها علی الحکم الشرعی الواقعی و لا تکون طریقاً لا ثبات الحکم الشرعی و من هذه القاعدة یستفاد الضمان فی البیع الفاسد فهو غیر مجعول مستقلا بل حصة من القاعدة الکلیة و من هذا البیان یتضح ان القاعدة الأُصولیة تقع فی طریق إثبات الجعل الشرعی بخلاف القاعدة الفقهیة.

القسم الثالث: ما یکون قاعدة مع دلالتها علی الحکم الظاهری و بها یحرز صغری الحکم الشرعی کقاعدة الفراغ فهذا القسم کالسابق لا یقع فی طریق إثبات الجعل الشرعی بل یقع فی طریق إثبات مصداق متعلّق الجعل.

القسم الرابع: ما یکون قاعدة مع دلالتها علی الحکم الظاهری و بها نتوصّل إلی الحجة علی أصل الجعل کقاعدة الطهارة فی الشبهات الحکمیّة.

القسم الخامس: ما یکون قاعدة فقهیة استدلالیة استند الفقیه إلیها فی الاستنباط کقاعدة ظهور الأمر بالغسل فی الإرشاد و إلی النجاسة و الفرق بین القواعد الأُصولیة و هذین القسمین من القواعد الفقهیة عدم اختصاص القواعد الأُصولیة بباب فقهی معیّن بخلافهما.

فهذا التقسیم مع قطع النظر عن بعض المناقشات الواردة علی بعض الأقسام، انما هو باعتبار الحکم الشرعی الّذی تدلّ علیه القاعدة فالقاعدة الفقهیة اما ان تدلّ علی الحکم الشرعی الواقعی أو تدلّ علی الحکم الشرعی الظاهری و أیضاً امّا ان تکون بنفسها دالّة علی الحکم الشرعی و أمّا ان تقع فی طریق إثبات الحکم الشرعی و أیضاً امّا ان لا تدلّ علی الحکم الشرعی أصلاً بل تدلّ علی نفی الحکم الشرعی کقاعدة لا ضرر و لا جرح و قاعدة الحدود تدرأ بالشبهات و بعض القواعد الفقهیة فی مقام تبیین متعلّق الأحکام

ص:21

و لیس فی دائرة الأحکام نفیاً و إثباتاً نظیر کل ما توعد الشرع علیه بخصوصه فإنه کبیرة فهذه القاعدة فی مقام بیان تشخیص الذنب الکبیر و نظیر قاعدة کل ما لم یرد فیه دیة فی الشرع ففیه الحکومة فتحصل ان القواعد الفقهیة امّا ان تکون بصدد بیان متعلّق أو موضوعات الأحکام و أمّا ان تکون بصدد بیان الأحکام الکلیة نفیاً أو إثباتاً، واقعیّة أو ظاهریة.

الجهة السادسة: فی جریان القواعد الفقهیة فی الشبهات الحکمیة و عدم جریانها.

فذهب السید المحقّق الخوئی قدّس سرّه (1)إلی عدم جریانها لکون النتائج فیها أحکاماً شخصیة و قاعدة لا ضرر و لا جرح جزئیّة أیضاً من جهة جریانهما فی الضرر و الجرح الشخصیین لا النوعیین علی ما هو التحقیق فی محله.

و لکن أورد علیه الشهید الصدر قدّس سرّه ملاحظتین (2):

الملاحظة الأُولی: ما هو المراد من الشبهة الحکمیة؟ ان کان المراد منها هو الشک فی المورد الّذی کان بیانه علی عهدة الشارع سواء کان شاملاً لجمیع المکلّفین أم لا، فمن الواضح ان البیان فی الضرر الشخصی أیضاً علی عهدة الشارع و إن کان المراد منها هو الشک فی المورد الّذی کان بیانه علی الشارع علی نحو یشمل جمیع المکلّفین فالضرر الشخصی و إن کان خارجاً منها الّا ان تفسیر الشبهة الحکمیة بهذا البیان یکون بلا وجه.

الملاحظة الثانیة: ان المستفاد من بعض القواعد الفقهیة هو الحکم

ص:22


1- 1) محاضرات فی أُصول الفقه، الجزء الأوّل ص 10.
2- 2) بحوث فی علم الأُصول، الجزء الأوّل.

الکلی الشرعی علی نحو یشمل جمیع المکلّفین و الظاهر تمامیة الإیرادین فالقواعد الفقهیة کما تجری فی الشبهات الموضوعیة کقاعدة الفراغ و الید و الحلیة کذلک تجری فی الشبهات الحکمیة.

الجهة السابعة: فی مصادر القواعد الفقهیة.

فاعلم أن المصدر فیها لا یتخلّف عن المصدر فی نفس المسائل الفقهیة فبعضها مستفاد من القرآن الکریم کقاعدة لا حرج و نفی السبیل و قاعدة الإحسان و غیرها و بعضها مستفاد من السنة من عموم نصّ أو ظاهر روایة أو غیرهما و بعضها من الإجماع و العقل.

و قد یستفاد بعضها من القواعد الأُصولیة کقاعدة مشروعیة عبادات الصبی الّتی تستفاد من البحث الأُصولی أعنی ان الأمر بالأمر هل هو أمر بذلک الشیء أم لا؟ و هذا أیضاً من نقاط الافتراق بینهما بمعنی أن القاعدة الأُصولیة تصلح لان تکون علة للقاعدة الفقهیة و لا عکس فتتبّع و مع ذلک کله هناک قواعد مطروحة فی الفقه یستفاد منها ما یستفاد من سائر القواعد الفقهیة و لکن الدلیل فیها غیر الدلیل فی الأحکام الشرعیة کقاعدة أن العلل الشرعیة معرفات الّتی عبر عنها المحقّق الشریف القاسانی (1)بعنوان القاعدة الفقهیة و لا تدلّ بالمطابقة علی حکم شرعی فقهی و أیضاً قاعدة انه لا اطراد فی العلل التشریعیة و غیرهما و الظاهر ان دلیل هذه القواعد و نظائرها بناء علی کونها قاعدة فقهیة، هو الاستقصاء فی المذاق الشرعی فی الموارد المختلفة فهی قواعد مصطادة فلا دلیل نقلیاً معینا علیها هذا و قد تبحث عن بعض القواعد فی الفقه و لکن لا بعنوان قاعدة فقهیة بل کقاعدة کلیة قابلة للانتفاع

ص:23


1- 1) تسهیل المسالک إلی المدارک فی رءوس القواعد الفقهیة.

بها فی جمیع العلوم کقاعدة قبح ترجیح المرجوح الّتی هی قاعدة عقلیة و قاعدة انه لا تجتمع علّتان مستقلّتان علی معلول واحد فلا ینبغی جعلها من القواعد الفقهیة کما فعله البعض.

و قد تنشأ بعض القواعد الفقهیة من بعض آخر کقاعدة ما یضمن الّتی هی ناشئة من قاعدة الإقدام و قاعدة ضمان الید و هذا أیضاً من نقاط التمایز بینها و بین المسائل الأُصولیة فتدبّر.

و قد یستفاد بعض القواعد الفقهیة من بعض القواعد الکلامیة کقاعدة ان الأحکام تابعة للمصالح و المفاسد بناء علی کونها قاعدة فقهیة فهی مستفادة من قاعدة ان أفعال اللّه تبارک و تعالی معلّلة بالأغراض (1).

الجهة الثامنة: قد ادّعی الشهید الأوّل رجوع جمیع الأحکام الفقهیة إلی القواعد الفقهیة الخمسة

الأُولی: قاعدة تبعیة العمل للنیّة و الثانیة: قاعدة المشقة موجبة للیسر الّتی هی شاملة لقاعدة لا جرح و قاعدة یرید اللّه بکم الیُسر و لا یرید بکم العُسر و قاعدة البعثة بالحنیفیة السمحة السهلة و قاعدة لا ضرر و لا ضرار الثالثة: قاعدة الیقین و المراد منها فی نظره الاستصحاب الرابعة: الضرر المنفی الخامسة: العادة و التحقیق عدم رجوع کثیر من الأحکام إلی واحد من هذه القواعد الخمسة و هذا واضح لمن تتّبع الفقه.

ثمّ ان هذا الکتاب الشریف یجمع بین دفتیه جملة من البحوث الّتی ألقاها علی فضلاء الحوزة العلمیة فی قم المقدّسة سماحة المرجع الدینی الکبیر آیة اللّه العظمی الشیخ محمد الفاضل اللنکرانی دامت برکاته العالیة استقصی فیها البحث عن مجموعة من القواعد الفقهیة المهمة و قد تمیز بحثه لها

ص:24


1- 1) کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد ص 169.

بالاستیعاب و العمق و الوضوح.

و من ثمّ فقد کانت محاضراته الفقهیة هذه مهوی أفئدة رواد العلم و عشاق الفضل و لأجل تعمیم الفائدة و نزولاً علی رغبة الأفاضل فقد أمر دام ظلّه بطبعها فکان هذا الکتاب عیبة علمٍ و مجمع تحقیقٍ و منبعاً فیاضاً بالعطاء و شجرة تؤتی أکلها کل حین، نسأل اللّه تعالی ان ینفع بها و إن یدیم أیّام إفادات مؤلفها العامرة أنه سمیع مجیب.

و لا یسعنی هنا إلّا أن أشکر سماحة حجة الإسلام الشیخ محمد علی الحائری نسب الّذی قام بتخریج مصادر هذا الکتاب الشریف جزاه اللّه خیر الجزاء.

قم المقدسة ابن المؤلف محمد جواد الفاضل اللنکرانی 15 رمضان المبارک 1415

ص:25

ص:26

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم

قاعدة

اشارة

عدم ضمان الأمین إلّا مع التعدی و التفریط

و هی من القواعد الفقهیة المشهورة بل المجمع علیها؛ إذ لم ینقل من أحد الخلاف، و لا حاجة فی إثباتها إلی إقامة الدلیل علی عدم الضمان، بل یکفی عدم ثبوت الدلیل علی الضّمان، لانّ مجرد عدم ثبوت الضمان کاف فی عدمه، کما هو الشأن فی سائر الموارد التی یشک فیها فی ثبوت حکم تکلیفی أو وضعی مترتّب علیه حکم تکلیفی، و العمدة فی المقام ملاحظة شمول دلیل ضمان الید لما نحن فیه و عدمه، لان دلیل ضمان من أتلف لا یرتبط بالمقام بعد کون مورده تحقق التلف مستنداً الی الغیر و لو لم یکن المال فی یده، و المفروض فی المقام تحقق التلف من دون استناد إلی الأمین بل کونه سماویّاً مثلاً و کذا دلیل ضمان الغارّ الثابت فی قاعدة الغرور قاصر عن افادة حکم المقام، بعد عدم ثبوت تغریر فی محلّ البحث، فالعمدة ملاحظة

ص:27

قوله (صلی الله علیه و آله) علی الید ما أخذت حتی تؤدی (1)و أنه هل یشمل الید الأمانیّة أم لا؟ ربما یقال باختصاصه بالید المعنونة بعنوان العادیة، أو بالید غیر المأذونة من قبل المالک، أو من قبل اللّه، و معلوم ان ید الأمین سواء کانت الأمانة مالکیة کالعین المستأجرة عند المستأجر و المرهونة عند المرتهن و العاریة عند المستعیر، أو کانت شرعیة کاللقطة عند الملتقط أیام التعریف، أو المال المجهول المالک، أو أموال الغیّب و القصر عند الحاکم، أو المأذون من قبله، و مثل ذلک، لیست بید عادیة و لا غیر مأذونة؛ لان الفرض ثبوت الامانة و الاذن امّا من طرف المالک و أمّا من اللّه تبارک و تعالی.

و الوجه فی الاختصاص امّا دعوی انصراف القاعدة فی نفسها عن الید الأمانیّة، بمعنی انّه لا یفهم منها عند الملاحظة الّا غیرها، و أمّا دعوی کون کلمة الأخذ المأخوذة فی دلیل القاعدة و مدرکها ظاهرة فی الأخذ غیر المجاز و لا تشمل مطلق القبض، فإن النسبة بین الأخذ و بین القبض العموم المطلق، و أمّا دعوی ورود التخصیص علیها بعد شمولها فی نفسها للید الأمانیّة، و الدلیل علی التخصیص الروایات المتکثرة الواردة فی عدم ضمان الأمین و لکن یبعّد هذا الاحتمال إباء سیاق القاعدة عن التخصیص المتداول فی باب العمومات.

و کیف کان، فان قلنا بعدم شمول القاعدة للمقام، فهو یکفی دلیلاً علی عدم الضمان، و إن قلنا بالشمول، فاللازم ملاحظة الروایات الواردة بعنوان

ص:28


1- 1) سنن الترمذی 3:566. ، سنن البیهقی 6:95، سنن ابن ماجة 2:802 ح 240.

التخصیص، فنقول:

منها ما فی الوسائل عن کتاب المقنع للصدوق قال: سئل الصادق علیه السلام عن المودع إذا کان غیر ثقة هل یقبل قوله؟ قال: نعم و لا یمین علیه (1)، و قد نبّهنا مراراً علی ان الإرسال بهذا النحو، ای: بنحو الإسناد إلی المعصوم من دون الروایة لا یوجب قدحاً فی سند الروایة؛ لأنه بمنزلة التوثیق للوسائط، فالروایة لا مجال للإشکال فیها من جهة الإرسال.

و أمّا من جهة الدّلالة فظاهر السؤال یدل علی مفروغیة عدم الضمان فی محلّ البحث، لان محطّ نظر السائل انه إذا کان المستودع غیر ثقة و قد تحقق التلف فی یده، و هو یدّعی وقوعه من دون استناد الیه بل لأجل آفة مهلکة سماویة مثلاً هل یقبل قوله فی ذلک؟ و هو یدل علی وضوح عدم الضمان مع العلم بعدم استناد التلف الیه کما لا یخفی.

و منها مرسلة أبان بن عثمان المرویة فی الوسائل عمّن حدثه عن ابی جعفر علیه السلام فی حدیث قال: و سألته عن الذی یستبضع المال فیهلک أو یسرق، أ عَلی صاحبه ضمان؟ فقال علیه السلام-: لیس علیه غرم بعد ان یکون الرجل أمیناً (2). و مقتضی تعلیق الحکم بعدم الغرامة فی الجواب علی کون الرجل أمیناً ثبوت الحکم فی جمیع موارد ثبوت الامانة، و لو فی غیر مورد السؤال، من دون فرق بین ان تکون الأمانة مالکیة أو شرعیة.

و منها ما فی المستدرک عن أمیر المؤمنین علیه السلام-: لیس علی

ص:29


1- 1) الوسائل 13:228 ب 6 من کتاب الودیعة ح 77.
2- 2) الوسائل 13:228 ب 4 من کتاب الودیعة ح 55.

المؤتمن ضمان (1)، و هو نص فی عدم ثبوت الضمان علی المؤتمن، و لکن شموله للامین من قبل اللّه دون المالک، غیر ظاهر.

و منها ما فی الوسائل أیضاً عن قرب الاسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) ، قال لیس لک ان تأتمن من خانک و لا تتّهم من ائتمنت (2).

و الظاهر ان المراد من التطول الذی تدل علیه روایة الحلبی هو التطول فی مقام العمل، مع جواز التغریم الذی هو متفرع علی ثبوت الضمان، و علیه فلا ینافی التضمین من ناحیة أمیر المؤمنین (علیه السلام) مطلقا، و یؤیده بل یدل علیه مرسلة الصدوق، ان أبا عبد اللّه (علیه السلام) قال کان ابی (علیه السلام) یضمن الصائغ و القصار ما أفسدا و کان علی بن الحسین (علیه السلام) یتفضل علیهم (3). مع ان موردها صورة الإفساد و الإتلاف التی یکون الحکم فیها الضمان بمقتضی القاعدة و النصوص الکثیرة الواردة فی صورة الإفساد، فالتفضل و التطول لا ینافی الضمان، و لکنه حیث یکون فی المقام روایة أخری ظاهرة فی عدم الضمان، و هی روایة معاویة بن عمّار عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال: سألته عن الصباغ و القصار، قال، لیس یضمنان (4). و دلالته علی حکم صورة التلف ظاهرة و روایتان ظاهرتان فی التفصیل فی مثل القصار فی الضمان و عدمه بین صورتی الأمن و الاتهام أولاهما: روایة

ص:30


1- 1) المستدرک 2:506 کتاب الودیعة.
2- 2) الوسائل 13:229 ب ع من کتاب الودیعة ح 9.
3- 3) الوسائل، أبواب أحکام الإجارة، الباب التاسع و العشرون، الحدیث 20.
4- 4) الوسائل، أبواب أحکام الإجارة، الباب التاسع و العشرون، الحدیث 14.

أبی بصیر المشتملة علی قول ابی عبد اللّه (علیه السلام) : انه لا یضمن الصائغ و لا القصار و لا الحائک الّا ان یکونوا متهمین (1). و ثانیتهما: روایة محمد بن الحسن الصفار قال: کتبت الی الفقیه (علیه السلام) فی رجل دفع ثوباً الی القصار لیقصره، فدفعه القصّار الی قصار غیره لیقصره، فضاع الثوب، هل یجب علی القصّار ان یرده إذا دفعه الی غیره و إن کان القصار مأموناً؟ فوقّع (علیه السلام) هو ضامن له الا ان یکون ثقة مأموناً إن شاء اللّه (2).

یکون مقتضی الجمع بین الروایات المتعارضة فی المقام هو التصرف فی المطلقات منها و حملها علی الروایة المفصلة التی یکون مقتضاها ثبوت الضمان مع التهمة و عدم کونه مأموناً، و عدمه مع کونه کذلک، و علیه تتحقق المخالفة للروایات المتقدمة الظاهرة فی عدم ضمان الأمین مطلقا، فاللازم ان: یقال ان الروایات الدالة علی الضمان فی المقام خارجة عن محلّ البحث، لان موردها صورة الشک فی تحقق التلف فی ید الصائغ و القصار و مثلهما، و الدلیل علیه مضافاً الی التعلیل بکون تضمین أمیر المؤمنین (علیه السلام) انّما هو لأجل الاحتیاط علی أمتعة الناس ذیل روایة السکونی الدال علی انّه لم یکن یضمن من الحرق و الغرق و الشیء الغالب (3)؛ فان مقتضاه انه مع العلم بثبوت التلف و استناده إلی أمر آخر دون مثل الصائغ، لم یکن هناک تضمین أصلاً فالتضمین الثابت فی الصدر انّما هو فی مورد الشک فی تحقق التلف أو الشک فی الاستناد الی العامل و احتمال کونه هو المتلف، و منه یظهر

ص:31


1- 1) الوسائل، أبواب أحکام الإجارة، الباب التاسع و العشرون، الحدیث 12.
2- 2) الوسائل 13:275 ب 29 من کتاب الإجارة ح 18.
3- 3) ص 39.

ان مورد الروایة المفصلة أیضاً انّما هو خصوص صورة الشک، و یؤیده بل یدل علیه ان نفس هذا التفصیل لا یتلاءم الّا مع هذه الصورة؛ فإن الاتهام و عدمه لا یرتبطان الّا بما إذا کان هناک شک، و إلا فمع العلم بثبوت التلف و عدم الاستناد الی العامل لا یکون فرق بین المتهم و غیره، فالإنصاف ان الروایات الدالّة علی عدم الضمان محکمة.

هذا ما ورد فی باب الإجارة، و قد ورد فی أبواب آخر بعض ما یدل علی الضمان، مثل ما ورد فی باب المضاربة بمال الیتیم، و إن العامل ضامن، و ما ورد فی العاریة، مما یدلّ علی ضمان عاریة الدرهم و الذهب و الفضة و ما ورد فی الوصی مما یدل علی ضمانه فی الجملة، و ما ورد فی باب اللقطة، و انه إذا تلفت فالواجد ضامن لها، و لکنّها علی تقدیر عدم إمکان حملها علی ما لا ینافی الروایات المتقدمة، یکون مفادها ضمان الأمین فی الجملة، لا بأس به؛ لأن قاعدة عدم ضمان الأمین قابلة للتخصیص، و لا مجال للالتزام بابائها عنه أصلاً.

ثمّ انّه مع ما عرفت من وجود روایات متکثرة واردة فی المسألة، و إن الأمین لا یکون ضامناً الّا مع التعدی أو التفریط.

و منها غیر ذلک من الروایات الواردة فی الأبواب المتعددة من الودیعة و العاریة و اللقطة و غیرها، الدالة علی عدم ثبوت ضمان علی الأمین، نعم هنا بعض الروایات الظاهرة فی الضمان مثل ما ورد فی القصار و الصائغ کروایة یونس قال: سألت الرّضا علیه السلام عن القصار و الصائغ أ یضمنون؟ قال: لا یصلح الّا ان یضمنوا (1). و روایة الحلبی عن

ص:32


1- 1) الوسائل، أبواب أحکام الإجارة، الباب التاسع و العشرون، الحدیث 9.

ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال کان أمیر المؤمنین (علیه السلام) یضمن القصار و الصائغ احتیاطاً علی الناس، و کان ابی یتطوّل علیه إذا کان مأموناً (1). و روایة السکونی عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) : قال کان أمیر المؤمنین یضمن الصباغ و القصار و الصائغ احتیاطاً علی أمتعة الناس، و کان لا یضمن من الغرق و الحرق و الشیء الغالب (2).

یشکل الاستدلال فی مقابل عموم قاعدة ضمان الید علی تقدیره بإجماع الفقهاء و إرسالهم المقام إرسال المسلّمات؛ فإنه مع وجود روایات متکثّرة دالة علی عدم الضمان، ثبوت حجیّة بعضها من جهة السّند ایضاً، لا یبقی أصالة للإجماع، و لا مجال لدعوی کونه دلیلاً مستقلا فی مقابل الروایات، کما لا یخفی. نعم لو کانت الروایات بأجمعها قاصرة من حیث السّند، لکان الإجماع کاشفاً عن الاعتبار و جابراً للضعف من جهة السّند.

و کیف کان فالعمدة علی تقدیر شمول قاعدة ضمان الید هی الرّوایات الواردة فی عدم ضمان الأمین، هذا کله من جهة الدلیل علی القاعدة، و أمّا من سائر الجهات، فیقع الکلام فی أمور:

الأمر الأوّل- ان الضمان المنفی هنا هو الضمان الثابت فی قاعدة الید،

و هو کون المال فی ذمّة ذی الید و فی عهدته، الذی هو أمر اعتباری عند العقلاء و الشرع، و إن کان بینهما اختلاف فی بعض الموارد، و هو ای ثبوت المال فی العهدة، و بتعبیر الروایة «علی الید» یستمرّ الی ان یتحقق أداء نفس المال مع وجوده و إمکان أدائه أو أداء مثله أو قیمته عند تلفه أو ما بحکمه،

ص:33


1- 1) الوسائل، أبواب أحکام الإجارة، الباب التاسع و العشرون، الحدیث 4.
2- 2) الوسائل، أبواب أحکام الإجارة، الباب التاسع و العشرون، الحدیث 6.

فمرجع الضمان المنفی هنا الی عدم ثبوت المال التالف علی عهدة الأمین و فی ذمّته، فلا یجب علیه أداء مثله أو قیمته و قد عبّر فی مرسلة أبان المتقدمة بأنه لیس علیه غرم بعد ان یکون الرجل أمیناً.

الأمر الثانی- ان المراد من الأمین هو مقابل الخائن

الذی إذا وقع مال الغیر تحت یده و فی اختیاره لا یأبی عن الخیانة فیه الموجبة لتلفه أو لحصول منقصة فیه، و هل المراد من الأمین من کان غیر خائن فی نفسه و بحسب وصفه الواقعی، کما اشتهر توصیف النبی (صلی الله علیه و آله) به قبل البعثة إذ یخاطبونه (صلی الله علیه و آله) بأنه أمین، أو ان المراد منه فی المقام هو المؤتمن الذی ائتمنه صاحب المال علی الی ماله الذی أوقعه تحت یده؟ و علی التقدیر الثانی هل المراد بالمؤتمن من کان مورداً لوثوق صاحب المال و اطمئنانه بأنه یکون محفوظاً عنده بجمیع أجزائه و أوصافه و لا یتحقق منه الخیانة بالنسبة إلیه أصلاً، أو ان المراد بالمؤتمن من کان طبع جعل المال فی اختیاره مقتضیاً لعدم خیانته، مثل ما إذا کان بصورة الودیعة التی غرضها حفظ المال، أو العاریة التی یکون غرضها الانتفاع مع بقاء المال بجمیع شئونه، و إن لم یکن مورداً للوثوق بوجه أصلاً؟ لا بد للوصول الی ما هو المراد من الأمین فی القاعدة المبحوث عنها فی المقام، من ملاحظة عدم اختصاصها بالأمانة المالکیة و شمولها للأمانة الشرعیة التی یکون الاذن فیها من قبل الشارع، و من الواضح عدم تحقق الأمانة فی مقابل الخیانة بحسب الوصف الواقعی فی کثیر من مواردها، کما انه لا معنی لتحقق الایتمان فی جمیعها بمعنی الوثوق بأنه لا یتحقق منه الخیانة و لا یصدر منه الخلاف.

ص:34

کما أنّه لا بد من ملاحظة روایة المقنع المتقدمة التی وقع فیها السؤال عن المودع إذا کان غیر ثقة، فإن ظاهره تحقق الإیداع من المالک مع عدم وثوقه بالمستودع، الّا ان یقال: ان المراد هو عدم الوثاقة فی القول غیر المنافی للأمانة فی مقام العمل، أو یقال بخروجه عن الوثاقة بعد الإیداع و إن کان متصفاً بها حینه، و لکن الاحتمالین الأخیرین بعیدان، و الظاهر هو الأوّل.

ثمّ انه لا بد من ملاحظة أمر ثالث، و هو ان استثناء صورة التعدی و التفریط من ضمان الأمین هل یکون بنحو الاستثناء المتّصل کما هو ظاهر عنوان القاعدة، أو بنحو الاستثناء المنقطع، الذی مرجعه الی زوال وصف الأمانة فی إحدی الصورتین، و المراد بالتعدی هو ان یفعل فعلاً یضرّ بالمال الذی یکون تحت یده، کما إذا کان المال حیواناً فجعل غذائه مما لا یناسبه، کما ان المراد بالتفریط هو ترک فعل موجب لتلفه کما إذا ترک تغذیته بالمرّة فی مثال الحیوان.

ربما یقال بالثانی کما اختاره المحقق البجنوردی فی قواعده الفقهیة (1)، حیث ذکر ان عدم التعدی و التفریط مأخوذان فی حقیقة الأمین، و الاستثناء فی القاعدة مستدرک، لأنه إذا صدر عنه التعدی أو التفریط فهو خائن و لیس بأمین، فهما ضدان.

و لکن ما افاده مضافاً الی ما عرفت من کونه خلاف ظاهر عنوان القاعدة فرع کون المراد من الأمین هو الأمین بحسب وصفه الواقعی فی مقابل الخائن کذلک، و هو أوّل الکلام، بل محلّ منع بعد ما عرفت من عدم

ص:35


1- 1) القواعد الفقهیة للبجنوردی 2:7.

ثبوته فی کثیر من موارد الأمانة الشرعیة بل المالکیة علی ما مرّ من ظهور السؤال فی الروایة فی ذلک.

و بما ذکرنا ینقدح ان المراد من الأمین فی المقام هو المؤتمن، و إن المراد من المؤتمن هو الذی یکون طبع جعل المال بیده مقتضیاً لعدم خیانته، و کأنه یکون مقیّداً به من دون فرق بین ان یکون الاذن من المالک أو من اللّه، و لا یشترط ثبوت وصف الامانة له فی نفسه، و لا الوثوق بکون المال محفوظاً عنده، و علیه یکون استثناء صورة التعدی و التفریط بنحو الاستثناء غیر المنقطع، نعم لا بد حینئذٍ من اقامة الدلیل علیه، و سیأتی البحث فیه إن شاء الله تعالی.

و یدلُّ علی ما ذکرنا روایة المقنع المتقدمة إِذ وصف الامام (علیه السلام) الرجل بکونه أمیناً مع عدم تعرض فی السؤال لثبوت وصف الامانة له، و لا للوثوق لصاحب المال بعدم تحقق الخیانة منه أصلاً، فمعناه ان نفس جعل المال فی ید المستبضع مقتض لذلک، و إن لم یکن هناک امانة واقعاً و لا وثوق أصلاً.

الأمر الثالث- فی استثناء صورة التعدّی أو التفریط من الحکم بعدم ضمان الأمین،

و لا یخفی عدم ورود هذین العنوانین فی دلیل شرعی حتی یجب التکلّم فی مفادهما من حیث موضوعیتهما للحکم الشرعی، بل الوجه فی ثبوت الضمان فی موردهما (مع ملاحظة ان المتفاهم العرفی من عنوان التعدی هو التجاوز ای التجاوز عن دائرة الاذن و التعدی عما هو المأذون فیه و من عنوان التفریط هو التضییع، فالتعدی هو الإفراط و التجاوز، و التفریط هو التضییع هو کون التلف فی موردهما مستنداً الی من کان المال

ص:36

فی یده، فیتحقق عنوان الإتلاف الذی هو سبب مستقل لتحقق الضمان؛ لقاعدة الإتلاف التی هی قاعدة مستقلة غیر قاعدة ضمان الید، و الوجه فیه وضوح انّه لو غذّی الحیوان بما لا یناسبه کمّاً أو کیفاً فتلف، یکون تلفه حینئذٍ، مستنداً الی من فعل به ذلک، کما انه لو ترک تغذیته بالمرة، یستند التلف الی التارک، و علیه فالوجه فی ثبوت الضمان فی موردی التعدی و التفریط هو صدق الإتلاف حینئذٍ، و لا شبهة فی عدم شمول الروایات المتقدمة الدالة علی عدم ضمان الأمین لصورة الإتلاف، بل موردها صورة التلف عنده؛ فان مورد السؤال فی روایة المقنع المتقدمة صورة انعدام المال مع الشک فی کونه بنحو التلف أو الإتلاف، مع دعوی من کان المال فی یده الأوّل، و ظاهره انه مع العلم بحصول الإتلاف و استناد التلف الیه لا یبقی مجال لتوهم عدم ثبوت الضمان، کما ان مورد المرسلة صورة الهلاک أو السّرقة من دون مدخلیّة المستبضع فی ذلک أصلاً، و أمّا قوله (علیه السلام) : لیس علی المؤتمن ضمان، فالمتفاهم العرفی منه هو عدم الضمان مع التلف، لا ما یشمل صورة الإتلاف أیضاً، فبعد قصور أدلة عدم ضمان الأمین عن شمول صورة الإتلاف یکون مقتضی سببیة الإتلاف للضمان ثبوته مع التعدی و التفریط الموجبین لتحقق الإتلاف. و علی ما ذکرنا یصیر استثناء صورتی التعدی و التفریط من قبیل الاستثناء المنقطع، لا بالنحو الذی ذکر سابقاً، بل من جهة ان مورد القاعدة صورة التلف، و الصورتان واردتان فی مورد الإتلاف، فتدبر.

نعم قد یتحقق عنوان التّعدی مع عدم صدق الإتلاف و تحقق

ص:37

الاستناد، کما فی مورد صحیحة أبی ولاّد (1)المعروفة الواردة فی مورد اکتراء البغل الی مکان معین، فتجاوز عما اذن له الی مکان آخر، الدالة علی ثبوت الضمان لو تلف البغل، و انه یضمن قیمة بغل یوم المخالفة.

و الوجه فی ثبوت الضمان فیه مضافاً الی إمکان دعوی صدق الإتلاف فی مثل هذا المورد ایضاً فتدبّر انه مع التعدی و التجاوز عمّا اذن له، یکون مقتضی قاعدة الید ثبوت الضمان فیه، سواء قلنا بان المراد من الید فیها هی الید العادیة، أو الید غیر المأذونة، أو مطلق الید، و لا دلالة للروایات المتقدمة الواردة فی عدم ضمان الأمین علی نفی الضمان فی هذه الصّورة، لعدم شمولها لها بوجه، کما لا یخفی.

الأمر الرابع- قد مرّت الإشارة بل التصریح مراراً الی أنّ المراد من الأمانة فی هذه القاعدة أعمّ من الأمانة المالکیة و الأمانة الشرعیّة،

و المراد بالأولی هو ما إذا کان وقوع المال بیده بإذن المالک أو من هو بحکمه کوکیله أو الولیّ و بالثانیة هو ما إذا کان الاذن المزبور من قبل اللّه تبارک و تعالی دون المالک، فمورد الأولی جمیع المعاملات التی تصدر من المالک أو من بحکمه، بدون ان تکون متضمنة لنقل العین، سواء کان من جهة تملیک المنفعة کباب الإجارة، أو تملیک الانتفاع کالعاریة، أو کان الغرض مجرد کونه محفوظاً عنده کالودیعة، أو کان الغرض ان یعامل معه بحصة من الربح کالمضاربة، أو ان یزرع فیها بحصة من الحاصل کالمزارعة، أو ان یسقیها بحصة من الثمرة کالمساقاة، أو ان یحملها من مکان الی مکان آخر کالحمال و المکاری ففی جمیع هذه الموارد تکون الأمانة مالکیة.

ص:38


1- 1) الوسائل 13:255 ب 17 من کتاب الإجارة ح 1.

و مورد الثانیة جمیع الموارد التی یکون الاذن فیها من طرق الشارع، کالمعاملات التی تقع علی أموال الغیّب و القصّر، بدون ان یکون فیها نقل العین، کجمیع ما ذکرنا فی موارد الأمانة المالکیة، و کذلک فی مثل اللقطة التی یکون الملتقط مأذوناً فیها من قبل الشارع، ما دام مشغولاً بالتعریف، فالامانة فی القاعدة تشمل کلتا الأمانتین.

الأمر الخامس- انه قد انتقض عموم هذه القاعدة بموارد:

الأوّل المقبوض بالسّوم،

فقد حکموا فیه بالضمان، مع ان وقوع المال تحت ید القابض انّما هو بإذن المالک أو من بحکمه کما هو المفروض فی المقبوض بالسّوم.

و ربّما یجاب تارة بأن هذه المسألة خلافیة، و قد ذهب جمع الی عدم الضمان معلّلاً بأنه أمانة مالکیة، و أخری بأنه یمکن ان یقال بأنه لیس القبض فیه بعنوان الامانة بل، بعنوان ان یکون عند اختیار القابض للاشتراء، مضموناً علیه بالمسمّی، و بعبارة اخری یکون قبضه و أخذه بعنوان المقدمیّة للشراء الذی یکون فیه الضمان بالمسمّی فهو، خارج عن الأمانة المالکیّة و الشرعیة بالتخصص لا بالتخصیص، فلا تنخرم به القاعدة، لأنه خارج عن موضوع الأمانة.

أقول: لا خفاء فی بطلان الجواب الثانی؛ لأن الأخذ بعنوان المقدمیة للشراء، الذی یکون فیه الضمان بالمسمّی، لا یوجب الخروج عن الأمانة المالکیة، بعد وضوح کون المال واقعاً تحت یده بإذن المالک، و کان الغرض منه انه علی تقدیر تعلق غرض القابض، و موافقة شرائه لمصلحته، ان یتحقق منه الشراء، فالمقدمیّة لا تقتضی إسراء حکم ذی المقدمة إلیها،

ص:39

خصوصاً بعد عدم ترتبه علیها أحیاناً، لعدم موافقته لغرض القابض و عدم تحقق الاشتراء عقیبه.

فالحق ان یقال: ان مبنی الحکم فی المقبوض بالسّوم ان کان هو القاعدة، فهی تقتضی عدم الضمان؛ لأنه أمانة مالکیة یجری فیها ما یجری فی سائر الموارد، و إن کان هو الدلیل الخاص، فلا مانع منه علی فرض تمامیّته؛ لصلاحیة أدلة عدم ضمان الأمین لورود التخصیص علیها و عدم ابائها عنه.

الثانی المقبوض بالعقد الفاسد،

فقد حکموا فیه بالضمان، و أجروه مجری الغصب فی جمیع الاحکام، الّا فی الإثم فی خصوص صورة الجهل بالفساد، مع ان القابض مأذون من قبل المالک، من دون فرق بین قبض الثمن بالإضافة إلی البائع، و المثمن بالنسبة إلی المشتری.

و الجواب عنه، أوّلاً: ان مورد القاعدة فی الأمانة المالکیة ما إذا کان وقوع المال تحت ید الغیر بإذن المالک مع حفظ کونه مالکاً، و إن الغیر المأذون مأذون عن المالک و من قبله فی ان یکون ماله تحت یده، فالمفروض کون الآذن مالکاً و المأذون غیر مالک، و أمّا القبض فی المقبوض بالعقد الفاسد، فإنّما یتحقق بتخیل کون القابض صار مالکاً بالعقد الواقع بینهما، ففی الحقیقة یکون تسلیم المال من المثمن و الثمن، انّما هو باعتبار کونه مالکاً یستحق ملکه و ماله؛ ضرورة ان تسلیم المبیع إلی المشتری من البائع، انّما هو باعتقاد صیرورته مالکاً للمبیع بالبیع الواقع بینهما، فلیس من قبیل اذن المالک للغیر و وقوع المال تحت یده مقروناً به، فلا تتحقق الأمانة المالکیة، و هذا فی صورة الجهل بالفساد واضح، ضرورة انه مع

ص:40

الجهل و اعتقاد صحة المعاملة لا یکون القبض و الإقباض الّا بتخیل تحقق الانتقال و حصول الملکیة للقابض، و إن المال ماله، فبینه و بین الأمانة المالکیة المفروضة فی القاعدة بون بعید، و أمّا فی صورة العلم بالفساد و تحقق الإقباض معه فربما یقال: إِن الإقباض من الغیر اذن فی قبض مال المالک، مع حفظ مالکیته، فیکون ماله عند القابض أمانة مالکیة، و لکن یمکن ان یقال: إنه فی هذه الصورة أیضاً لا تتحقق الأمانة، المالکیة لأنّ الإقباض و لو مع العلم بالفساد إنّما یبتنی علی عدم الاعتناء بالفساد، الذی حکم به الشارع، و بعبارة اخری یحکم نفس البائع مثلاً بصحة المعاملة علی خلاف الشارع، و یأذن فی القبض مبنیّاً علیه، و إلا لا یتحقق الجمع بین العلم بالفساد و بین الإقباض معه، فتدبّر.

و کیف کان فلا شبهة فی خروج صورة الجهل بالفساد و القبض معه عن الأمانة المالکیة المبحوث عنها فی القاعدة.

و ثانیاً: ان المفروض فی الأمانة المالکیة و کذا الشرعیة هو ان یکون وقوع المال تحت ید الغیر مأذوناً فیه من دون ان یقع فی مقابله عوض، ففی الإجارة التی هی من موارد الأمانة المالکیة، و إن کان قد وقع فی مقابل المنفعة عوض، الّا انه لم یقع فی مقابل العین التی تکون فی ید المستأجر بإذن الموجر شیء، و أمّا فی المقبوض بالعقد الفاسد فیکون اذن المعطی مقیّداً بالعوض و واقعاً فی مقابله، غایة الأمر انه حیث لم یمض الشارع العوض المسمّی؛ لفرض فساد المعاملة؛ یکون علیه العوض الواقعی من المثل أو القیمة فی صورة التلف، فالمقبوض بالعقد الفاسد خارج عن الأمانتین.

ص:41

الثالث المبیع التالف فی ید البائع قبل قبضه و بعد تحقق المعاملة الصحیحة،

فإنه مضمون علی البائع، و إن کان بقاؤه فی ید البائع بإذن المشتری المالک له بمجرّد وقوع العقد.

و الجواب، ان الدلیل علی الضمان فیه هی الأخبار الواردة الدالة علی انّ کل مبیع تلف قبل قبضه فهو من مال بایعه، و قد فهم منها المشهور باعتبار عدم کونه من قبیل الضمانات و تلف ملک الغیر فی یده، و إلا لو کان کذلک لکان مقتضاه الضمان الواقعی أی المثل أو القیمة انفساخ العقد آناً ما قبل التلف، و رجوع کل واحد من العوضین الی ملک مالکه الأوّل، فالتلف وقع فی ملک البائع، و علیه فلا یرتبط ذلک بالمقام بوجه.

و فی هذه الاخبار احتمال آخر مذکور فی محلّه، و لا بد من البحث فی مفاد هذه الاخبار الذی هو قاعدة فقهیة مستقلة إن شاء اللّه تعالی.

الرابع المال الباقی فی ید الغاصب بإذن المالک

فإنه حکم فیه بالضمان فی البقاء ایضاً، مع انّه مأذون فیه من قبل المالک علی ما هو المفروض.

و الجواب: انه ان کان البقاء مأذوناً فیه حقیقة من طرف المالک، بان کان الغاصب قد أراد تسلیم العین المغصوبة إلی المالک و جعلها فی اختیاره، و مع ذلک لم یقبل المالک، بل جعلها امانة عنده، فالحکم بالضمان فیه ممنوع جدّاً؛ لانه لا مجال له أصلاً، و کون حدوث الوقوع تحت ید الغاصب بلا اذن لا یقتضی دوام الحکم و استمراره الی البقاء المغایر للحدوث، فی الاذن و عدمه.

و إن لم یکن البقاء مأذوناً فیه حقیقة، بل کان مجرد رضاء المالک بالبقاء، فهذا لا یقتضی تحقق الأمانة المالکیة و لا رفع الضمان بوجه أصلاً.

ص:42

الخامس انهم حکموا بالضمان فی اللقطة و مجهول المالک إذا تصدق به عن صاحبه،

ثمّ وجد المالک و لم یرض بالتصدق، مع ان أصل یده و کذا التصدق مأذون فیه قبل الشارع، فکیف یجتمع ذلک مع الحکم بالضمان.

و الجواب: وقوع الخلط فی هذا المورد؛ فانّ مورد القاعدة علی ما عرفت هی صورة التلف، و لا إشکال فی انه مع تلف المال فی ید الملتقط و کذا مال مجهول المالک، لا یتحقق، به الضمان بوجه؛ لأنه أمانة شرعیة.

و أمّا التصدق الذی هو بمنزلة إتلاف مال الغیر، فهو خارج عن مورد القاعدة، و الوجه فی الضمان فیه مع کونه مأذوناً فیه من قبل الشارع، هو کون الاذن به مقیّداً بذلک بمعنی، ان الشارع لم یأذن بالتصدق مطلقاً بل به مقیّداً بالضمان، مع وجدان المالک و عدم الرضا بالتصدّق.

السادس المأکول فی المخمصة

فقد حکم فیه بالضمان مع ان الأکل کان مأذوناً فیه من قبل الشارع.

و الجواب: ما تقدم فی الأمر الخامس من عدم شمول القاعدة لصورة الإتلاف بوجه، و الأکل من مصادیق الإتلاف، و ثبوت الضمان فیه مع کونه مأذوناً فیه من قبل الشارع انّما هو لأجل کون الاذن مقیّداً به کما فی التصدق فی الأمر الخامس.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا عدم انتقاض القاعدة بمورد من هذه الموارد أصلاً، و إن الموارد المتقدمة التی تخیل النقض بها کلها غیر مرتبطة بها، و قد عرفت ایضاً انه لا مانع من تخصیص القاعدة لو کان هناک دلیل علی التخصیص؛ لعدم ابائها عنه أصلاً.

ص:43

ص:44

قاعدة الإتلاف

اشارة

و هی ایضاً من جملة القواعد الفقهیة المشهورة، بل لا خلاف فیها، بل ممّا اتفق علیها الکلّ، بل ربما یقال: انّها مسلمة بین جمیع فرق المسلمین، بل ربّما یدّعی انّها من ضروریات الدین، و لکن یجب توجیهه بان المراد کونها من ضروریات الفقه لا من ضروریات الدین حتی یوجب إنکارها الارتداد و الخروج عن الإسلام، و قد نبّهنا مراراً ثبوت الفرق بین ضروری الفقه و بین ضروری الدین، و إن إنکار الأوّل لا یوجب الارتداد بخلاف الثانی، و عبارة القاعدة بمثل هذا النحو: من أتلف مال الغیر بدون اذن منه فهو له ضامن، و البحث فیها من جهات:

الجهة الاولی- فی مدرک القاعدة،

و الظاهر عدم کونها واردة بهذه العبارة فی روایة، و إن اشتهر فی الألسن: من أتلف مال الغیر فهو له ضامن، و لکن الظاهر انه لا یوجد فی کتب الحدیث.

ص:45

و استدل علیها الشیخ فی محکی المبسوط (1)و ابن إدریس (2)فی محکی السّرائر بقوله تعالی فَمَنِ اِعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدی عَلَیْکُمْ (3). نظراً الی ان إتلاف مال الغیر بدون اذنه و رضاه اعتداء علیه، و تعبیره سبحانه و تعالی عن ضمان المثل و القیمة بالاعتداء انّما هو للمشاکلة التی هی من المحسّنات البدیعیة، کقوله تعالی جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها (4)، فالآیة تدل دلالة واضحة علی ان من أتلف مال الغیر بدون اذنه و رضاه فهو له ضامن.

و یمکن المناقشة فی الاستدلال بالآیة تارة من جهة ان عنوان الإتلاف المأخوذ فی القاعدة أعم من الإتلاف الواقع عن عمد و اختیار، لأن الإتلاف فی حال النوم مثلاً یوجب الضمان للقاعدة، مع انه یمکن منع تحقق الاعتداء مع عدم التوجه و الالتفات فتدبّر، و أخری من جهة ان مفادها جواز الاعتداء بالمماثل بنحو الحکم التکلیفی للغیر، و أمّا الضمان الذی هو حکم وضعی علی من صدر عنه الإتلاف کما هو مفاد القاعدة فلا دلالة للآیة علیه.

و ربما یستدل علیها بقاعدة ضمان الید المستفادة ممّا رواه فی المبسوط عن الحسین أو حسن عن سمرة ان النبی (صلی الله علیه و آله) قال: علی الید ما أخذت

ص:46


1- 1) المبسوط 3:60.
2- 2) السرائر 2:480.
3- 3) البقرة:194.
4- 4) الشوری:40.

حتی تؤدّی (1)، و فی بعض النسخ: حتی تؤدّیه. و هذه الروایة مرویة عن طریق الخاصّة أیضاً، نظراً إلی انه إذا کان التلف موجباً للضمان فالاتلاف بطریق اولی.

و لکن الظاهر بعد ملاحظة ان المراد بالید فی قاعدة ضمان الید هی الید العادیة أو غیر المأذونة، علی ما مرّ فی قاعدة عدم ضمان الأمین المتقدمة، و بعد ملاحظة ان المراد من عدم الاذن فی قاعدة الإتلاف، عدم الاذن فی الإتلاف لا عدم الاذن فی کونه فی ید الغیر ان النسبة بین الموردین عموم من وجه، لافتراق قاعدة الإتلاف فیما إذا أتلف مال الغیر مع عدم کونه تحت یده بوجه کما إذا رماه بسهم مثلاً فأتلفه، و فیما إذا أتلف مال الغیر مع کون یده علیه بإذن من المالک، کما فی صورتی التعدی و التفریط فی الأمانة المالکیة علی ما مرّ، و افتراق قاعدة ضمان الید فیما إذا کانت العین فی ید الغیر مع کونها عادیة أو غیر مأذونة باقیة لم یتحقق تلفها لها بعد، فإنها تکون حینئذ مضمونة و علی عهدة ذی الید، علی ما هو مفاد القاعدة، مع عدم شمول قاعدة الإتلاف لها بوجه، و علی ما ذکرنا لا مجال لاستفادة حکم المقام من قاعدة ضمان الید إلّا بالإضافة إلی خصوص مادّة الاجتماع، و هو لا یترتب علیه اثر بعد دلالة قاعدة ضمان الید.

و عن الشیخ فی المبسوط (2)روی الأعمش عن أبی وائل عن عبد اللّه بن مسعود عن النبی (صلی الله علیه و آله) انه قال: حرمة مال المسلم کحرمة دمه و رواه الخاصة أیضاً و مقتضی عموم التشبیه ثبوت الضمان فی إتلاف المال

ص:47


1- 1) المبسوط 3:56.
2- 2) المبسوط 3:59.

کثبوته فی الدم.

و روی الشیخ أیضاً فی المبسوط عن عبد اللّه بن السائب عن أبیه عن جده عن النبی (صلی الله علیه و آله) انّه قال: لا یأخذن أحدکم متاع أخیه جاداً و لا لاعباً، من أخذ عصا أخیه فلیردّها.

و فی الاستدلال به مضافاً الی ما عرفت من عدم اختصاص مورد القاعدة بما إذا کانت الید علی المال غیر مأذونة، لشمولها لصورة الإذن، غایة الأمر عدم کون الإتلاف مأذوناً فیه ان غایة مفاده الحکم التکلیفی و هو وجوب الردّ، و أمّا الضمان الذی هو حکم وضعی فلا.

و روی فی المستدرک عن دعائم الإسلام روایات فی هذا الباب:

منها ما عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) عن أبیه عن آبائه عن أمیر المؤمنین علیهم السلام ان رسول الله (صلی الله علیه و آله) خطب یوم النحر بمنی فی حجّة الوداع و هو علی الناقة العضباء فقال: ایها الناس، انی خشیت ان لا ألقاکم بعد موقفی هذا، بعد عامی هذا، فاسمعوا ما أقول لکم فانتفعوا به. ثمّ قال: ایّ یوم أعظم حرمة؟ قالوا هذا الیوم یا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال: فأیّ الشهور أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر یا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال: فأیّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد یا رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال: فإنّ حرمة أموالکم علیکم و حرمة دمائکم کحرمة یومکم هذا، فی شهرکم هذا، فی بلدکم هذا، الی ان تلقوا ربّکم فیسألکم عن أعمالکم، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: اللّهم اشهد، الحدیث (1).

و منها ما عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) ایضاً، انه قال فی حدیث: فمن نال

ص:48


1- 1) مستدرک الوسائل 3:145 ب 1 من کتاب الغصب.

من رجل شیئاً من عرض أو مال وجب علیه الاستحلال من ذلک و الانفصال من کلّ ما کان الیه، و إن کان قد مات فلیتنصل من المال الی ورثته و لیتب الی اللّه مما اتی الیه حتی یطلع علیه عزّ و جلّ بالنّدم و التوبة و الانفصال، ثمّ قال: و لست أخذ بتأویل الوعید فی أموال الناس و لکنی أری ان أؤدّی إلیهم ان کانت قائمة فی یدی من اغتصبها و یتنصل إلیهم منها، و إن فوّتها المغتصب اعطی العوض منها فان لم یعرف أهلها تصدق بها عنهم علی الفقراء و المساکین، و تاب الی اللّه عزّ و جلّ مما فعل (1).

و منها ما عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) انه قضی فیمن قتل دابة عبثاً أو قطع شجراً أو أفسد زرعاً أو هدم بیتاً أو عوّر بئراً أو نهراً ان یغرم قیمة ما استهلک و أفسد، و ضرب جلدات نکالاً، و إن أخطأ و لم یتعمد ذلک، فعلیه الغرم، و لا حبس و لا أدب، و ما أصاب من بهیمة فعلیه ما نقص من ثمنه (2).

و دلالة هذه الروایات و إن کانت مخدوشة بالإضافة إلی أکثرها، الّا ان ملاحظة المجموع مع الأدلة المتقدمة و مع کون القاعدة متّفقاً علیها لا تبقی ریباً فی ثبوتها، و لا شکاً فی تحقّقها، و لأجله لا حاجة الی التطویل بذکر سائر المدارک، کما لا یخفی.

الجهة الثانیة- فی بیان المراد من ألفاظ هذه القاعدة،

فنقول:

امّا الإتلاف المضاف الی المال فالظاهر انّ المراد منه هو الافناء

ص:49


1- 1) مستدرک الوسائل 3:145 ب 1 من کتاب الغصب و فی طبع مؤسسة آل البیت 17:87.
2- 2) مستدرک الوسائل 3:147 9 من کتاب الغصب، و فی الطبعة الجدیدة 17:95.

و الإهلاک المتعلق بذات المال بأن أخرجه عن صفحة الوجود و أفناه بالمرّة بحیث لم یکن هناک شیء یشار إلیه بأنّه مال الغیر، و أمّا إذا تعلّق الافناء لا بذات المال و نفسه بل بمالیّته مع بقاء ذاته، کما لو غصب الثلج فی الصیف فإبقاء إلی الشتاء، فردّه فیه مع انه لا مالیة له فی الشتاء، ای لا یبذل بإزائه المال فیه، فالظاهر عدم شمول القاعدة له، سواء کانت بهذه العبارة المعروفة أو بمثل ما فی بعض الروایات المتقدمة من ان حرمة مال المسلم کحرمة دمه، فان التعبیر الثانی أیضاً لا یقتضی الضمان بعد بقاء المال بذاته، و إن عرض له الفناء و الهلاک بملاحظة مالیّته، الّا ان یستفاد حکمه من مثل قوله تعالی فَمَنِ اِعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدی عَلَیْکُمْ نظراً الی ان افناء المالیة اعتداء لا محالة.

و أمّا المال المضاف إلیه الإتلاف فالظاهر ان المراد به هو المال فی الآیة الشریفة و هی قوله تعالی اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ زِینَةُ اَلْحَیاةِ اَلدُّنْیا (1). و هو عبارة عن کل شیء یکون مطلوباً و مرغوباً عند الناس؛ لأجل قضاء حوائجهم به، و دخیلاً فی معاشهم أو شیء یحصل مطلوبهم به.

فالأوّل کالمأکولات و المشروبات و الملبوسات و المساکن و المراکب و مثلها من دون فرق ما کان من قبیل الجواهر الموجودة لا فی موضوع، أو من قبیل الأعراض التی تسمّی فی الاصطلاح بالمنافع کرکوب الدابة و سکنی الدّار و التزین بالذهب و الأحجار الکریمة، أو ما یکون الاحتیاج الیه نوعاً أو فی خصوص بعض الحالات کالأدویة التی یعالج بها المریض و کالآلات المحتاج إلیها فی دفن الأموات.

ص:50


1- 1) الکهف:46.

و الثانی کالاوراق المالیة الموجودة فی هذه الأزمنة التی لها دخل فی تحصیل ما یرفع الحوائج بها؛ فإنّها أیضاً مال، غایة الأمر ان مالیّتها أمر اعتباری یدور مداره، فما دام الاعتبار مستظهراً له یکون اتصافه بالمالیة محفوظاً، و أمّا تعریف المال بأنه ما یبذل بإزائه المال، فهو و إن کان شاملاً لجمیع ما ذکرنا، الّا انه لا خفاء فی کونه تعریفاً دوریّاً.

و أمّا الضمان المأخوذ فی القاعدة، فحیث یکون المفروض فیها صورة الإتلاف، یکون مرجع ضمان المال المتلف الی کونه فی عهدته یجب الخروج عنها بأداء المثل فی المثلیات و القیمة فی القیمیات، و لا مجال للضمان المعاوضی هنا بعد عدم وجود معاوضة فی البین، بل الضمان هو الضمان الحقیقی الذی هو عبارة عن ضمان المثل أو القیمة.

و قد عرفت انّ الضمان فی القاعدة مقید بصورة عدم الاذن و مرّ، ایضاً ان المراد هو عدم الاذن فی الإتلاف، من دون فرق بین ما إذا کانت یده علی مال الغیر علی تقدیر ثبوت الید یداً عادیة أو غیر مأذونة، و بین ما إذا کانت یداً مأذونة کالأمین فی صورة التعدی و التفریط علی ما تقدّم.

الجهة الثالثة- ان الإتلاف قد یکون بالمباشرة و قد یکون بالتسبیب.

اشارة

فالأوّل مثل ان یأکل مال الغیر الذی یکون من المأکولات، أو ان یشرب ماله الذی یکون من المشروبات، أو یحرق أثوابه، أو یرمی حیوانه بسهم فیهلکه، و شبه ذلک مما یصدر عنه فناء مال الغیر و هلاکه عن نفسه و إرادته من دون وساطة فاعل آخر.

و الثانی عبارة عن کل فعل صار سبباً لوقوع التلف، بحیث لو لم یکن لم یتحقق التلف، و لکنه لم یکن علة تامة و لا جزء أخیراً من العلة التامة

ص:51

و علیه فهو الذی لا یلزم من وجوده الوجود، و لکن یلزم من عدم العدم.

لا خفاء فی ان القدر المتیقّن من مورد القاعدة الذی لا شبهة فی ثبوت الضمان فیه هو القسم الأوّل الذی یکون الإتلاف فیه بالمباشرة.

و أمّا القسم الثانی فقد ادعی فی الجواهر (1)نفی الخلاف فیه، بل ربما یقال أنه یمکن تحصیل الإجماع علی کونه موجباً للضمان، و لکن لا بد من ملاحظة الأخبار بعد إمکان القول بکفایة التسبیب فی صحة إسناد الإتلاف أنه إذا فرض؛ مع عدمه لم یکن یتحقق التلف بوجه، و المفروض کونه فعله من دون واسطة یتحقق، الإتلاف الحقیقی المضاف الی من تحقق منه الإتلاف بالتسبیب فتدبر؛ فان ذلک لا یتم فی جمیع موارد التسبیب کما سیأتی.

أمّا الرّوایات فمنها:

صحیحة الحلبی عن ابی عبد اللّه علیه السلام سألته عن الشیء یوضع علی الطّریق فتمرّ به الدابّة فتنفر بصاحبها فتعقره، فقال: کل شیء یضرّ بطریق المسلمین فصاحبه ضامن لما یصیبه (2).

و منها صحیحة زرارة عن ابی عبد اللّه علیه السلام قلت له: رجل حفر بئراً فی غیر ملکه، فمرّ علیها رجل فوقع فیها فقال (علیه السلام) : علیه الضمان؛ لان کل من حفر بئراً فی غیر ملکه کان علیه الضّمان (3).

و منها موثقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه (علیه السلام) عن الرجل یحفر البئر

ص:52


1- 1) الجواهر 37:46.
2- 2) الوسائل 19:181 ب 9 من أبواب موجبات الضمان ح 1.
3- 3) الوسائل 19:179 ب 8 من أبواب موجبات الضمان ح 1.

فی داره أو ملکه (أرضه) فقال (علیه السلام) : امّا ما حفر فی ملکه فلیس علیه ضمان و أمّا ما حفر فی الطریق أو فی غیر ما یملکه فهو ضامن لما یسقط فیها (1).

و منها روایة السکونی عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) من اخرج میزاباً أو کنیفاً أو أوتد وتداً أو أوثق دابة أو حفر شیئاً فی طریق المسلمین فأصاب فعطب فهو له ضامن (2).

و منها غیر ذلک من الروایات الکثیرة الدالة علی ضمان المسبّب بالکسر مثل المباشر للإتلاف، التی وردت جملة منها فی شاهدی الزور اللذین شهدا بالقتل، فقتل المشهود علیه بسبب هذه الشهادة، ثمّ رجعا عنها، و مفاده: انه ان قالا بالخطإ فعلیهما الدیة، و إن قالا بتعمد الکذب فعلیهما القصاص (3).

ثمّ ان مقتضی أکثر الروایات المتقدمة انحصار الحکم بالضّمان بما إذا أضرّ بطریق المسلمین، أو حفر البئر فی غیر ملکه، فلا ضمان فیما إذا حفر بئراً فی ملکه فوقع فیها أحد فهلک، و إن کانت السببیّة موجودة فی هذه الصورة؛ لأنه لو لم یحفر البئر لم یتحقق الوقوع، فلا یتحقق الهلاک بوجه، کما ان مقتضی إطلاق الروایات عدم الفرق بین ما إذا قصد موجد السبب لترتب المسبب و وقوعه عقیبه، و بین ما إذا لم یقصد ذلک، بل و بین ما إذا کان بقصد عدم الوقوع و برجاء العدم.

و منه یظهر الفرق بین ما إذا کان المدرک فی هذه الجهة هی الرّوایات،

ص:53


1- 1) الوسائل 19:180 ب 8 من أبواب موجبات الضمان ح 1.
2- 2) الوسائل 19:182 ب 11 من أبواب موجبات الضمان ح 1.
3- 3) الوسائل 18:240 ب 12 من أبواب موجبات الضمان ح 1 و 2.

و بین ما إذا کان هو الإجماع، فإنّه علی التقدیر الثانی یکون القدر المتیقن من معقده هی صورة قصد موجد السبب لترتب المسبب و تحقّقه عقیبه، کما ان القدر المتیقن من معقده هو ما إذا کان مثل حفر البئر فی غیر ملکه، و قد عرفت مراراً انه لا أصالة للإجماع مع وجود نص معتبر فی معقده، فالدلیل هی الرّوایات.

و ظهر ایضاً عدم انطباقها علی جمیع موارد السّبب؛ لاختصاص الحکم بالضمان فیها بما ذکر، هذا کلّه فیما إذا کان هناک السبب فقط.

فی اجتماع السبب و المباشر

لو اجتمع السبب و المباشر، فهل الضمان علی الأوّل أو علی الثانی أو علی کلیهما بالاشتراک، وجوه و احتمالات.

قال المحقق فی الشرائع (1): إذا اجتمع السبب و المباشر قدم المباشر فی الضمان علی ذی السبب، کمن حفر بئراً فی ملک غیره عدواناً، فدفع غیره فیها إنساناً، فضمان ما یجنیه الدفع علی الدّافع. و قد ادعی عدم الخلاف بل الإجماع علیه، بل ربما یقال: ان تقدیم المباشر علی السّبب عندهم من المسلّمات.

أقول: الظاهر وضوح تقدیم المباشر فی الضمان علی ذی السبب فی الفرع المذکور فی کلام المحقق، لظهور استناد الإتلاف فیه الی خصوص المباشر، و کون السبب من المعدّات التی لا توجب الضمان مع صدور الإتلاف من الفاعل المختار، و إلا کان صانع السیف ضامناً إذا قتل به

ص:54


1- 1) شرائع الإسلام 3:186 الطبعة الجدیدة.

المباشر.

کما انه ربما ینعکس الأمر و یکون الاستناد إلی ذی السبب واضحاً بحیث لا مجال للاستناد الی المباشر، کما فی شاهدی الزور فی باب القتل، فان؛ القتل یستند إلیهما غرماً لا الی الحاکم أو من یأتمر بأمره المباشر لصدور القتل کما لا یخفی، فاللازم فرض الکلام فی غیر مثل هذین الموردین، فنقول: ذکر المحقق البجنوردی قدّس سرّه فی قواعده الفقهیة (1)فی هذه الجهة تفصیلاً خلاصته: انه إذا کان المباشر فاعلاً مختاراً عاقلاً و کان ملتفتاً الی ان عمله هذا یترتب علیه التلف، فلا شک فی اختصاصه بکونه ضامناً، و أمّا إذا لم یکن المباشر ذا ارادة و شعور، فالضمان علی ذی السبب، کمن أجّج ناراً فی غیر ملکه فنشرتها الریح، فأصابت النار مال غیره فاحترق، فالضمان علی ذی السبب؛ لانه المتلف حقیقة، و أمّا ان کان عاقلاً مختاراً فی فعله، و لکنه لا یعلم بان فعله هذا یترتب علیه التلف، فان لم یکن مغروراً و لا مکرهاً فالضمان علی المباشر، لانه لا فرق فی جریان قاعدة الإتلاف بین صورة العلم بترتب التلف علی فعله، و بین صورة عدم العلم، لان الموضوع للحکم بالضمان هو مطلق الإتلاف، و أمّا لو کان مغروراً کالممرّض الجاهل، فهو و إن کان ضامناً؛ لأجل قاعدة الإتلاف، لکنه یرجع الی الغارّ؛ لقاعدة الغرور، من دون فرق بین صورة علم الغار و صورة جهله. و أمّا إذا کان مکرهاً، فلیس علیه ضمان إذا کان الإکراه فی غیر الدّماء، فإذا أکره علی الدفع فی البئر فمات، فان کان الدفع فی البئر من الأسباب العادیة للموت، فالدافع ضامن، لانه لا تقیة فی الدّماء، و إذا اکره

ص:55


1- 1) القواعد الفقهیة للبجنوردی 2:25.

علی إتلاف مال الغیر فالضمان علی المکره بالکسر لا علی المکره بالفتح لان السبب هنا أقوی من المباشر، لان المباشر و إن کان فاعلاً و لکنه لیس بمختار، و لذلک نقول ببطلان معاملات المکره بالفتح و العرف و العقلاء ینسبون الفعل الی المکره بالکسر و یسندونه الیه، کما انه لو أمر المکره خدامه و غلمانه الذین یخافون من مخالفته بهدم دار شخص، لا ینسب هدم الدار عند العرف الّا الی ذلک المکره.

و هذا التفصیل و إن کان فی غایة المتانة، الّا ان الوجه لعدم ثبوت الضمان فی صورة الإکراه لیس ما افاده من عدم شمول قاعدة الإتلاف، و عدم استناده الی المکره بالفتح ضرورة ان شرب الخمر و لو کان عن إکراه لا یسند الّا الی الشارب المکره لا الی المکره، بحیث یترتب علی إکراهه حدّ شرب الخمر، فالشارب هو المکره بالفتح لکن حدیث رفع الإکراه بمقتضی حکومته علی دلیل الحرمة و علی دلیل ترتب الحدّ، یرفع کلا الأمرین، و فی المقام ایضاً مقتضی قاعدة الإتلاف ثبوت الضمان علی المکره المتلف، لکن دلیل رفع الإکراه یرفع الحکم الوضعی کما یرفع الحکم التکلیفی، و مما ذکرنا یظهر ان بطلان معاملات المکره لیس لأجل عدم صدور المعاملة منه، و عدم استناد المعاملة إلیه، بل لأجل اعتبار طیب النفس فی المعاملة، و هو لا یجتمع مع الإکراه بوجه، کما ان اسناد هدم الدار الی المکره فی المثال لیس لأجل الإکراه، بل لأجل کون الخدام و الغلمان بمنزلة الآلات، فتدبّر. و لکن مقتضی ما ذکرنا فی الإکراه، عدم ثبوت الضمان علیه ایضاً؛ لعدم استناد الإتلاف إلیه، فالمکره بالفتح لا یکون ضامناً، لاقتضاء حدیث رفع الإکراه لعدم ضمانه و المکره بالکسر-

ص:56

لا یکون ضامناً، لعدم استناد الإتلاف إلیه بل هو فعل اختیاری صادر عن المکره، و إن کان صدوره لأجل الإکراه، و لا مجال لدعوی عدم تحقق الضمان فی صورة الإکراه أصلاً بعد تحقق إتلاف مال الغیر و سببیته للضّمان، و لأجله یشکل الحکم فی باب الإکراه.

ثمّ انه لا بدّ فی توضیح هذا التفصیل من بیان ان مسألة شاهدی الزور التی حکم فیها بضمانهما مع کون المباشر للقتل هو الحاکم أو من یأتمر بأمره من الفاعل المختار، تکون من مصادیق الغرور، فقرار الضمان فیها علی الغارّ و هو الشاهدان کما لا یخفی.

ثمّ انّ فی هذه المسألة و هی مسألة اجتماع السبب و المباشر فروعاً کثیرة مذکورة فی الکتب الفقهیة، و قد وقع فی بعضها الاختلاف من جهة کون الضمان علی السبب أو علی المباشر و لا بأس بالتعرض لجملة منها:

فمنها انه قال فی الشرائع (1): لو ألقی صبیّاً فی مسبعة، أو حیواناً یضعف عن الفرار، ضمن لو قتله السّبع، و ذکر الصّبی بقرینة توصیف الحیوان بأنه یضعف عن الفرار، انّما هو لعدم قدرته علی الفرار نوعاً لا لخصوصیة فیه غیر هذه الجهة، ضرورة انه لا فرق فی الحرّ بین الصغیر و الکبیر، و علی ما ذکرنا فمنشأ الحکم بالضمان فی هذا الفرع هی قاعدة الإتلاف المبحوث عنها فی المقام، و نظر المحقق قده الی انّ الإتلاف، مع فرض ضعف الصبی و الحیوان عن الفرار و کون المباشر للقتل هو السبع الذی لا معنی لثبوت الضمان علیه یستند إلی الإنسان الملقی، فهو القاتل عن عمد و اختیار، و یترتب علی عمله القصاص مع إلقاء الصبی، و ضمان القیمة مع إلقاء

ص:57


1- 1) شرائع الإسلام 3:186.

الحیوان، فمنشأ هذا الحکم هو اقوائیة السبب من المباشر، و ثبوت الضمان علی السّبب.

و منها ما ذکر فی الشرائع (1)أیضاً من انه لو غصب شاة، فمات ولدها جوعاً، ففی الضمان تردّد، و کذا لو حبس مالک الماشیة عن حراستها، فاتّفق تلفها، و کذا لو غصب دابة فتبعها الولد، و الفتاوی فیه مختلفة؛ فبعضهم یحکم بالضمان، و بعضهم یحکم بالعدم، و صاحب الشرائع یتردّد.

ربما یقال بعد انه لا دلیل علی ضمان التسبیب بعنوانه-: انه لا بد من ملاحظة العناوین التی أخذت موضوعاً للحکم بالضمان فی الرّوایات المتقدمة، و هی ثلاثة:

أحدها: عنوان (کل شیء یضرّ بطریق المسلمین) و هذا العنوان غیر متحقق فی شیء من هذه الموارد، الّا ان یقال: إنه لا خصوصیة للطریق، بل المناط هو الإضرار بالمسلمین، و هو غیر معلوم، خصوصاً مع الإضافة إلی المسلمین، و عدم اختصاص القاعدة بهم.

ثانیها: عنوان (من حفر بئراً فی الطریق أو فی ملک غیره) و هذا ایضاً غیر متحقق فی المقام، الّا ان یقال: إنه لا خصوصیة لحفر البئر، بل المراد إیجاد ما هو سبب تلف مال الغیر فی العادة، مع وقوع التلف فعلاً و ترتبه علی السّبب.

ثالثها: ما جعل موضوعاً للضمان من الأمور الخمسة فی خبر السکونی المتقدم، مثل إخراج المیزاب أو الکنیف، و یستظهر منه قاعدة کلیة و هی: ان کل فعل صدر من فاعل عاقل مختار و کان سبباً فی العادة لوقوع

ص:58


1- 1) شرائع الإسلام 3:186.

تلف فی مال المسلمین أو فی أنفسهم، و لم یتوسط بین ذلک الفعل و التلف فعل فاعل عاقل عن عمد و اختیار، بحیث یکون التلف مستنداً الیه عند العرف و العقلاء، فهو ای فاعل السبب ضامن، و هذا استظهار لا قیاس، و علیه یکون الحکم فی الموارد الثلاثة هو الضمان، الّا ان یناقش فی سند هذه الروایة؛ لاشتراک السکونی بین من هو موثوق به، ان کان المراد به إسماعیل بن مهران، و غیر موثوق، ان کان المراد به هو إسماعیل بن ابی زیاد؛ فإنه عامی.

أقول: الظاهر انّه لا اختلاف بین العنوان الثالث المذکور فی خبر السکونی و العنوان الأول؛ فإنّ الأمور الخمسة فی خبر السکونی مقیدة بالوقوع فی طریق المسلمین؛ ضرورة ان قوله: فی طریق المسلمین بعد الأمر الخامس متعلّق بجمیع الأمور الخمسة، لا بخصوص الأمر الخامس، و علیه تتحد العنوانات، و قد اعترف بأنه لا مجال لنفی الخصوصیة عن الطریق، خصوصاً بعد ما أضفنا إلیه من الإضافة إلی المسلمین، و عدم اختصاص القاعدة بخصوصهم، فهذان العنوانان المتحدان لا ینطبقان علی المقام بوجه.

و أمّا العنوان الثانی، فبعد عدم انطباقه بنفسه علی المقام، لا بدّ فی الحکم بالضمان من التوسل بدعوی انه لا خصوصیة لحفر البئر المذکور فی دلیله و لا مجال لهذه الدعوی، امّا فی صورة حفر البئر فی الطریق، فلما عرفت من انّه لا وجه لإلغاء خصوصیة الطریق، و أمّا فی صورة حفر البئر فی ملک الغیر؛ فلانة لا وجه لإلغاء الخصوصیة منه فإنه؛ لو فرض أن أوثق دابته فی ملک الغیر فتحقق بسببه تلف مال أو نفس، هل یمکن

ص:59

الالتزام بالضمان فیه؟ فالإنصاف ان فی الضمان فی المقام تردّداً کما فی الشرائع. الّا ان یقال بعدم اختصاص العناوین المأخوذة فی الروایات موضوعاً للحکم بالضمان بالعناوین الثلاثة المذکورة فی کلام القائل؛ فإنه حکم فیها بضمان مثل شاهدی الزور ایضاً، و یمکن ان یقال: إنه لا فرق بینهما و بین المقام؛ فکما ان شهادتهما صارت موجبة لقتل المشهود علیه، کذلک غصب الشاة مثلاً صار سبباً لموت ولدها، و علیه فیمکن استفادة الحکم بالضمان فی المقام ممّا ورد فی شاهدی الزور، فتدبّر.

و منها ما قاله فی الشرائع أیضاً من انه لو فکّ القید عن الدّابة فشردت، أو عن العبد المجنون فأبق؛ ضمن، لانه فعل یقصد به الإتلاف، و کذا لو فتح قفصاً عن طائر فطار، مبادراً أو بعد مکث.

و لعلّ الوجه فی الضمان فیه أولویته من الضمان فی شاهدی الزور؛ فإنه قد تحقق فیه مباشرة القتل بفعل فاعل مختارِ و لکن حکم فیه بضمان السبب، و فی مثل المقام لم یتوسط بین فک القید و فتح القفص فعل فاعل عاقل عن عمد و اختیار، بل کان الفاعل حیواناً، خصوصاً إذا کان وحشیّاً أو عبداً مجنوناً، فالضمان فی المقام اولی.

و منها ما فی الشرائع (1)أیضاً من انه لو فتح باباً علی مال فسرق، أو أزال القید عن عبد عاقل فأبق، و کذا لو دلّ السارق علی مال فسرق، فلا ضمان فی الجمیع. و حکی فی الجواهر (2)عن العلامة فی الإرشاد القول بالضمان فیما لو دلّ السارق، و الظاهر انه لم یوافقه فیه أحد.

ص:60


1- 1) شرائع الإسلام 3:187.
2- 2) الجواهر 37:67.

و الوجه فی عدم الضمان عدم استناد السرقة فی المثالین، و کذا الإباق، الّا الی الفاعل العاقل المباشر عن عمد و اختیار، و لا یستندان الی الفاتح و الدالّ و مزیل القید بوجه، فلا مجال للحکم بالضمان بالإضافة إلیهم.

ثمّ انّ فی الشرائع و کذا فی الجواهر فروعاً کثیرة أخری یظهر حکمها ممّا تقدّم، هذا کلّه فیما إذا کان السّبب واحداً، و أمّا إذا کان السبب متعدداً فان کانا أو کانوا فی عرض واحد من دون ترتب و طولیّة، ففی موارد الحکم بضمان السبب یشترکان أو یشترکوا فی الضمان، فاذا حفر جماعة بئراً فی طریق المسلمین، فوقع فیها دابة مثلاً، یشترکون فی ضمانها، و إذا کان هناک ترتب و تقدم و تأخر، فمقتضی ثبوت الضمان علی السبب ثبوته علی أوّل السببین أو الأسباب لعین ما دلّ علی ثبوته علی أصل السّبب، فلو حفر زید بئراً فی الطریق، و وضع عمرو حجراً علی حافة تلک البئر، فشردت دابة بسبب ذلک الحجر و وقعت فی البئر، فالضمان علی الحافر دون واضع الحجر، کما لا یخفی.

ص:61

ص:62

قاعدة إقرار العقلاء

اشارة

و من القواعد الفقهیة المعروفة قاعدة «إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز» و المراد هو الجواز الوضعی، بمعنی النفوذ و المضیّ، کما سیأتی التکلم فیه إن شاء اللّه تعالی، و فی هذه القاعدة جهات من البحث:

الجهة الاولی- فی مدرکها، و هو أمور:

الأوّل کونها من الأمارات الظنیّة القویّة،

التی بنی علی حجیتها العقلاء من الملل کافة، سیّما القضاة و الحکام فی جمیع الأقطار و الأمصار و الأعصار، و لم یردع عنها الشارع بل بنی علی إمضائها، کما نشاهده فی باب الحدود و الدیات و القصاص و القضاء و غیرها.

امّا بناء العقلاء علی الاعتماد علی إقرار العاقل، فلانة بعد فرض کون المقرّ عاقلاً، و العاقل لا یصدر منه ما لا یجتمع مع العقل لا بد و إن یکون الوجه لإقراره امّا بیان الواقع؛ لندمه علی الخلاف الذی صدر عنه،

ص:63

کالسرقة و القتل و الغصب و أمثاله، أو تخفیف العذاب الأخروی کالزنا و شبهه، و قد وقع فی بعض الروایات الواردة فی مورد الإقرار بالزّنا التعبیر به «طهّرنی» الدالّ علی ان إقراره الموجب للحدّ انّما هو لأجل حصول الطّهارة و النظافة من القذارة المعنویة المتحققة بسبب الزّنا، فالداعی إلی الإقرار هو التخلص فی الجملة من العذاب الأخروی. نعم ربما یمکن ان یتحقق الإقرار من دون ان یکون لبیان الواقع أو التحذر من شدّة العذاب، بل یکون کذباً مخالفاً للواقع صادراً بداعی إظهار الشخصیة أو الشجاعة مثلاً، و لکنه حیث یکون متصفاً بالشذوذ و قلّة الوجود، لا یمنع عن اعتماد العقلاء علی الأقاریر و لکن احتماله صار موجباً لکون الإقرار من الأمارات الظنیّة؛ إذ بدونه یکون الإقرار موجباً للعلم بصحّة ما أقرّ به و صدقه، فهو ای احتمال الکذب و إن صار مانعاً عن تحقق العلم، الّا انه لم یصر مانعاً عن الاعتماد علی الإقرار و نفوذه و جوازه، و لذلک تری ان عمدة ما یعتمدون علیه فی المحاکم و فی باب المرافعات و فصل الخصومات و إجراء الاحکام و المقررات هو الإقرار الصّادر من المتهم، و لم یناقش فی هذا الاعتماد واحد منهم أصلاً. و أمّا عدم ردع الشارع و إمضاؤه فهو یظهر کما عرفت بملاحظة الکتب المختلفة من کتب الحدیث المؤلفة للخاصة و العامّة، و لا شبهة فی الإمضاء بوجه.

الثانی الکتاب

کقوله تعالی أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ اَلشّاهِدِینَ (1). و قوله تعالی

ص:64


1- 1) سورة آل عمران، آیة 81.

وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَیِّئاً (1). و قوله تعالی کُونُوا قَوّامِینَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلی أَنْفُسِکُمْ (2).

و أجیب عنها، امّا عن الآیة الأولی فبأنه لا ربط لها بما هو محلّ البحث فی قاعدة إقرار العقلاء، لان اللّه تعالی یخاطب الناس و یقول بعد أخذ العهد و المواثیق منهم علی ان یؤمنوا و ینصروا رسله هل أقررتم و أخذتم علی ذلکم إصری ای ثقلی، و المراد بالثقل العهود و المواثیق التی أخذت منهم، ای قبلتم عهودی و مواثیقی؟ قالوا: أقررنا، ای قبلنا تلک العهود و المواثیق، و المراد من الأمر بالشهادة تثبیت تلک العهود و المواثیق علیهم و إتمام الحجة، و لذلک یقول بعد ذلک: و أنا معکم من الشاهدین ای لا یمکن لکم ان تنکروا هذه العهود.

و أمّا عن الآیة الثانیة فبأنها أیضاً لا ربط لها بالمقام، سواء کان المراد ب «آخرون» هم الفاسقین المعترفین بذنبهم التائبین عمّا فعلوا من خلط العمل الصالح بالعمل السیّئ، أو المتخلفین عن غزوة تبوک، فندموا و تابوا.

أقول: لا تنبغی المناقشة فی اشعار الآیة بل دلالتها علی ان الاعتراف بالذنب کاشف عن ثبوته و حاک عن تحقّقه، و لکن دلالتها علی ان إقرار کل عاقل علی نفسه جائز ممنوعة.

و أمّا عن الآیة الثالثة فبأن المراد من الشهادة الواجبة و لو کانت علی النفس هی ما إذا کان نفس الشهادة و أداؤها موجباً لوقوع ضرر علی النفس و المفروض فی القاعدة کون المقر به ضرراً علی المقرّ لا نفس

ص:65


1- 1) سورة التوبة، آیة 102.
2- 2) سورة النساء، آیة 135.

إقراره، فهذه الآیة أیضاً لا مجال للاستدلال بها فی محلّ البحث فی المقام.

الثالث الرّوایات،

و هی علی قسمین:

الأوّل: ما یدلّ علی القاعدة بعنوانها الکلّی، و هو الحدیث المشهور بین الفریقین الذی عبّر عنه صاحب (1)الجواهر قده بالنبوی المستفیض أو المتواتر و هو قوله (صلی الله علیه و آله) إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز (2)، و أیضاً قوله (صلی الله علیه و آله) : قولوا الحق و لو علی أنفسکم (3)و أورده صاحب الجواهر فی کتاب الإقرار.

و الظاهر عدم انطباق الحدیث الثانی علی المقام؛ لان المراد وجوب إظهار الحق و عدم جواز کتمانه، و إن کان نفس هذا الإظهار و عدم الکتمان ضرراً علی المقر فالروایة مثل قوله تعالی کُونُوا قَوّامِینَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلی أَنْفُسِکُمْ (4).

و أمّا الحدیث الأوّل فهو ینطبق علی القاعدة، بل عنوانها مأخوذ فیه و سیأتی البحث فی مفاده إن شاء اللّه تعالی.

الثانی: الأحادیث الکثیرة التی ورد أکثرها فی الموارد الخاصّة، کالإقرار بالولد و النسب، و کون النساء مصدّقات فی أنفسهن، و لکن الظاهر انّ ذکر المورد انّما هو لأجل تطبیق القاعدة علیه، لا لأجل خصوصیّة فیه، کما لا مجال للتأمل فیه لمن راجعها، و قد ورد فی بعض الأحادیث مثل

ص:66


1- 1) جواهر الکلام 35:3.
2- 2) الوسائل 16:111 ب 3 من کتاب الإقرار ح 2.
3- 3) البحار 77:171 مع اختلاف یسیر.
4- 4) سورة النّساء: الآیة 172.

مرسل العطّار (1)عن الصادق علیه السلام-: المؤمن أصدق علی نفسه من سبعین مؤمن علیه (2)و مرجعه الی ان الشهادة علی النفس و إن کانت واحدة، بل و إن کانت غیر متصفة بالعدالة، اکشف للواقع و اصدق من شهادة سبعین مؤمن، و إن کانت متصفة بالتعدد، بل و بالعدالة ایضاً، و فی خبر (3)جرّاح المدائنی عن الصادق علیه السلام-: لا أقبل شهادة الفاسق الّا علی نفسه (4). فاذا قبلت شهادة الفاسق علی نفسه، فشهادة العادل علیها بطریق اولی، و مرجع هذه الروایات الی ان مسألة الإقرار من شئون مسألة الشهادة غایة الأمر ان لها خصوصیة، و هی عدم اعتبار التعدد و العدالة فیها بخلاف الشهادة علی الغیر.

الرّابع عدم الخلاف من أحد من علماء الإسلام بل إجماعهم کافة علی حجیة إقرار العقلاء علی أنفسهم

و نفوذه و مضیّته فی الجملة.

و لکن بملاحظة ما ذکرنا مراراً یظهر انه لا أصالة للإجماع فی مثل المقام ممّا یوجد فیه نصّ معتبر، الّا ان یکون الإجماع جابراً لضعف الرّوایة علی تقدیره.

و قد انقدح مما ذکرنا ان عمدة الدلیل علی نفوذ إقرار العقلاء علی أنفسهم هو بناء العقلاء، و یکون مثل الحدیث النبوی دلیلاً علی الإمضاء، فالحدیث یمضی ما علیه بناء العقلاء، و علیه لا یکون دلیلاً مستقلا فی

ص:67


1- 1) الوسائل 16:110 ب 3 من کتاب الإقرار ح 1.
2- 2) الوسائل کتاب الإقرار، الباب الثالث، حدیث.
3- 3) الوسائل 16:112 باب 6 من کتاب الإقرار ح 1.
4- 4) الوسائل کتاب الإقرار، الباب السادس، حدیث.

مقابله، و لکن حیث یکون بناء العقلاء من الأدلة اللبّیة و دلیل الإمضاء دلیلاً لفظیّاً، لا بد من المشی علی طبق دلیل الإمضاء، و البحث فی مفاده من جهة العبارات الواقعة و الکلمات المستعملة فیه.

الجهة الثانیة- فی مفاد القاعدة،

و قد عرفت انه لا بد فی هذه الجهة من البحث فی مفاد الحدیث الذی هو دلیل لفظی یتضمن الإمضاء لما علیه بناء العقلاء، فنقول:

امّا الإقرار فمعناه لغة و عرفاً هو الإثبات و جعل الشیء ذا قرار و ثبات، و معنی أقرّه علی شغله هو جعله ثابتاً علی ذلک الشّغل، و معناه فی المقام الذی هو بحث فقهی هو إثبات المقرّ به و جعله ثابتاً.

و إضافة الإقرار إلی العقلاء لأجل خصوصیة لهم فی هذا الحکم و عدم شموله لغیرهم ممّن لا عقل له.

و المتفاهم من کلمة «علی أنفسهم» کونه علی ضررهم؛ فان کلمة «علی» فی مثل المقام بمعنی الضرر فی مقابل «اللام» الذی بمعنی النفع مثل قوله تعالی لَها ما کَسَبَتْ وَ عَلَیْها مَا اِکْتَسَبَتْ (1).

و المراد بالجواز کما أشرنا إلیه فی أوّل بحث القاعدة هو النفوذ و المضیّ لا الجواز مقابل الحرام لان الجواز التکلیفی لا یختص بالإقرار علی النفس بل یشمل الإقرار للنفس کما انه لا یختص بخصوص العقلاء مع انه قد لا یکون الإقرار علی النفس من العاقل بجائز شرعاً کما إذا علم بکذب إقراره فإنه حینئذ حرام من جهة الکذب و ربما ینطبق علیه عنوان محرم آخر کقذف المحصنة فیما إذا أقر بالزنا بالمحصنة الفلانیة مع ان الظاهر

ص:68


1- 1) سورة، آیة.

کما عرفت کون الحدیث إمضاء لما علیه العقلاء و مرّ ایضاً ان العقلاء یجعلون الإقرار من الأمارات الظنیة القویة و یعتمدون علیها فالمراد من الجواز هی الحجیة التی علیها بناء العقلاء. و أمّا الظرف فهل هو متعلق بالإقرار کما هو ظاهر عبارة القاعدة و مرجعه الی تقیید موضوع الحکم بالمضی بما إذا کان الإقرار علی النفس و بضرره کتقییده بما إذا کان صادراً من العقلاء علی ما تقتضیه اضافة الإقرار إلیهم أو یکون متعلقاً بالجواز و المضی و یکون الموضوع مطلق الإقرار و مرجعه الی کون الحکم و هو الجواز مقیّداً بکونه علی النفس و بضرر المقرّ؟ و علی التقدیر الأوّل فهل یکون الحکم بالجواز مطلقاً و غیر مقیّد أو یکون هو ایضاً کموضوعه مقیداً بما إذا کان علی النفس ففی هذه الجهة ثلاثة احتمالات:

الأوّل ان یکون الظرف متعلقاً بالإقرار و موجباً لتقیید الموضوع من دون ان یکون الحکم مقیداً به أیضاً.

الثانی ان یکون الظرف متعلقاً بالحکم و موجباً لتقییده من دون ارتباط له بالموضوع و الثمرة بین الاحتمالین تظهر فیما إذا کان الإقرار علی ضرره و لکن کان له لازم یکون لنفعه کما لو أقرّ بولدیة مولود أو زوجیّة امرأة فإن الإقرار بالأبوة و کذا الزوجیة کما یکون علی نفسه من جهة وجوب إعطاء النفقة کذلک یکون لنفسه من جهة الإرث منهما علی تقدیر موتهما.

ففی هذا الفرض ان کان الظرف متعلقاً بالإقرار و کان الحکم بالجواز مطلقا یترتب علی إقراره کلا الأمرین لثبوت قید الموضوع و کون الحکم

ص:69

مطلقا فاللازم نفوذ إقراره فی اللازم ایضاً کنفوذه فیما یرجع الی ضرره.

و إن کان الظرف متعلّقاً بالجواز یکون مقتضاه النفوذ فی خصوص ما یرجع الی ضرر نفسه و لا یشمل اللازم بوجه.

الثالث ان یکون الظرف متعلقاً بکلا الأمرین لا بمعنی تعلّقه من الجهة النحویة بأمرین بل بمعنی تقدیر علی أنفسهم بعد الحکم بالجواز أیضاً فکأنه قال إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز علی أنفسهم و عدم التصریح به لعدم الحاجة إلیه کقوله تعالی أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ حیث تکون کلمة «بهم» مقدرة بعد قوله تعالی وَ أَبْصِرْ .

و مقتضی هذا الاحتمال انه إذا کان للإقرار مدلول التزامی لا یکون ضرراً علی المقر لا تشمله القاعدة.

و الظاهر بملاحظة فتاوی الفقهاء رضوان الله علیهم أجمعین بثبوت خصوص ما یرجع الی ضرر المقرّ و بملاحظة ظهور عبارة القاعدة فی کون الظرف متعلقاً بالإقرار هو هذا الاحتمال الثالث الذی یرجع الی تقیید الموضوع و الحکم معاً بکونه علی النفس.

و لکن فی المقام اشکال مهمّ أورده النراقی قده فی عوائده مفصّلاً و خلاصته انه إذا کان الإقرار بأمر واحد لا یمکن تحقّقه الّا بین اثنین کالإقرار بالزوجیة فی المثال المتقدم یشکل الحکم بنفوذ الإقرار فیه بل لا یمکن الحکم به لا فی حق المقرّ و لا فی حق الغیر امّا فی حق الغیر فظاهر و أمّا فی حقّه فلعدم إمکان تحقّقه بدون الثبوت فی حق الغیر و بعبارة اخری: امّا یحکم بنفوذه فی حقّهما فیلزم نفوذ الإقرار فی حق الغیر و هو باطل شرعاً أو بنفوذه فی حقه خاصّة دون حق الأخر و هو باطل عقلاً

ص:70

لاستلزامه انفکاک ما یمتنع انفکاکه عن الشیء مع انه لو حکم بعدم النفوذ ایضاً لا یکون مخالفة فیه لعموم النبوی إذ الثابت منه نفوذ الإقرار فی حق النفس و هذا إقرار بشیء واحد فی حق النفس و الغیر فلا یشمله الخبر بل لیس ذلک متبادراً من الإقرار علی النفس.

و الجواب عن هذا الاشکال انّ وروده یبتنی علی ان یکون مقتضی الحدیث الحکم بالثبوت الواقعی التکوینی فإنه مع فرض تقوم الشیء لشخصین و استحالة التفکیک بین أمرین لا یبقی مجال للتفکیک بوجه و أمّا إذا کان المراد هو الثبوت التعبدی فلا إشکال فی التفکیک لان مرجعه الی الحکم بالثبوت فی مقدار دلّ دلیل التعبد علیه فإنه فی مثل المثال إذا کان زید شاکّاً فی بقاء زوجیّته المتیقنة فی السابق و الزوجة عالمة بزوال الزوجیة یکون مقتضی قاعدة لا تنقض الجاریة فی حق الزوج لزوم ترتیب آثار الزوجیّة من إعطاء النفقة و مثله و لا تجب علی الزوجة الموافقة مع العلم بزوالها و لیس ذلک إلّا لأجل کون الثبوت ثبوتاً تعبّدیاً لا مانع فیه من تحقق التفکیک بوجه کما انه لا مانع فی الثبوت التعبدی من التضاد أصلاً فإذا کان شخصان مشترکین فی ثوب واحد و کان الثوب مشکوک النجاسة فی زمان و لکن کانت حالته السابقة المتیقنة الطهارة بالإضافة إلی أحدهما و النجاسة بالإضافة إلی آخر یکون مقتضی الاستصحابین النجاسة و الطهارة معاً فی ثوب واحد و لا مانع منه بعد فرض کون الثبوت تعبّدیاً.

و بالجملة لا مجال للإشکال فی موارد الثبوت التعبدی بعد قصور دلیل التعبد عن الشمول للمدلول الالتزامی فإنه یتحقق حینئذ الانفکاک من دون ان یکون هناک مانع.

ص:71

ان قلت ان ما ذکرت انّما یتم فی الأصول العملیة حیث ان مثبتاتها لیست بحجة و الحجیّة مقصودة علی المدلول المطابقی و أمّا فی باب الأمارات فقد اشتهرت حجیّة مثبتاتها و عدم انحصار الحجیة فیها بالمدلول المطابقی بل شمولها للمدلول الالتزامی أیضاً فإذا شهدت البیّنة مثلاً بان زیداً بلغ ثلاثین سنة فکما ان شهادتها حجة فی هذا المدلول المطابقی فکذلک حجة فی اللوازم العادیة و العقلیة ایضاً و قد مرّ ان الإقرار عند العقلاء من الأمارات الظنیة القویة و قد أمضاها الشارع فاللازم ان یکون حجة بالإضافة إلی اللّوازم ایضاً.

قلت الفرق بین الأصول و الأمارات بما ذکرت لیس مستنداً الی تعبد فی هذه الجهة بحث کان مقتضاه التفکیک فی الأصول دون الأمارات بل لأجل ان دلیل الأصل لا یشمل المدلول الالتزامی بوجه دون دلیل الامارة فاذا کان حیاة زید مشکوکة من حیث البقاء یکون مقتضی الاستصحاب الحکم بالبقاء و لکن لا یلزم ترتیب آثار البقاء التی لم تکن متیقنة فی السابق بل کانت متیقنة العدم کنبات اللحیة الذی لم یکن له حالة سابقة فمعنی عدم حجیة مثبت الاستصحاب ان دلیل لا تنقض لا یجری إلّا فی خصوص ما کان فیه یقین بالحدوث و شک فی البقاء و لا معنی لجریانه فیما لیس فیه هذا العنوان و المفروض عدم انحصار دلیل حجیة البینة بخصوص المدلول المطابقی فکلما قامت علی البینة فهو ثابت سواء کان مدلولاً مطابقیّاً أو مدلولاً التزامیّاً و بعبارة اخری یدخل الجمیع فی دائرة الشهادة و المفروض اعتبارها.

لکن فی المقام مع کون الإقرار من الأمارات عند العقلاء و الشارع

ص:72

و لکن حیث یکون دلیل الإمضاء مقیّداً موضوعاً و حکماً بکونه علی النفس لا یبقی مجال لتوسعة دائرة الحکم بالثبوت بغیر ما إذا کان علی النفس بل لا بد من الاقتصار علی هذه الجهة و التّحدید بذلک فالإقرار مع کونه امارة لکنه لا یترتب علیه الّا ما کان علی النفس و لا مانع من التفکیک کما عرفت.

و نظیره قاعدة التجاوز بناء علی کونها امارة فإنه لو شک فی إتیان صلاة الظهر فی أثناء الاشتغال بصلاة العصر أو شک فی أثناء الصلاة أنه توضّأ أم لا؟ یکون مقتضی قاعدة التجاوز البناء علی الإتیان بصلاة الظهر فی المثال الأوّل من جهة شرطیتها لصلاة العصر و لزوم الترتیب بین الصلاتین لا مطلقا حتی لا یجب الإتیان بها بعد الفراغ عن صلاة العصر مع بقاء الوقت و کون الإتیان بها مشکوکاً، کما ان مقتضی قاعدة التجاوز أنه توضّأ من جهة شرطیة الطهارة للصلاة التی هو مشتغل بها لا انه توضّأ مطلقا حتی لا یجب علیه التوضی لصلاة اخری مع اشتراطها بالوضوء و کونه مشکوکاً فالتعبد بوجود صلاة الظهر فی الأوّل و بوجود الوضوء فی الثانی لا یکون تعبّداً مطلقا بل محدوداً بما تکون القاعدة مقیدة به و هو صدق عنوان التجاوز فالاماریة لا تلازم الحکم بالثبوت مطلقا.

و لذلک تری الفقهاء یفتون فی المقام بأنه لو أقر بالزنا بالمرأة الفلانیة یترتب علی إقراره حدّ الزنا من الجلد مع عدم الإحصان و الرّجم معه و لکنه لا یثبت علی المرأة شیء من جهة هذا الإقرار أصلاً.

کما انه لو أقر ببنوة شخص له یترتب علی إقراره وجوب الإنفاق علی تقدیره کما انه یرث منه بمقتضی إقراره و لکنه لا یرث منه و لا مانع من

ص:73

الانفکاک.

و خلاصة الکلام ان الإقرار کما فی العوائد امّا ان یکون فی حق الغیر محضاً کان یقول زید سرق مال عمرو، أو فی حق نفسه کذلک کان یقول هذا لیس مالی أو علیّ درهم فی سبیل الله أو یکون فی حقه و حق الغیر معاً و هو علی قسمین لانه امّا ان یکون إقراراً بأمر واحد لا یمکن تحققه الّا بین اثنین و بعبارة اخری یکون اعترافاً بأمرین یمتنع انفکاک أحدهما عن الأخر کان یقرّ بمبایعة أو مصالحة أو مؤاجرة أو زوجیة أو تطلیق أو یقرّ بإخوته لهند و أختیّتها له أو ببنوته لعمرو و أبوّته له و نحو ذلک.

و الحکم فی الأولین واضح و کذا فی القسم الثالث ضرورة انه ینفذ فی حق نفسه لا فی حق الأخر و الإشکال انّما هو فی القسم الرّابع و قد عرفت توضیح الاشکال و کذا تفصیل الجواب و خلاصته الفرق بین الثبوت الواقعی و بین الثبوت التعبدی الذی هو مفاد قاعدة الإقرار المستفادة من دلیل الإمضاء.

و ینبغی التنبیه علی أمور:

الأمر الأوّل- قد عرفت ان الإقرار لغة و عرفاً عبارة عن جعل الشیء ذا قرار و ثبات،

و إن الإقرار علی النفس معناه تثبیت شیء علیها و بضررها، سواء کان مالاً أو حقّا أو أمراً مستتبعاً لثبوت حق أو مال علی النفس، کإقراره بثبوت نسبة بینه و بین غیره، و سواء کان الحق حق الناس کالدین مثلاً أو حق اللّه کالإقرار بما یوجب الحدّ من الزنا و غیره.

و لا فرق فی تحقق الإقرار علی النفس بین ان یکون مدلولاً مطابقیّاً

ص:74

للّفظ کما إذا قال: انا مدیون لزید بمائة درهم مثلاً أو مدلولا التزامیّاً کما إذا قال زید مخاطباً إیّاه: أنت مدیون لی بکذا، فقال فی جوابه: رددت علیک دینک، فان قوله: رددت. . و إن لم یکن مدلوله المطابقی الإقرار بثبوت الدین، الّا ان مدلوله الالتزامی یکون إقراراً عند العرف بثبوته، و لذلک تری الفقهاء یحکمون بلزوم إقامة البینة علی الرّد بعد إقراره بثبوت الدّین، و لو قال فی جواب المدّعی: مالک علیّ دین، لم یلزم علیه إقامة البینة؛ لأنه کان منکراً، و وظیفته الیمین مع عدم إقامة المدعی البیّنة.

و بالجملة لا إشکال فی اعتناء العرف و العقلاء بالإقرار الّذی یکون مدلولاً التزامیّاً. هذا کله إذا کان الإقرار باللفظ.

و أمّا إذا کان بغیر اللفظ کالإشارة کما إذا سأله الحاکم هل أنت مدیون لزید؟ فصدقه بالإشارة، فلا إشکال فی کونه إقراراً فی الجملة و ینفذ علی المقرّ، انّما الإشکال فی انه هل بینه و بین الإقرار باللفظ فرق من جهة انه لا یعتبر فی اللفظ الّا مجرد الظهور الذی یکون حجة عند العقلاء فی باب الألفاظ، و یعتبر فی غیره الصراحة بحیث لا یحتمل الغیر بوجه، و لا یجری فیه احتمال آخر أصلاً؟ أو انه لا فرق بینهما أصلاً، بل یکون الملاک فی کلیهما هو الظّهور، فکما ان اللفظ الظاهر فی الإقرار یکون عند العرف مصداقاً لقوله (1)(صلی الله علیه و آله) : إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز، فکذلک الفعل الظاهر فی الإقرار کالإشارة فی المثال المذکور، غایة الأمر ثبوت الاختلاف بینهما فی الصغری، بمعنی ثبوت الظهور للألفاظ نوعاً و عدم ثبوته للفعل کذلک، لأنه یجری فیه وجهان بل وجوه، امّا مع ثبوت الظهور کما هو المفروض-

ص:75


1- 1) الوسائل 16:111 ب 3 من کتاب الإقرار ح 2.

فلا فرق بینهما؟ الظاهر هو الثانی، و إن کان ظاهر المحقق البجنوردی فی قواعده (1)الفقهیة هو الأوّل، ثمّ ان ما ذکرنا فی الإشارة یجری فی الکتابة من دون فرق.

الأمر الثانی- انّک عرفت ان الإقرار ظاهره الإثبات و جعل الشیء ذا قرار،

فاذا کان الإقرار علی النفس بهذه الصورة، ای: بصورة الإثبات، فلا شبهة فی نفوذه و کونه مصداقاً للقاعدة، و أمّا إذا کان بصورة النفی و الإنکار، کما إذا نفی الحق عن نفسه بعد إقرار الطرف بثبوته له، کما إذا قال البائع مثلاً له: لک الخیار علیّ فی هذه المعاملة الواقعة، فنفی ثبوت الخیار لنفسه، و أنکر ما أقره البائع علی نفسه، أو نفی المال، کما إذا قال له ذو الید: هذا المال الذی فی یدی لک، فنفی کون المال له و أنکر ما أقرّه ذو الید علی نفسه، أو نفی النسبة، کما إذا قال ورثة المیت له: أنت شریکنا فی الإرث: لأنّک أخ لنا، فنفی الأخوّة و کونه وارثاً للمیّت، فهل یکون مصداقاً للقاعدة، و یکون النفی و الإنکار الذی یرجع الی الإقرار علی النفس نافذاً علیه و ممضی بضرره أم لا؟ و الثمرة بین الوجهین تظهر فی الرجوع عن هذا الإنکار و تصدیق المقر فیما أقربه بعده، فان کان هذا الإنکار إقراراً علی النفس، فلا یسمع الإنکار بعد الإقرار و الرجوع عنه، کما سیأتی التکلم فیه ان شاء اللّه تعالی، و إن لم یکن إقراراً علی النفس، فلا مانع من السماع بعد عدم کونه إنکاراً بعد إقراراً.

و الظاهر بملاحظة ما عرفت من لزوم الرجوع الی العرف فی

ص:76


1- 1) القواعد الفقهیة 3:49.

تشخیص موضوع الإقرار المأخوذ فی القاعدة کون المقام ایضاً من مصادیق الإقرار، و إن کان بصورة النفی و الإنکار، و الظاهر ان هذا المقام أقرب من المدلول الالتزامی المتقدم الذی ذکرنا شمول القاعدة له، و علیه فمقتضی عموم القاعدة کون المقام ایضاً ممّا ینفذ فیه الإقرار علی المقرّ.

نعم یبقی فی المقام انه فی مثل الأمثلة المتقدمة یتحقق مصداقان للإقرار علی النفس، إقرار من البائع مثلاً بثبوت حق الخیار للمشتری علیه، و إقرار من المشتری کما هو المفروض بعدم ثبوت الخیار له علی البائع، و کلاهما إقرار علی النفس، فاللازم ان یقال بالتعارض و التساقط، کما هو مقتضی القاعدة فی کل أمارتین متعارضتین، و علیه فلا یؤخذ أیّ واحد من المقرین بإقراره.

نعم لو رجع النافی عن إقراره الذی بصورة الإنکار، و صدّق المقر الأوّل، فإن کان المقرّ الأول باقیاً علی إقراره أُخِذَ بمقتضی إقرار الثانی الجدید، الذی لا یکون له معارض، و إن لم یکن باقیاً علی الإقرار یتحقق المدعی و المنکر، فیدخل فی باب القضاء کما لا یخفی.

الأمر الثالث- لا شبهة فی انه بعد تمامیة الإقرار علی النفس، لا یسمع الإنکار و تکذیب الإقرار،

و الوجه فیه انه لا دلیل علی اعتبار هذا الإنکار بعد قیام الدلیل علی اعتبار الإقرار المتقدم و نفوذه، و انه من الأمارات المعتبرة عند العقلاء و الشارع، فعدم سماع الإنکار بعده انّما هو لأجل عدم الدلیل علی السّماع و الاعتبار، لعدم کونه من مصادیق القاعدة، و عدم دلیل آخر علی الاعتبار.

نعم لا بد من ملاحظة ان ذلک انّما هو فیما إذا تمّ الإقرار، و کان

ص:77

الإنکار أمراً آخر غیر مرتبط به بحسب الدلالة و الظهور؛ فاذا کان الإنکار بمنزلة القرینة المتصلة أو المنفصلة التی تکون أصالة الظهور فیها حاکمة علی أصالة الظهور فی طرف ذی القرینة، فهذا لا یکون إنکاراً بعد إقرار، فإذا قال لزید: علیّ عشرة إلّا درهماً، فلیس هناک الّا ظهور واحد، و هو الظهور فی الإقرار بتسعة، و لیس استثناء الدرهم بمنزلة الإنکار بعد الإقرار بعشرة، بل لم یتحقق الإقرار من أوّل الأمر إلّا بالإضافة إلی التسعة، و لم یتحقق للکلام ظهور الّا بالنسبة إلیها، فهکذا الأمثلة الأخری، فمحلّ البحث هو ما إذا کان لکل من الإقرار و الإنکار ظهور مستقل غیر مرتبط بالآخر، غایة الأمر المضادة بینهما من جهة الواقع، ففی هذه الصورة لا مجال لسماع الإنکار، بعد انه لم یقم دلیل علیه، و أمّا إذا کان هناک ظهور واحد فی الإقرار علی النفس، فلا إشکال فی لزوم الأخذ به کما فی المثال و شبهه.

نعم هنا شبهة و هی: انه لو فرض ان یکون للإنکار حکومة: علی الإقرار و کان بمنزلة الشرح و التفسیر و التوضیح له، کما فی الدلیل الحاکم بالإضافة إلی الدلیل المحکوم، مثل قوله (علیه السلام) : لا شک لکثیر الشک (1)، الذی هو ناظر إلی أدلة الشکوک الدالة علی لزوم البناء علی الأکثر، و الإتیان بصلاة الاحتیاط و تقیید لها بغیر کثیر الشک، فهل یقبل هذا التفسیر و هذه الحکومة مثلاً إذا قال: ان داری هذه لزید، ثمّ قال بکلام منفصل: أردت من الدّار نصفها، فنصفها فقط لزید، فهل یقبل منه هذا التفسیر الذی هو بمنزلة الإنکار لما أقرّ به من کون تمام الدار لزید، علی ما هو مقتضی ظاهر الإقرار أم لا یقبل؟

ص:78


1- 1) لم نعثر علیه فی کتب الحدیث و یمکن کونه قاعدة مأخوذة من سیاق الروایات.

یمکن ان یقال بالقبول؛ لعدم الفرق بین المقام الحکومة و بین الدلیلین، المقتضیة لتقدم الدّلیل الحاکم علی الدّلیل المحکوم، لکونه ناظراً الیه و مسوقاً لتحدید مدلوله سعة و ضیقاً، فاللازم فی المقام ایضاً القبول بعد کون الإنکار بمنزلة الشرح و التفسیر للإقرار، نعم لو کان بینهما مضادة بالکلیة لما کان مجال لقبول الإنکار، کما إذا أنکر فی المثال کون الدار لزید و لو ببعض أجزائها، و أمّا مع عدم المضادة بهذه الکیفیة، فاللازم القبول.

و لکن التحقیق یقتضی عدم القبول؛ لأنّ مسألة التقنین التی تجری فیها الحکومة و التخصیص و أمثالهما، تغایر المحاورات العادیة التی لا ربط لها بمقام وضع القانون، و الأقوی ان التخصیص الذی بلغ من الکثرة إلی حدّ قیل: ما من عامّ الّا و قد خصّ، لا یجری فی غیر مسألة التقنین بوجه؛ لأنّ الموجبة الکلیّة تناقض السالبة الجزئیة، و کذا السالبة الکلیة تناقض الموجبة الجزئیة، کما فی المنطق فاذا، قال قائل: ما لقیت من القوم أحداً، ثمّ قال مع الفصل: لقیت من القوم زیداً، فهذه مناقضة غیر مقبولة عند العرف و العقلاء، و هذا بخلاف ما إذا قال فی مقام التقنین: أکرم القوم، ثمّ قال: لا تکرم من القوم زیداً.

فهذا یدلّنا علی بطلان مقایسة مثل المقام بمسألة الحکومة و التخصیص و أمثالهما، الجاریة فی نطاق وضع القانون و مقام التقنین، و علیه فلا یقبل الإنکار بعد الإقرار، و لو کان بصورة الشرح و التفسیر و بعنوان الناظر کما عرفت.

الأمر الرّابع- إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز

مقتضی إطلاق قوله (صلی الله علیه و آله) : إقرار العقلاء علی أنفسهم

ص:79

جائز (1)، نفوذ الإقرار علی النفس مطلقا، من دون فرق بین ما إذا کان فی قبال من یدّعی ما أقرّ به، بین ما إذا لم یکن فی البین مدّع أصلاً.

و یحتمل ثبوتاً الفرق و اختصاص القاعدة بما إذا کان الإقرار فی قبال المدّعی، علیه فلو قال: ان هذه الدار التی فی یدی و تحت استیلائی لزید، و لم یکن زید یدعی کون الدّار له، بل یظهر الجهل و عدم العلم، فحیث لا یکون هذا الإقرار فی قبال المدّعی لا یکون بنافذ علی ما هو المفروض من الاحتمال، فلو أنکر بعد ذلک و قال: هذه الدّار لی، لا یکون من الإنکار بعد الإقرار، حتی لا یسمع، بل تکون یده أمارة الملکیة، و یجوز له التصرف فیه بما شاء. و أمّا علی الفرض الأوّل فیکون هذا الإنکار إنکاراً بعد إقرار، و لا مجال لسماعة کما مرّ، علیه تکون یده ساقطة عن الاعتبار، إلّا إذا ادّعت الملکیة الجدیدة، و کان حصولها ممکناً، فحینئذ یمکن ان یقال باعتبار یده بناءً علی تقدم أماریة الید الفعلیة علی استصحاب حال الید السابقة التی هی ید امانیة بمقتضی إقراره النافذ، علی ما هو المفروض، و أمّا بناء علی تقدم الاستصحاب المزبور، فلا یترتب علی یده الفعلیة شیء، و لا تکون امارة بوجه، و یجری مثله فیما إذا کان مستأجراً لدار (و المستأجر یده ید امانة) ثمّ ادعی انتقالها الیه بناقل شرعی، فهل یجری حینئذٍ استصحاب یده الأمانیة، أو تکون یده أمارة الملکیة؟ فیه وجهان، و لا یبعد دعوی تقدم الاستصحاب فی مثل هذه الموارد، و التحقیق فی محلّه.

الأمر الخامس- لزوم تسلیم ما أقرّ به الی المدّعی

لو قلنا باختصاص نفوذ الإقرار بما إذا کان فی قبال

ص:80


1- 1) الوسائل 16:111 ب 3 من کتاب الإقرار ح 12.

من یدّعی ما أقرّ به، فلا إشکال فی لزوم تسلیم ما أقرّ به الی المدّعی و جواز التصرف له فی ذلک، بلحاظ ان مقتضی ادّعائه العلم بکونه له، و لا معارض له فی هذا الادعاء، بل صاحب الید یقرّ بکونه له أی للمدّعی.

و أمّا لو لم نقل بالاختصاص، و قلنا بنفوذ الإقرار علی النفس مطلقا، فهل یجوز لزید مثلا الذی أقرّ صاحب الید بکون ما فی یده له، و لا یکون هو مدّعیا أصلاً، بل یظهر الجهل و عدم العلم کما فی المثال المتقدم فی الأمر الرابع التصرف فی ذلک الشیء بمقتضی الإقرار و قیام الدلیل علی نفوذه مطلقا و لو لم یکن مدّعیاً، أم لا یجوز له ذلک؟ یمکن ان یقال بعدم الجواز؛ لانّ مقتضی القاعدة نفوذ الإقرار فی خصوص ما یرتبط بضرر النفس و یکون علیها، و أمّا من الجهة الراجعة إلی نفع الغیر، فلم یدل دلیل علی النفوذ، ففی المثال یکون مقتضی القاعدة نفوذ الإقرار بالإضافة الی عدم کون ما فی یده ملکاً للمقرّ و متعلّقاً به، و أمّا کونه ملکاً لزید، فلا اقتضاء للقاعدة بالنسبة إلیه، فلا یجوز لزید الجاهل بکون ما فی ید المقر له التصرف فیه، بصرف الإقرار و بمجرّده و بعبارة اخری: الإقرار بکون ما فی یده لزید لا یکون إقراراً علی النفس الّا من جهة المدلول الالتزامی و هو عدم کونه له، و دلیل نفوذ الإقرار من جهة هذا المدلول لا یشمل النفوذ من جهة المدلول المطابقی أیضاً، اللهم الّا ان یستند لجواز تصرف زید فی المثال إلی قاعدة (من ملک شیئاً ملک الإقرار به) و لا بد من البحث فیها؛ لیظهر صحة الاستناد و عدمه.

ان قلت: انه مع عدم جواز التصرف لزید فی المثال، کیف یتعامل

ص:81

مع المال الذی انتزع من ید المقر بمقتضی إقراره.

قلت: یبقی امانة فی ید الحاکم أو المأذون من قبله، حتی یظهر المالک، و مع عدمه یتعامل معه معاملة مجهول المالک، کما فی سائر الموارد.

الأمر السادس- قد مرّ ان معنی الإقرار لغة و عرفاً هو الاخبار بثبوت شیء و جعله ذا قرار و ثبات،

و الظاهر اعتبار الجزم فی هذا الاخبار و لزوم کونه بتّاً، فلو أخبر بصورة الاحتمال و قال: انّی احتمل ان یکون ما فی یدی لزید، لم یکن إقراراً أصلاً؛ لأن الاحتمال لا یجتمع مع الثبات و القرار المأخوذ فی مفهوم الإقرار و معناه، بل و کذا لو أقر بثبوت شیء من العین أو الدین أو الحقّ أو أمر مستتبع لشیء من ذلک معلّقاً علی أمر؛ فإن الإقرار لا یجتمع مع التعلیق، فان مرجع الإقرار إلی جعله ذا ثبات، و مرجع التعلیق الی التزلزل و الابتناء علی المعلّق علیه، و هذان لا یجتمعان، من دون فرق بین ما إذا کان المعلق علیه محتمل الوقوع و التحقق کقدوم زید من السفر، و بین ان یکون محقق الوجود فیما سیأتی، کطلوع الشمس غداً، و إن کان التنافی فی الصورة الأولی أظهر منه فی الصورة الثانیة.

ثمّ انّ فی مسألة الإقرار فروعاً کثیرة، وقع الاختلاف فی بعضها من جهة شمول القاعدة و عدمه، کما أنْ فیها مسائل أخری غیر مرتبطة بالقاعدة، بل بالألفاظ المستعملة فی مقام الإقرار أو بجهات اخری کلّها مذکورة فی کتاب الإقرار، الذی هو من الکتب الفقهیة المشتملة علی أبحاث کثیرة، و لا مجال للبحث عنها فی هذا المقام الذی یکون محطّ البحث فیه نفس القاعدة المستفادة من السنّة فقط، و من أحب تفصیل مسائل الإقرار فلیراجع کتابه فی الفقه.

ص:82

قاعدة ضمان الید

اشارة

و هی ایضاً من القواعد الفقهیة المشهورة المستفادة من قوله (صلی الله علیه و آله) : و علی الید ما أخذت حتی تؤدّی (1)، و قبل الخوض فی مباحثها لا بد من التنبیه علی أمر، و هو الفرق بین هذه القاعدة و بین قاعدة الید التی یراد بها أماریة الید علی الملکیة و شبهها، فنقول:

امّا الفرق من جهة الحکم فواضح؛ ضرورة أن المبحوث عنه هنا هو الضمان الذی هو حکم وضعی ثابت علی تقدیره بضرر صاحب الید و عقوبة له، فهو حکم ضرری علیه، و المبحوث عنه هناک هی الأماریة التی نتیجتها ثبوت الملکیة لصاحب الید، کالبینة التی تثبت الملکیة،

ص:83


1- 1) سنن الترمذی 3:566. سنن البیهقی 6:95. سنن ابن ماجة 2:802 ح 240.

أو السوق التی هی أمارة علیها، و قد تکون نتیجتها شیئاً آخر بنفع ذی الید، کما إذا کانت امرأة تحت یده و استیلائه؛ فإنه یحکم بکونها زوجة له، و کما إذا کانت العین الموقوفة تحت یده؛ فإنه یحکم بکونه متولّیا علیها مثلاً فاختلاف القاعدتین من جهة الحکم واضح.

و أمّا من جهة الموضوع، فالموضوع هنا هی الید، التی تکون معلومة من جهة کونها ید غیر المالک و غیر المأذون من قبله أو من قبل الشارع، فیعلم بکونها ید الغاصب مثلاً، و أمّا الموضوع هناک فهی الید المشکوکة، التی لا یعلم کونها ید المالک أو ید غیره و غیر المأذون من قبله أو من قبل الشارع، کما سیأتی البحث فیه ان شاء اللّه تعالی، فالاختلاف بین القاعدتین من جهة الموضوع ایضاً ثابت.

إذا عرفت ذلک، فالکلام فی القاعدة یقع من جهات:

الجهة الاولی- فی مدرک القاعدة:

فنقول: مدرکها هو الحدیث النبوی المعروف الذی رواه الفریقان و اشتهر بین علماء الإسلام نقلاً و استناداً، بحیث صار الاشتهار موجباً للوثوق بصدوره، ان لم یبلغ مرتبة القطع بالصّدور، و بالجملة بلغ مرتبة لا مجال معها للمناقشة فیه من حیث السند أو الحکم بضعفه، و هو قوله (صلی الله علیه و آله) : و علی الید ما أخذت حتی تؤدّی، أو تؤدّیه، رواه ابن ماجة (1)و الترمذی (2)و أبو داود (3)السجستانی عن قتادة عن الحسن البصری عن

ص:84


1- 1) سنن ابن ماجة 2:802 ح 2400.
2- 2) سنن الترمذی 3:566 ح 1266.
3- 3) سنن ابن داود 3:292 ح 3561.

سمرة بن جندب عنه (صلی الله علیه و آله) .

هذا و قد استشکل سیدنا العلامة الأستاذ الخمینی (1)دام ظله العالی فی کتابه فی البیع فی انجبار سند الرّوایة بعمل قدماء الأصحاب، و قال ما ملخّصه: «الظاهر من السیّد علم الهدی و شیخ الطائفة و السید ابن زهرة هو إیراده روایة و احتجاجاً علی العامّة، لا استناداً الیه للحکم، قال السیّد فی الانتصار (2)فی مسألة ضمان الصنّاع: «و مما یمکن ان یعارضوا به؛ لانّه موجود فی روایاتهم و کتبهم، ما یروونه عن النبی (صلی الله علیه و آله) من قوله: (علی الید ما جنت حتی تؤدّیه) و ذکر الشیخ (قده) فی غصب الخلاف المسألة (20) بعد عنوانها و ذکر خلاف أبی حنیفة: دلیلنا انه ثبت ان هذا الشیء قبل التغییر کان ملکه، فمن ادّعی انه زال ملکه بعد التغییر، فعلیه الدّلالة، و روی قتادة عن الحسن عن سمرة ان النبی (صلی الله علیه و آله) قال: (علی الید ما أخذت حتی تؤدّیه) ، و لو کان استناده الی قوله (صلی الله علیه و آله) لما کان وقع للاستدلال بعدم الدلیل علی زوال ملکه، فإیراد الروایة لمحض الاحتجاج علی ابی حنیفة. و أورد فی أوّل غصب المبسوط (3)عدة روایات من طرقهم، منها هذه الروایة، و الظاهر من نقل خصوص روایاتهم هو الاحتجاج علیهم لا الاستناد إلیها. و فی غصب الغنیة (4): «و یحتج علی المخالف بقوله (صلی الله علیه و آله) : علی الید ما قبضت حتی تؤدّی، و هو ظاهر فی عدم الاعتماد

ص:85


1- 1) کتاب البیع 1:247.
2- 2) الانتصار:226.
3- 3) المبسوط 3:56.
4- 4) الغنیة (الجوامع الفقهیة) :537.

علیه، و لم یقع الاستدلال به فی (نکت النهایة) للمحقّق، بل الظاهر عدم وجوده فی المقنع و الهدایة و المراسم و الوسیلة و جواهر الفقه، و قد استشکل الأردبیلی فی سنده.

نعم ان ابن إدریس تمسک به فی السرائر فی موارد، و نسبه جزماً الی رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ، مع عدم عمله بالخبر الواحد، ثمّ شاع الاستدلال به منذ زمن المتأخرین عن العلّامة، و کأنّه اختلفت حالاته من عصر قدماء أصحابنا إلی عصرنا؛ ففی عصر السید و الشیخ کان خبراً مرویّاً عنهم علی سبیل الاحتجاج علیهم، ثمّ صار مورد التمسک فی العصر المتأخر، ثمّ صار من المشهورات فی عصر آخر، و من المشهورات المقبولات فی هذه الأعصار، حتی یقال: لا ینبغی التکلم فی سنده، فالبناء علی الاعتماد علیه مشکل» .

ثمّ قال (دام ظلّه) ما ملخصه ایضاً: «و ترک العمل به مع جزم ابن إدریس بصدوره عن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) مع طریقته فی العمل بالاخبار، و إن أمکن ان یکون ذلک باجتهاد منه و قیام قرائن عنده، ربما لا تفیدنا علماً و لا عملاً، و اختلاف عبارات الحدیث بحیث ربما یکشف عن تکرّره و تظافره، و اعتماد محققی أصحابنا علیه من بعد ابن إدریس إلی عصرنا، مع تورّعهم و التفاتهم الی ضعفه، و أنه لا بدّ من الجبر فی مثله، و هو لا یمکن الّا باعتماد قدماء الأصحاب علیه و لعلّه شهادة منهم علی اتکال الأصحاب علیه مشکل آخر، و لعلّ من مجموع ذلک، من اشتهاره بین العامّة قدیماً، و من إتقان متنه و فصاحته، ربما یحصل الوثوق بصدوره، و لعلّ بناء العقلاء علی مثله مع تلک الشواهد لا یقصر عن العمل بخبر الثقة» .

ص:86

ثمّ قال دام ظله بعد ذلک ما خلاصته أیضاً: «فی النفس تردد؛ لان ابن إدریس، مع ما عرفت منه فی کتاب الغصب من السرائر (1)، تمسک فی المسألة بالأصل و عدم الدلیل، ثمّ قال: و یحتج علی المخالف بقوله (صلی الله علیه و آله) : علی الید، و هذا یوجب حصول الاحتمال بأن سائر الموارد من قبیل الاحتجاج علیهم لا التمسّک به و لم أر الی الآن فیما عندی من کتب العلّامة، تمسّکه به لإثبات حکم، و إنما نقل عن ابن جنید و ابن إدریس التمسّک به، و حدوث الاشتهار بعده لا یفید شیئاً» .

و یمکن الإیراد علیه بظهور عبارة السیّد فی الانتصار فی انه فی مقام الاحتجاج علیهم، بما هو مقبول عنده و عندهم، لا بما هو مورد لقبولهم فقط، حتی یکون من باب الجدل، و أظهر منها عبارة الشیخ فی الخلاف إذ انه فی مقام الاستدلال لما هو المختار عند الإمامیّة، و الجمع بین الاستدلال بالروایة و الاستدلال بالأصل، انّما هو کالجمع فی مقام الاستدلال فی کثیر من المسائل الخلافیّة بین الفریقین بإجماع الفرقة و اخبارهم، مع انه مع وجود الروایة فی المسألة، و احتمال استناد المجمعین إلیها، لا یبقی للإجماع أصالة، بل الدلیل هی الروایة الموجودة فیها، و لعلّ الوجه فیه عدم کون مرتبة الأصل فی مقابل الامارة منقحة بالکیفیّة المقرّرة فی هذه الأزمنة التی بلغت التحقیقات الأصولیة فیها کمالها بنحو ربما یوصف علم الأصول فیه بالتضخم و نحوه خصوصاً بالإضافة إلی الامارة الموافقة للأصل کما فی هذا المقام.

و بالجملة حمل استدلال الشیخ فی الخلاف فی المسألة المذکورة علی

ص:87


1- 1) السرائر 3:480.

کونها فی مقام الاحتجاج علیهم دون الاستناد و الاستدلال، لا مجال لان یصار الیه بوجه، أظهر من الجمیع عبارة (الغنیة) ؛ إِذ تسند الروایة إلی النبی (صلی الله علیه و آله) و قوله، من دون ان تعبر بمثل روی أو یروونه، کما فی کلام السیّد فی الانتصار؛ فان التعبیر عنها بقوله (صلی الله علیه و آله) لا یکاد یجتمع مع عدم ثبوته و عدم حجیّة روایته، و قد ذکر سیدنا العلامة الأستاذ (دام ظله) فی مباحثه الفقهیة مکرّراً أن الإرسال إذا کان بنحو الإسناد إلی المعصوم دون الروایة یکون حجة قابلاً للاعتماد، و عبارة الغنیة من هذا القبیل.

و لعلّ جمیع ما ذکر صار منشأً لجزم ابن إدریس، مع عدم قوله بحجیة خبر الواحد و لو بلغ فی الوثاقة و العدالة المرتبة العلیا، فإنّه من المستبعد غایة الاستبعاد ان یکون عنده قرائن خارجیة لم تکن عند السابقین، مع تقدم زمانهم، شدة ارتباطهم بالأحادیث و اختلاطهم بفقهاء العامّة و محدّثیهم و قرب عصرهم، ما ذکرنا مضافاً الی الشواهد المذکورة فی کلامه (دام ظله) و إلی الجواب عما أوجب التردّد له، بما ذکرنا عن عبارة الغنیة، یوجب الوثوق الکامل بصدور الرّوایة، بحیث لا یبقی مجال للمناقشة فی اعتبارها و حجیّتها، و أمّا عدم تعرض جمع من کتب القدماء و المتوسطین له، فلعلّه لأجل انه لا یکون مفاد الروایة مخالفاً للقاعدة الثابتة عند العقلاء؛ لان بناءهم ایضاً علی ضمان ید الغاصب و الرجوع إلیه لأخذ العین أو المثل أو القیمة کما لا یخفی، و لأجل عدم المخالفة، ربما لا یری احتیاج إلی إیرادها و التمسّک بها، خصوصاً مع وجود الروایات الخاصة نوعاً فی بعض مواردها، مثل صحیحة أبی ولاّد المعروفة الآتیة إن شاء اللّه تعالی فتدبّر، فالإنصاف ان الروایة معتبرة قابلة للاستناد.

ص:88

و أمّا مفادها و دلالتها التی هی عمدة البحث فی الحدیث، فنقول:

لا خفاء فی ان مفاد الحدیث لا یکون هو الاخبار بحیث تکون الجملة خبریة حاکیة، و إن لم یذکر فی شیء من کتب الأحادیث المشتملة علی هذه الروایة، مورد و شأن نزول هذا القول، بخلاف حدیث (لا ضرر) فقد کان مورده قصّة سمرة بن جندب المعروفة، فی مورد النخلة التی کانت له، و لکنه مع ذلک لا مجال لاحتمال الاخبار فی المقام؛ لانه مضافاً الی ان نفس النقل و الضبط فی کتب الأحادیث قرینة علی کون مفادها حکماً إلهیّاً وضعیّاً أو تکلیفیّاً، و لیس مفادها الإخبار کسائر إخبارات النبیّ (صلی الله علیه و آله) المتعارفة لا وجه للحمل علی الاخبار؛ لانه علی هذا التقدیر لا بد و إن یقال بکونه اخباراً عن أمر کلّی؛ لظهور انّ اللّام فی «الید» لا تکون إشارة إلی العهد الذکری أو الذهنیّ، بل هو للجنس، و مفاده الطّبیعة، و علیه فیصیر المعنی بناء علی الاخبار: ان ما وقع فی الید یبقی فیها حتی تؤدّیه الی صاحبه، و هذا المعنی مضافاً الی کونه توضیحاً للواضح، لوضوح ثبوت البقاء الی ان یتحقق الأداء یکون مخالفاً للواقع فی بعض الموارد؛ لانه ربما لا یکون السبب لزوال البقاء هو الأداء، بل الإیقاع فی البحر أو إحراقه أو أمثال ذلک، فهذا الاحتمال فی غایة السقوط، إذا عرفت ذلک فنقول:

لا خفاء فی ان کلمة (علی الید) خبر مقدم و مبتدؤه الموصول فی قوله: (ما أخذت) و معناه: انّ المال المأخوذ یکون علی الید و علی عهدتها، و بما انه لیس فی الحدیث فعل أو شبه فعل یکون قابلاً لان یتعلّق به الظرف، فلا بدّ من تقدیره، و المقدر ان کان من أفعال العموم، ای: الأفعال التی تنطبق علی کل فعل و حدث صدر عن الفاعل، کاستقر أو ثبت

ص:89

أو حصل، فالظرف ظرف مستقر، و إن کان من أفعال الخصوص، أی: الأفعال الخاصة التی لا ینطبق بعضها علی بعض، للتقابل أو التخالف المتحقّق بینهما، فالظرف ظرف لغو.

إذا عرفت ذلک، یقع الکلام فی ان الظرف فی الحدیث الشریف بعد خلوّه عن الفعل و شبهه هل یکون ظرفاً مستقرّاً متعلّقاً بمقدر هو من أفعال العموم، أو ظرفاً لغواً متعلقاً بمقدر هو من أفعال الخصوص؟ لا خفاء فی انّ تقدیر فعل من أفعال الخصوص مع فرض خصوصیته و عدم انطباقه علی غیره لأجل التقابل أو التخالف، لا یکاد یصار الیه الّا مع ضرورة مقتضیة لتقدیره، و مع فرض عدم الضرورة و استقامة الکلام بدونه لا مجال لتقدیره، و هذا بخلاف تقدیر فعل من أفعال العموم؛ فان تقدیره مع فرض انطباقه علی جمیع الافعال و الإحداث و لزوم تعلق الظرف به، لا یحتاج إلی مئونة زائدة، فعند دوران الأمر بین التقدیرین، یکون الترجیح للتقدیر الثانی، أی: تقدیر فعل من أفعال العموم، لما عرفت.

و حینئذ نقول فی المقام: انّ جعل الظرف متعلّقاً بمثل (استقر) مع کون المبتدأ نفس المال الذی أخذته الید فی کمال الاستقامة و الملاءَمة؛ لان معناه ان المال المأخوذ ثابت و مستقر علی الید حتی تتحقق الغایة، و هی أداء المال المأخوذ و ردّه الی صاحبه.

و بالجملة لا یری فرق بین المقام و بین ما إذا قیل: زید علی السّطح، فکما انه لا مجال لدعوی الإجمال فیه بلحاظ احتمال کون المتعلق هو کائن أو مستقر أو أشباههما من أفعال العموم، و احتمال کون المتعلّق هو قائم أو ضارب أو أشباههما من أفعال الخصوص؛ لتحقق ملاک الحمل فی القضیة

ص:90

الحملیة، و هو الاتحاد و الهوهویة فی کلا الأمرین؛ لاتحاد زید مع الکائن علی السطح، کاتحاده مع القائم علیه أو الضارب علیه.

و الوجه فی بطلان دعوی الإجمال الرجوع الی العرف و العقلاء فی محاوراتهم؛ فإنهم لا یرون للقول المزبور إجمالاً أصلاً، و لا یتعاملون معه معاملة المجمل؛ نظراً الی الاحتمالین، کذلک لا مجال لدعوی الإجمال فی المقام؛ لعدم الفرق بینه و بین القول المزبور، الّا فیما لا یکون فارقاً بوجه، کما ستأتی الإشارة إلیه.

و کما انه لا مجال للتشکیک فی کون المتعلق فی القول المزبور هو الفعل الّذی هو من أفعال العموم؛ لانه المتفاهم عند العرف، فانّ تقدیر مثل القیام و الضرب یحتاج إلی مئونة زائدة، و لیس کذلک تقدیر شیء من أفعال العموم، کذلک لا ینبغی التشکیک فی المقام فی ان المتعلق المحذوف أیضاً شیء من أفعال العموم، لعدم الفرق بین المقامین إلّا فی کون القول المزبور جملة خبریة حاکیة، و المقام بصدد افادة الحکم و فی مقام الإنشاء، و مرجعه الی کون الاستعلاء الذی هو مفاد کلمة «علی» فی القول المزبور استعلاء خارجیّاً مشاهداً، و فی المقام استعلاء اعتباریّاً مقبولاً عند العقلاء ایضاً؛ فإنهم یعبّرون فی باب الدین بأنّ لزید علی عمرو کذا، و کذا و مرجعه الی ان الدّین ثقل علی العهدة و مستعل علیه کاستعلاء زید علی السّطح، علی ما فی المثال، نعم الفرق بین المقام و بین مثال الدین انّما هو فی کون الثابت علی الذمة و المستقرّ علی العهدة فی باب الدّین هو الأمر الکلّی، و فی المقام یکون الثابت و المستقر هو نفس المال المأخوذ، الذی هو عین من الأعیان الخارجیة لا محالة، بلحاظ تعلّق الأخذ بها، و هذا لا یکون موجباً للافتراق

ص:91

من جهة ما هو المقصود فی المقام، من إثبات حکم وضعی بمقتضی حدیث «علی الید» ؛ لما سیأتی من تصویر کون العین الخارجیة علی العهدة و ثبوتها علی الذّمة، و کیف کان لا ینبغی الإشکال فی ان الظرف فی المقام ظرف مستقر، و المحذوف هو فعل من أفعال العموم.

و أمّا جعل الظرف لغواً متعلقاً بمقدر من أفعال الخصوص مثل «یجب» ، فیدفعه مضافاً الی ما عرفت من ان تقدیر فعل من أفعال الخصوص خلاف الأصل، و لا یصار الیه الّا مع انحصار الطریق به، و هذا بخلاف تقدیر فعل من أفعال العموم، و مضافاً إلی انه لا معنی لتقدیر مثل «یجب» فی المقام؛ لأنه لا معنی لتعلق الحکم التکلیفی بذات المال المأخوذ، بل لا بد من تعلقه بفعل من أفعال المکلفین متعلق بالمال المأخوذ انّ فاعل «یجب» فی المقام هل هو ردّ المال المأخوذ الی صاحبه، أو حفظه من الضیاع و التلف حتی یتحقق الردّ و الأداء؟ فعلی الأوّل یصیر معنی الروایة و مفاد الحدیث انّه یجب أداء مال الغیر المأخوذ منه، و هذا الوجوب یستمرّ الی ان یتحقّق الأداء، و هذا رکیک للغایة؛ لأنه مثل قوله: تجب الصلاة حتی یصلّی.

و علی الثانی یصیر معنی الرّوایة انه یجب حفظ مال الغیر المأخوذ منه حتی یتحقق الردّ و الأداء، و هذا المعنی الذی استظهره صاحب العوائد (1)و إن کان خالیاً عن الرکاکة، الّا ان الظاهر کونه مخالفاً لما تکون الروایة فی مقام بیانه و إفادته؛ لانّ المتفاهم العرفی من الحدیث کونه فی مقام بیان أمر أشدّ و اصعب من مجرّد وجوب الحفظ، و بعبارة اخری: وجوب حفظ مال

ص:92


1- 1) عوائد الأیام للنراقی:110.

الغیر بعد کون المفروض ان الأخذ منه وقع بالقهر و القوة و بدون إذنه و رضاه کأنه لا یحتاج الی البیان بمثل هذا التعبیر، ضرورة انّ الأخذ الکذائی لا یستلزم جواز المعاملة معه معاملة مال نفسه، فالعبارة انّما هی فی مقام بیان أمر کأنه عقوبة علی الأخذ قهراً، و هو اشتغال الذمة، و کون المال علی عهدته، و ضمانه له بنحو الحکم الوضعی، خصوصاً مع ملاحظة وقوع مثل هذه العبارة فی مقام افادة اشتغال الذمة، فیقال: لزید علی عهدتی کذا و کذا.

و هذه الاستفادة لیست لأجل مجرّد استعمال کلمة «علی» الموضوعة للنسبة الاستعلائیة بین الشیء و بین مدخول هذه الکلمة (ضرورة أن استعمالها فی الأحکام التکلیفیة فی غایة الکثرة، فیقال: یجب علی زید الصلاة و الصیام و الحج و أشباهها و قد ورد فی آیة الحج قوله تعالی «وَ لِلّهِ عَلَی اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَیْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً» (1)فأفادت الآیة الإلزام بذکر کلمة «علی» خالیةً عن ذکر الوجوب و نحوه) ، بل لأجل کون المبتدأ هو المال المأخوذ، فملاحظة المبتدأ تقتضی استظهار کون المراد هو الثبوت الوضعی، و کون المال ثابتاً و مستقراً علی العهدة، حتی یتحقق أداؤه، و هذا أمر اعتباری لا یکون مورداً لإنکار العقلاء ایضاً.

و قد انقدح من جمیع ما ذکرنا ان الظرف فی الحدیث ظرف مستقر، و مرجعه الی استقرار و ثبوت نفس المال المأخوذ علی عهدة ذی الید حتی یؤدّیه، و هذا مع انه لا یحتاج إلی إضمار ما هو خلاف الأصل کما عرفت معنی فی غایة اللطافة و الاستقامة و الملاءَمة، و لا محیص من حمل الروایة

ص:93


1- 1) آل عمران:97.

علیه.

ثمّ انه من الواضح انه لیس المراد من الید هی الجارحة المخصوصة؛ لأنه ربما لا یکون للغاصب تلک الجارحة المخصوصة، کما ان الشیء المأخوذ ربما لا یکون قابلاً لأن یؤخذ بالید کالدار مثلاً فاللازم ان یقال بان المراد منه هو الاستیلاء و التسلط علی شیء، سواء کان فی عالم الخارج و التکوین، أو فی عالم الاعتبار.

و استعمال الید بهذا المعنی شائع فی المحاورات العرفیة، بل فی الکتاب و السنّة فیقال: الأمر بیدی افعل ما أشاء، کنایة عن ثبوت القدرة و الاستیلاء علی ذلک، و فی الکتاب حکی اللّه تعالی عن الیهود قولهم «وَ قالَتِ اَلْیَهُودُ: یَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَیْدِیهِمْ، وَ لُعِنُوا بِما قالُوا، بَلْ یَداهُ مَبْسُوطَتانِ یُنْفِقُ کَیْفَ یَشاءُ» (1)و النکتة فی العدول عن تعبیر الیهود بالید بنحو المفرد بقوله «بَلْ یَداهُ» بصورة التثنیة هی الإشارة إلی انه کما ان مجموع القدرة فی مثل الإنسان متحقق فی مجموع الیدین؛ لان الید الواحدة لها بعض الاقتدار و سهم من القدرة، کذلک قدرة اللّه تبارک و تعالی علی الإنفاق، انّما هی بنحو الکمال لا فی خصوص مرتبة منه، فالمراد ثبوت الاستیلاء الکامل و القدرة المطلقة له تعالی علی الإنفاق، غایة الأمر انّ ثبوته و تحقّق الإنفاق توسعة و تضییقاً انّما یرتبط بمشیة اللّه و إرادته حسب المصالح التی یراها.

فانقدح انّ المراد بالید فی الحدیث الشریف هو الاستیلاء، و هل المراد منه نفس الاستیلاء الذی هو معنی الاسم المصدری؟ أو انّ المراد به هو

ص:94


1- 1) المائدة:64.

المستولی المتصف بصفة الاستیلاء؟ الظاهر و المتفاهم عرفاً من تعبیر الحدیث هو الثانی؛ أولاً: من جهة الحکم بثبوت المال المأخوذ و استقراره علیه، و من الواضح ان الحکم الشرعی انما یکون ثابتاً علی المکلف من دون فرق بین الحکم التکلیفی و بین الحکم الوضعی، نعم بعض الأحکام الوضعیة یکون موضوعه الأعیان الخارجیة، کالنجاسة الثابتة للدّم، و الطهارة الثابتة للماء، و لکن المقام لا یشبه ذلک.

و ثانیاً: من جهة إسناد الأخذ إلی نفس ما یکون المال علی عهدته، و من الواضح انّ الآخذ هو المستولی، و لا معنی لأخذ الاستیلاء، و حتی لو کان المراد بالید هی الجارحة المخصوصة یکون الآخذ حقیقة هو الإنسان، و الید آلة للأخذ و وسیلة له، و إسناد الأخذ إلیها لعلّه لا یکون بنحو الحقیقة.

هذا کلّه لو کانت الید کنایةً عن الاستیلاء و السّلطة، و کان الاستعمال استعمالاً کنائیّاً، مثل استعمال کثیر الرّماد، و إرادة الجود و السّخاء و الکرامة.

و یمکن ان یکون المراد من الید فی الحدیث هو «ذا الید» نظیر استعمال العین فی الربیئة الذی یکون استعمالاً استعاریّاً مرجعه الی ان الربیئة بلحاظ وصفه کأنه یکون بجمیع أعضائه و جوارحه عیناً باصرة ناظرة، و قد حققنا فی الأصول ان المجازات بأجمعها، من دون فرق بین الاستعارة و غیرها لا یکون الاستعمال فیها استعمالاً للّفظ فی غیر ما وضع له، خلافاً لما هو المشهور بین أهل الأدب؛ لعدم تحقق اللّطافة و الظّرافة فی استبدال لفظ مکان لفظ، من دون التصرف فی دائرة المعنی، و ثبوت نحو ادّعاء فی البین، فالمجازات بأجمعها شبیه ما یقول السکاکی فی باب الاستعارة من ان إطلاق لفظ الأسد و إرادة الرجل الشجاع لا یرجع الی

ص:95

استبدال لفظ الرجل الشجاع بلفظ الأسد، فإن قیام لفظ مکان آخر مع قطع النظر عن المعنی یکون خالیاً من الحسن، ففی قول الشاعر:

قامت تظلّلنی و من عجب

شمس تظلّلنی من الشمس

یکون التعجب من ان تکون الشمس بمعناها مظللة من الشمس، و إلا فالشمس التی أراد بها الشاعر محبوبه و معشوقه، لا عجب فی کونها مظلّلة، فتحقق التعجب لا یکاد ان یحصل بدون التصرف فی المعنی، من جعل المشبه فردا ادعائیاً لماهیة المشبّه به و حقیقته، أو أمراً شبیه ذلک، کما حققنا فی محلّه ثبوت الفرق بین ما نقول به و بین ما ذهب الیه السکاکی، و إن کان الفرق غیر مهمّ.

و بالجملة کما ان استعمال العین فی الربیئة یکون استعمالاً استعاریّاً، و المراد بها هو الشخص الکذائی، یمکن ان یکون استعمال الید فی المقام بهذا النحو، بان یکون المراد بها هو ذا الید، بادعاء کونه بأجمعه یداً.

و علی هذا التقدیر لا حاجة الی تقدیر ذی الید، لکون المراد منها هو ذا الید، بخلاف الاستعمال الکنائی علی ما عرفت.

و بالجملة فمعنی الحدیث الشریف: ان المال الذی استولی علیه إنسان یکون علی عهدة المستولی و ثابتاً و مستقرّاً علیه، و هذا یستمرّ الی ان یتحقق أداؤه و لا یرتفع الّا به، و هذه عبارة أخری عن ضمان المستولی للمال؛ إذ لیس معنی الضمان عرفاً الّا استقرار الشیء و ثبوته فی عهدة الضامن، فی عالم الاعتبار الشرعی أو العقلائی.

ان قلت: ظاهر الحدیث علی ما ذکرت ان المال الذی یتعلّق به الأخذ هو الثابت علی عهدة ذی الید، ففی الحقیقة تعلّق بالمال الخارجی

ص:96

علی ما هو المفروض أمران: الأوّل الأخذ، و الثانی الثبوت فی العهدة و الاستقرار فی الذمة، مع انّ الموجود الخارجی الذی تعلّق الأخذ به لا یمکن ان یکون فی الذمة و العهدة؛ لانّ وعاء الموجود الخارجی هو عالم الخارج، لا عالم الاعتبار؛ إذ لیس عالم الاعتبار الّا الموجودات الاعتباریة التی لا وجود لها إلّا فی عالم الاعتبار فلا یمکن ان یکون الموجود الخارجی موجوداً فی عالم الاعتبار، و إلا یلزم انقلاب الخارج اعتباراً؛ و ذلک کما ان الموجود الخارجی لا یمکن ان یکون موجوداً فی الذهن، و إلا یلزم انقلاب الخارج ذهناً و هو محال.

قلت: لا بد أوّلاً فی مقام الجواب من التعرض لبیان ماهیة الضّمان و حقیقته، فنقول: الأقوال فی تعریف الضمان و بیان معناه ثلاثة:

الأوّل ما افاده الشیخ الأعظم الأنصاری فی قاعدة «ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده» من ان الضمان عبارة عن کون درک الشیء و خسارته علیه، فاذا تلف یقع نقصان فی ماله الأصلی للزوم تدارکه منه (1).

و یستفاد من کلامه (قده) بلحاظ عنوان الدرک و الخسارة، و بلحاظ تفریع التلف: ان الضمان أمر تعلیقی مرجعه الی اشتغال الذمّة بالمثل أو القیمة عند تحقق التلف، و علیه فلا یتعلق الضمان بالعین بصورة التنجیز قبل عروض التلف، و ما دامت العین باقیة موجودة، و سیأتی انّه غیر تامّ.

الثانی ما حکاه الشیخ (2)(قده) و زیّفه، من ان الضمان عبارة عن ان یتلف المال مملوکاً له، و مرجعه إلی انه فی مثل الغصب تعتبر ملکیة الغاصب قبل التلف قهراً علیه و علی المالک، و ملکیة المالک للمثل أو القیمة، ثمّ

ص:97


1- 1) کتاب المکاسب:102.
2- 2) کتاب المکاسب:102.

یتحقق تلف العین المغصوبة فی ملک الغاصب.

و ضعّفه الشیخ (1)(قده) بانّ لازمه ان یکون کل مالک ضامناً لمال نفسه؛ لانه یصدق تلف المال مملوکاً له، بل هو فی هذه الجهة أولی من الغاصب، مع انّه لا یقال للمالک: انه ضامن لمال نفسه.

و یرد علی هذا القول ایضاً: ان تحقق المعاوضة القهریة علی الطرفین من دون ان تکون تجارة عن تراض فی البین، لا یکاد یصار الیه الّا مع وجود دلیل قویّ؛ لأنه مخالف للقواعد الأوّلیة و الضوابط الثابتة فی باب المعاملات و أدلة الضمان، مثل حدیث «علی الید» التی لا دلالة لها علی ذلک، الّا علی فرض عدم تصور معنی للضمان غیر ذلک، مع انه ممنوع جدّاً کما سیأتی.

الثالث ما أشار إلیه الأعاظم و المحققون مثل المحقق الخراسانی (قده) فی حاشیة المکاسب (2)من انه اعتبار عقلائی و شرعی، و مثل تلمیذه الکبیر المحقق الأصفهانی فی حاشیة المکاسب (3).

و قد أوضحه تلمیذه الکبیر الأخر سیدنا الأستاذ العلّامة البروجردی (4)علی ما فی تقریرات مباحثه فیما یتعلق بکتاب الغصب، و توضیحه و تقریبه: ان بحث الضمان یغایر بحث اشتغال الذّمة، فالضمان أمر و الاشتغال أمر آخر، و الدلیل علیه: انّ المدیون: ذمّته مشغولة للدائن، مع انه لا یقال: انه ضامن له، فالمقترض مع اشتغال ذمته للمقرض لا یکون

ص:98


1- 1) کتاب المکاسب:102.
2- 2) حاشیة المکاسب للمحقق الخراسانی:17.
3- 3) حاشیة المکاسب للمحقق الأصفهانی 2:74،76.
4- 4) کتاب الغصب مخطوط.

ضامناً له، و السرّ فیه: ان اشتغال الذمة لا بد ان یکون بأمر کلّی و هو المثل أو القیمة، فالذمة تکون بمنزلة الذهن الذی توجد فیها الماهیة، فالماهیة الکلیة تتشخص بوجودها فی الذهن، فالموجود فیه أمر کلّی، و هکذا الذمة؛ فإن اشتغالها انّما هو بأمر کلّی، و أمّا العهدة فهی متعلقة بالموجود فی الخارج مع وصف وجوده فی الخارج، فالعین المأخوذة فی الحدیث قد تعلقت العهدة بها، و یعبرون عن العهدة و الضمان فی الفارسیّة ب «عهده داری» ، کما فی الکفالة التی هی التّعهد بالإضافة الی إنسان خاص و شخص معیّن، و یترتب علی هذا الضمان الذی هو حکم وضعی اعتباری حکمان تکلیفیان: أحدهما وجوب ردّ العین ما دامت باقیة، ثانیهما وجوب ردّ بدلها مثلاً أو قیمة بعد تلفها و انعدامها، و مجموع هذین الحکمین لا یکون فی غیر مورد الضمان، و علیه فلا مجال للتفکیک بینهما و جعل وجوب ردّ العین مع بقائها فی مورد غیر الضمان أیضاً کالأمانة؛ إذ یجب علی الأمین ردها الی صاحبها دلیلاً علی عدم ثبوت الضمان مع بقاء العین، کما یظهر من سیدنا العلامة الأستاذ الامام الخمینی (دام ظله العالی) فی کتابه فی البیع (1).

فان اللازم کما عرفت ملاحظة مجموع الحکمین، أ لا تری انّ جواز التصرف فی مورد الإباحة لا یکون دلیلاً علی عدم ثبوت الملکیة التی یترتب علیها جواز التصرف أیضاً؛ فإنّ امتیاز الملکیة انّما هو بمجموع الآثار التی لا یوجد فی غیرها، فانّ منها الانتقال الی الوارث بعد الموت، و تعلّق مثل الخمس ببعض مواردها، و شبههما، مما لا یوجد فی غیرها حتی الإباحة المطلقة التی یجوز معها التصرف مطلقا، حتی التصرفات النّاقلة.

ص:99


1- 1) کتاب البیع 1:254،262.

و بالجملة فما یترتب علی الضمان مجموع الحکمین الذی لا یکون فی غیر مورد الضمان أصلاً.

و علیه فالاتحاد و الهوهویة المعتبرة فی القضیة الحملیة فی قوله: ما أخذت الید علیها، انّما هو باعتبار کون الموجود الخارجی نفس ما تعلّق به هذا الأمر الاعتباری الّذی هو الضمان، فلم یتحقق اتحاد الأمر الخارجی مع الأمر الاعتباری، بل الاتحاد بین الأمر الخارجی و بین کونه متعلقاً للأمر الاعتباری، فالمقام نظیر قوله: هذه الدار مستأجرة؛ فإنه لا خفاء فی تحقق ملاک الحمل فیها، مع کون الاستیجار امراً اعتباریاً؛ لان الاتحاد انما هو بین الدار و بین کونها متعلقة للاستیجار المتعلق بالدار الخارجیة، کما هو واضح.

ثمّ انه ذکر سیدنا الأستاذ (1)(قدّس سرّه) انه قد یتعلق الضمان بالکلی الذی له موطن آخر غیر ذمة الضّامن، و أثره حینئذ جواز مطالبة المضمون له الضامن بذلک الکلّی ان لم یقدر علی استیفائه و أخذه من المضمون عنه «المدیون» و لیس أثره عند العقلاء و العرف مجرد اشتغال ذمة الضامن للمضمون، و لکن استقر مذهب الإمامیّة فی کتاب «الضمان» علی ان المراد به هناک هو انتقال الذمّة و تحقق الاشتغال للضّامن فی ظرف خاص، و منشؤه دلالة الأدلة الخاصة و الروایات المعتبرة علیه، و علیه فما هو مذهبنا فی باب الضمان مخالف لما هو مقتضاه بنظر العقلاء.

امّا فقهاء العامة، فلأنهم لا یرون اعتباراً للروایات التی أشیر إلیها، فقد ذهبوا الی ان المراد بالضمان فی کتاب الضمان هو ما علیه العقلاء، و قالوا: انه عبارة عن ضمّ ذمة إلی ذمّة أخری و لیس مرادهم بذلک

ص:100


1- 1) کتاب الغصب مخطوط.

ثبوت المال فی ذمة شخصین کما إذا کان له دین علی رجلین؛ ضرورة عدم استحقاق الدائن أکثر من مال واحد و دین فأرد، لا یمکن ثبوته فی ظرفین، و إنما مرادهم من الذمة التی أضیف إلیها الضمّ هو العهدة التی هی معنی الضمان حقیقة، و مرجعه الی ضم العهدة إلی اشتغال الذمة و عدم تحقق البراءة للمدیون بمجرد تحقق الضمان، ففی الحقیقة یکون فی البین اشتغال و عهدة و قد تعلق الأول بالکلی؛ لأن الثابت فی الذمة لا یکون الّا کلّیاً، و الثانی بما اشتغلت به ذمة المدیون مع وصف اشتغال الذمة به؛ لانه یصیر حینئذ متشخّصاً، لان الاشتغال و إن کان بأمر کلی لکن الکلی المشتغل به ذمة المدیون لا یکون کلیّاً، فهو نظیر الماهیة الموجودة فی الذهن؛ فإن الماهیة و إن کانت کلیّة الّا انها بوصف وجودها فی الذهن لا تکون إلّا جزئیة.

ثمّ ان الظاهر عدم تحقق الضمان بالمعنی الذی ذکرناه فی العقد الصّحیح، خلافاً للشیخ الأعظم (قده) فإنه حین فسّر الضمان بالنحو الذی عرفت، ذکر ان العقد الصحیح فیه ضمان غایة الأمر ان الضمان الثابت فیه هو الضمان بالمسمی، و مرجعه إلی انه علی تقدیر تلف المبیع فی ید المشتری الضامن یکون درکه و خسارته علیه، غایة الأمر ثبوت الخسارة بمقدار الثمن، سواء کان مساویاً للقیمة الواقعیة أو مخالفاً لها.

و خلافاً للمحقق الأصفهانی (1)(قده) فإنه مع تفسیره الضمان بالنحو الذی ذکرناه، أفاد انه قد یکون بتسبیب من الشخص کما فی مطلق المعاوضات لتعهد کلّ منهما و التزامه بأخذ المال ببدله، و لذا عبّر عنه بضمان

ص:101


1- 1) حاشیة المکاسب للمحقق الأصفهانی:76.

المعاوضة، قال: فلیس مجرد کونه ذا عوض أو مملوکاً بعوض مناط الضمان، بل تعهد أخذه ببدله هو المناسب للضمان.

هذا و لکن الظاهر عدم إطلاقه بنحو الحقیقة فی المعاوضات الصحیحة، و إطلاقه علیها فی قاعدة «ما یضمن» لا دلالة له علی ذلک، لعدم کون القاعدة بالعبارة المعروفة مما دلّ علیه آیة أو روایة أو إجماع، و لذا اعترض أکثر محشّی المکاسب علی الشیخ الأعظم (قده) بلحاظ جعل البحث فی مفردات القاعدة مهمّاً نظراً؛ الی ما ذکرنا.

و عدم کون الإطلاق فیها علی تقدیر الإغماض عمّا ذکرنا حقیقیّا؛ لانه یحتمل ان یکون من باب المشاکلة، کما فی آیة (1)الاعتداء، و قد صرح بذلک المحقق الخراسانی (2)(قده) فی تعلیقة المکاسب.

هذا مضافاً الی ان لازم ذلک التفصیل فی أموال المالک من جهة إطلاق الضمان، فان کان منتقلاً إلیه بالإرث و نحوه لا یقال: انه ضامن له، و إن کان منتقلاً الیه بالبیع و نحوه من المعاوضات یقال: هو ضامن له، مع ان التفصیل بهذا النحو خلاف ما علیه العقلاء، کما لا یخفی.

ثمّ انه ذکر سیدنا العلامة الأستاذ الخمینی (دام ظله العالی) فی تحقیق معنی الضمان کلاماً ملخّصه (3): «ان الضمان المعهود المغروس فی أذهان العقلاء هو عهدة الغرامة و الخسارة، ففی المثلی بالمثل، و فی القیمی بالقیمة یوم الإتلاف، و إن ضمان العین بمعنی ان نفس العین علی عهدة الضامن فی

ص:102


1- 1) البقرة:194.
2- 2) حاشیة المکاسب للمحقق الخراسانی:17.
3- 3) کتاب البیع 1:343.

المثلیات و القیمیات خلاف المتعارف و المعهود عندهم، و فی مثله لا بد من ورود دلیل صریح مخالف لبنائهم و دیدنهم، و أمّا مثل ما ورد فی باب الضمانات کضمان الید و الإتلاف کحدیث الید و غیره، فلا ینقدح فی ذهن العرف و العقلاء منه ما یخالف بناءهم فی الضمانات، فلا یفهم من «علی الید ما أخذت» ان نفس المأخوذ حال التلف فی العهدة، فضلاً عن سائر الروایات و فی قوله: «علیه ما أصابت الدابة بیدها أو رجلها، إذا بنی علی وقوع ما أصابت الدابة علی العهدة، یکون ذلک امراً مستنکراً عند العرف، فحمل تلک الروایات علی کثرتها علی الضمان المعهود المغروس فی أذهان العقلاء حمل قریب جدّاً موافق لفهم العرف و العقلاء» .

و قال (1): «بل الظاهر من حدیث الید غیر ما افاده المحققون، ممّا لازمه التعرض لأداء التالف حتی یلزم بأن أداء المثل و القیمة أداء للشیء بنحو کما أشرنا إلیه. و التحقیق ان الغایة المذکورة فیه غایة للضمان و العهدة فی زمان وجود العین؛ فان قوله (صلی الله علیه و آله) : علی الید ما أخذت، یراد منه ان الآخذ ضامن للمأخوذ، بمعنی انه لو تلف تکون خسارته علیه، و غایة هذا الأمر التعلیقی، أی: عهدة الخسارة علی فرض التلف هو أداء نفس العین لیس إلّا» .

أقول: یرد علیه مضافاً الی ما عرفت من الفرق بین الثبوت علی العهدة الذی هو معنی الضمان و بین اشتغال الذمّة بالمثل أو القیمة، و إلی ان الظّاهر انه لا فرق عند العقلاء و العرف فیما یرجع الی معنی الضمان بین صورة وجود العین و صورة تلفها و انعدامها بحیث یکون معنی الضمان فی

ص:103


1- 1) کتاب البیع 1:344.

صورة البقاء ثبوت نفس العین علی العهدة، و فی صورة التلف ثبوت المثل أو القیمة علی العهدة، بحیث یکون ثبوت نفس العین فی هذه الصورة مخالفاً لنظر العرف، ان ظاهر قوله: «من أتلف مال الغیر فهو له ضامن» فرض الضمان فی صورة التلف مع إضافته إلی المتلف بالفتح و لا معنی له الّا کون العین بوجودها الاعتباری بعد التلف ثابتة علی عهدة المتلف بالکسر فالتعبیر بالضمان فی قاعدة الإتلاف یرشدنا الی عدم کون ضمان العین محدود ببقائها و عدم تلفها، بل هو ثابت بعد التلف ایضاً، و لا یجتمع ذلک الّا مع اعتبار بقاء العین و ثبوتها علی العهدة بعد التلف ایضاً، و جعل الأداء فی حدیث «علی الید» غایة للضمان فی زمان وجود العین فقط، یوجب حمل الحدیث علی التعرّض لبعض ما یتعلق بضمان العین المأخوذة، و هو خلاف الظاهر جدّاً، کما لا یخفی.

و خلاصة ما یرد علی سیدنا الأستاذ «دام ظله العالی» انّ الضمان بالمعنی الذی أفاده، و هو عهدة الخسارة، هل هو أمر تعلیقی و هو عهدة الخسارة لو تلف، بحیث تکون التعلیقیة دخلیة فی ماهیّته و حقیقته، حتی لو فرض تحقق المعلق علیه لا تبقی ماهیة الضمان، کالواجب المشروط مثل الحجّ، فان اتصافه بکونه واجباً مشروطاً انّما هو فیما إذا لم یتحقق شرطه، و هو الاستطاعة فی المثال، فاذا تحقق الشرط یصیر واجباً مطلقاً فعلیّاً، و فی المقام لا بد ان یقال بالضمان ما دام لم یتحقق التلف، فاذا تحقق و صارت العهدة منجزة، یخرج عن الضمان، و علیه فاللازم ان یقال بأنه لا مجال للحکم بالضمان فی صورة التلف، مع ان قاعدة الإتلاف صریحة فی إثبات الحکم بالضمان بعد تحقق التلف، بسبب الإتلاف؛ فإن الإتلاف فی رتبة

ص:104

السبب، و الضمان فی رتبة المسبب و متفرع علیه، مضافاً الی ما عرفت من انه لا فرق عند العقلاء و العرف بین صورة وجود العین و صورة تلفها فی الحکم بالضمان، بل فی کون الضمان بعد التلف نفس الضمان قبله و بمعناه من دون تغیّر فی معناه أصلاً.

و إن کان مراده من الضمان نفس عهدة الخسارة من دون التعلیق علی التّلف، و علیه فهو ثابت بعد التلف ایضاً، فنقول: لا بدّ علی هذا الاحتمال من حمل الضمان فی قاعدة الإتلاف المفروضة بعد التلف، علی کون المراد به مجرد عهدة الخسارة، مع انه من الواضح ان عهدة الخسارة حینئذ لا تکون معنی مغایراً لاشتغال الذمة بالمثل أو القیمة؛ لعدم الفرق بین الأمرین إلّا فی مجرّد التعبیر و اللفظ؛ إذ لا معنی لعهدة الخسارة غیر الاشتغال المزبور، و علیه فاللازم إطلاق الضمان فی موارد اشتغال الذمة بالمثل أو القیمة، کما فی القرض، و نحوه مع انک عرفت مغایرة الضمان للاشتغال عند العقلاء؛ فان ما علی الذمة انّما هو أمر کلّی، و الضمان متعلّق بالأمر الجزئی، و لا یطلق أحد العنوانین علی الأخر، فلا یقال للمدیون انه ضامن، و لا یقال للضامن انه مدیون و مشغول الذمّة، و لو بعد تحقق التلف کما فی مورد قاعدة الإتلاف، اذن فلا محیص عن ان یقال فی مفاد حدیث «علی الید» بعد فرض دلالته علی الضمان، بکون العین المأخوذة متعلقاً للعهدة فی کلتا الحالتین، حالة الوجود و حالة التلف، غایة الأمر انه بعد التلف یعتبر بقاء العین عند العقلاء و کونها متعلّقاً للعهدة، و لا مانع من کون الموضوع للأمر الاعتباری و هو الضمان امراً اعتباریّاً آخر، کالأحکام التکلیفیة الثابتة فی موارد الأحکام الوضعیة، مع اشتراکهما فی الاعتبار و الجعلیّة.

ص:105

و منه یظهر انّ أداء العین المجعول غایة للضمان فی الحدیث مطلقا، انّما یتحقق بأدائها بنفسها مع بقائها، و بالمثل أو القیمة مع التلف، فإنه بعد فرض ثبوتها علی العهدة، و تعلق الضمان بنفسها بعد التلف ایضاً، لا یفرض له أداء الّا أداء مثلها أو قیمتها کما هو کذلک عند العقلاء، فإنه مع عدم إمکان أدائها بجمیع جهاتها من المزایا الشخصیة و النوعیة و المالیة، ینتقل الی المراتب النازلة مرتبة بعد مرتبة، الی ان یتحقق أداؤها بخصوص المرتبة المالیة التی هی العمدة فی أغراض العقلاء فی باب الأموال.

و مما ذکرنا ظهر الجواب عن النراقی فی عوائده (1)إذ استظهر ان الغایة هی أداء نفس العین، و هو لا یتحقق الّا بحمل الحدیث علی وجوب الحفظ دون الضمان، فتدبّر.

إذا ظهر ذلک یظهر ان تفسیر الحدیث بالمعنی الذی عرفت، و هو افادة الضمان و الثبوت علی العهدة، لا یتوقف علی تقدیر کلمة «الضمان» کما تخیله النراقی (قدس سرّه) فی عوائده (2)إذ جعل الضمان ردیفاً للحفظ أو الردّ علی تقدیر کون المقدّر هو الوجوب الذی هو من أفعال الخصوص، فاستشکل فی ترجیحه؛ إذ قال ما ملخصه: ان الاستدلال بالحدیث علی ضمان المثل أو القیمة بعد التلف انّما هو علی فرض تقدیر الضمان الشامل لردّ العین مع البقاء و المثل أو القیمة بعد التلف، و لا دلیل علی تعیینه أصلاً، و استدلال الفقهاء و احتجاجهم علی الضمان خلفاً بعد سلف و فهمهم ذلک، لا یدلّ علی انه کان لهم قرینة علی تقدیره خفیت علینا؛ لانه مضافاً الی

ص:106


1- 1) عوائد الأیام:110.
2- 2) عوائد الأیام:109.

انه لم یعلم ذلک من جمیع الفقهاء و لا أکثرهم، و إن علم من کثیر منهم لا یدلّ علی انه لقرینة تقدیر الضمان، بل لعلّه لاجتهادهم تقدیر جمیع المحتملات عند عدم تعیین المقدّر، أو لمظنّة شیوع تقدیره، أو لدلیل اجتهادی آخر و نمنع کون المتبادر من هذا الترکیب إثبات الضمان کما یظهر بالرجوع إلی أمثال هذا الترکیب التی لیس الذهن فیها مسبوقاً بالشبهة، مع انه علی فرض التسلیم لا یفید، لأصالة تأخر حدوث التبادر، بعد عدم کون ذلک من مقتضی الوضع اللغوی لهذا الترکیب.

و قد ظهر مما ذکرنا ان حمل الحدیث علی الضمان و تفسیره به لا یحتاج الی تقدیر الضمان؛ لان معنی الضمان هو نفس الثبوت علی العهدة و الاستقرار فی الذمة، الذی هو وجود و ثبوت فی عالم الاعتبار و وعائه، و هذا بخلاف ما لو کان المتعلق للظرف هو «یجب» الذی هو من أفعال الخصوص؛ فإنه حینئذ یلزم تقدیر الردّ أو الحفظ؛ لعدم إمکان تعلّق الوجوب بالأعیان الخارجیّة.

کما أنه مما ذکرنا ظهر بطلان ما أفاده فی ذیل کلامه ایضاً، من ان أداء المثل أو القیمة لیس أداء ما أخذت، بل أداء شیء آخر، و إطلاق الأداء علی أداء غیر ما أخذت غیر صحیح، فلا یکون حتی تؤدی غایة للضمان فی صورة التّلف.

و الوجه فیه ما ذکرنا من انه کما ان ثبوت المال علی العهدة یکون فی وعاء الاعتبار الذی یتفق فیه العقلاء و الشارع، کذلک غایة هذا الأمر الاعتباری هو الأداء الذی له مراتب، فان کانت العین موجودة غیر تالفة، فالأداء لا یتحقق إلّا بأدائها نفسها، و إن صارت تالفة فأداؤها بأداء مثلها

ص:107

ان کانت مثلیة، أو قیمتها ان کانت قیمیّة، و بالجملة أداء المثل مرتبة من أداء ما علی العهدة، و هی العین الخارجیة، غایة الأمر انه لا ینتقل الی هذه المرتبة إلاّ بعد تعذر أداء العین بنفسها، کما ان أداء القیمة أیضاً مرتبة من أداء العین ینتقل إلیها بعد تعذر أدائها بنفسها و بخصوصیاتها النوعیة، فدعوی خروج المرتبتین الأخیرتین عن دائرة أداء العین ممنوعة جدّاً، و علیه تکون کلمة حتی تؤدی شاملة لجمیع المراتب.

ثمّ ان مقتضی ما ذکرنا من کون مفاد الحدیث هو مجرد الحکم الوضعی، و هو الضمان الذی یستمرّ الی ان یتحقق الأداء، انه لا دلالة لهذا الحدیث علی لزوم حفظ المال المأخوذ، کما انه لا دلالة له علی لزوم ردّه و وجوبه بعنوان الحکم التکلیفی؛ لأن هذا الوجوب و إن کان ثابتاً الّا ان الدلیل علیه کونه أثراً للضمان کما عرفت و جعل الأداء غایة للضمان لا دلالة له علی وجوبه بعنوان الحکم التکلیفی ابتداء، بل غایته ارتفاع الضمان بسببه، فیرتفع الحکم التکلیفی المترتّب علیه لا محالة.

الجهة الثانیة- فی حدود الحکم بالضمان المستفاد من القاعدة:

و البحث فی هذه الجهة تارة من جهة ان الید المحکوم علیها بالضمان بعد وضوح عدم شمولها لید المالک، لانه لا معنی لکونه ضامناً لمال نفسه، هل هی مطلق الید و لو کانت مأذونة من قبل المالک، کید الوکیل مثلاً أو المستأجر فی باب الإجارة، أو من قبل الشارع کما فی اللقطة مثلاً غایة الأمر خروج هذه الموارد عن القاعدة بالتخصیص، أو تختص بما إذا لم تکن مأذونة لا من قبل المالک، و لا من طرف الشارع، و أخری من جهة شمول الحکم بالضمان للمنافع المستوفاة بل غیر المستوفاة أیضاً و عدمه،

ص:108

و اختصاصه بالأعیان و ثالثة من جهة شمول الموصول للحرّ و شبهه و عدمه، و رابعة من جهة الشمول للأوقات و عدمه، و خامسة من جهة المراد من الأداء المجعول غایة. فنقول:

امّا من الجهة الأولی فالظاهر الاختصاص، و ذلک لانّ کلمة الید و إن کان المراد بها مطلق الاستیلاء الّا انّ تقیید المضمون بتوصیفه بالأخذ، یخرج الید المأذونة، لظهور کلمة «الأخذ» فی الأخذ بالقوة و بالقهر، أی: الأخذ من دون رضا، و قد مرّت الإشارة إلی الفرق بین کلمة «الأخذ» و بین کلمة «القبض» ؛ فان الظاهر کون الثانیة أعمّ من الاولی، و الشاهد ملاحظة موارد الاستعمالات العرفیة، کعدم تعاهد استعمال کلمة «الأخذ» فی قبض المبیع من البائع مثلاً حتی فی المقبوض بالعقد الفاسد، فاستعمال هذه الکلمة یشعر، بل یدلّ، علی انحصار الحکم بالضمان بما إذا صدق الأخذ، و هو ما إذا لم یشتمل علی رضا المالک أو اذن الشارع.

و لو أغمض النظر عما ذکرنا و قلنا بإطلاق کلمة «الأخذ» و شمولها للأخذ بالرّضا ایضاً، فلا شبهة فی انصراف الحدیث عن مثل هذا الأخذ؛ لأنه لا یفهم منه الحکم بضمان مثل الوکیل و المستأجر و الملتقط ایضاً، و لیس الانصراف بدویّاً حتی لا یکون معتبراً، و علیه فخروج الأمین الذی لا یکون ضامناً الّا مع التعدی أو التفریط، لا یکون بنحو التخصیص حتی یستشکل فیه بإباء القاعدة عن التخصیص، مع أن فی هذا الاستشکال ایضاً نظرا کما عرفت سابقاً فی قاعدة عدم ضمان الأمین، فراجع.

نعم یبقی فی المقام انه علی فرض التخصیص أو التخصّص، هل یکون الباقی تحت الحدیث، و المقدار الذی تدل القاعدة علی الضمان فیه هل هو

ص:109

خصوص الید العادیة؟ أی: الید التی حکم علیها بالحرمة؛ لأجل العدوان، و هی الید الموجودة فی باب الغصب، لأنه عبارة عن الاستیلاء علی مال الغیر عدواناً، و علیه فتنطبق القاعدة علی الغصب، و لا مجال للاستناد بها فی غیر کتاب الغصب؟ أو ان الباقی تحت القاعدة مطلق الید غیر المأذونة من قبل المالک و الشارع؟ فتدل علی الضمان فی غیر مورد الغصب ایضاً، کما فی المقبوض بالبیع الفاسد، سیّما مع جهل الطرفین بفساد البیع فان الید فیه لا تکون عادیة بوجه، و مع ذلک لا تکون مأذونة من قبل المالک أو الشارع، و دفع البائع للمبیع مع رضاه و طیب النفس، لا دلالة فیه علی اذن المالک؛ لان الدفع انّما هو بعنوان کون المشتری مالکاً له، لا بعنوان ان البائع مالک، و هو یأذن للمشتری فی التصرف، کما لا یخفی. و کما فیما إذا اعتقد ان مال الغیر مال نفسه اشتباهاً، فان الید علیه لا تکون یداً عادیة، و لا مأذونة أصلاً.

و التحقیق: انه ان قلنا فی الحدیث بالتخصص الناشئ من الانصراف، فهو تابع لدعوی الانصراف، و إن مدّعیه هل یقول بالانصراف الی خصوص الید العادیة، أو الی الأعم منها و من الید غیر العادیة و غیر المأذونة؟ و أمّا ان قلنا بالتخصیص، فاللازم اقامة الدلیل علیه فی مقابل عموم القاعدة أو إطلاقها، و قد ورد الدلیل فی موارد ثبوت الاذن من المالک، کما فی الموارد المتقدمة، أو من الشارع کما فی الموارد التی أشیر إلیها، و قد ورد فی مورد الأمین روایات تدل علی عدم ضمانه مع عدم التعدی أو التفریط، و أمّا فی مورد المقبوض بالبیع الفاسد و مثله، و فی المورد الآخر

ص:110

الذی ذکرنا، فلم یرد دلیل علی التخصیص و التقیید، و اللازم الرجوع الی أصالة العموم أو الإطلاق.

و لو فرض ان یکون المخصص واحداً عنواناً بحسب الواقع، و دار امره بین الأقل و الأکثر، و انه هل هو عنوان الید غیر العادیة، أو عنوان الید المأذونة؟ فاللازم الاقتصار علی القدر المتیقن، و الرجوع فی الزائد الی الأصل المذکور، کما إذا تردد أمر الفاسق عن عموم وجوب إکرام العلماء، بین ان یکون خصوص مرتکب الکبیرة، أو أعم منه و من مرتکب الصغیرة، و الفرق بکون عنوان الخارج معلوماً فی المثال، غایة الأمر الشک فی معناه و ثبوت الشبهة فی مفهومه، بخلاف المقام إذ لا یعلم الخارج بعنوانه کما ذکرنا، لا یکون فارقاً فی الحکم و فی لزوم الرجوع فی الزائد المشکوک إلی أصالة العموم أو الإطلاق، فانقدح انه لو بلغت النوبة إلی التخصیص، لا دلیل علی أزید من خروج الید المأذونة، و یبقی الباقی تحت القاعدة، و علیه فیجوز التمسک بها فی باب المقبوض بالبیع الفاسد ایضاً، کما فعله الشیخ الأعظم الأنصاری (قده) فی المکاسب (1).

و أمّا من الجهة الثانیة فنقول: امّا المنافع المستوفاة، فالظاهر انه لا إشکال فی ضمانها، لا لشمول قاعدة حرمة مال المسلم کحرمة دمه، و إن مال المسلم لا یحلّ الّا بطیب نفسه؛ لانّ البحث انّما هو فی ضمانها بملاحظة قاعدة ضمان الید، لا بملاحظة مطلق القواعد، مع انه فی دلالة مثل قوله (علیه السلام) لا یحلّ مال امرئ مسلم (2). . علی الضمان تأمل و إشکال، بل لأجل انها

ص:111


1- 1) کتاب المکاسب:104.
2- 2) الوسائل 19:3 ب 1 من أبواب القصاص فی النفس ح 1.

ایضاً مال مأخوذ، امّا کونها مالاً، فلانة یبذل بإزائها المال فی باب الإجارة، و قد شاع تفسیر الإجارة بأنها تملیک منفعة معلومة بعوض معلوم، فالعوض یقع فی مقابل نفس المنفعة، و أمّا اتصافها بکونها مالاً بکونه مأخوذاً، فلأجل تحقق الاستیلاء علیها، غایة الأمر ان وقوعها تحت الید انّما هو بتبع وقوع العین تحتها، و لذا یقولون: إن قبض المنفعة فی باب الإجارة بناء علی التفسیر المزبور و إن کان علی خلاف التحقیق انّما هو بقبض العین، فهی أیضاً مأخوذة و مقبوضة، غایة الأمر بتبع أخذ العین و قبضها، فالقاعدة تشمل المنافع المستوفاة.

و ممّا ذکرنا تظهر دلالة القاعدة علی ضمان المنافع غیر المستوفاة أیضاً؛ لأن الاستیفاء لا دخل له فی صدق الأخذ؛ فإن الأخذ تعلّق بالمنافع بتبع تعلقه بالعین، سواء استوفاها کما إذا سکن فی الدار المأخوذة، أم لم یستوفها کما إذا لم یستفد من الدار المأخوذة شیئاً.

نعم ذکر المحقق الأصفهانی (1)(قده) فی حاشیة المکاسب إشکالاً فی شمول القاعدة للمنافع، و هو: انه لا تصدق التأدیة فی المنافع مطلقا، و ظاهر قوله: حتی تؤدی، کون عهدة المأخوذ مغیاةً بأداء نفس المأخوذ، و المنافع لتدرّجها فی الوجود لا أداء لها بعد أخذها فی حدّ ذاتها، لا کالعین التی لها أداء فی حدّ ذاتها، و إن عرضها الامتناع ابتداءً أو بقاءً، و فرض اتحاد الموجود التدریجی مع المنفعة، فیصدق الأخذ بالاستیلاء علی طرف هذا الواحد، و الأداء بأداء طرفه الآخر، لا یکاد یفید شیئاً؛ لأن المراد ضمان الفائت أو المستوفی، فاداء ما لم یفت و لم یستوف، غیر مجد فی ارتفاع ضمان

ص:112


1- 1) حاشیة المکاسب للمحقق الأصفهانی 1:78.

المأخوذ باستیفائه أو بالاستیلاء علیه مع فواته.

و یمکن الجواب عنه بأنه تصدق التأدیة فی المنافع مطلقا، امّا ابتداءً فکما ان أخذها انّما هو بتبع أخذ العین فکذلک أداؤها انّما هو بأداء العین، و لذا یصدق فی باب الإجارة ان المالک اقبض المنفعة بإقباض العین، فاقباضها انّما هو بالتبع، و أمّا استدامة فلا بد من تنزیله منزلة تلف العین، فکما أنّ الأداء فی صورة التلف انّما یتحقق بأداء المثل أو القیمة، فکذلک أداء المنافع انما یتحقق بأداء عوضها، و لا دلالة فی الحدیث علی اختصاص الحکم بما إذا أمکن تحقق الغایة، و هو الأداء بقاءً بالإضافة إلی نفس المال المأخوذ، حتی یقال بخروج المنافع عن ذلک؛ لعدم إمکان صدق الغایة بالإضافة إلی نفسها بقاءً، بل یکفی إمکان تحقق الغایة کذلک و لو ابتداءً، مضافاً الی ان بعض الأعیان أیضاً لا تجری فیه الغایة بقاءً، کالعین التی تتلف تدریجاً، کالثلج فی الصیف؛ فإنه لا یمکن أداؤها بقاءً بعد فرض کونها فی حال الذوب و الانعدام، و دعوی خروج مثلها عن القاعدة ممنوعة جدّاً کما لا یخفی، فالإنصاف انه لا مجال لإخراج المنافع مطلقا عن مورد القاعدة.

و ربما یستدلّ لضمان هذه المنافع، ای: المنافع غیر المستوفاة، بقاعدة التفویت التی هی قاعدة عقلائیة، و هی، ان من فوت مال الغیر علیه فهو له ضامن، بناء علی اعتبارها فی الشرع ایضاً، و لکن حیث ان الکلام لیس فی الحکم بضمان هذه المنافع مطلقاً، بل من جهة اقتضاء قاعدة ضمان الید له و عدمه، فلا مجال للبحث فی غیرها، مع ان شمول قاعدة التفویت لجمیع أقسام المنافع غیر المستوفاة محلّ نظر، بل منع.

ثمّ انه لو کانت للعین منافع متضادة غیر قابلة للاجتماع فی زمان

ص:113

واحد، کما إذا کان العبد المغصوب عارفاً بالکتابة و الخیاطة معاً، فهل یضمن المستولی علیه للجمیع، أو یضمن الأکثر مالیة، أو أحدها بنحو التخییر، و التخییر للمالک أو الضامن فیه؟ وجوه و احتمالات: و لا یبعد ان یقال بالتفصیل بین ما لو کان المدرک للحکم بالضمان هی قاعدة الید التی یبحث عنها فی المقام، و بین ما لو کان المدرک له مثل قاعدة التفویت، فعلی الأوّل یحکم بضمان جمیع المنافع و لو کانت متضادة، لأن الملاک هو تحقق الاستیلاء و صدقه، و قد عرفت انّ الاستیلاء علی المنافع انّما هو بتبع الاستیلاء علی العین، فاذا کانت للعین منافع یصدق الاستیلاء علی الجمیع، و التضاد بین بعضها الراجع الی عدم إمکان الاجتماع فی الوجود و فی مقام الاستیفاء، لا یرتبط بمقام الاستیلاء الذی هو الملاک للضمان، و بعبارة اخری: التضاد راجع الی مقام الاستیفاء، و هو غیر دخیل فی الضمان أصلاً، مع ان ترجیح بعض المنافع علی بعض ترجیح من غیر مرجح. و علی الثانی یحکم بضمان خصوص المنفعة التی هی أکثر مالیة من غیرها؛ لعدم صدق التفویت بالإضافة إلی الجمیع، بعد فرض التضاد و عدم إمکان الاجتماع؛ لانّ فوت الجمیع حینئذ یستند الی التضاد، غایة الأمر انه حیث کانت المنفعة التی هی أکثر مالیة ممکنة التحقق و الحصول، فیصدق تحقق التفویت بالنسبة إلیها و یقال: إنّ الاستیلاء صار سبباً لفوتها، و لولاه لکان للمالک استیفاؤها، کما لا یخفی.

و أمّا من الجهة الثالثة و هی شمول الموصول للحرّ و شبهه و عدمه، فنقول: ربما یناقش فی الشمول؛ نظراً الی ان الحرّ لا یدخل تحت الید، کما انه ربما یجاب عنه بانّ الید عبارة عن التصرف علی وجه الاستیلاء

ص:114

و القهر، و هو أمر عرفی موجود فی غصب الحرّ أیضاً؛ إذ العرف لا یفرق من حیث الید بین کون المغصوب عبداً أو حرّا، و لکن منع الشمول المحقق الرشتی (1)(قده) فی کتابه فی الغصب، و ملخص کلامه الطویل فی وجه المنع أمور ثلاثة:

الأوّل ان الید الموجبة للضمان هی الید الکاشفة عن الملکیة، و إذا کان الشیء غیر واجد لصفة المملوکیة، امتنع تعلق الید به علی الوجه المزبور کما فی الحرّ، لانه لا یکون قابلاً لصفة المملوکیة؛ لکونه مالکاً، و المالک لا یکون مملوکاً؛ لتحقق التضاد بینهما، و علیه فلا یدخل تحت الید المبحوث عنها، و من هنا حکم العلّامة (2)بان لباس الصغیر الحرّ المغصوب غیر مضمون کنفسه، و وجهه: ان الصغیر و إن کان مقهوراً فی ید الغاصب، مع کونه ممّن لا یقدر ان یجلب لنفسه نفعاً و لا ضرراً، الّا ان صفة الاختصاص الملکی المأخوذ فی معنی الید عرفاً، لما لم تکن موجودة فیه، لا یصدق علی ذلک القهر الید، و إذا لم تتحقق الید علی الصغیر نفسه، فلا تتحقق أیضاً بالنسبة إلی لباسه؛ الذی علیه؛ لانه باعتبار استقلاله الذاتی و مالکیته، یکون صاحب الید علی لباسه.

أقول: یرد علی هذا الأمر بعد وضوح بطلان ظاهر صدر کلامه، من ان الید الموجبة للضمان هی الید الکاشفة عن الملکیة، ضرورة ان الید الموجبة للضمان هی الید التی أحرز کونها عادیة أو غیر مأذونة، علی الاحتمالین المتقدمین، و الید الکاشفة عن الملکیة هی الید المشکوکة المقرونة

ص:115


1- 1) کتاب الغصب للمحقق الرشتی:13.
2- 2) التحریر:137.

باحتمال ثبوت الملکیة، و احتمال عدمها، فکیف یعقل اتّحادهما انه لا بد من توجیه کلامه، و یجری فی هذا المجال احتمالان:

أولهما ان یکون مراده (قده) انّه و إن کانت الید فی القاعدتین قاعدة ضمان الید و قاعدة أماریة الید مختلفة لا محالة عدمها الّا ان الاختلاف انّما هو بالإضافة الی صفة الید و قیدها، فالید فی قاعدة الضمان موصوفة بوصف العادیة أو غیر المأذونة، و فی قاعدة الأماریة موصوفة بوصف المشکوکیة، الّا ان الظاهر وحدة المراد من نفس الید التی هی الذات الموصوفة فی القاعدتین، فاذا کان المراد من الید فی قاعدة الأماریة ظاهراً فی الید علی الشیء، المقابل لصفة المملوکیة؛ ضرورة انه لا تکون امارة علی الملکیة، فالید علی الخمر و الخنزیر، لا تکون امارة علی ملکیّتهما، کذلک الید فی قاعدة الضمان المبحوث عنها فی المقام، لظهور وحدة المراد من الید التی هی الموضوع فی القاعدتین، و علیه فلا تشمل القاعدة الحرّ؛ لعدم شمول قاعدة الأماریّة له.

و ثانیهما ما یشعر به ذیل کلامه، بل یظهر منه، من ان الاختصاص الملکی الذی یعتبر فی القاعدة مأخوذاً فی معنی الید عرفاً، بحیث لا تصدق الید بدونه کذلک.

و الجواب عن الاحتمال الأوّل: انه لا دلیل علی اتّحاد القاعدتین فی المراد من الید المأخوذة فیهما؛ فان الید فی قاعدة الأماریة، باعتبار کونها مجعولة امارة علی الملکیة فمقتضی تناسب الحکم و الموضوع ان یکون المراد بها هی الید علی ما یکون قابلاً لتعلق وصف الملکیة به و ثبوت المملوکیّة له؛ لانه لا معنی لکون الید علی غیر الملک کالحرّ و نحوه کاشفة عن الملکیة

ص:116

و أمارة لها.

و أمّا قاعدة الضمان المستفادة من حدیث «علی الید» ، فالحکم المجعول فیها هو الضّمان، و لا دلیل علی اختصاص موضوعه بخصوص الید علی المملوک، بعد عموم الموصول و شموله لمثل الحرّ، و عدم منافاة الحکم بالضمان له أصلاً، فلا مجال لرفع الید عن العموم.

هذا مضافاً الی ما عرفت فی أوّل البحث عن القاعدة، من عدم اختصاص قاعدة أماریة الید بما إذا کان هناک شک فی الملکیة و کون ذی الید مالکاً، بل تجری فی مثل ما إذا کانت امرأة تحت رجل و هو مستولٍ علیها و یعاملها معاملة الزوجة، و لکن نشک فی انها زوجة له شرعاً أم لا؟ فان مقتضی قاعدة الأماریة کون الید بالنحو المذکور کاشفة عن ثبوت الزوجیة، و کون المستولی زوجاً لها، فلا اختصاص للید فی القاعدة بما إذا کانت متعلقة بالملک.

و الجواب عن الاحتمال الثانی: وضوح عدم دخالة المملوکیة فی صدق الید و الاستیلاء بحسب نظر العرف و العقلاء، فنری فی زماننا شیوع الاختطاف بالإضافة الی الافراد، و یقال له بالفارسیة « آدم ربایی» ، فهل یمکن منع تحقق الاستیلاء فی مثله عند العقلاء، أو هل یکون للید فی قاعدة ضمان معنی غیر معناها العرفی، مع لزوم الرجوع الی العرف فی تشخیص معانی الألفاظ المأخوذة فی موضوعات الأحکام الشرعیة فی الأدلة من الکتاب و السنّة؟ فالإنصاف ان المنع فی المقام واضح المنع.

الأمر الثانی من الأمور التی اعتمد علیها المحقق الرّشتی (1)(قده)

ص:117


1- 1) کتاب الغصب للمحقق الرشتی:13.

ما افاده مما ملخّصه: انه علی تقدیر تسلیم صدق الید فی الحرّ، یکون قوله: حتی تؤدّی، قرینة علی تخصیص الموصول؛ لعدم صدق الأداء علی دفع دیة الحرّ؛ لان دفع المثل أو القیمة فی المالیّات دفع للعین المغصوبة عرفاً؛ لقیام العوض فیها مقام المعوض فی جلّ الفوائد لو لم یکن فی کلّها، بخلاف الدیة؛ فإنها لیست عوضاً عن النفس لا حقیقة و لا حکماً، و انّما هی حکم شرعی شبه الغرامة، هذا إذا قیل بان دفع المثل أو القیمة فی المالیات مستفاد من نفس الغایة، و أما لو قیل بأنه حکم شرعی أو عرفی، بعد تعذر الغایة، و هو الأداء، فقد یقال بدلالته علی ضمان الحرّ الصغیر و وجوب دفع دیته، و دعوی عدم شمول لفظ الضمان لوجوب دفع الدیة؛ لعدم کونها عوضاً، یدفعها عدم کون لفظ الضمان مذکوراً فی الروایة، بل هو مستفاد من کلمة «علی» ، و لا فرق فی طریق الاستفادة بینه و بین المالیّات، مع ان اختصاص الضمان بالمالیات أوّل الکلام، و لذا یقال: ان الطبیب ضامن، و بالجملة لو سلّم کون الضمان ظاهراً فی المالیات لم نسلّم أن العهدة ترادفه فی ذلک.

و لکن یرد علی أصل القول ان دفع البدل إذا کان حکماً شرعیاً مستفاداً من غیر الأمر بالأداء، یحتاج ثبوته الی دلیل شرعی، و هو مفقود فی المقام، غیر ما رواه وهب بن وهب أبو البختری عن الصادق (علیه السلام) من استعار عبداً لقوم آخرین، فهو له ضامن، و من استعار حرّا، صغیراً ضمن (1)، و هذا مع ضعف سنده، لکون وهب من أکذب البریّة و عامّیاً، غیر معمول به، بل غیر ظاهر المراد؛ لمنافاته للإجماع علی عدم ثبوت الضمان فی

ص:118


1- 1) وسائل الشیعة 13:238 کتاب العاریة ب 1 ح 11، و ج 19 کتاب الدیات ب 12 ح 2.

العاریة.

و الجواب عن هذا الأمر: انه بعد تسلیم صدق الید و الاستیلاء علی الحرّ، و صدق الضمان بالإضافة إلی الإنسان أیضاً کالأمور المالیّة، و یدلُّ علیه ضمان الطبیب المفروض فی الروایات و فی الفقه فی أواخر کتاب الإجارة، و کذا تدل علیه روایة وهب و إن لم تکن معتبرة بالإضافة إلی الحکم المذکور فیها، و هو ثبوت الضمان فی الفقرتین، لکن أصل التعبیر بالضمان فیها مع کون الراوی عارفاً بلغة العرب، یدل علی صحة هذا الاستعمال لا بد و إن یکون هناک رافع للضمان و موجب لخروج الضامن عن العهدة و دعوی مغایرة العهدة للضمان کما فی کلامه مدفوعة بعدم المغایرة، بناء علی ما ذکرنا فی معنی الضمان، و الرافع للضمان علی ما یستفاد من حدیث «علی الید» لیس إلّا الأداء، فکما ان أداء المثل أو القیمة رافع لضمان العین، و إن لم یکونا أداء للعین، کذلک أداء الدیة فی ضمان الإنسان.

و بالجملة الذی تدل علیه روایة وهب هو نفس ثبوت الضمان، و أمّا انّه بما ذا یتحقق الأداء، فلا دلالة لها علیه، و لا حاجة الی الدلالة أصلاً؛ فإنه فی کل مورد یتحقق الضمان لا یکون الرافع إلّا الأداء الحقیقی أو الحکمی، و اشتمال حدیث «علی الید» علی الغایة و تعرضه لها، لا یدل علی خروج بعض موارد الضمان، کما لا یخفی.

فالإنصاف انه علی تقدیر تسلیم صدق الاستیلاء و الید فی الحرّ لا یکون التعرض لغائیّة الأداء موجباً لقصر الحکم بالضمان علی غیر الحرّ.

الأمر الثالث من الأمور المذکورة- ان المتبادر من الموصول هو المال بنفسه أو بقرینة قوله: تؤدّی؛ لأن الأداء إذا نسب إلی الأفعال کالصلاة تمّ

ص:119

معناه بدون المفعول بواسطة الجارّ، و أمّا إذا أضیف إلی الأعیان و الأمور التی لیست بأموال، فیحتاج الی المفعول الثانی بواسطة «الی» ، و من الواضح انّ المؤدّی الیه فی المغصوب هو الذی یکون مالکاً للمؤدّی أو مستحقّاً له، و شیء من الأمرین لا یتصور فی مثل الحرّ؛ إذ لیس له مالک و لا مستحقّ حتی یؤدّی إلیه، فلا یتصور القول بأنه یجب ردّ الحرّ المغصوب خصوصاً إذا کان کبیراً الی مالکه أو مستحقّه؛ إذ لا مستحق له شرعاً، و إن کان له وارث؛ إذ الوارث وارث لمورّثه لا مستحق له.

و یرد علیه: انه مع فرض موت الحرّ فی ید الآخذ، لا مجال للإشکال المذکور، لانه یصیر کتلف المال المغصوب حیث انه یجب أداء قیمته الی من یستحقّها، و هو الوارث فی المقام، فالدّیة یؤدّیها إلی الوارث کأداء القیمة إلی المالک فی المقیس علیه.

کما انه لو فرض کون الحرّ أجیراً للغیر بمنفعته الخاصة، أو بجمیع منافعه، بحیث کان الغیر مالکاً لمنفعته أو منافعه بسبب الإجارة، لا مجال للإشکال فی عدم تحقّق المؤدّی الیه فی هذه الصورة، فإنها تصیر کالدار المستأجرة المغصوبة من المستأجر، حیث انه یجب ردّها إلی المستأجر المالک لمنفعتها؛ إنّما الإشکال فی خصوص صورة الحیاة و عدم کونه أجیراً للغیر بالنحو المذکور، و فی هذه الصورة إذا کان الحرّ صغیراً غیر مستقل فی الإرادة و العیش یکون المتفاهم العرفی من الأداء بالإضافة إلیه هو أداءه إلی ولیّه، و من یکون متبوعاً فی الإرادة و المعیشة و لا مجال للزوم کون المؤدی الیه مالکاً أو مستحقّاً، بل اللازم ثبوت المؤدی الیه، و إن کان بالنحو الذی ذکرنا.

ص:120

و أمّا إذا کان الحرّ کبیراً، فمضافاً إلی انه لا مجال للتفصیل فی الحرّ المأخوذ بین الصّور التی ذکرناها و بین هذه الصورة، و هو یکفی فی الحکم بالضمان هنا؛ لعدم الفصل، نقول: لا مانع من کون المراد من الأداء هو الإرجاع الی ما کان علیه من المحلّ و الشرائط الخاصّة، و لا ملازمة بین افتقار الأداء فی الحدیث إلی المؤدی الیه، و بین کون المؤدّی الیه هو الشخص، فضلاً عن ان یکون مالکاً أو مستحقّاً فتدبّر.

و بالجملة لا نری فی مقابل إطلاق الحدیث الشامل للحرّ ما یوجب تقییده بغیره و إخراجه منه، فهو بمقتضی الحدیث مضمون، و یترتب علی الاستیلاء علیه الضمان، الذی لازمه وجوب أداء دیته الی الوارث فی صورة التلف، و أداء نفسه فی صورة العدم.

ثمّ ان مقتضی ما ذکرنا شمول الروایة لمثل الخمر و الخنزیر، مع عدم ثبوت المالیة و الملکیة بالنسبة إلیهما إذا قلنا بثبوت حق الاختصاص و الأولویة شرعاً فیهما، فیصیر مثل العین المرهونة المتعلقة لحق المرتهن، هذا کله بالنسبة إلی عین الحرّ.

و أمّا منافعها فان استوفاها الآخذ، فلا إشکال فی ضمانها علیه، و إن لم یستوفها فکذلک، بناء علی ما اخترناه من شمول الحدیث لأخذ الحرّ، لان المنافع حینئذ تکون مأخوذة بتبع العین، و لازمه الضمان فیها، و الاستیفاء لا دخالة له فی الحکم بالضمان کما ذکرنا فی مثل منافع العبد و الدار و نحوهما من المالیّات، و قد عرفت انه فی المنافع المتضادة غیر القابلة للاجتماع فی الوجود کالکتابة و الخیاطة یکون الضمان متعلقاً بالجمیع، و عدم مساعدة العرف علی ذلک لا یمنع عن اقتضاء الدلیل و شموله لجمیع المنافع کما لا یخفی.

ص:121

و أمّا من الجهة الرابعة و هی شمول الموصول للأوقاف و عدمه، فنقول: لا ینبغی الإشکال فی الشمول بالنسبة إلی الوقف الخاصّ، من دون فرق بین ان نقول ببقاء العین الموقوفة بعد الوقف علی ملک مالکها، غایة الأمر صیرورتها متعلقة لحقّ الموقوف علیهم، و بین ان نقول بدخولها فی ملک الموقوف علیهم، و خروجها عن ملک الواقف، و بین ان نقول بما اختاره سیدنا المحقق الأستاذ البروجردی (1)قدس سره الشریف من خروجها عن ملک الواقف، و صیرورتها علی رءوس الموقوف علیهم بحیث قدّر منافعها علیهم من دون دخول أصلها فی ملکهم فکأن و یؤیّده تعدّی الوقف ب «علی» فیقال: وقف علیه فکأن المال الموقوف سحاب جعله المالک علی رءوس الموقوف علیهم، حتی یمطر علیهم.

و کیف کان، فلا فرق فی شمول الموصول بین الأقوال المختلفة فی باب حقیقة الوقف، فإنه لا أقل من کونها متعلقة لحقّ الموقوف علیهم، و هو یکفی فی الشمول. هذا فی الوقف الخاصّ.

و أمّا الأوقاف العامّة کالمساجد و المشاعر و الرباط و المدارس و الطرق، فقد ذکر المحقّق الرّشتی (2)بعد ان حکی عن الدروس قوله: لو ثبت یده علی مثل المساجد و المشاعر و الرباط و المدارس، ضمن العین و المنفعة، و قال: لم نظفر بمتعرض لحکمها غیره، فی تحقیق المسألة کلاماً ملخّصه: انها ای الأوقاف العامّة علی ثلاثة أقسام:

الأوّل ما لم تتطرق الیه أیدی الملّاک منذ خلق، و لیس له اختصاص

ص:122


1- 1) کتاب الغصب مخطوط.
2- 2) کتاب الغصب، المحقق الرشتی:17.

بآدمی بوجه من وجوه الاختصاص الملکی، بل طرأ الحبس الشرعی علی إباحته الأصلیة، کأرض عرفات و مکة و المشاعر، و الظاهر ان حکمه حکم الحرّ فی عدم کون الید علیه موجبة للضمان.

الثانی ما تطرقت الیه ید التملک، ثمّ عرض المخرج عن الملکیة، و هذا ایضاً علی قسمین: قسم ترجع منافعه الی بعض الانتفاعات الدنیویة، کالسکنی و الرکوب و التطرق و نحوها، و قسم ترجع منافعه الی الانتفاعات الأخرویة کالصلاة و الذکر و أمثالهما من العبادات فی مثل المساجد، ثمّ ذکر ثبوت الضمان فی القسم الأوّل بالنسبة إلی العین و المنفعة معاً، بل نفی الاشکال عن الضمان فیه بالنسبة إلیهما، و لم یتعرض للقسم الثانی أصلاً، بل طوّل البحث فی ان المنفعة المضمونة فی القسم الأوّل هل ترجع الی الموقوف علیهم؟ أو تصرف علی نفس العین؟ أقول: امّا کون حکم القسم الأول من الأقسام الثلاثة هو حکم الحرّ، فلا ینبغی الإشکال فیه، غایة الأمر انه حیث أن المختار شمول الحدیث له، فاللازم شموله له ایضاً و اقتضاؤه الضمان بالنسبة إلی العین و المنفعة معاً.

کما ان ثبوت الضمان فی القسم الثانی مطلقا مما لا اشکال فیه أصلاً، و الظاهر فیه رجوع المنفعة إلی الموقوف علیهم؛ لأنهم هم المستحقون لها، فتردّ علیهم.

و أمّا القسم الثالث، الذی لم یتعرض له من جهة ثبوت الضمان و عدمه، فالظاهر انه ان کان المأخوذ مثل فرش المسجد و حصیره و سائر ما یتعلق به، فلا ینبغی الإشکال أیضاً فی ضمان العین؛ و المنفعة معاً لانه مال مأخوذ و له مالک و هو المسجد، بناء علی صحة اعتبار الملکیة له، کما هو

ص:123

الظاهر، فلا یرتفع الضمان إلّا بالأداء إلیه عیناً أو مثلاً أو قیمة.

و إن کان المأخوذ نفس المسجد، فالظاهر شمول الحدیث له ایضاً، کما قلنا فی الحرّ، فیترتب علیه ضمان العین، فاذا انهدم بمثل السیل یجب علی الضامن تعمیره و تجدید بنائه، نعم لا مجال للحکم بضمان المنافع بعد کون المنفعة من الأمور الأخرویة مثل الصلاة و الذکر، و هل الحکم کذلک فیما إذا اتخذ المسجد المستولی علیه مسکناً و محلاً لسکناه و سکنی اهله مثلاً فلا یضمن ما یقابله من المالیة أو یضمن؟ الظاهر هو الأوّل فتدبّر.

و أمّا من الجهة الخامسة و هی المراد من الأداء المأخوذ غایة للضمان و رافعاً له، و انه فی المالیّات عبارة عن الأداء الی من؟ فنقول: لا شبهة فی تحققه و صدقه فیما إذا أدّی العین المأخوذة من المالک الیه، فیما إذا لم تکن العین متعلقة لحق الغیر بالإجارة أو الرهن أو غیرهما، بان کانت منافعها غیر خارجة عن ملکه، و لم یتعلق بها مثل حق الرّهانة، و یکفی فی هذه الصورة الأداء الی وکیل المالک، إذا کانت وکالته شاملة لمثله ایضاً.

کما ان الظاهر عدم تحقق الأداء فیما إذا غصبها غاصب من الغاصب الأوّل مثلاً و أدّاها الیه دون المالک، فإنه و إن کان یصدق الأداء الی من أخذت العین منه و هو الغاصب الأوّل، الّا انه لا یحتمل الحدیث الحکم برفع الضّمان مع الأداء إلیه، کما لا یخفی.

و أمّا إذا غصبها من المستأجر الذی کانت العین المستأجرة بیده، فهل یتحقق الأداء الرافع للضمان إذا أدّاها إلی مالک العین، أو لا یتحقق إلّا إذا أدّاها إلی المستأجر؟ الحقّ انه هنا ضمانان: ضمان العین بالنسبة إلی المالک، و ضمان المنفعة بالنسبة إلی المستأجر، فإذا أدّاها إلی المستأجر یرتفع کلاهما؛

ص:124

لأنه أدّی المنفعة إلی صاحبها، و ادّی العین الی من یکون أمیناً من قبل المالک علیها، و هو المستأجر، فهو یکون کالأداء إلی الوکیل فی المثال المتقدم، و أما إذا أدّاها إلی مالک العین، فضمان العین و إن کان یرتفع بذلک، الّا ان ضمان المنفعة لا مجال لتوهم ارتفاعه به.

و من هنا یتّجه ان یقال؛ إذا غصب العین المستأجرة من المستأجر مالکها، بناء علی عدم انفساخ الإجارة بذلک، یصیر مالک العین ضامناً لمنافعها، و لا یرتفع ضمانه إلّا بأداء العین الذی یستتبع أداء المنفعة إلی المستأجر، و مع عدم الأداء و فوت المنافع بیده، یلزم علیه أداء قیمتها کما لا یخفی، و من قبیل الإجارة الرّهن، فإذا أخذ العین من ید المرتهن، فإن أدّاها الیه یرتفع الضمان کلا، و أمّا إذا أدّاها إلی المالک فیبقی الضمان بالنسبة المرتهن بحاله، فإذا تلفت فی یده، یلزم علیه أداء المثل أو القیمة إلی المرتهن، لیبقی عنده وثیقة لدینه، ثمّ یردّها المرتهن الی الرّاهن، أو یأخذ منه دینه.

و أمّا إذا أخذ العین من ید الودعیّ، فالظاهر تحقق الأداء الرافع للضمان بالردّ الی کل من المالک و الودعیّ، و الفرق عدم تعلق حق الغیر بها فی هذه الصورة، و علی ما ذکرنا یتّجه ان یقال، ان الأداء المأخوذ غایة هو الأداء الی من هو ضامن بالنسبة الیه أو وکیله أو أمینه لا الأداء الی خصوص المالک و لا الأداء الی من أخذ منه.

الجهة الثالثة- قد عرفت انّ الضمان فی صورة تلف العین انّما یستفاد من نفس دلیل القاعدة،

و انّ الأداء الذی یکون غایة للحکم بالضمان و رافعاً له، یکون له مراتب علی ما هو المتفاهم عند العرف منه، و إن أداء

ص:125

المثل فی المثلی و القیمة فی القیمی من مراتب الأداء، و یرتفع به الضمان ایضاً، و قد وقع البحث مفصّلاً فی المعیار فی المثلی و القیمی، و بیان الضابطة لهما، و نحن نحیل هذا البحث الی محلّه، و قد وقع فی کلام الشیخ الأعظم الأنصاری فی مسألة المقبوض بالعقد الفاسد فی کتاب مکاسبه (1)، انّما المهمّ فی المقام البحث فی ان القیمی، الذی یجب أداء قیمته بعد التلف، هل الواجب رعایة قیمته حال الاستیلاء و الأخذ، أو قیمته فی حال التلف و الانعدام، أو القیمة حال الأداء الذی هو الغایة للحکم بالضمان، أو أعلی القیم من زمان الأخذ إلی زمان التلف، أو الی زمان الأداء؟ فیه وجوه و احتمالات.

و قد ذکروا لهذه الوجوه و الاحتمالات أدلة و وجوهاً، و المهمّ هو النظر فی القاعدة، و انّها تقتضی أیّ وجه فنقول:

ربما یقال کما قال به المحقق البجنوردی (2)-: إِن مقتضی القاعدة هی قیمة یوم الأخذ و الاستیلاء، الذی هو فی باب الغصب یکون یوم الغصب، و تقریبه بنحو الاختصار: انّ ظاهر قوله (صلی الله علیه و آله) : و علی الید ما أخذت حتّی تؤدّیه، هو ان نفس ما وقع تحت الید یثبت و یستقرّ علی عهدة الآخذ، و لا شک فی ان هذا المعنی حکم شرعی وضعی فی عالم الاعتبار التشریعی؛ لأنّه حیث ان المال المأخوذ مال و عین خارجیة، و الموجود الخارجی یمتنع ان ینتقل بوجوده الخارجی إلی عالم الاعتبار، کما انه یستحیل ان ینتقل الی الذهن؛ للزوم الانقلاب، فاللازم ان یقال: إن ثبوته و وجوده فی العهدة،

ص:126


1- 1) کتاب المکاسب:105.
2- 2) القواعد الفقهیة 2:68.

انّما هو فی عالم الاعتبار، الذی هو ایضاً وجود کالوجود الخارجی و الوجود الذهنی و الوجود اللفظی و الوجود الکتبی، و مرجعه الی اعتبار ذلک الوجود الذی وقع تحت الید فوق الید و علی عهدتها.

و ذلک الوجود المأخوذ له جهات ثلاث: الخصوصیات الشخصیّة، و الجهات الصنفیّة الطبیعیّة، و مالیّته التی هی العمدة فی أبواب الضمانات و الغرامات، و هذه الجهات مأخوذة فی عالم الاعتبار و معتبرة فیه، فإذا أمکن أداؤها بأجمعها، فالواجب هو الأداء بهذه الکیفیة، و إذا تلفت العین تسقط الخصوصیات الشخصیة؛ لأنه مع عدم إمکان أدائها یکون اعتبارها لغواً، و تبقی الجهتان الأخریان، و إذا لم تکن مثلیة کما هو المفروض، تسقط الجهات المصنّفة ایضاً، و یبقی خصوص الجهة المالیّة، فاللازم أداء تلک الجهة، و هی التی کان ضامناً لها ابتداء و من حین الأخذ؛ لأن ظرف الضمان هو وقت الأخذ، فاللازم هی القیمة فی وقت الأخذ الذی هو وقت الضمان بحسب الحدیث الشریف.

و لکن الظاهر ان مفاد الحدیث هی القیمة یوم الأداء و الدفع، و ذلک لظهوره فی ثبوت نفس العین المأخوذة علی العهدة، و أمّا ما فی کلامه من ان العین الخارجیّة یمتنع ان تنتقل بوجودها الخارجی إلی عالم الاعتبار، فیرده ان العین الخارجیة انّما هی طرف الاعتبار و متعلق له، فهی بوجودها الخارجی ثابتة علی العهدة، لکن الثبوت انّما هو أمر اعتباری لا واقعی، و علیه فقیاس المقام بالموجود الخارجی الذی یمتنع ان یوجد فی الذهن بوصف وجوده فی الخارج قیاس مع الفارق؛ ضرورة ان الوجود الذهنی قسیم للوجود الخارجی، و کل منهما له واقعیة و یمتنع انتقال أحدهما إلی

ص:127

الآخر مع وصف ثبوت واقعیّته، و وجوده، و هذا بخلاف المقام؛ فإن الأمر الاعتباری الذی هو الضمان و الثبوت علی العهدة، انما یکون متعلقه الوجود الخارجی الذی تعلّق الأخذ به، و لا بد ان یکون کذلک؛ لما عرفت فی الفرق بین الضمان و اشتغال الذمة من ان الأوّل یتعلق بالجزئی و الثانی بالکلّی، و علیه فالثابت علی العهدة فی المقام نفس المأخوذ الذی هو العین الخارجیّة من دون استلزام الانتقال، و هذا انّما هو بالنسبة إلی العین، ما دامت کونها موجودة باقیة، و أمّا مع التلف و الانعدام، فالمستفاد من الحکم بالضمان فی قاعدة الإتلاف المفروضة بعد التلف، و من الحکم ببقاء الضمان فی «قاعدة علی» الید بعد تلف، العین المأخوذة؛ لعدم تحقق الغایة الرافعة و هی الأداء، و لا مجال لتوهم عدم ثبوت الغایة للضمان؛ لامتناع تحقق الأداء، کما انه لا مجال لدعوی عدم دلالتها علی الضمان بعد التلف بأنه لا بدّ و إن یعتبر وجود العین فی قاعدة الإتلاف و بقاؤها فی قاعدتنا، غایة الأمر کونه بنحو الاعتبار؛ لانه لا یعقل عدم ثبوت طرف الضمان؛ فإنه کما یحتاج الی وجود الضامن کذلک یحتاج الی وجود المضمون، فلا محالة یکون ثبوت الحکم بالضمان بعد إعدام العین أو انعدامها مستلزماً لفرض وجود العین و اعتبار بقائها، و علی ما ذکرنا فالثابت علی العهدة انما هو نفس العین المأخوذة، من دون فرق بین زمان قبل التلف و بین زمان عروض التلف لها، فکما ان العین بجمیع جهاتها الثلاث المذکورة فی کلام القائل ثابتة علی الید قبل التلف، غایة الأمر فی عالم الاعتبار الذی هو طور من الوجود فی قبال سائر أطواره و أنواعه، کذلک هو ثابت علی الید مع جمیع الجهات بعد التلف، و لا مجال للتفکیک فی مفاد الحدیث الذی هو الحکم بالضمان بین

ص:128

الزّمانین قبل التلف و بعده، و الحکم بان الثابت قبل التلف انّما هی العین مع جمیع الجهات الثلاث، و الثابت بعده انّما هی العین مع بعض تلک الجهات، فالعین المأخوذة علی الید و عهدتها مستمرّاً الی زمان الأداء، و لا فرق فی هذا الثبوت بین ما قبل التلف و ما بعده، فبعده ایضاً تکون العین علی العهدة کقبلة، غایة الأمر انّ التلف انّما یؤثّر فی الغایة، و هی الأداء؛ إِذ انه قبل التلف کان أداء العین بجمیع الخصوصیات ممکناً، و بعده یمتنع ذلک و یصیر محالاً، و حینئذ ینتقل إلی المرتبة الثانیة، و هی أداء المثل مع فرض مثلیّته، و بعدها إلی المرتبة الثالثة و هی أداء القیمة مع کونه قیمیّاً، و لکن الانتقال إلی القیمة انّما هو فی ما یرتبط بالأداء و بالغایة، و لا ارتباط له بأصل الضمان، فما دام لم یؤدّ القیمة تکون العین المأخوذة باقیة علی العهدة و ثابتة علی الید، فإذا أراد ردّها لیرتفع الضمان، فحیث لا یکون قادراً علی ردّ العین؛ لفرض التلف و لا علی ردّ مثلها؛ لعدم کونها مثلیّة، فاللازم ردّ قیمتها، و من الواضح انّ القیمة التی یجب ردّها حینئذ هی قیمة العین فی حال الأداء و الدّفع، و بعبارة اخری الواجب علیه ردّ العین فی هذه الحالة أیضاً، و حیث انه ممتنع، تصل النوبة إلی مالیتها القائمة مقامها، و هی المالیّة فی حال الردّ و الأداء.

و الظاهر وقوع الخلط فی کلام القائل بین الضمان المغیّا و بین الأداء الذی هو الغایة، فرأی انه حیث لا یمکن ردّ العین مع جمیع الجهات، و اللازم ردّها ببعضها، فیکون الضمان ایضاً مرتبطاً بذلک البعض، مع ان الضمان انّما هو بالنسبة إلی العین فی جمیع الحالات، و الغایة لها مراتب و درجات، و نتیجته لزوم أداء قیمة یوم الأداء، لامتناع أداء العین بجمیع

ص:129

الخصوصیات.

و یؤیّد ما ذکرنا الحکم بضمان النماءات التی تحصل للعین المغصوبة بعد الغصب، و إن تلفت تلک النماءات بعد حصولها، کما لو سمنت الشاة مثلاً فی ید الغاصب، ثمّ زال عنها السمن و عادت حالتها الأولی؛ فإن منشأ الحکم بضمانها هو کون المضمون هی العین بجمیع الخصوصیات، و هی الثابتة علی العهدة و علی الید، و دعوی کون هذه النماءات واقعة تحت الید جدیداً بتبع بقاء العین، فتکون غصباً آخر غیر مربوط بالغصب الأوّل، مدفوعة بوضوح خلافها؛ فان تعدّد الغصب فی مثله، ممّا لا یقبله العقلاء و العرف أصلاً.

و بالجملة لا فرق فی أصل الحکم بالضمان المستفاد من المغیّا فی الحدیث الشریف، و هو ضمان العین و ثبوتها علی العهدة بجمیع الخصوصیات، بین الفروض المختلفة و الحالات المتعددة، من التلف و غیره، و المثلی و غیره، و انّما الاختلاف بینها یرجع الی الغایة الرافعة للضمان، و مقتضی ما ذکر فی القیمی ردّ قیمته یوم الردّ و الدفع، فتدبّر جیّداً.

ثمّ انّ فی دلالة القاعدة احتمالاً ثالثاً اختاره سیدنا المحقق الأستاذ البروجردی (قدّس سرّه) علی ما فی تقریراته فی مباحث الغصب (1)، فإنه بعد ان ذکر ان مختاره فی السابق کان ما علیه المحقق الخراسانی (2)(قده) مما یرجع الی لزوم قیمة الأداء و الدفع، و قد رجع عنه بعداً، ذکر ان القیمة التی یقال لها بالفارسیّة «ارزش» لا تعتبر للمعدوم الصّرف، فالعین

ص:130


1- 1) کتاب الغصب مخطوط.
2- 2) حاشیة المکاسب للمحقق الخراسانی:23.

الشخصیة الخارجیّة و إن کانت فی زمن بقائها تعتبر لها فی کل یوم قیمة، و لکنّها إذا تلفت لا تعتبر لها عند العقلاء قیمة، بأن یقولوا: ان هذه العین فی هذا الیوم تساوی کذا و کذا، لانتفاء الهذیّة و الشخصیّة، فکیف تعتبر لها قیمة؟ نعم یعتبر عند العقلاء لمثلها قیمة، و لکن این هذا من قیمة شخص العین التالفة التی جعلت من المراتب النازلة لنفس العین، فالعین لما لم یکن لها قیمة بعد تلفها، کان الواجب علی الضامن أداؤها بقیمتها حینما تعتبر لها قیمة و هو حال الوجود، فزمان الانتقال إلی القیمة و إن کان هو یوم التأدیة، لکن العین لما لم تکن لها قیمة إلّا حال الوجود، فاللازم قیمة ذلک الحال، و لکن لا دلالة للقاعدة حینئذ علی ان الاعتبار بخصوص یوم التلف أو یوم الغصب أو أعلی القیم منه الیه.

و یرد علیه ما عرفت سابقاً من ان المستفاد من الحکم بالضمان فی قاعدة الإتلاف، التی مرجعها الی کون الضمان مترتّباً علی الإتلاف، و انّ الإتلاف سبب الضمان و متقدم علیه و لو رتبة انه لا یعتبر فی الحکم بالضمان مطلقا بدواً و استمراراً وجود العین و عدم عروض التلف لها فالعین و إن کانت تالفة تکون معروضة لوصف المضمونیّة و متعلقه للضمان و حینئذ نقول ان لازم اعتبار قیمتها حال الوجود لعدم اعتبار القیمة حال التلف ان یکون اللازم القیمة فی حال عدم تحقق الضمان و هو حال الوجود فیصیر مثل ما إذا قیل فی الغصب باعتبار قیمة قبل الغصب مع انه لم یقل به أحد و لا یحتمله القاعدة بوجه.

و الحقّ انّ القیمة اللازمة هی قیمة العین التی اعتبر وجودها فی عالم التشریع و ثبوتها و بقائها علی العهدة و قد عرفت ان مقتضی القاعدتین

ص:131

قاعدة الإتلاف و قاعدة التلف التی هی المبحوث عنها فی المقام بقاء نفس العین علی العهدة و ثبوتها علی الید و إن الانتقال إلی القیمة انّما هو فی مرحلة الأداء الذی له مراتب متعددة و درجات مختلفة و اللازم حینئذ ان یؤدّی قیمة یوم الأداء لأنه یوم الانتقال إلی القیمة و البدل و الذی تضاف إلیه القیمة هی نفس العین الثابتة علی العهدة و إن کانت غیر موجودة فی الخارج فالإنصاف انه لا مجال للرجوع عما افاده المحقق الخراسانی (قده) و اختاره جملة من أجلّاء تلامذته من کون اللازم بمقتضی القاعدة هی القیمة یوم الأداء و الدّفع.

ثمّ انه ورد فی هذا المجال روایة صحیحة فی باب الغصب الذی هو أظهر مصادیق القاعدة المبحوث عنها فی المقام لا بد من ملاحظتها و انه هل یستفاد منها غیر ما تفیده القاعدة من القیمة یوم الأداء علی ما استظهرنا منها أم لا؟ و انه علی التقدیر الأوّل کیف یجمع بینهما؟ فنقول هی صحیحة أبی ولاّد قال اکتریت بغلاً الی قصر ابن هبیرة ذاهباً و جائیاً بکذا و کذا و خرجت فی طلب غریم لی فلما صرت قرب قنطرة الکوفة خبّرت ان صاحبی توجّه الی النیل فتوجهت نحو النیل فلما أتیت النّیل خبرت انه توجه الی بغداد فاتبعته فظفرت به و فرغت ممّا بینی و بینه و رجعت إلی الکوفة، و کان ذهابی و مجیئی خمسة عشر یوماً فأخبرت صاحب البغل بعذری و أردت أن أتحلّل منه فیما صنعت و ارضیه فبذلت له خمسة عشر درهماً فأبی أن یقبل فتراضینا بأبی حنیفة و أخبرته بالقصة و أخبره الرجل، فقال لی: ما صنعت بالبلغة؟ قلت رجّعته سلیماً، قال: نعم بعد خمسة عشر یوماً قال فما ترید من الرجل، قال: أرید کراء بغلی فقد حبسه علیّ خمسة

ص:132

عشر یوماً فقال انّی ما أری لک حقّا لانه اکتراه الی قصر بنی هبیرة فخالف فرکبه الی النیل و إلی بغداد فضمن قیمة البغل و سقط الکراء فلمّا ردّ البغل سلیماً و قبضته لم یلزمه الکراء، قال فخرجنا من عنده و أخذ صاحب البغل یسترجع فرحمته مما افتی به أبو حنیفة و أعطیته شیئاً و تحلّلت منه و حججت تلک السّنة فأخبرت أبا عبد اللّه علیه السلام بما افتی به أبو حنیفة فقال: فی مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السّماء مائها و تحبس الأرض برکاتها، فقلت لأبی عبد اللّه (علیه السلام) فما تری أنت، جعلت فداک. فقال: أری له علیک مثل کراء البغل ذاهباً من الکوفة إلی النیل و مثل کراء البغل من النیل الی بغداد و مثل کراء البغل من بغداد إلی الکوفة و توفیه إیّاه، قال: قلت قد علفته بدراهم فلی علیه علفه قال: لا، لأنک غاصب فقلت أ رأیت لو عطب البغل أو نفق أ لیس کان یلزمنی؟ قال: نعم قیمة بغل یوم خالفته، قلت: فإن أصاب البغل کسر أو دبر أو عقر فقال: علیک قیمة ما بین الصحة و العیب یوم تردّه علیه، قلت: فمن یعرف ذلک، قال: أنت و هو اما ان یحلف هو علی القیمة فتلزمک فان ردّ الیمین علیک فحلفت علی القیمة لزمک ذلک أو یأتی صاحب البغل لشهود یشهدون ان قیمة البغل حین اکتری کذا و کذا فیلزمک فقلت: انی کنت أعطیته دراهم و رضی بها و حلّلنی، فقال: إنما رضی بها و حلّلک حین قضی علیه أبو حنیفة بالجور و الظلم و لکن ارجع الیه فأخبره بما أفتیتک به فان جعلک فی حلّ بعد معرفته فلا شیء علیک بعد ذلک (1). و تنکیر البغل فی قوله: قیمة بغل یوم خالفته انّما هو فی نسخة الوسائل و المحکی عن نسخ الکافی و التهذیب هو

ص:133


1- 1) الوسائل کتاب الغصب، الباب السابع، حدیث.

البغل معرّفاً و هو الظّاهر کما ان المحکیّ عن صاحب الجواهر انه قال ان الموجود فیما حضرنی من نسخة التهذیب الصحیحة المحشاة ترده علیه من دون لفظ «یوم» .

و ربما یقال بدلالة الصحیحة علی ان المدار فی القیمة هی قیمة یوم الغصب و الأخذ و الاستیلاء و ذلک فی موضعین منها:

أحدهما قوله (علیه السلام) : نعم قیمة بغل یوم خالفته و قد أفاد الشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّه فی وجه دلالة هذه الفقرة علی کون المدار هی القیمة یوم الغصب وجهین:

الأوّل إضافة القیمة المضافة إلی البغل الی یوم خالفته ثانیاً فیکون المضاف واحداً و المضاف الیه متعدداً فی عرض واحد و یصیر المعنی قیمة بغل قیمة یوم خالفته و من الواضح ان المراد بالمضاف الیه الثانی هو یوم الغصب و الأخذ.

و أورد علیه تارة بأن المضاف إلی شیء لا یضاف إلی شیء آخر، ثانیاً و انه محال من جهة استلزامه الجمع بین اللحاظ الآلی و الاستقلالی فی استعمال و لحاظ واحد و هو مستحیل. ذکر ذلک المحقق الخراسانی قده فی حاشیة المکاسب حیث قال فیه إشکال فإن إضافة المضاف بما هو مضاف ثانیاً یستلزم ان یکون الإضافة بما هی اضافة ملحوظة باللحاظ الآلی طرفاً لها و ملحوظة علی الاستقلال فإنها من مقوّماته فی الإضافة الثانیة و لو کان المراد إضافته ثانیاً لا بما هو کذلک ای مضاف یلزم ان یکون حین التلفظ به طرفاً لهذا علی حدة و لذاک کذلک و هذا یستلزم ان ینظر الیه ذلک الحین بالنظرین المتباینین. و أخری بأنه علی فرض الجواز لا یکون ذلک معهوداً

ص:134

فی تراکیب الکلام و الجمل العربیة خصوصاً فی مقام الإفتاء الذی یناسبه التعبیر المتداول و الاستعمال المتعارف و خصوصاً إذا کان فی مقابل إفتاء آخر غیر مطابق للواقع و هو إفتاء أبی حنیفة بغیر ما انزل اللّه تعالی. نعم لا مانع من تتابع الإضافات الذی مرجعه إلی إضافة المضاف إلیه إلی المضاف الیه الآخر و إضافته ایضاً الی ثالث و هکذا کما ورد فی الکتاب مثل دأب قوم نوح و لکنه غیر ما افاده قده.

و قد وجّهه السیّد الطّباطبائی فی حاشیة علی المکاسب ان قید المضاف إلیه إذا لم یکن له ثمر الّا بجعله قیداً للمضاف یکون الغرض من الإضافة هذا التقیید و فی المقام کذلک فان تقیید البغل بیوم المخالفة من حیث هو لا معنی له فلا بد ان یکون الغرض من ذلک کونه قیداً للقیمة یعنی یوم المخالفة للبغل و ذلک کما إذا قیل ضرب زید یوم الجمعة فإن إضافة زید الی الیوم لا معنی له الا ان یکون الغرض منه تقیید الضرب به.

و یرد علیه وضوح الفرق بین المقیس و المقیس علیه فان تقیید زید بیوم الجمعة و إن کان لا معنی له الاّ ان تقیید البغل بیوم المخالفة لا مانع منه لاختلاف حالاته من جهة السمن و الهزال و الصحة و المرض و غیرهما و من جهة تفاوت القیمة السوقیة و الاختلاف من هذه الناحیة، مع ان هذا التوجیه یرجع الی الوجه الثانی المذکور فی کلام الشیخ الذی یجیء و علیه فلا یبقی فرق بین الوجهین.

الثانی کون الظرف قیداً للاختصاص الحاصل من إضافة القیمة إلی البغل فیکون المعنی قیمة مختصة بالبغل یوم المخالفة بحیث کان یوم المخالفة متعلقاً بمختصة و لا مانع منه بعد کونه شبه فعل و یجوز ان یکون عاملاً فی

ص:135

الظرف و حینئذ یکون الظرف مفتوحاً کما انه فی الصورة الاولی یکون مجروراً و من المعلوم ان القیمة المختصة بالبغل یوم المخالفة هی قیمة یوم الغصب و الأخذ.

و أورد علیه بان اختصاص الحاصل من الإضافة معنی حرفی و ملحوظ آلی فلا یمکن ان یرد علیه القید لأن المعانی الحرفیة لیست قابلة للتقیید للزوم اجتماع اللحاظ الآلی و الاستقلالی واحد و لحاظ فأرد.

و لکنا قد حققنا فی البحث عن الحروف فی علم الأصول انه لا مانع من ذلک و إن أکثر التقییدات الواقعة فی الاستعمالات و المحاورات انّما یرجع الی تقیید المعانی الحرفیة فقولک ضرب زید یوم الجمعة عند الأمیر یکون القیدان فیه راجعین الی وقوع الضرب علی زید و هو من المعانی الحرفیة غیر المستقلّة بخلاف نفس الضرب الذی هو معنی مستقل و کذا زید الذی یکون کذلک و لا مجال لدعوی تعلق القیدین بنفس الضرب من دون ملاحظة خصوصیة وقوعه علی زید و فی الحقیقة متعلق القیدین هو الاختصاص الحاصل من اضافة الضرب الی زید و لذا أوردنا علی المحشی برجوع توجیهه للوجه الأوّل إلی الوجه الثانی.

و بالجملة لا مانع من تقیید ما هو الملحوظ الآلی و إن کان مستلزماً للحاظ الاستقلالی و الشاهد هو الاستعمالات المتداولة و المحاورات العرفیّة.

و یمکن ان یقال برجوع القید الی البغل بحیث یکون المقام من تتابع الإضافات و ذلک بملاحظة ما ذکرنا من اختلاف حالات البغل من جهة السمن و الهزال و الصحة و المرض و مثلهما و من جهة القیمة السّوقیة و لکنه حیث لا یکون الاختلاف من الجهة الأولی متحقّقاً فی مورد الروایة لأن

ص:136

البغل لا یختلف فی الأیام القلیلة المفروضة فی مورد الروایة من جهة السّمن و الهزال غالباً و المفروض عدم عروض عیب علیه لان فرض العیب واقع فی الأسئلة الواقعة بعد هذا الجواب. فالظاهر حینئذ انّ الاختلاف الذی هو محط نظر الروایة هو الاختلاف من جهة القیمة السوقیّة و علیه یکون الظرف قیداً للبغل بنحو الإضافة کما انه یمکن ان یقال بکون الظرف متعلقاً بنعم کما استظهره السید قده فی الحاشیة نظراً إلی انه إذا کان فی الکلام فعل أو شبهه فهو أولی بأن یکون متعلّقاً للظرف و القیمة بمعنی العوض لیس فعلاً و لا شبهه بخلاف «نعم» فإنه فی قوة قوله یلزمک أو یکون لفظ یلزمک مقدّراً بعده.

و علی هذا الاحتمال الأخیر لا دلالة لهذه الفقرة من الروایة علی تعیین قیمة أیّ یوم لأن غایة مفادها هو اشتغال الذمة بالقیمة و ثبوتها علی العهدة فی یوم الأخذ و أمّا ان القیمة المضمونة و الثابتة علی العهدة قیمة أیّ یوم فلا دلالة للروایة علیه أصلاً. نعم ظاهرها حینئذ انّ الثابت علی العهدة فی غصب القیمی بمجرد تحقق الأخذ هی القیمة مع ان ظاهر قاعدة ضمان الید کما عرفت هو ثبوت نفس العین المأخوذة علی الید فیقع بینهما التنافی من هذه الجهة و لکن لا بد من توجیه الروایة لأنه لا معنی لثبوت القیمة علی العهدة مع وجود العین و عدم تلفها بحیث یکون مجرد غصب القیمی موجباً لثبوت القیمة علی عهدة الغاصب فلا بد من توجیهها بما یرجع الی مفاد القاعدة کما لا یخفی.

و بالجملة إذا کان یوم خالفته قیداً للقیمة و متعلقاً بها فبلحاظ کون الجواب انّما هو عن السؤال عن صورة وقوع التلف و فرض ان البغل عطب

ص:137

أو نفق یکون مرجع قوله: نعم الی لزوم القیمة المقیدة بالقید المذکور بعد فرض التلف فلا دلالة للجواب حینئذ علی ما یلزمه بمجرد الأخذ و المخالفة أصلاً و أمّا لو کان القید راجعاً الی نعم أو الفعل المقدر بعده فالجواب و إن کان عن السؤال المذکور المفروض فیه صورة التّلف الّا ان ظاهره ثبوت القیمة و لزومها علیه بمجرد الأخذ و المخالفة مطلقا من دون فرق بین ما إذا تحقق التلف بعده و ما إذا لم یتحقق لانه لا مجال للتفکیک بین الصورتین و الحکم بأنّه فی صورة التلف یکون اللازم علیه یوم الغصب هی القیمة فلا ینافی کون اللازم فی صورة العدم من حین الأخذ هی غیر القیمة بل الظاهر ان المستفاد من الرّوایة حینئذ کون اللازم هی القیمة مطلقا و علیه فلا بد من توجیه الروایة بما یرجع الی مفاد قاعدة الید فتدبّر.

و بذلک یجاب عما عن بعض الأعاظم قدس سره من ان ضمان القیمة لو کان یوم المخالفة أی یوم الغصب بمعنی تعلّق القیمة بالعهدة و اشتغال الذمة بها فی ذلک الیوم فلازمه کون المضمون هی قیمة یوم المخالفة أیضاً لأنه لا معنی لان تکون قیمة الیوم المتأخر عن یوم المخالفة و هو یوم التلف أو یوم الرد ثابتة علی العهدة فی یوم المخالفة و علیه فلو کان الظرف راجعاً الی نعم أو الفعل المقدر بعده تکون هذه الفقرة دالة ایضاً علی کون المعتبر هی قیمة یوم المخالفة. و قد ذکرنا انه حیث لا معنی لتعلق القیمة بالعهدة و اشتغال الذمة بها مع فرض وجود العین بحیث کان الحکم المغیّا راجعاً الی ثبوت القیمة و الغایة دالة علی أداء العین ضرورة انه لا معنی لأدائها أی القیمة مع فرض وجود العین و إمکان ردّها فلا بد من التوجیه بما یرجع الی مفاد القاعدة و هو ثبوت العین علی العهدة فی عالم الاعتبار

ص:138

الذی یتفق فیه العقلاء و الشارع غایة الأمر انه مع فرض التلف و کون العین قیمیة لا یمکن ان یتحقق الأداء إلّا بأداء القیمة التی هی الجهة المهمّة فی باب المالیّات و الملحوظة فی أبواب الضمانات و الغرامات.

و قد انقدح بما ذکرنا انه لم تثبت دلالة هذه الفقرة من الروایة علی خلاف ما استظهرنا من القاعدة من ثبوت القیمة یوم الدفع و الأداء.

ثانیهما قوله (علیه السلام) أو یأتی صاحب البغل بشهود یشهدون ان قیمة البغل حین اکتری کذا و کذا فیلزمک و الظاهر ان المراد من قوله حین اکتری هو یوم الغصب لانه لا وجه لضمان یوم الاکتراء بعنوانه أصلاً و العدول عن التعبیر بیوم الغصب الی یوم الاکتراء مضافاً الی اتّحاد الیومین فی مورد الروایة لأن الظاهر اکتراء الدابة خصوصاً فی تلک الأزمنة انّما کان یقع فی نفس الیوم الذی یرید رکوبها و الاستفادة منها و المفروض فی الروایة تحقق الغصب فی الساعة الاولی من الحرکة و الرکوب لانه وقع الاکتراء فی الکوفة التی هی ساحل الشطّ و وقع الغصب و المخالفة قرب قنطرة الکوفة حین ما خبّر بتوجه غریمه الی النیل و عدم کونه فی قصر ابن هبیرة انّما هو لأجل ان تحصیل الشهود حین الاکتراء أسهل من حال الغصب لان محلّ الاکتراء غالباً محل اجتماع المکارین العارفین بقیمة البغال و أمّا حین الغصب الواقع فی أثناء الطریق لا طریق نوعاً الی تحصیل الشهود علی معرفة قیمته فی ذلک الوقت و علیه تکون هذه الفقرة صریحة فی ان المدار فی ضمان القیمی هو قیمة یوم الغصب و المخالفة.

هذا و یمکن منع دلالة هذه الفقرة أیضاً نظراً إلی انه یمکن ان یکون التعبیر بیوم الاکتراء الذی یراد به یوم الغصب علی ما مرّ انّما هو لأجل

ص:139

عدم تفاوت قیمة البغل فی الأیام القلیلة المفروضة فی مورد الروایة التی لا تتجاوز عن خمسة عشر یوماً فإنه کما لا یختلف البغل فی هذا المقدار من الزمان من جهة السمن و الهزال نوعاً کذلک لا یختلف من جهة القیمة السّوقیة خصوصاً فی تلک الأزمنة و التعبیر به بدلاً عن یوم الدفع و الأداء انّما هو لأجل ما ذکر من انه لا طریق غالباً الی تحصیل الشهود علی معرفة قیمة یوم الدفع خصوصاً بعد عدم وجود العین و لا مجال لتعیین القیمة مع التلف و من الواضح ان الخصوصیات التی علیها الدابة لها دخل فی القیمة جدّاً و ذکرها لا یکفی فی مقام التقویم بل لا بدّ من المشاهدة و إن کان التوصیف یکفی فی مقام البیع و المعاملة الّا ان للتقویم مقاماً غیر مقام المعاملة فتدبّر.

و یؤیّد ما ذکرنا من عدم دلالة الروایة علی ضمان القیمة یوم الغصب قوله (علیه السلام) فی الذیل: علیک قیمة ما بین الصحة و العیب یوم تردّه علیه بناءً علی وجود کلمة الیوم لما عرفت من الجواهر من عدم وجوده فی النسخة المصحّحة من التهذیب الموجودة عنده و علی ان یکون الظرف متعلّقاً بالقیمة بمعنی انه یجب علیک قیمة یوم الردّ بالإضافة الی ما بین الصحة و العیب و أمّا بناء علی تعلّق الظرف به علیک بلحاظ کون معناه الفعل و هو انه یلزم علیک فمعناه انّ الثابت علی العهدة فی یوم الردّ و الأداء هی القیمة فیمکن ان یقال بظهوره أیضاً فی کون الثابت هی القیمة فی ذلک الیوم و إن کان یمکن المناقشة فیه بأن غایة ما تدل علیه حینئذ هو کون الثابت فی یوم الرّد هی القیمة و أمّا ان القیمة قیمة أیّ یوم فالروایة ساکتة عنه.

و لکن الظاهر عدم تعلق الظرف به علیک و إن کان متضمّناً لمعنی

ص:140

الفعل لأنه ان کان المراد باللزوم هو لزوم الأداء و الدفع فلا فائدة فی ذکر الظرف أصلاً لأنه یصیر حینئذ أمراً واضحاً لا حاجة الی بیانه لوضوح انّ أداء القیمة انما یقترن مع أداء العین و ردّها مع وصف کونها معیوبة و إن کان المراد باللزوم هو الثبوت علی العهدة فلا خفاء فی ان الثبوت الکذائی انما یتحقق بنفس عروض العیب و صیرورة الدابة معیبة فی ید الغاصب فلا وجه لجعل الظرف متعلقاً به حتی یصیر معناه ان الثبوت انما یکون زمانه یوم الردّ و الأداء.

و یحتمل ان یکون الظرف متعلّقاً بالعیب بمعنی أنه لا بد فی العیب من ملاحظة یوم الأداء إذ ربما یمکن ان یکون العیب فی أوّل عروضه قلیلاً ثمّ ازداد بعده و فی هذه الصّورة لا بد من ملاحظة ما علیه العیب من الکثرة و الشدة فی یوم ردّ العین معیبة و لازم ذلک انه لو فرض العکس و صیرورة العیب قلیلة أو خفیفة لکان اللازم ملاحظة وقت الأداء دون وقت العروض.

و بالجملة فالروایة علی التقدیر الأوّل الذی یکون الظرف متعلّقاً بالقیمة تؤید عدم دلالتها فی الجملات السابقة علی هذه الجملة علی کون المراد هی القیمة یوم الغصب.

ثمّ انّه ربما یستشکل الأخذ بهذه الصحیحة بأنّها مخالفة للقواعد العامّة و الضوابط القطعیة المقررة فی کتاب القضاء للمدعی و المنکر و هی انّ البینة علی المدّعی و الیمین علی من أنکر و التفصیل قاطع للشرکة فالمدعی وظیفته إقامة البینة و المنکر الیمین نعم یمکن له ردّ الیمین الی المدعی فی فرض عدم ثبوت البیّنة له مع ان الصحیحة ظاهرها تخییر المالک ابتداء بین الحلف و بین

ص:141

إقامة البینة غایة الأمر انه مع عدم الحلف و عدم البینة تصل النوبة إلی حلف الغاصب و هذا لا ینطبق علی قواعد باب القضاء و فصل الخصومات بوجه.

و ربما یوجّه ذلک بان الاختلاف یمکن ان یکون باختلاف کیفیة إنشاء دعواهما و بعبارة اخری لا یجتمع الأمران فی مورد واحد و فی مصب دعوی کذلک بل لهما موردان فإنه ان کان مصب الدعوی تنزل القیمة التی تجب علیه أدائها عن القیمة السّابقة بحیث کان الغاصب مدّعیاً للتنزل و المالک منکراً له تکون وظیفة المالک حینئذ الیمین مع عدم ثبوت البینة للمنکر علی التنزل لأن الأصل عدم التنزل و إن کان مصب الدعوی نفس القیمة الثابتة من غیر اتفاق علی القیمة السّابقة بل و من دون اطلاع علیها بل کان النزاع فی مجرد القیمة من حیث الزیادة و عدمها فالقول قول الغاصب لإنکاره الاشتغال بالزائد عمّا یدعیه من القیمة یوم المخالفة لأن لازمه الاتفاق فی المورد الأوّل علی القیمة قبل الغصب.

و هذا التوجیه و إن کان یؤید عدم دلالة الروایة علی کون المدار هی القیمة یوم المخالفة لأن لازمه الاتفاق فی المورد الأوّل علی القیمة قبل الغصب الذی لا تکون العین بید الغاصب و تحت استیلائه و هذا فی غایة البعد بخلاف ما لو کان مدلول الروایة هی القیمة یوم الدفع فان الاتفاق علی القیمة قبل یوم الدفع کیوم الأخذ و الغصب أمر عادی لا بعد فیه أصلاً الّا انه فی نفسه مستبعد و ابعد منه حمل الحلف هنا علی الحلف المتعارف الذی یرضی به المحلوف له و یصدقه فیه من دون محاکمة و التعبیر بردّه الیمین علی الغصب من جهة ان المالک أعرف بقیمة بغله فکان الحلف حقّا له

ص:142

ابتداء و لکن ذلک لا یقدح فی أصل دلالة الروایة علی تعیین القیمة و إن الملاک قیمة أیّ یوم.

ثمّ انه بناء علی ما قلنا من عدم ظهور الروایة فی شیء من فقرأتها فی خلاف ما تدل علیه القاعدة المستفادة من علی الید ما أخذت من کون المدار هی قیمة یوم الدفع لا بدّ من حملها علیها لعدم التعارض بینهما بعد فرض ظهور القاعدة و عدم ظهور الروایة فی خلافها. و أمّا ان قلنا بظهور الروایة فی کون المناط هی القیمة یوم الغصب کما علیه بعض الأعاظم قده فالظاهر لزوم الأخذ بالروایة لعدم بلوغ ظهور القاعدة مرتبة ظهور الرّوایة خصوصاً بعد الاختلاف فیه و إنکار بعض ظهور القاعدة فی لزوم دفع قیمة یوم الدفع کما نقلناه عنه فالإنصاف أنه علی هذا التقدیر لا محیص عن الالتزام بقیمة یوم الغصب.

ثمّ انه بقی فی بحث القاعدة أمور ینبغی التنبیه علیها:

الأمر الأوّل- ما لو تعذر أو تعسّر رد العین من دون ان یعرض لها التلف

کما لو سرق أو غرق أو ضاع أو أبق و انه هل یجب بمقتضاها إعطاء بدل الحیلولة للمالک أم لا؟ و اللازم قبل البحث فی هذا الأمر من التنبیه علی أمرین:

أحدهما ان محطّ البحث فی لزوم إعطاء بدل الحیلولة و عدمه هو مجرد القاعدة المستندة إلی قوله (صلی الله علیه و آله) علی الید ما أخذت حتی تؤدّی و أمّا الأدلة الأخری التی یمکن استفادة الحکم بالضمان منها فهو خارج عن محلّ البحث هنا مثل ما ورد فی باب الأمانات المضمونة مما یدلّ علی تحقق الضمان بالأمور المذکورة کالسرقة و مثلها و مثل قاعدة الضرر و فوت سلطنة

ص:143

المالک و أشباههما فان الجمیع خارج عن محلّ البحث هنا و إن کان یجب البحث عنها فی مسألة بدل الحیلولة بعنوان عام.

ثانیهما ان التعذر و التعسّر و عدم إمکان الردّ له مراتب مختلفة فإنه تارة یکون فی مدة قصیرة یعلم بإمکان ردّ العین بعد انقضائها و أخری یکون فی مدة طویلة مقرونة بالیأس من الوصول إلیها کما إذا وقعت العین فی قعر البحر مثلاً و ثالثة فی تلک المدة مع رجاء الوصول الیه و وجدانه.

أمّا الصورة الأولی فالظاهر انه لا مجال لدعوی الانتقال الی بدل الحیلولة فی تلک المدة القصیرة مستنداً الی علی الید لوضوح انه لا دلالة له علی لزوم أداء المثل أو القیمة فی هذه الصورة و بعبارة اخری لا یکون أداء المثل أو القیمة فی هذا الفرض من مراتب أداء العین الذی هو غایة للحکم بالضمان.

و أمّا الصورة الثانیة فهی ملحقة بالتلف عند العرف و العقلاء حیث انّهم لا یفرقون بینها و بین التلف بوجه و علیه فاداء المثل أو القیمة لیس لأجل الحیلولة بل لأجل حصول التلف العرفی فالعمدة فی البحث هی الصورة الثالثة فنقول:

ربما یقال بان مقتضی القاعدة لزوم ردّ المثل أو القیمة فی هذه الصورة نظراً الی ان مقتضاها کون العین المأخوذة بدون اذن المالک و الشارع ثابتة و مستقرة فی عالم الاعتبار التشریعی علی عهدة المالک بجمیع خصوصیاتها الشخصیة و صفاتها النوعیة و مالیّتها کما ان الأمر کذلک عند العقلاء فیجب تکلیفاً و وضعاً ردّ الجهات الثلاث مع الإمکان و عند تلف العین یجب ردّ الجهتین الأخیرتین و أمّا مع التعذر أو التعسّر علی ما هو المفروض فی المقام

ص:144

فحیث یسقط التکلیف بردّ العین للتعذر أو التعسّر فیدور الأمر بین ان یسقط عن ردّ جمیع الجهات الثلاث أو یبقی بالنسبة إلی الجهتین الباقیتین ان کان مثلیّا و الجهة الواحدة الباقیة ان کان قیمیّاً و لا وجه للأوّل لأنّه بلا دلیل بل الدلیل علی عدمه و هو قوله (صلی الله علیه و آله) علی الید. . لدلالته علی استقرار الجهات الثلاث فی العهدة و بارتفاع الاولی لا ترتفع الأخریان فیجب علیه إعطاء المثل ان کان مثلیّا و القیمة ان کان قیمیّاً.

و لکن بملاحظة ما عرفت فی معنی علی الید و مفاده من کونه عبارة عن مجرد الحکم الوضعی الشرعی مغیّا بتحقق الأداء تعرف انه لا دلالة له علی الحکم التکلیفی بوجه بل مرجعه الی ان الأداء رافع للضمان و غایة له و أمّا انه واجب فهو مستفاد من دلیل آخر فاللازم حینئذ ملاحظة أنّ الأداء المجعول غایة للحکم بثبوت ضمان العین المأخوذة و استقرارها علی عهدة المستولی و ذی الید هل یکون من مراتبه أداء المثل أو القیمة فی المقام کما فی صورة التلف الحقیقی أو العرفی أو انّه لا یکون من مراتبه لثبوت الفرق بین المقام و بین صورة التّلف فالغایة لا تتحقق إلّا بأداء نفس العین بعد رفع التعذر و التعسّر.

لا یبعد ان یقال بالثانی لأن کلّما فرض ان یکون أداءً و من مراتبه فلا بد من فرض کونه غایة و رافعاً للضمان المستفاد من علی الید و بعبارة اخری بعد کون الأداء فی الحدیث متصفاً بأنه غایة رافعة للضمان فکلّما فرض من مراتبه لا بد و إن یکون متّصفاً بهذا الوصف فلا مجال لدعوی تحقق الأداء فی مورد مع فرض عدم ارتفاع الضمان بسببه و علیه فالانتقال الی المثل أو القیمة فی المقام ان کان متصفا بهذه الصّفة فلازمه الالتزام

ص:145

بارتفاع ضمان العین بسببه مع انه لا مجال للالتزام به و إن لم یکن متّصفاً بهذه الصفة فهو خارج عن الحدیث و شموله و علیه فلا دلالة للحدیث علی الانتقال المزبور بوجه.

الأمر الثانی- لا شبهة فی تحقق الضمان بمقتضی القاعدة فیما إذا کانت الید التی علیها ما أخذت واحدة

لا تعدّد فیها، و أمّا لو تعاقبت الأیدی العادیة أو غیر المأذونة علی مال الغیر فهل یستفاد من دلیل القاعدة تعدّد الضمان بحیث کان للمالک الرجوع الی أیّة واحدة منها شاء أم لا؟ ربما یقال: نعم لان مفاد الحدیث الشریف جعل الضمان لکل ید عادیة بطور القضیة الحقیقیّة فکما انه یشمل وقوع الأیدی المتعددة علی الأموال المتعددة کذلک یشمل الأیدی المتعدّدة ان وقعت علی مال و حاد لان المناط فی تعدّد الضمان تعدّد الید إذ هو موضوع الحکم بالضمان علی نحو القضیة الحقیقیّة فتنحلّ الی قضایا متعددة حسب تعدّد افراد موضوعها الذی هی الید کما هو الشأن فی جمیع القضایا الحقیقیة و لا دخل فی تعدّد ما تقع علیه فی الحکم بالضمان و من آثار ذلک ای تعدّد الضمان جواز رجوع المالک الی کل واحدة منها.

و نحن نضیف الیه ان تقیید المضمون بکونه مأخوذاً للید لا ینافی تعدّد الضمان بوجه نظراً الی انّ الضامن الثانی لم یأخذ العین المضمونة من مالکها بل من الضامن الأوّل و ربما لا یکون الأخذ من الضامن الأول بصورة القهر و الغلبة بل باذنه و رضاه.

وجه عدم المنافاة ما أشرنا إلیه من کون الأخذ فی الحدیث الشریف کنایة عن عدم الاذن و کون الاستیلاء علی العین غیر مرضیّ للمالک و فی

ص:146

هذه الجهة لا فرق بین الضامن الأول و الثانی و هکذا أصلاً لأنه کما ان ید الأوّل ید غیر مأذونة و غیر مرضیة کذلک ید الثانی و الثالث و هکذا فلا فرق بین الأیدی من هذه الجهة و علیه فمقتضی الحدیث الشریف تعدّد الضمان و إن کانت العین المضمونة واحدة کما إذا کانت الید واحدة و العین المأخوذة فإنه یکون ضامناً بالإضافة إلی الجمیع لتعدّد ما علیه الید.

نعم فی مسألة تعدّد الضمان بالإضافة الی مال واحد اشکال من جهة مقام الثبوت مع قطع النظر عن مقام الإثبات و هو ان المال الواحد کیف یمکن ان یکون مضموناً بضمانات متعددة فی عرض واحد لانه کما ان وجود شخص مال واحد فی الخارج بتمامه عند شخص و کذلک بتمامه عند شخص آخر فی نفس ذلک الزمان مستحیل و إلا یلزم ان یکون الواحد اثنین کذلک وجوده فی عهدة اثنین فی عالم الاعتبار بحیث یتحقق بالأداء تفریغ ما فی الذمة و یرتفع به الضمان کذلک لانه لا یمکن ان یکون للشیء الواحد اداءین فی عرض واحد و حیث انه غیر ممکن فلو کان فی عهدة شخصین و فرضنا ان أحدهما أدّاه فلا یرتفع الضمان عن عهدة الأخر إلی یوم القیامة لأن أدائه ثانیاً غیر ممکن.

و بعد ثبوت الاشکال من جهة مقام الثبوت فلا بد من التصرف فیما یدل علیه فی مقام الإثبات أمّا بالحکم علی الاشتراک فی ضمان واحد بمعنی ان مثل ذلک المال أو قیمته فی عهدة الشخصین بالشرکة فیجب علیهما أداء المثل أو القیمة بهذا النحو ای بنحو الشرکة و أمّا بالحمل علی الطولیة و المراد بها کون اللّاحق ضاماً لما یؤدّی السابق فالمالک له الرّجوع الی ایّ واحد من العادین و إذا رجع الی بعضهم فان کان هو اللاحق فلیس له

ص:147

الرجوع الی السابق لانّ السابق لیس ضامناً للاحق و إن کان هو السابق فله الرجوع الی اللاحق لانه ضامن لما یؤدّیه السابق کما هو المفروض.

هذا و قد أجاب عن أصل للإشکال المحقق الخراسانی صاحب الکفایة فی محکیّ حاشیته علی المکاسب للشیخ الأعظم الأنصاری قدّس سرّهما بأنه یمکن بنحو الواجب الکفائی بأن یکون کل واحد من الشخصین مکلّفاً بالأداء فی ظرف عدم أداء الأخر فلیس تکلیف باداءین حتی یکون ممتنعاً بل امتثال مثل هذا التکلیف لا یقتضی إلّا أداء واحداً و المقام ایضاً کذلک فیکون علی کل واحد منهما وجوب تدارک المال التالف و أدائه فی ظرف عدم تدارک الأخر و أدائه.

و یمکن الإیراد علیه بأنه ان کان مراده ثبوت حکم تکلیفی متعلّق بالأداء و تدارک المال التالف بالنسبة إلی شخصین کثبوته فی الواجبات الکفائیة فیرد علیه مضافاً الی انه لیس المفروض خصوص صورة التلف بل صورة بقاء العین ایضاً و لا معنی للتدارک مع فرض البقاء انّ الکلام فی مفاد حدیث علی الید و قد عرفت ان مدلوله مجرد الحکم الوضعی و إن العین المأخوذة ثابتة علی عهدة ذی الید و ذمة المستولی حتی یتحقق الأداء الرافع فهو لا یدل الّا علی حکم وضعی مغیّا و لا دلالة له علی الحکم التکلیفی بوجه.

و إن کان مراده تنظیر المقام بالحکم التکلیفی الثابت فی الواجبات الکفائیّة فیرد علیه وضوح بطلانه لان تقیید الوجوب هناک بما إذا لم تتحقق الموافقة و الامتثال من الأخر و إن کان ممکناً الّا انه لا معنی لتقیید الضمان المدلول علیه بالحدیث بمثل ذلک فالإشکال لا ینحلّ بذلک.

ص:148

ثمّ ان حمل الحدیث علی الاشتراک مع انه مخالف لظاهره جدّاً خلاف ما استقرّ علیه الفتاوی من ثبوت تمام المال علی من تلف فی یده و انه إذا رجع الی السابق فهو یرجع بالجمیع الی اللّاحق فلا مجال لهذا الحمل أصلاً.

و أما الحمل علی الطولیة فغایة توضیحه ان یقال ان الید الاولی ضامنة لنفس المالک ابتداءً بنفس المال المغصوب بمعنی ان نفس المال بوجه الاعتباری فی عهدة ذیها و أمّا الید الثانیة فهی ضامنة للعین المضمونة بما هی مضمونة و بعبارة اخری المال الذی صار مغصوباً و وقع تحت الید یکون فی ذمّة الغاصب بما له من الصفات و الخصوصیات تکوینیة أم اعتباریّة و لکن ما یقع تحت الید الاولی لیس الا نفس العین بصفاتها التکوینیة فقط لعدم ثبوت صفة اعتباریة لها فی هذا الحال و أمّا الید الثانیة فتقع العین تحتها بما هی مضمونة التی هی صفة اعتباریة ففی الید الثانیة تزید هذه الصّفة فکما انه لو کان للعین صفة خارجیّة تضمن الید الواقعة علیها تلک الصّفة الخارجیة کذلک تضمن الصفة الاعتباریة لها لو کانت لها ففی الغصب الثانی تکون ذات العین مع صفة کونها فی ذمة الغاصب الأوّل فی ذمة الغاصب الثانی و هکذا الحال لو وقع المال تحت ید ألف غاصب فضمان کلّ لاحق فی طول ضمان سابقه لان ضمان السابق بمنزلة الموضوع لضمان اللاحق فلا یمکن ان یکونا فی عرض واحد بل لا یمکن ان یکونا فی زمان واحد لان ضمان اللاحق متأخر عن السابق حتی زماناً و هو الذی اختاره المحقق النائینی علی ما فی تقریراته حیث قال ان ذمة اللاحق مشغولة بما یجب خروجه عن ذمة السّابق ای ذمّته مخرج لما یضمنه الأوّل من الثانی لاشتغال ذمّته للمالک بما له بدل أی عهدة فی ذمة الأوّل فإذا رجع المالک الیه فهو لا یرجع الی

ص:149

السابق لعدم کونه مغروراً منه بالفرض و أمّا لو رجع المالک الی السّابق فهو یرجع الی الثانی لأنه ضمن شیئاً له بدل فی ذمة السّابق و البدل یجب ان یخرج من الثانی، قال: و هذا هو المراد من البدل فی کلام المصنف یعنی الشیخ الأعظم الأنصاری الی ان قال و لیس المراد بالبدل بدل أصل المال نظیر المنافع حتی یقال ان الثانی و إن ضمن ما له بدل الّا ان الأوّل کذلک ایضاً.

و التحقیق ان یقال انّ مسألة تعدّد الضمان بالإضافة الی مال واحد بنحو الاستقلال ان لوحظت بالنّسبة إلی أثره الذی هو جواز رجوع المالک الی ایّ واحد من السابق و اللّاحق و یکون مخیّراً فی ذلک من الابتداء فتصویرها بمکان من الإمکان لأنه مانع فی عالم الاعتبار من اعتبار ثبوت المال علی عهدة شخصین و الحکم بضمان الیدین و قیاسه بالوجود الخارجی الذی لا یعقل فیه التعدّد مع فرض الوحدة ممنوع بل هو أشبه بالوجود الذهنی من جهة انّ زیداً الموجود فی الخارج الذی یستحیل عروض التعدد له بلحاظ هذا الوجود یمکن إیجاده فی الذهن مرّة بعد اخری و کذلک لا مانع من اعتبار العین الشخصیة الخارجیة المتصفة بالوحدة لا محالة فی ذمة شخصین و علی عهدة یدین و نحن لا نری وجهاً للاستحالة فی عالم الاعتبار بوجه.

و دعوی عدم إمکان تحقق الغایة و هو الأداء من کلیهما فاذا فرض أداء واحد منهما یکون الضمان باقیاً بالإضافة إلی الأخر لاستحالة تحقق الغایة منه مدفوعة بأن الغایة هی طبیعة الأداء لا خصوص أداء ذی الید و لذا لو فرض وصول العین الی المغصوب منه من غیر طریق الغاصب

ص:150

یرتفع ضمان الغصب بذلک فالغایة هی الطبیعة و هی فی الصورة المفروضة فی الدعوی متحققة فاداء أحدهما کما هو رافع لضمانه رافع لضمان الأخر أیضاً و هذا فی غایة الوضوح لو فرض کون الغایة مذکورة فی الحدیث بصورة حتّی تؤدّی الظاهر فی انها عبارة عن أداء العین لا أداء ذی الید لها حیث انّها حینئذ بصیغة المبنی للمفعول و النائب للفاعل هو العین نعم لو کان المذکور فیه بصورة حتی تؤدّیه بصیغة المبنی للفاعل و الفاعل هو الید لا یکون فیه هذا الوضوح و بالجملة لا مجال للإشکال من جهة أصل تعدد الضمان لا من جهة المغیی و لا من جهة الغایة أصلاً هذا کلّه بالإضافة إلی جواز رجوع المالک الی ایّ واحد منهما شاء و منه ینقدح انه مع الرجوع الی واحد منهما و استیفاء حقه منه لا مجال له للرجوع إلی الأخر لارتفاع الضمان رأساً بتحقق غایته فلا یجوز له الرجوع الی الأخر أصلاً.

و أمّا جواز رجوع السابق الی اللاحق إذا رجع المالک الی السابق و استوفی حقه منه و المفروض عدم تحقق التلف فی یده و عدم کونه غارّاً بالنسبة إلی اللّاحق فقد عرفت توجیهه من طریق الطولیة الراجعة إلی کون الثانی ضامناً للعین بوصف کونها مضمونة التی هی صفة اعتباریة و معنی ضمان الضمان کون اللّاحق ضامناً للخسارة و البدل الذی یعطیه السّابق و یدفعه الی المالک و قد اختاره سیّدنا الأستاذ الامام الخمینی إدام الله ظلّه الشریف فی کتابه فی البیع حیث قال ان وصف کونه مضموناً أمر قابل لوقوع الید علیه کسائر الأوصاف تبعاً للعین و صحّ فیه العهدة و کونه علی الأخذ و عهدة وصف المضمون علی الضامن الثانی للضامن الأوّل ترجع عرفاً الی ضمان الخسارة الواقعة علیه من قبل ضمانه و لیس معنی ذلک ان

ص:151

المضمون له هو المالک بل المضمون له هو الضامن لما ضمنه للمالک. ثمّ قال و بالجملة إطلاق علی الید یقتضی شمولها لکل ما یصدق فیه انه علیه بوجه و المضمون له غیر مذکور و محوّل الی فهم العرف و العقلاء و فی المقام یکون الضامن مضموناً له بالنسبة إلی ضمانه و لا یوجب ذلک الضمان رفع ضمان الضامن الأول و نقله الی الضامن الثانی لأن موضوع ضمان الثانی هو ضمان الأول و لا یعقل رفع الموضوع بالحکم و لیس الضمان بالنسبة إلی المالک حتی یقال معناه النقل أو الأداء عند عدم أداء الأول بل لازم ضمان الثانی للأوّل لیس الّا جبر خسارته و غایة هذا الضمان إرجاع المال المضمون الی الضامن الأوّل فإنه أداء للوصف المأخوذ. قال و لعلّ کلام الشیخ الأعظم یرجع الی ذلک و إن کان بعیداً من ظاهره، انتهی موضع الحاجة.

و یرد علی الطولیة أوّلاً ان محذور تعدّد الضمان لمال واحد عرضاً کما هو المفروض فی أصل الإشکال یأتی فی الطولیة أیضاً لأنّ زمان الضمان الثانی و إن کان متأخراً عن زمان الضمان الأوّل الّا انه یجتمع فی الزمان الثانی ضماناً لا محالة و دعوی تغایر المتعلقین لان ضمان الید الاولی متعلق بنفس العین و ضمان الثانیة متعلق بضمان العین فی ذمة الید الاولی و هکذا مدفوعة بأنه ان أرید بالتغایر مجرد کون العین مضمونة فی الید الأولی خالیة عن الصفة الاعتباریة و هی المضمونیة و فی الید الثانیة مشتملة علیها فلا محالة قد اجتمع فی العین ضمانان و إن کان المضمون فی الثانی واجداً لخصوصیة زائدة ایضاً و إن أرید بالتغایر اختلاف المضمونین بالمرة کما هو ظاهر تعبیر الدعوی فیردّه مضافاً الی منعه ان مقتضاه عدم جواز رجوع المالک الی اللاحق أصلاً کما لا یخفی.

ص:152

و ثانیاً منع کون صفة المضمونیة صفة اعتباریة داخلة فی دائرة الضمان بحیث کان مرجع ضمانها الی لزوم أداء المثل أو القیمة إلی الاولی مع رجوعه إلی الثانیة فإنّها لیست من الصّفات الرّاجعة إلی العین و بعبارة اخری الضمان انّما هو حکم ثابت علی العهدة و إضافته الی العین انّما هو لمجرد افتقاره الی المضمون و أمّا کون المضمونیة صفة داخلة فی دائرة الضمان کسائر الصفات الدخیلة فیها لکونها مرهونة مثلاً ممنوع و الشاهد ملاحظة العقلاء حیث انهم لا یفرقون بین الغاصب الأوّل و الغاصب الثانی فیما یرجع الی غصب العین أصلاً و لا یرون اختلافاً بینهما من جهة ما هو المضمون و الثابت علی العهدة بوجه فکما ان المضمون فی الغصب الأوّل انّما هی نفس العین بسائر صفاتها فکذلک المضمون فی الغصب الثانی و لا فرق بین المضمونین.

و ثالثاً انه لو سلّمنا کون المضمونیّة داخلة فی دائرة ضمان العین فهل المراد منه کون الغاصب الثانی ضامناً لشخصین أحدهما المالک و ثانیهما الغاصب الأوّل أو المراد منه کونه ضامناً للمالک فقط غایة الأمر کون المضمون هی العین مع صفة المضمونیّة فعلی الأوّل یکون لازمه جواز رجوع الغاصب الأول الی الثانی و إن لم یرجع المالک الیه بعد أو بالکلیّة لکون الثانی ضامناً له علی ما هو المفروض و علی الثانی لا یبقی مجال لجواز رجوع الأول الی الثانی أصلاً و التفکیک بین الموصوف و الصفة فی الضمان قد عرفت ان لازمه عدم جواز رجوع المالک الی الغاصب الثانی مع انّه مخالف لقاعدة علی الید الحاکمة بتعدد الضمان بنحو القضیة الحقیقیة کما لا یخفی و العجب تصریحه دام ظله بأن أداء العین الی الغاصب الأوّل یوجب رفع

ص:153

الضمان بالکلیة من الغاصب الثانی کما لا یخفی.

و هنا وجوه آخر لهذه الجهة التی هی من مشکلات مسائل الفقه لانه لا یعرف لها وجه مع کون کل واحد من السابق و اللاحق عادیا غیر مغرور کما هو المفروض:

منها ما افاده صاحب الجواهر قدّس سرّه فی کتاب الغصب مما لفظه: ان ذمّة من تلف بیده مشغولة للمالک بالبدل و إن جاز له إلزام غیره باعتبار الغصب بأداء ما اشتغل ذمّته به فیملک حینئذ من أدّی بأدائه ما للمالک فی ذمّته بالمعاوضة الشرعیة القهریّة قال و بذلک اتّضح الفرق بین من تلف المال فی یده و بین غیره الّذی خطابه بالأداء شرعی لا ذمّی إذ لا دلیل علی شغل ذمم متعددة بمال واحد فحینئذ یرجع علیه و لا یرجع هو.

و أورد علیه الشیخ الأعظم الأنصاری قده بقوله: و أنت خبیر بأنه لا وجه للفرق بین خطاب من تلف بیده و خطاب غیره بان خطابه ذمّی و خطاب غیره شرعی مع کون دلالة علی الید ما أخذت بالنسبة إلیهما علی السّواء و المفروض انه لا خطاب بالنسبة إلیهما غیره، مع انّه لا یکاد یفهم الفرق بین ما ذکره من الخطاب بالأداء و الخطاب الذّمی، مع انه لا یکاد یعرف خلاف من أحد فی کون کلّ من ذوی الأیدی مشغول الذمّة بالمال فعلاً ما لم یسقط بأداء أحدهم أو إبراء المالک نظیر الاشتغال بغیره من الدیون فی إجباره علی الدفع أو الدفع عنه من ماله و تقدیمه علی الوصایا و الضرب فیه مع الغرماء و مصالحة المالک عنه مع آخر الی غیر ذلک من أحکام ما فی الذّمة، مع ان تملک غیر من تلف المال بیده لما فی ذمّة من

ص:154

تلف المال بیده بمجرّد دفع البدل لا یعلم له بسبب اختیاری و لا قهریّ بل المتجه علی ما ذکرنا سقوط حق المالک عمن تلف المال بیده بمجرد أداء غیره لعدم تحقق موضوع التدارک بعد تحقق التدارک مع ان اللازم مما ذکره ان لا یرجع الغارم فیمن لحقه فی الأیدی العادیة إلّا بمن تلف فی یده مع ان الظاهر خلافه فإنه یجوز له ان یرجع الی کل واحد ممّن بعده نعم لو کان غیر من تلف بیده فهو یرجع الی أحد لواحقه الی ان یستقرّ علی من تلف فی یده.

و منها ما افاده الشیخ الأعظم المتقدم فی ذیل مباحث الفضولی ممّا لفظه: «ان الوجه فی رجوعه هو ان السّابق اشتغلت ذمته له بالبدل قبل اللّاحق فاذا حصل المال فی ید اللّاحق فقد ضمن شیئاً له بدل فهذا الضمان یرجع الی ضمان واحد من البدل و المبدل علی سبیل البدل إذ لا یعقل ضمان المبدل معیّناً من دون البدل و إلا خرج بدله عن کونه بدلاً فما یدفعه الثانی فإنما هو تدارک لما استقرّ تدارکه فی ذمة الأوّل بخلاف ما یدفعه الأوّل فإنه تدارک نفس العین معیّناً إذ لم یحدث له تدارک آخر بعد فإن أدّاه إلی المالک سقط تدارک الأوّل له و لا یجوز دفعه الی الأوّل قبل دفع الأول إلی المالک لانه من باب الغرامة و التدارک فلا اشتغال للذمّة قبل حصول التدارک و لیس من قبیل العوض لما فی ذمة الأوّل فحال الأوّل مع الثانی کحال الضامن مع المضمون عنه فی انه لا یستحق الدفع الیه الّا بعد الأداء و الحاصل ان من تلف المال فی یده ضامن لأحد الشخصین علی البدل من المالک و من سبقه فی الید فیشتغل ذمّته امّا بتدارک العین و أمّا بتدارک ما تدارکها و هذا اشتغال شخص واحد بشیئین لشخصین علی البدل کما کان

ص:155

فی الأیدی المتعاقبة اشتغال ذمة أشخاص علی البدل لشیء واحد لشخص واحد» .

و استشکل علیه السیّد الطباطبائی فی حاشیة المکاسب:

أوّلاً: بان کون العین حین ضمان اللاحق لها متصفة بکونها ذات بدل لا یوجب ضمانه للبدل أیضاً فإن سبب الضمان لم یتحقق بالنسبة إلی البدل الذی هو فی ذمة السابق إذ لم یثبت البدل فی ید اللاحق کما ثبت نفس العین و دعوی کونه من توابع العین کما تری إذ لیس هذا من شئون العین کالمنافع و النماءات حتی یکتفی بقبض نفس العین فی قبضه.

و ثانیاً: بانا لو سلّمنا ذلک کان مقتضاه ضمان البدل ایضاً لمالک العین لا للسّابق فان البدل الذی فی ذمّة السابق ملک لمالک العین فمقتضی الضمان هو ان یکون بدل البدل ایضاً للمالک و لا وجه لکونه لمن علیه البدل.

و ثالثاً: بأنه لو فرض ان العین بعد ما صارت فی ید اللّاحق رجعت الی السابق ثانیاً و تلفت فی یده کان مقتضی ما ذکره هو جواز رجوع السابق الی اللاحق مع ان العین قد تلفت فی یده و ذلک لانه یصدق فی اللاحق انه ضمن شیئاً له بدل فکان مقتضی ما ذکره هو ضمانه امّا بنفس العین أو للسابق ببدلها مع ان المسلم خلاف ذلک فان تلف العین قد کان بید السابق فکیف یحوز له الرجوع الی اللاحق الی آخر ما ذکره من الإیرادات السّبعة و لکن عمة ما یرد علی الشیخ قده بملاحظة ما ذکرنا فی معنی علی الید انّ ما علی الید و علی عهدتها هی نفس العین فی جمیع الحالات و بالإضافة الی جمیع الأیادی المتعاقبة من دون فرق بین حال البقاء و بین حال التلف و کذا بین الید السابقة و الید اللاحقة و الانتقال الی البدل انّما هو

ص:156

فی مرحلة الأداء الذی له مراتب فالثابت علی الید بمقتضی حدیثه هی نفس العین مطلقا و علیه فالتفکیک بین ضمان السابق و بین ضمان اللاحق لا وجه له مع ان نسبة الحدیث إلیهما علی السّواء کما اعترف به فی الإیراد علی صاحب الجواهر قده.

و إن کان نظره قده الی الطولیة التی عرفتها فقد مرّ الجواب عنها ایضاً فراجع.

و منها ما افاده المحقق الخراسانی قده فی حاشیته علی المکاسب مما لفظه: «و أما حدیث جواز رجوع الید السّابقة إلی اللّاحقة لو رجع إلیها المالک المستلزم لکون قرار ضمان التالف علی من تلف عنده مع المساواة فیما هو سبب الضمان فهو ایضاً من آثار حدوث سبب ضمان ما کان فی ضمان الآخر لواحد آخر و أحکامه عند العرف و یؤیّده الاعتبار و لم یردع عنه فی الاخبار فلا بد من الالتزام به شرعاً کما هو الحال فی جلّ أحکام الضّمان حیث انه لا وجه له الاّ الثبوت عرفاً و عدم الردع عنه شرعاً و کشف ذلک عن إمضاء الشارع فیما إذا أطلق دلیل الضمان فتدبّر جیّداً» .

و عبارته و إن کانت ظاهرة فی الطولیة الّا ان هذه الطولیة المتقدمة التی منعناها فان هذه الطولیة مرجعها الی السبق و اللحوق فقط لا الی کون المضمونیّة للأول داخلة فی دائرة ضمان الثانی کما لا یخفی.

و منها ما افاده سیدنا العلامة الأستاذ البروجردی قده فی مباحث کتاب الغصب علی ما قرّره بعض الأعاظم من تلامذته فإنه بعد ان ذکر ان مفاد علی الید الضمان و التعهّد الذی یعبّر عنه بالفارسیّة ب «عهده داری» و لیس مفاده اشتغال الذمة بشیء فإن الضمان اعتبار من اعتبارات العقلاء

ص:157

یعتبرونه للعین حتی فی حال وجودها قال: «یمکن ان یکون الوجه فی المسألة أی مسألة جواز رجوع السابق الی اللّاحق ان السابق و إن حکم علیه بالضمان من جهة صدور الغصب منه و لکن کان متمکّناً حین وجود العین من الخروج عن العهدة بأداء العین الی مالکه من دون ان یصیر متضرّراً بسبب ذلک و بعد ان أخذها منه الید اللّاحقة لزمه المثل أو القیمة فصارت هی الباعثة لتضرره فیستحق بذلک الرجوع علیها و بعبارة اخری العین المغصوبة و إن لم تکن ملکاً للید السّابقة و لکنها کانت بحیث یستحقّ ان یستخلص من الضمان بسبب أدائها فکأنّ العین کانت متعلقة لحق السابق و حدیث علی الید کما یدل علی ضمان العین کذلک یدل علی ضمانها لمن کان هذه متعلقة لحقّه نظیر العین المرهونة إذا غصبها غاصب فإنه یضمن للراهن نفس العین و للمرتهن متعلق حقّه و بالجملة فلو کانت العقلاء یحکمون باستحقاق السابق للرجوع الی اللاحق فلعله کانت من جهة انهم یرون للسابق حقّا متعلقاً بالعین و هو عبارة عن استحقاقه لان یخرج نفسه من الضمان بسبب هذه العین من دون ان یرد علیه ضرر و الضرر المتوجه علیه من المثل أو القیمة انما هو من جهة غصب اللّاحق فیرجع علیه ذلک قال: و لعلّ مراد الشیخ قده من عبارته المتقدمة» .

و یرد علیه أوّلاً عدم جریانه فی جمیع فروض المسألة لانّ من جملتها ما إذا کان وقوع العین فی ید اللاحق بإذن من السّابق مع الاعلام بکونه غصباً مأخوذاً عدواناً و علی سبیل غیر مشروع فإنه لا یکون الضرر المتوجه علیه فی هذه الصّورة الّا من قبل نفسه لان وقوعه فی ید اللاحق کان بإذن منه.

ص:158

و ثانیاً عدم کون الغصب موجباً لتعلّق حق الغاصب بالعین المغصوبة و کون أدائها الواجب موجباً لسقوط ضمانه لا یستلزم تعلّق حقّ بها أصلاً و النظیر بالعین المرهونة إذا غصبها غاصب فی غیر محلّه.

و منها ما افاده بعض الاعلام علی ما فی تقریراته فی البیع من ان الغاصب الأوّل یملک بأدائه التالف المعدوم کملک المعدوم فی باب الخیارات فکما ان فی موارد الإتلاف إذا غصب مثلاً أحد مال الغیر فأتلفه لا شبهة ان للمالک ان یرجع الی المتلف إذا أراد و یأخذ منه بدل ماله و ما بقی من ماله من الرضاض و الکسور فهو للضامن و لیس للمالک ان یدعی کون الرضاض له و لا یلزم الجمع بین العوض و المعوض کما انه لو کان للأجنبی فهو خلاف البداهة فیکون للضامن فکذلک فی المقام یکون التالف للغاصب الأوّل بالمعاوضة القهریة و نتیجتها جواز الرجوع ببدله الی من تلف فی یده نعم قد یکون اعتبار الملکیة لغواً کما إذا کان الغاصب واحداً فتلف عنده المال فأخذ المالک منه فاعتبار ملکیة التالف هنا لغواً و لیس التلف بمجرده مانعاً عن اعتبار الملکیة فی المقام لما عرفت نظیره فی باب الخیارات و بالجملة رجوع السابق الی اللّاحق انما هو مقتضی السّیرة العقلائیة القطعیّة کما هو واضح.

و أنت خبیر بأنه ان کان مراده الاتکاء علی نفس السیرة العقلائیة فهو یرجع الی کلام المحقق الخراسانی قده من کون رجوع السابق الی اللاحق من الآثار العقلائیة للضمان و الأحکام العرفیة الثابتة له و إن کان مراده توجیه السّیرة و بیان الوجه لها کما هو ظاهر صدر العبارة فیمکن المناقشة فی ذلک بعدم کون اعتبار المعدوم ملکاً مما یساعده العقلاء مطلقا

ص:159

و المراد بملک المعدوم فی باب الخیار ان کان هو ان التلف فی زمن الخیار ممن لا خیار له فلا مجال له لما قد اشتهر فی وجهه من انه تنفسخ المعاملة آناً ما قبل التلف و تدخل العین فی ملک من لا خیار له ثمّ یقع التلف فی ملکه لوجود الدلیل علیه و إن کان المراد هو التلف فی ید من لیس له الخیار کما إذا کان تلف المبیع فی ید المشتری فی زمن خیار البائع فإنّه بعد ما فسخ البائع ینتقل المبیع التالف الی ملکه بمقتضی الفسخ فیرجع الی بدله من المثل أو القیمة لتعذّر ردّ عینه فالأمر و إن کان کذلک من جهة الرجوع الی البدل الّا انه لم یعلم کون وجهه اعتبار التالف ملکاً للبائع الفاسخ بل من أحکام الفسخ عند العقلاء و الشارع انه إذا کان الفسخ مع بقاء العین تنتقل العین الی الفاسخ و إذا کان مع تلفه ینتقل بدله الیه فتدبّر جیّداً.

و منها ما اختاره المحقق العراقی قده فی رسالة عثرت علیها بعد نقل الوجوه المتقدمة و هی رسالة فی تعاقب الأیادی و قد ألّفها فی أواخر عمره الشریف و هی مطبوعة فی ذیل شرحه لکتاب القضاء لشیخه أستاذ الکل المحقق الخراسانی قده و ملخّصه ان الظاهر من العامّ ان ما علی الید عین ما أخذت لا إضافته بالجملة و لا قصور فی اعتبار تعدّد وجود ما أخذت حسب تعدّد الأیدی بملاحظة تعدّد الابدال القائمة علیها و بملاحظة ان وجود البدل نحو وجود للمبدل و هذه الجهة هی مصحّح العنایتین فی وجودات العین علی حسب تعدّد الأیدی و علیه فمرجع علی الید فی الید الاولی ان کون ما هو تحت یده و استیلائه بأخذه علی یده فکأنه قال ان ما هو تحت یده علی یده و لازمه اعتبار وجود آخر لما تحت یده بجعله فوقها و لازمه اعتبار عنایة فی اعتبار العین فوق الید و علیها و حینئذ یبقی الکلام فی ان

ص:160

محلّ اعمال العنایة تارة نفس وجود العین و یقال ان الوجود بالعنایة علی الید حقیقة بمعنی إبقاء مدلول علی و الاستعلاء علی حقیقته بلا تصرف فیه و اخری محلّ اعمال العنایة هو مدلول علی و إن الوجود الحقیقی للعین الذی هو تحت الید کان علی الید بلا تصرّف فی وجود العین ابداً و یترتب علی کل واحد من العنایتین نتائج متعددة منها انه علی العنایة الأولی کان الوجود الاعتباری للعین قبل أداء الضامن إیاه ملک الضامن حقیقة إذ هو حینئذ عین بدله الذی هو قبل أدائه ملک الضامن غایة الأمر عنایة کونه عین ما أخذت موجب لاستحقاق مطالبة المالک إیاه و هذا بخلاف العنایة الثانیة إذ وجود العین بالحقیقة فی أیّ مکان کان هو ملک المالک فرجوع المالک الی الضامن من جهة سلطنته علی أخذ ماله غایة الأمر حیث لا یتمکن الضامن لا یجب علیه الّا بدله و حینئذ فما علی الید لیس ملک الضامن و إن ما هو ملکه هو البدل المسقط للعین و من تبعات هذه الجهة من الفرق بین العنایتین تتولد نتیجة اخری و هی ان بمقتضی العنایة الأولی یصدق ان الید اللّاحقة واردة علی وجودی العین اللذین هما فی الید و علی الید ففی الحقیقة استیلاء الثانی علی العین استیلاء علی وجود العین بجمیع أنحائه و شئونه فکأنّ الید الثانیة بمنزلة کأس آخر قائم علی الکأس الأوّل الحاوی للعین بشئونها و لازمه إحداث ما أخذت عیناً اعتباریاً علی ید الثانی للمالک و عیناً اعتباریة أخری علی الید الثانیة للضامن و بهذه الملاحظة یقال ان الید الثانیة أیضاً مشغولة بمال الضامن غایة الأمر لیس للضامن السابق مطالبة اللاحق إلا فی ظرف أدائه ما علیه من البدل لأن أدائه موجب لتلف ماله فله الرجوع الی اللاحقة حینئذ انتهی.

ص:161

و أنت خبیر بان کلامه هذا تقریب آخر للطولیة و هی مخالفة لظاهر علی الید ما أخذت الذی نسبته إلی الأیادی علی حدّ سواء کما عرفت و أحسن الوجوه المتقدمة ما أشار إلیه المحقق الخراسانی قده من کون ذلک ای رجوع السابق الی اللاحق بعد الأداء من الأحکام العقلائیة فی موارد ثبوت الضمان و لم یردع عن الشارع و اللازم حمل الإطلاق علیه و هذا المقدار یکفی فی الحکم بالجواز و البحث عن وجهه لیس بلازم کما لا یخفی.

الأمر الثالث- لو کانت العین المغصوبة متعلقة لحقّ الغیر

کما إذا کانت مرهونة عند المرتهن و صارت مغصوبة فی هذا الحال فهل مقتضی حدیث علی الید الضمان فی مقابل المالک الرّاهن فقط نظراً الی کونه مالکاً للعین أو ان مقتضاه الضمان فی مقابل المرتهن ایضاً لکون العین متعلقة لحقّه و لا بد و إن تکون عنده وثیقة للدین الذی له علی عهدة الرّاهن؟ الظاهر هو الوجه الثانی لأنه کما یصدق الأخذ بالإضافة الی ما للمالک من العین کذلک یصدق بالنسبة الی ما للمرتهن من الحقّ فإنه بالغصب قد تحققت الحیلولة بین المرتهن و بین وثیقة دینه و قطعت یده عن العین المرهونة و لا مجال لدعوی عدم صدق الأخذ بالإضافة إلی الحقّ بعد کون أخذه بأخذ ما هو متعلّق له کما لا یخفی و منه یظهر أن الأداء الرافع للضمان فی مثله هو الأداء الی من تعلّق حقّه به لا الأداء الی المالک لأن الأداء الی المالک رافع لضمانه بالإضافة إلیه فقط و یبقی ضمانه فی مقابل المرتهن و هذا بخلاف الأداء الی المرتهن فإنه رافع لکلا الضمانین و مسقط لکلتا العهدتین و لم یؤخذ فی الحدیث خصوص الأداء الی المالک مسقطاً و رافعاً للضمان بل المأخوذ مطلق الأداء و ظاهره إرجاع العین الی ما کانت علیه قبل الأخذ و الاستیلاء فان

ص:162

کانت عند المالک أو وکیله فاللازم الأداء الیه أو الی وکیله و إن کانت عند من تعلّق حقه بها فاللازم الإرجاع إلی مستحقّها کما لا یخفی.

و مثل الرهن فی تعلق الحقّ ما لو کانت العین المغصوبة موقوفة بناء علی القول بکون العین الموقوفة باقیة فی ملک الواقف غایة الأمر صیرورتها متعلقة لحقّ الموقوف علیهم امّا إذا قلنا بدخولها فی ملک الموقوف علیهم فهم حینئذ مالکون و الردّ إلیهم ردّ الی المالک، کما انه لو قلنا بخروجها عن ملک المالک و صیرورتها علی رءوس الموقوف علیهم أو الجهة الموقوف علیها بحیث تدرّ منافعها علیهم من دون دخول أصلها فی ملکهم کما اختاره سیدنا العلامة الأستاذ البروجردی قده مؤیّداً له بتعدّی الفعل ب «علی» فیقال وقف علیه فکان المال الموقوف سحاب جعلها المالک علی رءوس الموقوف علیهم حتی تمطر لهم فالظاهر انه ایضاً مثل الحقّ فیجب الردّ إلیهم عیناً أو بدلاً و قد مر البحث فی هذه الجهة فراجع.

الأمر الرابع- هل حدیث علی الید یشمل الید المرکبة

کما یشمل الید المنفردة أم لا؟ و المراد بالید المرکبة أن تکون فی البین یدان لا یستولی أحد منهما علی جزء من المال بالمرّة بل یکون منهما مرتبطاً بالآخر بمعنی ان کلّا منهما لو لم یکن، لم یکن للآخر استیلاء بالمرة لا علی الجزء و لا علی الکلّ فیکون استیلاء کل منهما بانضمام الأخر و یکون المجموع المرکب مستولیاً علی المجموع المرکب و ربما یشکل فی الشمول نظراً الی ان ید کلّ منهما عارضی خال عن الاستقلال و انّما المستقل هو المجموع المرکب فلا یصدق علی أحدهما الاستیلاء و إثبات الید فلا وجه للضمان هذا و لکن الظاهر الشمول لان الملاک فی الضمان هو الاستیلاء هو متحقق هنا غایة الأمر ان المستولی

ص:163

هو المجموع فالضمان علی المجموع و مرجعه الی ضمان کل واحد منهما النصف لانه لازم ثبوت الضمان علی اثنین و عدم ثبوت ترجیح فی البین فکل واحد منهما ضامن لنصف العین کما هو ظاهر.

الأمر الخامس- کما یجری الحدیث فی الید غیر المنضمة فهل یشمل الید المنضمّة أم لا؟

و المراد بالید المنضمّة هی الید المجتمعة مع المالک بحیث یکون المجموع المرکب من المالک و الغاصب مستولیاً علی العین و المالک لو ارتفع لم یکن للغاصب التسلط کما انه لو ارتفع الغاصب لم یکن للمالک تسلط فیکون المرکب منهما مسلّطاً علی المجموع و ربما یشکل الحکم بالضمان هنا و إن قیل بثبوته فی الفرض المتقدم فی الأمر الرابع لانه لا معنی لضمان المجموع المرکب بعد کون المالک جزء من هذا المجموع و بعضاً له و لا معنی لضمان المالک و بعبارة اخری لو کان مفاد الحدیث الحکم بضمان کل واحد منهما مستقلاًّ فالمفروض ان کل واحد منهما لا یکون مستولیاً علی المال و إنما المستولی هو المجموع و لو کان مفاده الحکم بضمان المجموع فلا مجال للحکم بضمانه بعد کون بعضه هو المالک.

و لکن التحقیق شمول الحدیث لهذا الفرض ایضاً بتقریب ان مقتضاه هو الحکم بضمان المجموع المرکب غایة الأمر ان لازمه التبعض علی أجزاء المرکب و التبعض علی أجزاء المال فاذا لم یکن بعض الاجزاء قابلاً لان یکون ضامناً فذلک لا یمنع عن ثبوت الضمان بالنسبة إلی الأخر القابل لان یکون ضامناً و لیس المانع الابتدائی إلّا کالمسقط بحسب الاستدامة فلو فرض ان المالک ابرأ احدی الیدین فی الید المرکبة فکما لا یوجب ذلک برأیه الید الأخری أیضاً بل یبقی ضمانها بحالها فکذلک المقام فان عدم صحة

ص:164

انطباق المجموع علی المالک لا یوجب عدم صحة انطباقه علی الغاصب ایضاً فالحق شمول الحدیث للید المنضمة کشموله للید المرکّبة.

الأمر السادس- الظاهر عدم اختصاص الحدیث بما إذا کان الموصول عیناً معیناً

بل یشمل ما إذ کان مشاعاً فمن تسلط علی النصف دار بالإشاعة کما إذا أخرج أحد الشریکین فی الدار شریکه الأخر منها و استقل بالتصرف فی الدار فإنه مع کونه مستولیاً علی النصف المشاع لفرض تحقق الشرکة یصدق الحدیث بالإضافة إلیه و یحکم بضمانه بمقتضاه و دعوی ان الاستیلاء لا یتحقّق الّا علی الشیء المعین ممنوعة بل هو أمر عرفی متحقق فی المشاع کالمعیّن و لا ینافیه قوله حتی تؤدّی ضرورة إمکان تحقق الأداء فی مثل المشاع برفع المنع عن تصرف الشریک کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی قاعدة ضمان الید.

ص:165

ص:166

قاعدة الإلزام

اشارة

و هی ایضاً من القواعد المشهورة، بل المجمع علیها، و المراد بها: إلزام المخالفین بما یعتقدونه و یدینون به، ممّا یکون مخالفاً لمذهب أهل البیت علیهم السلام کإلزامهم بأحکام الشفعة و المیراث و الطلاق و غیرها، مما ینفردون به عنا، و فیها جهات من الکلام:

الجهة الاولی- فی مدرک القاعدة و سندها،

و الظاهر بعد عدم کون الإجماع علی تقدیره متصفاً بالأصالة، لاحتمال الاستناد الی الروایات أو سائر الأدلة انحصار الدلیل بالروایات الواردة عن العترة الطّاهرة صلوات الله علیهم أجمعین-:

کروایة علی بن أبی حمزة (1)انه سأل أبا الحسن علیه السلام عن المطلقة علی غیر السّنة أ یتزوّجها الرجل؟ فقال: ألزموهم من ذلک

ص:167


1- 1) الوسائل 15:321 ب 30 من أبواب مقدماته و شرائطه ح 5.

ما ألزموه أنفسهم، و تزوجوهن فلا بأس بذلک. و فی موضع من الاستبصار (1)عن نسخة: ألزموهم ما الزموا به أنفسهم.

و مکاتبة إبراهیم بن محمّد الهمدانی (2)قال: کتبت الی ابی جعفر الثانی علیه السلام مع بعض أصحابنا، فأتانی الجواب بخطّه: فهمت ما ذکرت من أمر ابنتک و زوجها أصلح اللّه لک من أمرک ما تحبّ صلاحه، فامّا ما ذکرت من حنثه بطلاقها غیر مرّة، فانظر فان کان ممّن یتولانا و یقول بقولنا، فلا طلاق علیه؛ لانه لم یأت أمراً جهله، و إن کان ممن لا یتولانا و لا یقول بقولنا، فاختلعها منه؛ فإنه إنما نوی الفراق بعینه.

و روایة عبد اللّه بن سنان (3)قال سألته عن رجل طلق امرأته لغیر عدّة، ثمّ أمسک عنها حتی انقضت عدّتها، هل یصلح لی ان أتزوجها؟ قال: نعم لا تترک المرأة بغیر زوج.

و روایة عبد الأعلی عن ابی عبد اللّه علیه السلام (4)قال: سألته عن الرّجل یطلق امرأته ثلاثاً، قال: ان کان مستخفّاً بالطلاق ألزمته ذلک.

و روایة جعفر بن محمّد بن عبد اللّه العلوی عن أبیه (5)قال: سألت أبا الحسن الرّضا علیه السلام عن تزویج المطلقات ثلاثاً، فقال لی: انّ طلاقکم (الثلاث) لا یحل لغیرکم، و طلاقهم یحلّ لکم؛ لأنکم لا ترون

ص:168


1- 1) الاستبصار 3:292 ح.
2- 2) الوسائل 15:320 ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق ح 1.
3- 3) الوسائل 15:320 ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق ح 4.
4- 4) الوسائل 15:321 ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق ح 7.
5- 5) الوسائل 15:321 ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق ح 9.

الثلاث شیئاً، و هم یوجبونها.

و روایة عبد اللّه بن طاوس (1)قال: قلت لأبی الحسن الرّضا علیه السلام-: انّ لی ابن أخ زوّجته ابنتی و هو یشرب الشراب و یکثر ذکر الطلاق، فقال: ان کان من إخوانک فلا شیء علیه، و إن کان من هؤلاء، فأبنها منه؛ فإنه عنی الفراق، قال: قلت: أ لیس قد روی عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) انه قال: إیّاکم و المطلقات ثلاثاً فی مجلس؛ فإنهنّ ذوات الأزواج؟ فقال: ذلک من إخوانکم لا من هؤلاء، انه من دان بدین قوم لزمته أحکامهم.

و روایة عبد الرحمن البصری (2)عن ابی عبد اللّه علیه السلام قال: قلت له: امرأة طلقت علی غیر السّنة، فقال: یتزوج هذه المرأة، لا تترک بغیر زوج.

و روایة الهیثم بن ابی مسروق عن بعض أصحابه قال (3): ذکر عند الرّضا علیه السلام بعض العلویّین ممّن کان ینتقصه، فقال: اما انه مقیم علی حرام، قلت: جعلت فداک و کیف و هی امرأته؟ قال؛ لانه قد طلّقها، قلت: کیف طلّقها؟ قال: طلّقها و ذلک دینه فحرمت علیه (4).

و روایة محمد بن مسلم عن ابی جعفر علیه السلام قال (5): سألته

ص:169


1- 1) الوسائل 15:322 ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق ح 11.
2- 2) الوسائل 15:320 ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق ح 3.
3- 3) الوسائل 15:320 ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق ح 2.
4- 4) الوسائل أبواب مقدمات الطلاق، الباب الثلاثون، حدیث 2.
5- 5) التهذیب 9:322 ج 9. الوسائل 17:484 ب 4 من أبواب میراث الأخوة ح 3.

عن الاحکام، قال: یجوز علی أهل کل ذی دین ما یستحلّون (1).

و روایة عبد اللّه بن محرز (2)قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام-: رجل ترک ابنته و أخته لأبیه و أمّه فقال (علیه السلام) : المال کلّه لابنته و لیس للأخت من الأب و الأمّ شیء، فقلت: انّا قد احتجنا الی ذلک و الرجل المیت من هؤلاء الناس، و أخته مؤمنة عارفة، قال: فخذ لها النصف (خذوا منهم ما یأخذون منکم فی سنتهم و أحکامهم، قال ابن أذینة: فذکرت ذلک لزرارة، فقال: ان علی ما جاء به ابن محرز لنوراً) .

و روایة محمد بن إسماعیل بن بزیع (3)قال: سألت الرّضا علیه السلام عن میّت ترک امّه و اخوه و أخوات، فقسّم هؤلاء میراثه، فأعطوا الأمّ السدس، و أعطوا الاخوة و الأخوات ما بقی، فمات الأخوات، فأصابنی من میراثه، فأحببت أن أسألک: هل یجوز لی أخذ ما أصابنی من میراثها علی هذه القسمة أم لا؟ فقال: بلی، فقلت: ان أمّ المیت فیما بلغنی قد دخلت فی هذا الأمر، أعنی: الدین، فسکت قلیلاً، ثمّ قال: خذه.

و غیر ذلک من الروایات الواردة فی هذا المجال، و لا یبقی للفقیه بملاحظة ما ورد فی المسألة منها ریب، و لا شک فی صدور هذه القاعدة منهم علیهم السلام فالإشکال من جهة المدرک و المستند لا سبیل إلیه أصلاً.

ص:170


1- 1) التهذیب الطبعة الحدیثة، جزء 9، صفحة 322.
2- 2) التهذیب 9:322 ح 9.
3- 3) الوسائل 17:485 ب 4 من أبواب میراث الأخوة ح 6. التهذیب 9:323 ح 17.

الجهة الثانیة- فی شرح مفاد القاعدة،

فنقول: امّا ما ورد فیه من الروایات التعبیر بقوله (علیه السلام) ألزموهم من ذلک ما ألزموه أنفسهم، فمعناه بحسب الظاهر: ان کل ما یری المخالفون أنفسهم ملزمین به من جهة أحکامهم الدینیة، و یعتقدون بثبوت ذلک علیهم، فالزموهم بذلک، و إن لم یکن ذلک ثابتاً فی الأحکام الدینیة بحسب اعتقادکم، مثل ما ورد فی کثیر من الروایات المتقدمة من الطلاق ثلاثاً فی مجلس واحد؛ فإنهم حیث یرون ذلک موجباً لتحقق الفراق بین الزوجین، فیعامل معهم بمقتضی ذلک، و علیه فلا مانع للشیعی الذی یری خلاف ذلک، و إن الطلاق ثلاثاً فی مجلس واحد باطل و لا یوجب تحقق الفراق، ان یتزوج بالمطلقة کذلک؛ لأنهم التزموا بحصول البینونة و تحقق الفراق، فیلزمون بذلک و یتزوج بالمرأة الکذائیة، و علیه ففی کل مورد یلتزم المخالف بمقتضی مذهبه بورود ضرر علیه، سواء کان ذلک الضرر مالیّاً، کما إذا اعتقد بکون أمر سبباً للضمان و لم یکن کذلک عندنا، أو ذهاب حق منه، أو وقوع طلاق، أو عتق عبد، أو شرکة غیره فی میراثه، أو مثل ذلک من الأمور التی یرون أنفسهم ملزمین بها و مجبورین علیها، فللموافق إلزامه فیها و إن کان ذلک مخالفاً لاعتقاده، و علیه فمقتضی عموم الموصول فی قوله (علیه السلام) : ألزموهم ما ألزموه أنفسهم، جریان هذا الحکم فی جمیع موارد الإلزام و کثیرة منها الحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما یملک، فإنهم یرونه سبباً لوقوع هذه الأمور من الطلاق و أخویه، مع انه لا یکون الأمر کذلک عندنا معاشر الإمامیة، فإذا تحقق الحلف بذلک، فلا مانع من التزویج بالمطلقة الکذائیة، و التعامل مع العبد معاملة الحرّ و هکذا.

ص:171

و أمّا ما ورد فیه التعبیر بقوله (علیه السلام) یجوز علی أهل کل ذی دین ما یستحلّون، فالظاهر بعد کون المراد بالجواز هو النفوذ و المضیّ، و کون کلمة «علی» ظاهرة فی الضّرر، ان أصحاب کل دین، ای: المتدینین به الملتزمین بأحکامه، ینفذ علیهم و بضررهم ما یستحلون، مثلاً إذا کانوا یستحلون أکل العصبة نصف المال من ترکة المیت، فینفذ هذا الحکم علیهم، فاذا کانت العصبة من أهل الولایة، یجوز لهم ان یأخذوا منهم نصف ترکة المیت، کما قد وقع التصریح به فی روایة ابن محرز المتقدّمة، و قد ورد فیها تعلیل الحکم بقوله (علیه السلام) : خذوا منهم ما یأخذون منکم، و ظاهره انّه یتعامل معهم المعاملة بالمثل، فاذا کان المیت عارفاً و الورثة غیر عارفین، یأخذون للعصبة نصیبه و یحکمون بثبوت الإرث له، ففی عکس هذه الصورة یؤخذ للعصبة العارف نصیبه و یحکم بثبوت الإرث له، و إن لم یکن ذلک موافقاً لمعتقده، و فی بعض اخبار الطلاق تعلیل الحکم بأنه لا تترک المرأة بلا زوج، و فیه إشارة إلی انه لو لا هذه القاعدة یلزم ان تترک المرأة بلا زوج، لفرض بطلان الطلاق عندنا.

ثمّ ان الظاهر ان المخاطب فی قوله (علیه السلام) : ألزموهم، و کذا فی قوله (علیه السلام) : خذوا، فی الروایات المتقدمة، هم الطائفة المحقة الاثنی عشریة القائلون بإمامة الأئمة المعصومین (علیه السلام) بأجمعهم، کما ان الظاهر ان مرجع ضمیر الجمع فی قوله (علیه السلام) : ما ألزموه أنفسهم، و کذا فی قوله (علیه السلام) : ما یأخذون، هم المسلمون من سائر الطوائف غیر الإمامیّة الاثنی عشریّة، و لا یشمل أرباب سائر الأدیان و الملل.

و علیه فلو فرض اختلاف سائر الطوائف غیر الإسلامیّة فی حکم

ص:172

إلزامی، فهذا خارج عن دائرة القاعدة، کما انه لو طلق ذمّی زوجته بطلاق صحیح عنده، و لکنه لا یکون صحیحاً عندنا، فلا تشمله القاعدة.

نعم یمکن التمسک للشمول بما ورد فی روایة محمد بن مسلم المتقدّمة من قوله (علیه السلام) : یجوز علی أهل کل دین ما یستحلّون، أو بالتعلیل المشار الیه آنفاً و هو قوله (علیه السلام) : لا تترک المرأة بلا زوج؛ لجریان هذه العلة فی الکافر المطلق أیضاً، أو بما ورد فی روایة ابن طاوس المتقدمة من قوله (علیه السلام) : من دان بدین قوم لزمته أحکامهم.

الّا ان یقال: ان المراد بالدین فی روایة محمد بن مسلم لیس هو المذهب، بل المراد به أصل الدین کالإسلام، و علیه فالرّوایة لا تکون من روایات قاعدة الإلزام المعروفة، و لکن یبعده استعمال الدین فی روایة ابن طاوس مع کون موردها المخالف لا غیر المسلم و علیه فهاتان الروایتان مفادهما العموم، و أمّا التعلیل فیمکن المناقشة فیه، بعد ملاحظة ان انتفاء القاعدة و الحکم بعدم جواز التزویج بالمطلقة الکذائیة فی مذهبنا، لا یستلزم ان تترک المرأة بلا زوج لجواز ان تتزوج بالمخالف، خصوصاً مع کثرتهم و قلة الطائفة المحقّة، فإنّها حینئذ تتزوج من القائل بصحة هذا الطلاق، و علیه فلا تکون هذه الجملة بمنزلة التعلیل، بل تکون حکمة للحکم، و الحکمة لا یدور مدارها الحکم إثباتاً و نفیاً.

و لکن عرفت عموم الرّوایتین و شمولهما بالنسبة الی غیر المسلم، و کذا المخالف بالنسبة إلی المالک، و علیه فلا مانع من أخذ الثمن من الکافر و لو کان المیت غیر قابل للبیع فی الإسلام؛ لالتزامهم بالملکیة و صحة المعاملة و انتقال الثمن إلی البائع، فیتحقق حینئذ طریق إلی صحة المعاملات الواقعة بین

ص:173

الحکومة الإسلامیة و الکافرة فی الأشیاء التی لا سبیل الی التعامل بها فی الشریعة، و تکون باطلة فیها، کما لا یخفی.

الجهة الثالثة- لا شبهة فی ان مفاد قاعدة الإلزام، التی مدرکها الروایات المتقدمة، هو جواز الأخذ ممّن دان بدین بمقتضی ما التزم به فی دینه،

فیجوز مثلاً التزویج بالمطلقة ثلاثا، و إن کان هذا الطلاق باطلاً عندنا، لکن البحث فی ان ما تدل علیه هذه الروایات هل هو الحکم الواقعی، غایة الأمر کونه ثانویّاً أو ان مفادها الإباحة الصّرفة، و الفرق انه علی الأوّل یکون فی مثال الطلاق اعتقاد الزوج المخالف بصحة طلاقه و کونه موجباً لتحقق الفراق، موجباً لجعل الصّحة واقعاً، و یکون هذا العنوان عنواناً ثانویّاً موجباً لانقلاب الحکم الواقعی فی حقه، نظیر الانقلاب فی موارد الاضطرار، فإنه لو اضطرّ المکلف الی شرب الخمر یکون الاضطرار موجباً لحلیته واقعاً، و أمّا علی الثانی فالواقع لا یتبدل بسبب اعتقاد المخالف بالصّحة، بل الطلاق فاسد بالنسبة إلیه أیضاً، و تکون المطلقة باقیة علی الزّوجیة بعد، غایة الأمر ان الشارع أباح لنا التزویج بتلک المرأة التی طلقت کذلک.

أقول: ینبغی أوّلاً ملاحظة ان المراد بالإباحة هل هی الإباحة الظاهریة کما هو ظاهر مقابلتها للحکم الواقعی، أو ان المراد بها الإباحة الواقعیة؟ الظاهر انه لا محیص عن الحکم بکون هذه الإباحة علی تقدیرها إِباحة واقعیة؛ ضرورة ان التزویج بتلک المرأة التی وقع علیها ذلک الطلاق حلال واقعاً لا ظاهراً کما فی قوله (1)(علیه السلام) : کل شیء لک حلال حتی تعرف

ص:174


1- 1) المحاسن:459.

انه حرام بعینه فتدعه.

و ثانیاً: ان الإباحة ممّا لا أساس له؛ لان مرجعها إلی إِباحة تزویج المزوجة؛ لأن المفروض بطلان طلاقها و کونها فی حبالة الزوج المطلّق بعد، و هذا لا مجال لإسناده الی متشرّع عادیّ فضلاً عن الامام المعصوم (علیه السلام) ، فالإباحة ممّا لا معنی له و إن کان ظاهر العبارة المحکیة عن المرحوم الشیخ حسن آل کاشف الغطاء فی کتابه (أنوار الفقاهة) ذلک إِذ قال: «فظهر مما ذکرنا ان طلاق المخالفین یمضی علیهم و إن کان فاسداً عندنا، و هذا الحکم عام لکلّ صور الطلاق علی غیر السّنة، سواء تعلّق بمؤمنة أو بمخالفة؛ فإنه یحکم بوقوعه علی وفق مذهبه بالنسبة إلینا، و إن کان فاسداً فی الواقع، و کذا بالنسبة إلیهم، و لا منافاة بین البطلان و بین اجراء حکم الصحة بالنسبة إلینا لطفاً منه، فهی و إن کانت زوجة لهم و لکنها حلال لنا و حرام علیهم، أو یقال: هو صحیح من وجه و فاسد من وجه آخر» و قد نسب ذلک الی صاحب الجواهر أیضاً إِذ قال بعد نقل جملة من الروایات الواردة فی المقام: «و غیر ذلک من النصوص الدالة علی التوسعة لنا فی أمرهم و أمر غیرهم من أهل الأدیان» ؛ نظراً الی ان التعبیر بالتوسعة ظاهر فی الإباحة، مع انه ممنوع؛ لان هذا التعبیر ناظر إلی علة التشریع، و الغرض انّ هذا الحکم منّة من الشارع و توسعة من قبله، و کیف کان فالإباحة الراجعة إلی بقاء المطلقة بعد التزویج بها علی الزوجیة السّابقة لفرض کون طلاقها باطلاً غایة الأمر کونها مباحة مع کونها ذات بعل شرعاً لا ینبغی توهّمه بوجه، و اللازم توجیه العبارة المتقدمة بما سیأتی و إن کان ظاهرها ما تقدّم.

ص:175

و بعد وضوح فساد الإباحة الکذائیة، و وضوح عدم کون المرأة فی حال التزویج بالموافق الشیعی باقیة علی الزوجیة السّابقة، و أن الفراق قد تحقق لا محالة، یقع الکلام فی ان فراقها من زوجها هل تحقق عقیب طلاقها، أو ان فراقها من زوجها تحقّق بالتزویج بها من الموافق، بحیث کان العقد الثانی مشتملاً علی جهتین سلبیة و إیجابیة، السلبیة بلحاظ حصول الفراق بالنسبة إلی الزوج الأوّل المخالف، و الإیجابیة بلحاظ حصول الزوجیة بالنسبة إلی الزوج الثانی الموافق.

ربما یقال: إِنّ ما تفیده الروایات هو الحکم الواقعی الثانوی الذی مرجعه إلی صحة الطلاق و حصول الفراق عقیبه؛ ففی مکاتبة الهمدانی نری الامام الجواد (1)أبا جعفر الثانی یقول: و إن کان ممن لا یتولانا و لا یقول بقولنا فاختلعها منه، فإنّه إنما نوی الفراق، و فی روایة (2)عبد اللّه بن طاوس یقول الامام الرضا (علیه السلام) مثل ذلک، و فی روایة (3)ابن الهیثم قال (علیه السلام) : اما انه مقیم علی حرام، و هکذا الحال فی روایة عبد الرحمن البصری (4)یقول الإمام أبو عبد اللّه (علیه السلام) : هذه المرأة لا تترک بغیر زوج، فان التعبیر بالاختلاع لم یرد لفظ الأمانة لا یناسب بقاء تلک المرأة علی زوجیّتها و إن الطّلاق غیر واقع، و کل ما فی البین هو إباحة التزوج بها، و هکذا قوله (5)(علیه السلام) : فإنه إنما نوی، الفراق الظاهر فی ان حصول الفراق مستند الی نیّته و قصده، و کذا قوله: لا تترک بغیر زوج؛ فان مفاده ان عدم جواز التزوج بها مستلزم لان تترک بلا زوج، و هذا لا یلائم البقاء علی

ص:176


1- 1) راجع الوسائل 15: ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق.
2- 2) راجع الوسائل 15: ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق.
3- 3) راجع الوسائل 15: ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق.
4- 4) راجع الوسائل 15: ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق.راجع الوسائل 15: ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق.
5- 5) راجع الوسائل 15: ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق.

الزوجیة الأولی بوجه، و أصرح من الجمیع قوله (1)(علیه السلام) : اما انه مقیم علی حرام؛ فإنّه مع فرض عدم حصول البینونة و الفراق بمجرد الطلاق، کیف یکون مقیماً علی حرام؟ و حمل الحرمة علی حرمة التجری الصادر منه باعتقاد کونها مطلقة، فی غایة البعد، و یؤید ما ذکر دعوی ابن إدریس (2)الإجماع علیه حیث قال: «قد روی أصحابنا روایات متظاهرة بینهم متناصرة و اجمعوا علیها قولاً و عملاً انّه ان کان المطلق مخالفاً و کان ممن یعتقد لزوم الثلاث لزمه ذلک، و وقعت الفرقة، و إنما لا تقع إذا کان الرجل معتقداً للحق» .

کما انه ربما یقال بالثانی، کما ذکره المحقق البجنوردی (3)(قده) إِذ قال: «ان أمرهم (علیهم السلام) بتزویجهم أو أخذ المال فی مورد التعصیب أو المعاملات الفاسدة و الضمانات غیر الصحیحة مع ان لهم الولایة العامّة، یدل علی انهم (علیه السلام) جعلوا نفس العقد علیهن طلاقاً لهن و تزویجاً للزوج الثانی، قال: و بناء علی ما ذکرنا یکون العقد واقعاً علی امرأة خلیة؛ لأن زمان حصول زوجیتها للثانی، مع زمان عدم زوجیّتها للأول واحد؛ لأنهما معلولان لعلة واحدة و هو العقد الواقع علیها» .

و التعبیر بان لهم الولایة العامة یفید کون ذلک من باب الولایة، مع ان ظاهر الروایات المتقدمة خلافه، و إن ذلک من قبیل سائر الأحکام المبیّنة فی کلامهم (علیه السلام) ، کما ان ظاهرها هو القول الأوّل الذی مرجعه الی حصول الفراق بمجرد الطلاق، و التعبیر بالإلزام یناسب هذا المعنی؛ فان

ص:177


1- 1) راجع الوسائل 15: ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق.
2- 2) السرائر 2:685.
3- 3) القواعد الفقهیة 3:167.

ما ألزموا به أنفسهم حصول البینونة بمجرد الطلاق، لا بعد تحقق العقد علیها ثانیاً، و اللازم إلزامهم بهذا الأمر، کما انّ لازم إلزامهم بذلک أمور آخر، مثل عدم جواز الاستمتاع بها، و عدم جواز إجبارها علی مراعاة أحکام الزوجیة، و غیر ذلک، و بالجملة ملاحظة الروایات تقتضی الحکم بوقوع الطلاق و صحّته بمجرده و حصول البینونة، و لا مانع منه بعد کون دائرته محدودة بحدود المخالف، ففی الحقیقة تکون هذه الروایات حاکمة علی الأدلة الأولیة الحاکمة ببطلان طلاق الثلاث فی مجلس واحد و مفیدة لاختصاص تلک الأدلّة بالطلاق الصادر من الموافق.

و أما ما یقال فی مقام إبطال الحکومة المزبورة، من أنها مخالفة للضرورة فی مذهب الشیعة؛ إِذ ان الفقهاء کلهم متفقون علی بطلان هذا الطلاق، و لم یقل أحد منهم بصحّته و لو بالعنوان الثانوی أی بعنوان انه الطلاق الصادر عن المخالفین، و أیضاً مخالف للاخبار الصریحة فی انه إیّاکم و تزویج المطلقات. ثلاثاً فی مجلس واحد؛ فإنهنّ ذوات أزواج، و لاستنکارهم (علیه السلام) صحة مثل هذا الطلاق، و استدلالهم علی بطلانه بالکتاب العزیز.

فیمکن الجواب عنه بان اتفاق الفقهاء علی البطلان انّما هو بلحاظ الحکم الاولی، کاتفاقهم علی حرمة شرب الخمر مع صیرورته حلالاً فی حال الاضطرار، و الاخبار ناظرة إلی المنع عن تزویجهن فی نفسه؛ لان الحکم الواقعی الاولی هو البطلان، و الصحة انّما تکون ثابتة بالعنوان الثانوی فالنظر الی ما ورد فی روایة (1)محمّد بن عبد اللّه العلوی المتقدمة

ص:178


1- 1) الوسائل 15: ب 30 من أبواب مقدمات الطلاق.

قال: سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن تزویج المطلقات ثلاثاً، فقال: ان طلاقکم الثلاث یحلّ لغیرکم، و طلاقهم یحلّ لغیرهم، فإنها ظاهرة فی التفصیل فی طلاق الثلاث بین الصادر من الموافق و بین الصادر من المخالف بأن، الأوّل لا یکون محلّلاً بخلاف الثانی، و أصرح منه روایتا عبد اللّه بن طاوس و مکاتبة إبراهیم بن محمد الهمدانی المتقدمتان الدالتان علی التفصیل کذلک.

نعم روی فی (دعائم الإسلام) (1)عن جعفر بن محمد (علیهما السلام) ان رجلاً من أصحابه سأله عن رجل من العامّة طلق امرأته لغیر عدّة، و ذکر انه رغب فی تزویجها قال (علیه السلام) : انظر إذا رأیته فقل له: طلقت فلانة؟ إذا علمت أنّها طاهرة فی طهر لم یمسّها فیه، فاذا قال: نعم، فقد صارت تطلیقة، فدعها حتی تنقضی عدّتها من ذلک الوقت، ثمّ تزوجها ان شئت؛ فقد بانت منه بتطلیقة بائنة، و لکن معک رجلان حین تسأله؛ لیکون الطلاق بشاهدین عدلین.

و الظاهر ان المراد من الطلاق لغیر عدة هو طلاق الثلاث، باعتبار عدم جواز الرجوع فی عدّتها، هذا و لکن الالتزام بالروایة یهدم أساس قاعدة الإلزام، و ینافی الروایات المتقدمة الظاهرة فی جواز التزوج بها من دون افتقار الی ما فی الروایة من السؤال عن الزوج و جوابه الخاص و غیرهما، فالإنصاف أنّ التأمل فی المقام یقضی بوقوع الطلاق المذکور صحیحاً، بالنسبة إلی المخالف، هذا مضافاً الی غرابة حصول الزوجیة و البینونة بسبب العقد فی زمان واحد، خصوصاً مع ظهور أدلة شرطیة خلوّ

ص:179


1- 1) المستدرک 15:304 ب 23 من أبواب مقدمات الطلاق ح 1.

المرأة عن الزوج فی صحة العقد علیها فی کونها خالیة عنه حین العقد بحیث یکون العقد واقعاً علی المرأة الخالیة.

و دعوی کون المقام من قبیل وطی ذی الخیار للأمة التی باعها و کان الخیار للبائع فیتحقق الفسخ بنفس الوطی، فیکون الوطی علة لحصول الملکیة، أی رجوع ملکیة الأمة إلی البائع، العلة و المعلول متحدان زماناً، و التقدم و التأخر بینهما رتبی فقط، فیکون الوطء و الملکیة فی زمان واحد.

مدفوعة بأنه بعد قیام الدلیل علی کون الوطی فسخاً؛ لعدم کونه بنفسه کذلک، لا بد من توجیهه بحصول الفسخ آناً ما قبل الوطی، و لازمه تحقق الملکیة قبله، و وقوع الوطی فی ملک، و لا یکفی فی جوازه مجرد الاتّحاد الزمانی، و إلا یلزم جواز وطی الأمة فی حال وقوع عقد البیع علیها، لاتحاد العلة و المعلول زماناً، مع انه لا مجال للالتزام به فتدبّر.

ثمّ انه یتفرع علی القولین و تظهر ثمرتهما فیما لو استبصر المخالف بعد ان طلق زوجته بالطلاق الفاقد لشرائط صحة الطلاق عندنا، و لم یعقد علیها غیره ممّن یجوز له العقد علیها، فعلی قول من یقول بحصول الفراق بالعقد الثانی، للزوج المطلق ان یرجع الی زوجته المطلقة بدون الاحتیاج الی عقد جدید؛ لأنّها زوجته، و لم یتحقق البینونة علی ما هو المفروض، و علی قولنا الذی مرجعه الی حصول الطلاق و تحقق الفراغ بمجرد طلاقه، لا یجوز له ان یرجع إلیها بدون عقد جدید، بل لا بد من التزوج بها بعقد جدید، کما إذا أراد موافق التزوج بها.

نعم یمکن ان یقال: انه بناء علی هذا القول ایضاً یجوز له الرجوع إلیها بعقد جدید نظراً الی ان تنزیل هذا الطلاق الفاسد منزلة الطلاق

ص:180

الصحیح فیما إذا کان المطلّق مخالفاً، ما دام انه معتقد بصحّته، فاذا زال هذا العنوان عنه بواسطة استبصاره، یزول بزواله حکمه أیضاً؛ لأن ظاهر أخذ کل عنوان فی موضوع حکم ان لذلک العنوان دخلاً فی ثبوت الحکم حدوثاً و بقاء لا حدوثاً فقط.

و لکن الظاهر خلافه؛ لان المستفاد من الروایات سیّما بعضها ان الطلاق الصادر ممن لا یتولانا أو ممن کان مستخفّاً بالطلاق طلاق صحیح، و یلزم علیه بذلک، و قد وقع فی بعضها التعلیل بأنه انّما عنی أو نوی الفراق، و من الواضح ظهور التعلیل فی ان نیّة الفراق مع اعتقاد الصحة تکفی فی اتّصافه بالصّحة، و علیه فیکون مجرد صدوره کذلک کافیاً فی إلزامه به، فلا یکون استبصاره بعد ذلک مؤثراً فی دفع ذلک الحکم عنه.

مع انّ هذا النوع من الاحکام کالطلاق و البینونة و العتق لا یقبل التقیید بما دام القید الفلانی موجوداً، بل یکون صدوره موجباً لدوامه، فکما لا یصحّ التعبیر فی مقام العتق بقوله: أنت حرّ ما دمت عادلاً مثلاً، فکذلک لا یصح تقیید صحة الطلاق بما دام باقیاً علی المخالفة و عدم الاستبصار.

مع انّ لازمه التقیید بما إذا لم یترتب علی طلاقه اثر، امّا لو ترتب علیه اثر کما لو تزوجها موافق بعد انقضاء عدتها، فاستبصر الزوج المطلق بعد التزویج بالثانی، فلا مجال لرجوعها الیه، و من البعید تحمیل هذا التقیید علی الروایات بناءً علی ما ذکر، و دعوی انه لا یبقی مورد للرجوع؛ لان العقد بمنزلة الطلاق و یوجب خروجها عن حبالة الزوج مدفوعة بأن الخروج عن ذلک مقیّد علی ما هو المفروض بما دام کونه مخالفاً، فاذا استبصر

ص:181

تکون باقیة علی الزوجیة الأولی.

نعم ربما یستدل علی جواز الرجوع إلیها من غیر عقد جدید بمکاتبة (1)علی بن سوید عن ابی الحسن (علیه السلام) فی حدیث انه کتب إلیه یسأله عن مسائل کثیرة فأجابه بجواب هذه نسخته: (بسم اللّه الرحمن الرحیم الی ان قال: و سألت عن أمّهات أولادهم و عن نکاحهم و عن طلاقهم، فأمّا أمّهات أولادهم فهنّ عواهر الی یوم القیامة نکاح بغیر ولیّ و طلاق فی غیر عدّة، فامّا من دخل فی دعوتنا فقد هدم إیمانه ضلاله و یقینه شکه) ؛ نظراً الی ظهور الهدم فی هدم جمیع الآثار السابقة حتی حرمة الزوجة علی زوجها لو طلقها بما یوافق مذهبهم.

و لکن الظاهر انه لا مجال لاستفادة الإطلاق من مثل الروایة حتی یجوز للزوج المطلق المفروض الرجوع من غیر عقد جدید.

و ربما یقال: إنه یؤیّد عدم الإطلاق فرض ما لو تزوج بمن هی حلال عندهم حرام عندنا، من زنی بذات البعل ثمّ تزوج بها و دخل؛ فإنهم لا یقولون بحرمتها علی الزانی، و علیه فلو تزوجها و تشیع بعد ذلک، فالظاهر حرمتها علیه، و إن قلنا بصحة نکاحه ما دام سنّیاً.

أقول: ان کان المستند فی هذا الحکم ای: الحکم بالتحریم، هو هدم الایمان الضلال و الیقین الشک کما ورد فی المکاتبة، لا روایة خاصة دالّة علی التحریم، فمضافاً الی ان مقتضی ذلک کون التشیع موجباً لرفع الآثار السّابقة (التی منها عدم حرمة الزوجة الکذائیة؛ لأن المفروض حدوث الحرمة بالتشیّع بعد أن لم تکن) لا مؤیّداً لانّ التشیع یکون موجباً لرفع الآثار

ص:182


1- 1) الوسائل 15:312 ب 29 من أبواب مقدمات الطلاق ح 6.

السّابقة، یرد علیه: انه لا فرق بین هذا الحکم و بین الحکم بجواز الرجوع بزوجته بعد التشیع، لعدم الفرق بین الموردین.

هذا و لکن أصل التعبیر بهدم إیمانه ضلاله و یقینه شکه مما لا یلائم قاعدة الإلزام بوجه؛ لابتنائها علی ان اعتقاد المخالف و تدینه بدینه یلزمه بما ألزمه، فالروایة أجنبیة عن المقام.

و قد ظهر مما ذکرنا انه بناء علی القول بحصول الفراق بمجرد الطلاق، لو استبصر الزوج و اراد الرجوع إلیها لا یجوز له ذلک الّا بعقد جدید.

الجهة الرابعة- فی موارد تطبیق القاعدة،

و هی موارد کثیرة لا یسهل احصاؤها، و لکن المناسب الإشارة إلی جملة منها:

منها: مسألة الطلاق علی غیر السنّة التی تقدم البحث عنها فی الجهة الرابعة.

و منها: مسألة التعصیب و هو توریث العصبة ما فضل من السّهام، و المراد من العصبة هم أقرباء المیت الذین یتعصبون له، و هم الأب و الابن و من یتقرب بهما الی المیّت، فلو کانت للمیت بنت واحدة و أخ أو عم، فبناءً علی مذهب الإمامیة القائلین ببطلان التعصیب، یکون جمیع الترکة للبنت، غایة الأمر ثبوت نصفها فرضاً و ثبوت النصف الأخر ردّاً، و الأخ و کذا العمّ لا یرثان مع وجود البنت أصلاً، و کذلک لو کانت للمیت بنتان مثلاً و أخ أو عمّ، فعلی قول الإمامیة یکون جمیع الترکة للبنتین، الثلثان فرضاً و الثلث الباقی ردّاً، و لا یرث الأخ و لا العمّ، بل فی فیها أی العصبة التراب، کما ورد فی الروایة.

و أمّا علی القول بالتعصیب فیعطی النصف الزائد علی فرض البنت

ص:183

للأخ أو العمّ فی المثال الأوّل، و الثلث الزائد علی فرض البنتین للأخ أو العمّ فی المثال الثانی، و هکذا فی سائر موارد الإرث التی فیها التعصیب.

و حینئذ فان کان من هو من العصبة إمامیّاً غیر قائل بالتعصیب، فمقتضی قاعدة الإلزام انه یجوز له الأخذ بعنوان العصبة، و یصیر ملکاً له شرعاً، و قد ورد فی روایة (1)عبد اللّه بن محرز و روایة (2)محمد بن إسماعیل بن بزیع المتقدمتین التصریح بذلک، بل فی الروایة الأولی: خذوا منهم ما یأخذون منکم، و هو بمنزلة التعلیل، و کیف کان فلا شبهة فی هذه المسألة بوجه.

و منها: انه لو تزوج الشیعی بامرأة من المخالفین بدون حضور شاهدین عادلین للعقد، فلو مات هذا الشیعی بعد الدخول بها، یجوز لورثة المیت ان کانوا من الشیعة منعها من الإرث و المهر و کل ما تستحقه بسبب الزوجیة؛ لأنّها کانت معتقدة بطلان هذا العقد؛ لاشتراط صحته عندهم بحضور شاهدین، بخلاف الطلاق، عکس ما یعتقد به الإمامیة فی النکاح و الطلاق، فمقتضی قاعدة الإلزام منعها من جمیع ذلک لبطلان العقد باعتقادها، کما لا یخفی.

و یمکن ان یقال: إِنّ القدر المتیقن من قاعدة الإلزام المستفادة من النصوص المتقدمة، هو ما لو کان المخالف عاملاً علی وفق دینه و مذهبه، بحیث کان عمله صحیحاً حسب اعتقاده، و أمّا لو کان عمله مخالفاً لما یعتقده و یدین به، کما فی التزویج فی المثال، و کما فی الجمع بین العمة و الخالة و بنت

ص:184


1- 1) التّهذیب 9:323 ح 1153.
2- 2) الوسائل 17:485 ب 4 من أبواب میراث الأخوة ح 6.

الأخ أو الأخت، فلا تکون هذه الصورة مشمولة للقاعدة، فإن الظاهر من قوله (1)(علیه السلام) فی روایة عبد اللّه بن طاوس المتقدمة: انه من دان بدین لزمته أحکامه، انه من دان بدین و عمل علی طبق دینه و مذهبه لا علی خلافه و مضادّه، و علیه فلم یعلم شمول القاعدة لهذا الفرض، بل یمکن ان یقال: انه لا یتحقق قصد النکاح و الإنشاء ممّن یری مدخلیّة الأمر المفقود فی صحة النکاح شرعاً؛ فإنه مع الالتفات إلی ضرورة وجود الشاهدین فی النکاح کیف یتمشی منه قصد الإنشاء مع فقدهما و من المعلوم انه مع عدم القصد یکون النکاح باطلاً بحسب اعتقاد الفریقین، فتدبّر جیّداً.

و منها: العدّة علی الیائسة فإنه لا عدة علیها فی مذهبنا بخلافهم؛ إِذ انهم یقولون: إنّها تعتد ثلاثة أشهر من تاریخ طلاقها (کما فی الفقه علی المذاهب الأربعة) (2)، و ربما یقال فی تطبیق القاعدة علی هذا المورد: ان قاعدة الإلزام تلزم من کان من العامّة یری ثبوت العدة علیها، ان لا یعقد فی عدّتها علی الأخت و سائر من یحرم عندهم الجمع بینهما، و کذلک لا یجوز عقده علی الخامسة ما دامت فی العدة، و هکذا بقیة أحکام العدة. مع انه لا یخفی ان هذا الإلزام لا یکون ناشیاً من قاعدة الإلزام الجاریة فی حق الشیعة بالنسبة إلی المخالف؛ فان الملزم له بترتیب أحکام العدة و آثارها هو اعتقاده بلزوم العدّة و ثبوتها فی الیائسة لا قاعدة الإلزام الثابتة لنا بالنسبة إلیهم، بل مقتضاها فی هذا الفرع عدم جواز التزویج لنا بالمرأة المطلقة الیائسة ما دامت لم تخرج من العدة، و جواز مطالبة المطلقة منه بالنفقة

ص:185


1- 1) تقدم فی هی 142.
2- 2) الفقه علی المذاهب الأربعة 4:549.

ما دامت فی العدة علی تقدیر الثبوت فی عدة المطلقة الشیعیة، و مثل ذلک.

و منها: طلاق المکره الذی لا یصح عندنا، و لکنه یصح عند أبی حنیفة (1)و جمع کثیر منهم، فلو کان المطلق ممن یقول بقولهم و صدر عنه الطلاق عن إکراه، فمقتضی قاعدة الإلزام جواز التزویج من المطلقة کذلک کالمطلقة ثلاثاً فی الفرع المتقدم، و هکذا طلاق السکران و طلاق الحائض مع حضور الزوج، و الطلاق فی طهر المواقعة، ففی جمیع ذلک یکون الطلاق فاسداً علی مذهبنا، و یکون صحیحاً عند فقهائهم جمیعاً، أو فی بعض المذاهب، فیجوز إلزامهم بذلک.

و منها: الطلاق المعلّق، فان کان المعلّق علیه مشکوک الحصول، و هو المعبّر عنه بالشرط، فالظاهر اتفاقنا علی البطلان و اتفاقهم علی الصحة مع وجود الشرط، و علیه فلو وقع من المخالف الطلاق المعلق بهذا النحو، یجوز للموافق ترتیب آثار الصحة علیه و التزویج بزوجته المطلقة کذلک.

و إن کان المعلق علیه معلوم الحصول کطلوع الشمس و غروبها، فمنّا من یقول بالصحة، و بعضنا یقول بالبطلان، و إن کان یظهر من الجواهر (2)ان البطلان قول مشهور، بل حکی عن جمع من الکتب الفقهیة الإجماع علیه و جعله الحجّة، فإن کان الشیعی ممّن یقول بالصحة، فإجراء أحکام الصحة لا یرتبط حینئذ بقاعدة الإلزام، و إن کان ممّن یقول بالبطلان فالحکم بالصحة یبتنی علی هذه القاعدة و یصیر من مواردها.

ص:186


1- 1) الفقه علی المذاهب الأربعة 4:248. خلافاً للأئمة الثلاثة فإنَّهم یقولون طلاق المکره لا یقع.
2- 2) الجواهر 32:78.

و منها: الحلف بالطلاق؛ فإنه لا ینعقد الیمین بالطلاق عندنا بخلافهم، قال ابن رشد فی البدایة (1): «و اتفق الجمهور فی الایمان التی لیست أقساماً بشیء، و إنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط، مثل ان یقول القائل: فإن فعلت کذا فعلیّ مشی الی بیت اللّه، أو: ان فعلت کذا و کذا فغلامی حرّ أو امرأتی طالق، انها تلزم فی القرب، و فیما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق و العتق، و اختلفوا هل فیها کفارة أم لا؟» و علیه فلو حلف العامی انه ان فعل کذا و کذا فامرأته طالق، و صادف انه فعل ذلک الشیء، فیجوز للشیعی ترتیب آثار الطلاق و التزویج بالمطلقة الکذائیة.

و منها: خیار الشرط، فالشیعة لا تقیده بوقت، بل یعتبرون ان یکون مدة مضبوطة لا تحتمل الزیادة و النقصان، و المالکیة (2)بعد تقسیمهم مدة خیار الشرط بالنسبة إلی المبیع إلی أربعة أقسام منها بیع العقار قالوا فیه: إنه یمتدّ إلی ستّة و ثلاثین یوماً، و الشافعیة (3)و الحنفیة (4)یشترطون ثلاثة أیام، و الحنابلة (5)یقولون بمثل قولنا، و علیه فربما یقال فی تطبیق القاعدة علی هذا المورد: إن للجعفری إلزام غیره من اتباع هؤلاء غیر الحنابلة بتحدید مدة الشرط و عدم التجاوز عن ذلک.

و أنا أقول لا وجه للإلزام بالتحدید و عدم التجاوز؛ فإنهم تارة یشترطون الخیار فی المدة المحدودة، و أخری یتجاوزون عنها فی مقام

ص:187


1- 1) بدایة المجتهد و نهایة المقتصد 1:300.
2- 2) الفقه علی المذاهب الأربعة 2:178.
3- 3) الفقه علی المذاهب الأربعة 2:179،177.
4- 4) الفقه علی المذاهب الأربعة 2:179،177.
5- 5) الفقه علی المذاهب الأربعة 2:179،177.

الاشتراط، و ثالثة یشترطون أصل الخیار من غیر ذکر المدة، أو مع ذکر المدة من دون قید، أو ذکر مدة مجهولة.

ففی الأوّل لا مجال لجریان قاعدة الإلزام کما هو واضح، و فی الثانی تجری القاعدة و تحکم بالبطلان رأساً، أو الرجوع الی الحدّ، بناء علی جریان قاعدة الإلزام فیما لو عملوا علی خلاف اعتقادهم، علی خلاف ما احتملناه سابقاً من الاختصاص بما إذا کان عملهم مطابقاً لاعتقادهم.

و فی الثالث ان کانوا یحکمون فیه بالبطلان لا وجه لجریان قاعدة الإلزام، لتوافق الفریقین علی ذلک، و إن کانوا یحکمون فیه بالصّحة و الرجوع الی الحدّ، کما یؤیده فتوی بعض الخاصة بذلک فی بعض فروض القسم الثالث، کما یظهر من مراجعة خیارات مکاسب (1)الشیخ الأعظم الأنصاری (قده) ، فمقتضی قاعدة الإلزام تأثیر الفسخ فی المدّة، فیما لو کان الفسخ موافقاً لنظر الطرف الذی هو امامی علی المفروض؛ فان مقتضی قوله (2)(علیه السلام) : من دان بدین لزمته أحکامه، الالتزام بتأثیر الفسخ، و أمّا اقتضاؤه لجواز الفسخ و تأثیره مطلقا فغیر معلوم، بل معلوم العدم؛ لعدم جریان قاعدة الإلزام فی مثل هذه الصّورة، ممّا کان بعض الخاصّة موافقاً لهم، خصوصاً إذا کان ذلک البعض ممّن یشار الیه بالبنان و یعدّ من الأرکان؛ لأن الظاهر ان مجری القاعدة هو ما إذا کان مرامهم و مذهبهم واضحاً عند الإمامیّة و معدوداً من مشخّصاتهم و ممیزاتهم، و أمّا مع ثبوت الاختلاف و کون بعضنا موافقاً لهم، فلا مجال لجریانها کما لا یخفی.

ص:188


1- 1) المکاسب.
2- 2) مرّ فی ص 149.

و منها: إرث الزوجة، فإنهم یحکمون بأنه یکون من جمیع ترکة زوجها، نقوداً أو عروضاً أو أراضی مملوکة أو بساتین أو غیرها، من غیر فرق ظاهراً بین ذات الولد من الزوج و غیر ذات الولد، و أمّا الإمامیة فهم و إن اختلفوا فی ذات الولد، الّا انهم اتفقوا فی غیر ذات الولد علی عدم إرثها من جمیع الترکة، بل لا ترث من الأرض لا عیناً و لا قیمة، و ترث من الأشجار و البناء و النخیل و سائر ما هو ثابت فی الأرض القیمة دون العین.

و علیه فمقتضی قاعدة الإلزام فی هذا المورد، انه إذا کان المیت مخالفاً و الزوجة شیعیة و لم تکن ذات ولد من الزوج الحکم بأنّها ترث من جمیع التّرکة، و لا تکون محرومة من شیء، وارثها من العین دون القیمة.

و منها: طواف النساء، فإنّهم لا یوجبونه فی الحج، و الشیعة قائلون بوجوبه، و إن لم یکن رکناً من أرکان الحج، و فرّعوا علیه ان الإخلال به یوجب عدم حلیّة النساء علیه مطلقا حتی العقد علیها، و حینئذ لو حج سنّی و زوجته شیعیة، أو بالعکس، لا یحلّ لکل واحد الطرف المقابل عندنا، و لکن مقتضی قاعدة الإلزام الجاریة فی حق الشیعة الحلیّة؛ نظراً الی دینه، و إن من دان بدین لزمته أحکامه، و کذا یجوز للموافق التزویج بالحاج المخالف التارک لطواف النساء علی مذهبه؛ لهذه القاعدة، الّا ان یقال بعدم جریانها إلّا فی موارد یکون إلزام المخالف ضرراً علیه، و لا یجری فی غیر موارد الضّرر؛ لان کلمة الإلزام ظاهرة فیه، و فی المقام یکون الإلزام بنفعه دون ضرره.

و علیه فلا بد لحلّ مشکلة حجّ المخالف من التطرق الی غیر قاعدة الإلزام، فنقول

ص:189

یمکن ان یکون الوجه فیه جریان سیرة أصحاب الأئمة (علیه السلام) المختلطین بالعامّة اختلاطاً کثیرا، خصوصاً مع کثرتهم و معاملتهم مع حجاجهم المعاملة مع حجاج الشیعة فی ما یرتبط بمسألة النّساء، و حکمهم ببقاء نسائهم علی الزوجیة بعد الحج، و جواز العقد علی مرأة جدیدة، و لم یظهر من الأئمة (علیه السلام) الردع عن ذلک، مع کون هذه الجهة بمرأی و مسمع منهم، فسکوتهم دلیل علی الرّضا، و نتیجة ذلک إمضاء حجهم، و لو کان فاقداً لطواف النساء، و لا ارتباط له بقاعدة الإلزام أصلاً؛ لما ذکرنا فی وجهه، و حکمهم (علیه السلام) باعتبار طواف النساء فی الحج و مدخلیته فی حلّیة النساء بقاءً و حدوثاً لا یکون ردعاً عن هذه السیرة العملیة، لاحتیاج الردع فی مثلها الی التصریح کما لا یخفی.

و یمکن ان یکون الوجه فیه: انهم حیث یعتبرون فی الحج طواف الوداع، و یقول الأغلب منهم بوجوبه و لزوم الإتیان به، یکون ذلک الطواف بحکم طواف النساء فی التأثیر، و یدلُّ علیه خبر إسحاق (1): لو لا ما منّ الله به علی الناس من طواف الوداع، لرجعوا الی منازلهم و لا ینبغی ان یمسّوا نسائهم. بل عن علی بن بابویه (2)الفتوی به فی الشیعی الناسی لطواف النساء، الآتی بطواف الوداع، و احتمال ان یکون المراد من الروایة ان الاتفاق علی فعل طواف الوداع سبب لتمکّن الشیعة من طواف النساء؛ إذ لولاه لزمته التقیة بترکه غالباً، فی غایة البعد، بل الظاهر ان المراد بالناس

ص:190


1- 1) الوسائل 9:389 ب 2 من أبواب الطواف ح 3. التهذیب 5:253 ح 856.
2- 2) علی ما نقل فی المختلف 4:202. علی احتمال قوی یکون سألته مفقودة طبع جدید.

فیه هم العامة غیر القائلین بطواف النساء، و لا مجال لاستفادة حکم الشیعی من الروایة إذا کان کذلک، بعد کون موردها المخالفین.

و منها: الشفعة بالجوار، فعلی ما حکاه ابن رشد فی بدایته (1)یقول أهل العراق بأن الشفعة مرتّبة فأولی الناس بالشفعة الشریک الذی لم یقاسم، ثمّ الشریک المقاسم، إذا بقیت فی الطرق أو فی الصّحن شرکة، ثمّ الجار الملاصق. و قال أهل المدینة: لا شفعة للجار و لا للشریک المقاسم، و قال المحقق فی کتاب الشفعة من الشرائع (2): «الثانی فی الشفیع و هو کل شریک بحصة مشاعة قادر علی الثمن، و یشترط فیه الإسلام إذا کان المشتری مسلماً، فلا تثبت الشفعة بالجوار، و لا فی ما قسّم و میّز، الا مع الشرکة فی طریقه أو نهره» .

و ربما یقال فی تطبیق القاعدة علی هذا المورد: انه لو کان لسنّی جار شیعی، و اراد السنّی بیع داره، فللشیعی أن یأخذ بالشفعة و أخذ الدّار منه؛ إلزاماً له بما یدین به، و إن کان هو غیر معتقد بثبوت حق الشفعة للجار.

أقول: حیث ان الشفعة حق للشریک أو الجار علی تقدیره، علی المشتری لا علی البائع، ضرورة ان حق الشفعة یرجع الی تسلط صاحبه علی أخذ المال من ید المشتری بغیر رضاه، علی خلاف قاعدة تسلط الناس علی أموالهم، و لذا اشترط المحقق فی عبارته المتقدمة إسلام الشفیع إذا کان المشتری مسلماً، فلا بد فی إجراء قاعدة الإلزام من ملاحظة حال المشتری و انه هل یکون مخالفاً أو موافقاً، فإذا کان الأوّل یحکم بمقتضی

ص:191


1- 1) بدایة المجتهد و نهایة المقتصد 2:193.
2- 2) شرائع الإسلام 3:254.

تدیّنه بثبوت حقّ الشفعة للجار بناءً علی تبعیّته لأهل العراق القائلین بثبوت ذلک الحق له فی المرتبة الثالثة، و إن کان البائع شیعیّاً، و إذا کان الثانی فلا مجال لإعمال حق الشفعة بالنسبة إلیه، و إن کان البائع سنیّاً، و بالجملة لا بد فی إجراء قاعدة الإلزام من ملاحظة حال المشتری دون البائع، کما عرفته فی القول المذکور.

و منها: أبواب الضمانات، سواء کان الضمان ضماناً واقعیاً و هو الضمان بالمثل أو القیمة، أم کان ضماناً معاوضیّاً و هو المعبر عنه بالضمان بالمسمّی، و تطبیق القاعدة علی هذه الأبواب بأنه فی کل مورد یکون الضمان بأحد الوجهین ثابتاً باعتقاد المخالف فمقتضاها الحکم بثبوته و إن لم یکن علیه ضمان عندنا و علی اعتقادنا، فیجوز إلزامه بذلک علی طبق القاعدة، و أخذ المثل أو القیمة و المسمّی منه، و التصرف فیه بأیّ نحو شاء، و إن کان الحکم الاولی غیر ذلک، و موارد هذا القسم کثیرة و لا بأس بالإشارة إلی جملة منها.

1 ما لو باع حیواناً من المخالف و قبضه المشتری، ثمّ تلف فی یده فی أیام خیار الحیوان الثابت للمشتری، فالامامیّة قائلون: إن التلف من البائع، لقاعدة التلف فی زمن الخیار ممّن لا خیار له، و المخالفون قائلون: إن التلف من المشتری؛ لإنکارهم هذه القاعدة و قولهم: إن التلف ممّن وقع فی یده و هو المشتری، و علیه فمقتضی قاعدة الإلزام الجاریة فی البائع الشیعی عدم وجوب ردّ الثمن إلیه، لان مقتضی اعتقاد المشتری ذلک، و إن کان مذهب الإمامیة لزوم ردّ الثمن بناء علی کون مفاد قاعدة التلف المذکورة حصول الانفساخ القهری قبل التلف آناً ما و وقوعه فی ملک البائع، فیجب علیه ردّ الثمن سواء کان مساویاً للمبیع قیمة أو مخالفاً له کذلک، و سواء کان

ص:192

من جنسه أو من غیره، کما هو ظاهر کلام الأصحاب، بل صریح جماعة منهم کالمحقق (1)و الشهید (2)الثانیین، أو لزوم ردّ المثل أو قیمة المبیع بناء علی کون مفاد القاعدة مجرد الضمان دون الانفساخ، کما هو ظاهر بعض الکلمات کالشهید فی الدروس (3)، و بالجملة لا یجب علیه بمقتضی قاعدة الإلزام ردّ شیء إلی المشتری المخالف.

2 الودیعة، و فیها فرعان:

الأوّل الودیعة المحفوظة عند من یساکن المستودع عادة، و قیل فی تطبیق القاعدة علیها ما هذه عبارته: «الودیعة عندنا لیست بمضمونة مع المحافظة علیها، من غیر فرق بین ان یحفظها الإنسان عند ولده أو زوجته أو غیرهما، بل عند کل شخص یحفظ عنده ماله عادة، قال العلامة الحلّی (قده) فی تبصرته (4)فی البحث عن الودیعة: «و یضمن المستودع مع التفریط لا بدونه» و قال المحقق فی الشرائع (5)فی المورد نفسه: «و إذا استودع وجب علیه الحفظ، و لا یلزمه درکها لو تلفت من غیر تفریط أو أخذت منه قهراً» امّا أبو حنیفة فقد ذهب الی عدم وجوب الضمان لو أودعها عند من یساکنه من العیال، قال فی الفقه علی المذاهب الأربعة (6): الحنفیّة قالوا: علی ان

ص:193


1- 1) شرائع الإسلام 2:23.
2- 2) اَللُّمعةِ 3:450،459 و المسالک جزء 1 178 و.
3- 3) الدروس 3:273،272.
4- 4) تبصرة المتعلمین:140.
5- 5) شرائع الإسلام 2:129.
6- 6) الفقه علی المذاهب الأربعة 3:252 و 253.

للودیع ان یحفظ الودیعة عند من یساکنه عادة من عیاله، الی قوله: فاذا دفع الودیعة لولده و نحوه ممن یساکنه من عیاله فهلکت عند الثانی، فإن الأوّل لا یضمن؛ لانه دفعها لمن یصحّ ان یحفظ عنده ماله. و بناء علی هذا فلو أودع حنفی ودیعة عند شیعی، و أودعها الشیعی عند زوجته أو من یساکنه من عیاله، و تلفت، فلیس للحنفی ان یطالبه بتلک الودیعة و لا بضمانها، لان الشیعی قد أودعها عند من یصحّ إیداعها عنده، و لا شیء علیه إلزاماً؛ له بما یدین به من عدم الضمان فی هذه الصورة» .

أقول: أوّلاً غیر خفی ان غرض الحنفیة من الکلام المنقول عنهم انه لا یجب علی المستودع ان تکون الودیعة باقیة عند نفسه، بل الواجب علیه هو حفظها، و له طرق منها دفعها الی الولد و نحوه ممن یساکنه عادة، و لیس لهذا الکلام مفهوم و هو عدم جواز الدفع الی غیر من یساکنه عادة، و لو کان حافظاً لها أشدّ الحفظ، و علیه فلا خلاف ظاهراً بین الحنفیة و سائر الفرق أصلاً.

و ثانیاً: ان مورد القاعدة ما لو کان نظر الشیعی مخالفاً لنظر المخالف، و لکنه یلزمه بمقتضی نظره الذی هو بضرره و فی مثال الودیعة المذکور الذی یکون المودع فیه حنفیّاً و المستودع شیعیّاً أنه لا فرق بین النظرین، لانه کما یقول الحنفیة بعدم الضمان، کذلک یقول الشیعة بذلک؛ لان المفروض عدم تحقق التعدی و التفریط، فلا مجال فی مثله لإجراء القاعدة، و بعبارة اخری: مجری القاعدة ما لو کان معتقد المخالف مخالفاً للحکم الواقعی الأولی الثابت عندنا، و فی المثال لا اختلاف بیننا و بینهم أصلاً.

الثانی الودیعة التی یمکن اختفاؤها و لیست بذهب و فضة، و لا درهم

ص:194

و دینار، و لم یشترط علی المستودع الضمان، ففیها یقول فقهاؤنا بعدم ثبوت الضمان، و لکنهم فی بعض مذاهبهم علی ما حکی یقولون بالضمان، فاذا کان المعیر إمامیّاً، و المستعیر من أهل ذلک المذهب القائل بثبوت الضمان، یجوز للمعیر أخذ المثل أو القیمة منه فی صورة التلف بمقتضی قاعدة الإلزام، و إن لم یکن هو قائلاً بالضمان أصلاً.

3 ما لو باع شیئاً من المخالف الحنفی، و لم یشترط خیاراً لهما، أو لخصوص المشتری، فلو فسخ المشتری و هما بعد فی المجلس و لم یتحقق التفرق، فللبائع الشیعی إلزامه ببقاء المعاملة و عدم صحة هذا الفسخ؛ من جهة ان مذهبه انه لا خیار فی المجلس الّا بالشرط، فاذا لم یکن هناک شرط فلا خیار، و إن کان مذهب البائع ثبوت خیار المجلس و لو من دون اشتراط، و هکذا الحال لو کان المشتری مالکیّاً؛ إِذ أنهم ینکرون خیار المجلس رأساً.

أقول: قد عرفت احتمال عدم کون مثل هذا المورد مجری القاعدة، فإن مجراها ما إذا کان المخالف عاملاً علی طبق اعتقاده و دینه، لا علی خلافه، و من المعلوم ان الفسخ فی المثال خلاف مذهبه؛ إِذ انه یری عدم ثبوت حق الفسخ له أصلاً.

4 ما لو باع حرّا و عبداً صفقة واحدة من حنفی، فالامامیة قائلون بأن البیع صحیح بالنسبة الی العبد، و باطل بالنسبة إلی الحرّ، و لکن الحنفیة قائلون بالبطلان فی الجمیع، فاذا کان البائع شیعیّاً و ندم علی بیع عبده، یجوز له إلزامه بردّ العبد؛ لاعتقاده ببطلان بیعه ایضاً، و إن کان هو قائل بصحته بالنسبة إلیه، و مثله ما لو باع خمراً و خلّاً أو شاة و خنزیراً و مثلهما.

ص:195

و منها: الرهن، و فیه فروع کثیرة مرتبطة بقاعدة الإلزام، و نحن نتعرض لجملة منها:

الأوّل قال الشیخ (قده) فی کتاب الخلاف (1): ان الراهن إذا شرط ان یکون الرهن عند عدل، صحّ هذا الشرط، ثمّ ذکر بعده:

لا یجوز للعدل ان یبیع الرهن الّا بثمن مثله حالا و یکون من نقد البلد إذا أطلق له الإذن فإن شرط له جواز ذلک کان جائزا و حکی عن ابی حنیفة انه قال: یجوز له ان یبیعه نسیة و بأقلّ من ثمن المثل حتی انه لو وکله فی بیع ضیعة تساوی مائة ألف دینار بدانق الی ثلاثین سنة نسیة جاز ذلک. و علی هذه الفتوی لو کان الراهن حنفیّاً، و شرط ان یکون الرهن عند عدل، یجوز له إلزامه بمقتضی قاعدة الإلزام بصحّة البیع کذلک، کما هو ظاهر.

الثانی ان الصحیح عند الإمامیة عدم ثبوت الضمان فی الرّهن الّا مع التعدی و التفریط؛ لانه قسم من أقسام الأمانة المالکیة التی لیس فیها الضمان إلّا فی الصّورتین، و لکن حکی الشیخ (قده) فی الکتاب (2)المزبور عن أبی حنیفة ان الرهن مضمون بأقل الأمرین، و هما الدین و قیمة العین المرهونة، و علیه فلو کان المرتهن حنفیّاً و تلف عنده العین المرهونة بدون تعدّ و تفریط، یجوز إلزامه بأقلّ الأمرین؛ لقاعدة الإلزام، و إن کان لا ضمان علیه عندنا فی هذه الصورة.

ص:196


1- 1) الخلاف 3:242 و 244.
2- 2) الخلاف 3:245،251. المبسوط للسرخسی 21:64.

الثالث حکی الشیخ (1)(قده) ایضاً عن أبی حنیفة: ان العدل لو باع الرهن لأداء الدین و قبض الثمن، فلو تلف الثمن بعد القبض یسقط من الدین بمقدار الثمن، و بعبارة اخری: یکون ثمن الرهن فی ضمان المرتهن، مع انه غیر صحیح عندنا؛ لانّه لا وجه لسقوط دین المرتهن ما لم یقبض دینه، و لکن المرتهن ان کان حنفیّاً یجوز إلزامه بسقوط دینه لقاعدة الإلزام.

الرّابع حکی الشیخ (2)(قده) عن أبی حنیفة أیضاً: ان منفعة العین المرهونة لا تکون للراهن و لا للمرتهن، فاذا کانت داراً مثلاً لا یجوز للراهن و لا للمرتهن ان یسکنها أو یؤاجرها، و أما نماؤها المنفصل، فیدخل فی الرهن، فیکون رهناً مثل أصله، مع انّ الصحیح عندنا ان منفعة الرهن انما تکون ملکاً لمالکها، و کذا النماء المنفصل یکون ملکاً له، و لا یکون رهناً، و علیه فلو کان الراهن حنفیّاً یجوز بمقتضی القاعدة إلزامه بدخول النماء المنفصل فی الرّهن، و بعدم تصرفه فی العین المرهونة بالسکن و الإیجار.

و منها: منافع العین المغصوبة، فالمحکی عن أبی حنیفة المصرّح به فی صحیحة (3)ابن ابی ولاّد المعروفة، الواردة فی البغلة التی اکتراها فخالف، ان الغاصب لا یضمن المنافع و إن استوفاها، و قد ذکر فی الروایة تصریحه بسقوط الکراء بمجرد المخالفة و تحقق الغصب، و هذه هی الفتوی التی قال الامام (علیه السلام) فی تلک الروایة فی شأنها: فی مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءَها، و تحبس الأرض برکاتها، و أمّا نحن فنقول بضمانها، خصوصاً إذا کانت مستوفاة، و علی ما ذکر لو کان المغصوب منه حنفیّاً یجوز إلزامه بمقتضی قاعدة الإلزام بذلک، و منعه عن أخذ قیمة منافع العین المغصوبة

ص:197


1- 1) الخلاف 3:245،251. المبسوط للسرخسی 21:64
2- 2) الخلاف 3:245،251. المبسوط للسرخسی 21:64
3- 3) الوسائل 17:313 ب 7 من أبواب الغصب ح 1.

مطلقاً.

و منها: ضمان المجهول، ای: ضمان الدین الذی لا یعلم مقداره و انه قلیل أو کثیر، فإنه باطل عندنا، و المحکی عن أبی حنیفة و مالک صحة هذا الضمان، و علیه فلو کان الضامن حنفیّاً أو مالکیّاً، یجوز إلزامه بمقتضی قاعدة الإلزام بصحة الضمان و لو کان الدین مجهولاً، و هکذا ضمان ما لم یجب بناء علی بطلانه عندنا.

و منها موارد أخری کثیرة متفرقة فی أبواب الفقه تظهر لمن تتبّعها.

هذا تمام الکلام فی قاعدة الإلزام.

ص:198

قاعدة من ملک شیئاً ملک الإقرار به

اشارة

و هی ایضاً من القواعد الفقهیة المشهورة التی اشتهرت منذ زمان الشیخ الطوسی (قده) حتی زماننا هذا، و الکلام فیها یقع فی مقامات:

المقام الأوّل- فی مورد هذه القاعدة و بیان النسبة بینها و بین قاعدة «إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز»

(1)التی تقدم البحث عنها مفصّلاً، فنقول: ان النسبة بین الموردین هی العموم من وجه، و لازمه وجود مادة الاجتماع و مادّتی الافتراق. امّا مادة الاجتماع فهی مثل ما إذا أقر الشخص بأنه وهب ماله لزید مثلاً فإنه بمقتضی کونه إقراراً من عاقل علی نفسه تنطبق علیه قاعدة الإقرار، و بمقتضی کونه مالکاً و مسلّطاً علی هبة ماله؛ لان الناس مسلّطون علی أموالهم تنطبق علیه قاعدة من ملک.

ص:199


1- 1) الوسائل 16:133 ب 3 من کتاب الإقرار ح 2.المستدرک 16:31، کتاب الإقرار.

و أمّا مادة الافتراق من ناحیة قاعدة من ملک فهی کما إذا أقرّ الوکیل أو الولیّ علی الأصیل، کما إذا أقرّ ببیع مال الموکل أو المولّی علیه بثمن مخصوص، أو شرط مخصوص فإنه لا ینطبق علیه قاعدة الإقرار؛ لعدم کونه إقراراً علی نفسه، بل علی موکّله أو له أو الصّغیر.

و أما مادّة الافتراق من ناحیة قاعدة الإقرار فهی ما إذا أقر علی نفسه بفعل لا یکون جائزاً له و لا مسلّطاً علیه، کالإقرار بقتل زید أو جرحه مثلاً فإنه لا ینطبق علیه قاعدة من ملک، بل هو من مصادیق قاعدة الإقرار.

و علی ما ذکرنا فلا وجه للاستناد فی هذه القاعدة إلی قاعدة الإقرار کما حکی عن بعض تخیّله.

المقام الثانی- فی مدرکها،

فنقول:

قد عرفت ان قاعدة الإقرار لا یمکن ان تکون مستنداً لهذه القاعدة لما عرفت من اختلاف الموردین، و انّ العمدة فی هذه القاعدة تصحیح إقرار الصّبی بما یصحّ منه، کالوصیة بالمعروف و الصّدقة، و لو کان المستند فیها حدیث الإقرار، لم یجز ذلک؛ لبنائهم علی خروج الصبیّ من حدیث الإقرار، مع ان دلیل الإقرار لا ینفع فی إقرار الوکیل و العبد و الولیّ علی غیرهم کما مرّ، فاللازم اقامة الدلیل من غیر تلک الناحیة، و ما یمکن ان یکون دلیلاً أمور:

أحدها الإجماع علی هذه القاعدة، بمعنی ان استدلال الأصحاب بها یکشف عن وجود دلیل معتبر لو عثرنا به لم نعدل عنه، و إن لم یکشف عن الحکم الواقعی، بل یظهر منهم انهم أرسلوها إرسال المسلّمات. قال

ص:200

الشیخ (1)فی مسألة إقرار العبد المأذون فی التجارة: «و إن کان یعنی المال المقرّ به یتعلق بالتجارة مثل ثمن المبیع و أرش المعیب و ما أشبه ذلک، فإنه یقبل إقراره؛ لأنه من ملک شیئاً ملک الإقرار به إلخ» و حکاه عنه الحلّی (2)ساکتاً علیه من دون اعتراض، و ظاهره ارتضاؤه له، و إلا لم یکن من دأبه السکوت.

و قال القاضی فی «المهذّب» (3): إذا أقرّ المریض المکاتب لعبده فی حال الصحّة بأنه قبض مال الکتابة، صحّ إقراره و أعتق العبد؛ لان المریض یملک القبض، فیملک الإقرار به مثل الصّحیح.

و قال المحقق فی «الشرائع» (4): لو کان یعنی العبد مأذوناً فی التجارة، فأقرّ بما یتعلق بها، صحّ؛ لانه یملک التصرف فیملک الإقرار، و یؤخذ ما أقرّ به ممّا فی یده. و مثله العلامة فی محکی القواعد.

و ذکر فخر الدین (5)فی مسألة اختلاف الولی و المولّی علیه: انّ الأقوی ان کل من یلزم فعله و إنشاؤه غیره کان إقراره بذلک ماضیاً علیه.

و ربما یستدل علی تقدیم قول الوکیل فی التصرف بأنه أقرّ بما له ان یفعله.

و لکن الظاهر انه لا مجال للاستناد إلی الإجماع أیضاً؛ لوجهین

ص:201


1- 1) المبسوط 3:19.
2- 2) السرائر 2:499.
3- 3) المهذّب 2:383.
4- 4) شرائع الإسلام 3:119.
5- 5) علی ما نقل فی مکاسب الشیخ:369.

الأوّل: انه یظهر من جملة من أعاظم الفقهاء المخالفة و عدم الالتزام أو التردید فی هذه القاعدة، فعن العلّامة فی التذکرة (1)انه رجّح تقدیم قول الموکّل عند دعوی الوکیل التصرف قبل العزل، و تردّد فیه فی التحریر (2).

و استظهر من فخر الدین فی الإیضاح (3)عدم قبول دعوی الزوج فی العدة الرّجوع، و جعل نفس الدعوی رجوعاً، و تردّد فی ذلک فی موضع من القواعد، و عن الشهید فی القواعد (4)الاستشکال فی دعوی الزوج الرّجعة، و عن المحقق (5)الثانی إنکار هذه القاعدة رأساً؛ إِذ تردّد فی قبول إقرار العبد المأذون، و فی قبول قول الولیّ فی تزویج بنته لو أنکرت، بل و لو لم تنکر؛ لجهلها بالحال.

لکنّه ذکر الشیخ الأعظم الأنصاری (قدس سره) فی رسالته (6)فی هذه القاعدة «ان الإنصاف أن القضیة المذکورة فی الجملة اجماعیّة، بمعنی انه ما من أحد من الأصحاب ممّن وصل إلینا کلامهم الّا و قد عمل بهذه القضیة فی بعض الموارد، بحیث یعلم ان لا مستند له سواها؛ فان من ذکرنا خلافهم انّما خالفوا فی بعض موارد القضیة و عملوا بها فی مورد آخر، الی ان قال: و کیف کان فلم نجد فقیهاً أسقطه عن استقلال التمسک» .

ص:202


1- 1) التذکرة 2: کتاب الوکالة الباب التنازع الوکیل و الموکّل.
2- 2) التحریر 236.
3- 3) إیضاح الفوائد 3:331.
4- 4) القواعد و الفوائد 1:401 تلاحظ.
5- 5) جامع المقاصد 9:217.
6- 6) المکاسب:370.

الثانی: ان التمسک بالإجماع انما یتمّ لو کان دلیلاً منحصراً فی المقام، لأن الإجماع حینئذٍ یتصف بالأصالة، و یکشف عن موافقة المعصوم (علیه السلام) أو وجود دلیل معتبر، و أمّا مع فرض عدم الانحصار و تمامیة بعض الوجوه الأخر التی استدل بها علی القاعدة، و احتمال ان یکون ذلک الوجه هو مستند المجمعین، فلا یبقی أصالة له؛ و لا یتصف بکونه دلیلاً مستقلا فی مقابل ذلک الوجه کما لا یخفی. فاللازم ملاحظة الوجوه الأخر.

ثانیها استقرار السیرة علی معاملة الأولیاء، بل مطلق الوکلاء معاملة الأصیل فی إقرارهم کتصرفاتهم، و الظاهر ان المراد بالسیرة هی سیرة المتشرعة، و علی تقدیر ثبوتها و عدم کون منشئها هو بناء العقلاء علی ما یأتی الکلام فیه، لا تجری فی موارد، القاعدة، فهل تجری فی مورد الصبی و اعتبار قوله فی ما له ان یفعل، مع انّ مقتضی أدلة عدم اعتبار إقرار الصبیّ (الحاکمة علی قاعدة إقرار العقلاء) عدم الاعتبار، بل هل تجری إذا کان إقرار الولیّ أو الوکیل بضرر المولّی علیه أو الموکل، کما هو المهمّ من هذه القاعدة، مع ان مقتضی أدلة عدم اعتبار الإقرار علی الغیر عدم نفوذه و عدم اعتباره؟ و بالجملة فالتمسّک بالسّیرة المذکورة فی جمیع موارد تطبیق القاعدة فی غایة الإشکال.

ثالثها الروایات الواردة فی الایتمان، الدالة علی قبول قول من ائتمنه المالک بالإذن، أو الشارع بالأمر، و انه لا یجوز اتّهامه بوجه، و لکنه استشکل علیه الشیخ (1)الأعظم (قده) بأن النسبة بین هذه القاعدة و بین الایتمان هی العموم من وجه؛ لعدم جریان قاعدة الایتمان فی إقرار الصّبی

ص:203


1- 1) المکاسب للشیخ:371.

بما له ان یفعله، و عدم جریان قاعدة من ملک بعد زمان الایتمان، مع ان مقتضی قاعدة الایتمان عدم الفرق، و قد صرح جماعة بالأوّل، و قالوا بأنه لو أقر المریض بأنه وهب و اقبض حال الصحة، نفذ من الثلث، و بعدم نفوذ إقرار العبد المأذون من قبل المولی، بعد الحجر علیه، بدین أسنده الی حال الاذن، فلا مجال لان یکون مستند المقام قاعدة الایتمان بوجه.

رابعها ما افاده الشیخ الأعظم (قده) فی رسالته (1)من انه یمکن ان یکون الوجه فی القضیة المذکورة ظهور اعتبره الشارع و بیان انه من یملک إحداث تصرف فهو غیر متّهم فی الاخبار عنه حین القدرة علیه، و الظاهر صدقه و وقوع المقرّ به، و إن کان هذا الظهور متفاوت الافراد قوّة و ضعفاً، بحسب قدرة المقرّ فعلاً علی إنشاء المقرّ به، من دون توقف علی مقدمات غیر حاصلة وقت الإقرار، کما فی قول الزوج: «رجعت» ، قاصداً به الاخبار، مع قدرته علیه بقصد الإنشاء، و عدم قدرته لفوات بعض المقدمات، لکنه قادر علی تحصیل المقدمات و فعلها فی الزمان المتأخر، کما إذا أقرّ العبد بالدّین فی زمان له فیه الاستدانة شرعاً، لکنه موقوف علی مقدمات غیر حاصلة، فان الظاهر هاهنا أیضاً صدقة، و إن أمکن کذبه باعتبار بعض الدواعی، لکن دواعی الکذب فیه أقلّ بمراتب من دواعی الکذب المحتملة فی إقرار العبد المعزول عن التجارة الممنوع عن الاستدانة، و لو تأمّلت هذا الظهور و لو فی أضعف افراده وجدته أقوی من ظهور حال المسلم فی صحة فعله، بمعنی مطابقته للواقع، بل یمکن ان یدعی ان حکمة اعتبار الشارع و العرف لإقرار البالغ العاقل علی نفسه ان الظاهر ان الإنسان غیر متهم فیما یخبر به مما یکون علیه لا له، و فی النبوی: إقرار

ص:204


1- 1) المکاسب للشیخ:371.

العقلاء، اشارة الیه إِذ أضاف الإقرار إلی العقلاء؛ تنبیهاً علی ان العاقل لا یکذب علی نفسه غالباً، و إلا فلم یعهد من الشارع اضافة الأسباب إلی البالغ العاقل، الی ان قال: مرجعه الی تقدیم الظهور علی الأصل، کما فی نظائره من ظهور الصحة فی فعل المسلم و نحوه من الظواهر، ثمّ قال: و لکن الظهور المذکور لا حجیة فیه بنفسه حتی یقدم علی مقابله من الأصول و القواعد المقررة، بل یحتاج الی قیام دلیل علیه، أو استنباطه من أدلة بعض القواعد الأُخر.

أقول: یمکن ان یقال بعد استقرار سیرة العقلاء علی القضیة المذکورة-: إِن الشارع لم یردع عما هو مقتضی بناء العقلاء، و أدلة الأصول و القواعد المقابلة لا تصلح للرّادعیة، بل الرّدع یحتاج الی دلیل قویّ.

کما انه یمکن ان یقال: إِنّ نفس السلطنة الثابتة من طرف الشارع امّا بدون واسطة أو بوساطة اذن المالک، تلازم عرفاً نفوذ إقراره به، فالدلیل علی القاعدة نفس هذه الملازمة العرفیة، التی مرجعها الی عدم الانفکاک بین السلطة علی الشیء و ملکیة الإقرار به، فإن الصبیّ الذی یجوز له الوصیة، کیف لا یقبل إقراره بها؟ و الزوج الذی یجوز له الرجوع، کیف لا یقبل إقراره به؟ و إذا أضیف الی ذلک ثبوت الإجماع علی القاعدة فی الجملة لا یبقی ارتیاب فی أصل القضیة، و یکفی مستنداً لها کما لا یخفی. و قد عبّر عن هذا الوجه المحقق العراقی (قده) فیما حکی عنه بثبوت الملازمة بین السّلطنة علی ثبوت الشیء و السلطنة علی إثباته، بمعنی ان القدرة علی وجود الشیء واقعاً تلازم القدرة علی إیصاله إلی مرتبة الإظهار و الإثبات، مثلاً لو کانت له السلطنة علی بیع داره أو وقفه أو هبته أو غیر ذلک من

ص:205

التصرفات، فلا بد و إن تکون له السلطنة علی إثبات هذه الاعمال و الأفعال.

و لکنه أورد علیه: أَنَّه ان کان المراد من السلطنة علی إثباته هو ان یکون ثابتاً فی مرحلة الظاهر بمحض إظهاره و إقراره، کی یترتب علیه جمیع آثار وجود ذلک الشیء، سواء کان له أو علیه أو لغیره أو علی ذلک الغیر، فهذا دعوی بلا بینة و لا برهان؛ إذ ربما یکون الإنسان قادراً علی عمل، و لکن لیس قادراً علی إثباته بمحض إقراره، و إلا کان اخبار کل مخبر عن صدور فعل حجة علی وجود ذلک الفعل، و إن أنکره من یتعلق به العمل، مثل ما لو استأجر البناء علی ان یبنی له حائط، فأخبر بوقوع ذلک البناء، و أنکره المستأجر، فإن إخباره لا یکون حجة قطعاً.

و إن کان المراد هو ان الشارع ان جعل سلطاناً علی أمر فجعله ملازم لجعل إخباره و إقراره حجة علی إثباته، ففیه: ان هذه ایضاً دعوی بلا بینة و برهان؛ لعدم لزوم اللغویة، مع عدم کون الإقرار حجة؛ لإمکان الإشهاد علی صدوره منه حتی فی مثل الرجوع فی العدة. نعم لو کان قوله: رجعت إلیها، فی حال عدم انقضاء العدّة إنشاء لا اخباراً، فهو بنفسه رجوع، و یمکن ایضاً ان یکون من قبیل إثبات الرجوع بإقراره، و من مصادیق هذه القاعدة، و لیس الجعل الثانی من لوازم الجعل الأوّل حتی یکون الدلیل علی الأوّل دالّاً علی الثانی بالدلالة الالتزامیّة.

و الظاهر انه لا مجال لإنکار الدلالة الالتزامیة العرفیّة؛ فإنّ العرف یفهم من ثبوت السلطنة للزوج علی الرجوع بقول: رجعت، إنشاء، انه لو وقع هذا القول فی مقام الاخبار و الإقرار یکون حجة إذا کانت الزوجة

ص:206

فی العدة، بحیث کان له ذلک، نعم مع انقضاء العدة و عدم ثبوت حق الرجوع له بالفعل، لا مجال لاستفادة حجیة الإقرار، کما انه لا تدل علیه القاعدة، لظهورها فی السلطنة الفعلیة کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی.

المقام الثالث- فی مفاد هذه القاعدة و مدلولها،

فنقول:

الظاهر ان المراد بملک الشیء لیس هی الملکیة المتداولة فی باب الأموال، کملک الدار و العقار مثلاً بل بقرینة الإقرار الظاهر فی السّلطنة علیه، یکون المراد به هی السّلطنة علی الشیء، سواء کانت هذه السّلطنة ناشئة من الملکیة الاصطلاحیة أو من ناحیة الشارع بواسطة أو بدونها. نعم ذکر سیدنا الأستاذ الأعظم الامام الخمینی (دام ظله الشریف) فی حواشیه علی رسالة الشیخ (قده) فی هذه القاعدة ما لفظه: ان المالکیة «علی ما یستفاد من اللغة و العرف هی علقة و رابطة اعتباریة حاصلة بین الشخص و الشیء، و یستتبعها السلطنة و الاستبداد به، و هی غیر السلطنة عرفاً و لغة، و لهذا وقع التشاجر من الصدر الأول بین المفسّرین و المحققین فی أرجحیة مالک یوم الدین، أو ملک یوم الدین و لو کان المالک بمعنی السلطان لما وقع النزاع و التشاجر بین أئمة اللّغة و التفسیر و أساطین الأدب و العربیّة، و بالجملة ملک الشیء علی ما فی القاموس ای: احتواه قادراً علی الاستبداد به، و السلطنة لازم أعم للمالکیة، و هذا واضح؛ فإنّ اولی الأمر من النبیّ و الوصیّ لهم السلطنة علی أموال الناس و أنفسهم، و لیس لهم المالکیّة، و الحاصل: ان المتفاهم العرفی من ملک الشیء هو کونه صاحباً له فعلاً، فیشمل ملک الصغیر فعدم نفوذ إقراره من مستثنیات هذه القاعدة، لا نفوذه فی الموارد الخاصة من الدواخل» .

ص:207

ثمّ ذکر (دام ظله الشریف) فی ذیل کلامه ما یرجع الی ان المراد من ملک الإقرار و إن کان هو السّلطنة علیه لا المالکیة، لکن الظاهر ان ذکر ملک الإقرار بعد ملک الشیء انّما هو من باب التطابق، مثل قوله: قلت اطبخوا لی جبة و قمیصاً.

هذا، و لکن الظاهر انه حیث کانت القاعدة مسوقة لإفادة ملکیة الإقرار فی مورد ملکیة الشیء، و لا یلائم ذلک التعبیر بالملکیة، مع کون المراد بها غیر معناها، بل ما هو لازم أعم منها، فیکون ذلک قرینة علی ان المراد بها هی السلطنة، و إن دلالتها علیها لا تکون دلالة غیر ظاهرة، خصوصاً مع ملاحظة الانفکاک بینها و بین الملکیة، کما فی الصبی بالنسبة إلی تصرفاته غیر الجائزة له شرعاً؛ فان ملکیتها بالنسبة الی جمیع أمواله و إن کانت ثابتة الّا، انه لا سلطان له علیها کما لا یخفی. مع انّ القاعدة علی ما یستفاد من موارد استدلالات الأصحاب بها مسوقة لإفادة مثل نفوذ إقرار الصبیّ فی التصرفات الجائزة له، و اللازم معناها بحث ینطبق علیها، و لا مجال لحملها علی معنی یخرج منه کثیر من الموارد، فالإنصاف ان جعل ملک الإقرار قرینة علی ان المراد بملک الشیء أیضاً هو السلطنة علیه لا الملکیة الاصطلاحیة صحیح.

نعم، یکون هنا بحث من جهتین: إحداهما انه هل المراد بالسلطنة السلطنة الفعلیة الثابتة بالفعل أو یعمّ السّلطنة غیر الفعلیة أیضاً؟ فعلی الأوّل لا یشمل الصغیر، لعدم السلطنة الفعلیة له، نعم، له سلطنة کذلک علی بعض التصرفات المالیة، مثل الوصیة و الوقف و الصّدقة، و هی داخلة فی عموم القاعدة، و الظاهر هو الوجه الأوّل لظهور کلمة «الملک» المساوقة هنا

ص:208

للسلطنة فی السلطنة الفعلیة مع ان لازم الوجه الثانی صحة إقرار الصبی بغیر الأمور المذکورة من سائر التصرفات المالیة و لا یقولون به بوجه.

و الأخری: انه هل المراد بالسّلطنة هی السلطنة المطلقة بأن یکون مستقلا فیه لا یزاحمه أحد أو مجرّد القدرة علی التصرف؟ فعلی الأوّل یختص بالمالک و الولیّ الإجباری، و علی الثانی یشمل الوکیل و العبد المأذون، و الظاهر بملاحظة موارد الاستدلال بالقاعدة فی کلمات الأصحاب (رض) هو الثانی، فالمراد بها لیست هی السلطنة المطلقة بل مطلق السّلطنة کما لا یخفی.

و المراد بالشیء الذی أضیف إلیه الملک، هل ما یشمل الأعیان و الأفعال أو یختص بالافعال فقط؟ ربما یقال بالثانی، نظراً الی ان ضمیر «به» یرجع الی الشیء، و الظاهر عدم تحقق الاستخدام فیه، و بما ان نفس العین الخارجیّة لا تکون قابلة لتعلق الإقرار بها، الّا باعتبار تعلق فعل من الافعال بها، فمقتضی ذلک ان یکون المراد بالشیء أیضاً فعلاً من الافعال، و یرجع المعنی الی ان من ملک فعلاً من الافعال یملک الإقرار به و الاخبار عنه.

و یرد علیه: ان الإقرار و إن لم یتعلق بنفس العین الخارجیّة، الّا انه لا یلزم تعلقه بفعل من الأفعال؛ فإنه لو أقرّ ذو الید بکون ما فی یده ملکاً لزید، یترتب علی إقراره النفوذ و المضی، مع ان الإقرار بالملکیة لا یکون إقراراً بفعل من الافعال، و لا مجال لإخراج هذا المورد من القاعدة و إن کان داخلاً فی قاعدة الإقرار أیضاً، و لا یلزم من ذلک نفوذ إقرار الصبی فی جمیع التصرفات باعتبار ثبوت الملکیة له بالنسبة إلی أمواله؛ و ذلک لانّه و إن کان

ص:209

مالکاً الّا انه لا یکون له السّلطنة بالنسبة إلیها، و قد مرّ ان المراد بالملکیة هی السلطنة، و لا سلطان له علی أمواله، و علی ما ذکرنا فالمراد بالشیء ما یعمّ الأعیان ایضاً.

و أمّا الإقرار فمعناه اللّغوی هو إثبات الشیء و جعله قارّاً، کما عرفت فی قاعدة الإقرار، سواء أثبته علی نفسه أو علی غیره، و الظّاهر ان معناه الاصطلاحی أیضاً موافق للمعنی اللغوی، غایة الأمر ان التخصیص بخصوص ما أثبته علی نفسه، انما یستفاد من اضافة کلمة «علیه» المأخوذة فی دلیل قاعدة الإقرار کما لا یخفی. و المراد من ملک الإقرار هی السّلطنة علیه، بمعنی نفوذه و مضیّه و حجیّته، فمفاد القاعدة: ان السّلطنة الفعلیة علی الشیء موضوع لنفوذ إقراره بذلک الشیء و اعتباره.

المقام الرّابع- ظاهر القضیة الشرطیة عند التجرد عن القرینة ان الشرط علة لترتب الجزاء حدوثاً و بقاءً،

لا الحدوث فقط، و إن زال الشرط، و علیه فملکیة الإقرار و سلطنته انّما هی فی زمان وجود السلطنة علی الشیء و تحقّقها، فاذا زالت، تنتفی السلطنة علی الإقرار، فإذا أقرّ الولیّ بعد بلوغ الصبی بأنّه باع ماله قبل البلوغ من زید مثلاً لا یمضی إقراره؛ لعدم کونه مالکاً للبیع فی حال الإقرار؛ لفرض زوال الحجر و تحقق البلوغ، و ملکیته للبیع قبل البلوغ لا تکفی فی نفوذ إقراره بعده، کما انه لو أقرّ الزوج بعد انقضاء العدة بالرجوع فی حالها، لا یترتب علی إقراره أثر؛ لعدم السلطنة علی الرجوع حال الإقرار، و قد حکی عن شرائع (1)المحقّق انّه اختار عدم قبول إقرار المریض بالطلاق حال الصحة بالنسبة إلی الزوجة؛

ص:210


1- 1) شرائع الإسلام 3:16.

لیمنعها من الإرث، و عن التحریر (1)التنصیص علی عدم سماع إقرار العبد المأذون فی التجارة بعد الحجر علیه بدین یسنده الی حال الاذن، و قال ایضاً: و کل من لا یتمکن من إنشاء شیء لا ینفذ إقراره فیه، فلو أقرّ المریض بأنه وهب و اقبض حال الصّحة، لم ینفذ من الأصل.

نعم یظهر من الشیخ فی المبسوط (2)و من فخر الدین (3)فی الإیضاح عموم نفوذ إقرار المقر علی ما ملکه و لو فی الزمان الثانی و لکنک عرفت انه خلاف ظاهر القضیة الشرطیة عند التجرد عن القرینة؛ إِذ ان مقتضاه مدخلیة الشرط حدوثاً و بقاءً.

و لا مجال للاستناد الی استصحاب بقاء السلطنة التی کانت له حال وقوع الفعل الذی یقرّ بوقوعه فی الزمان المتقدم، ابی هذا الزمان؛ و ذلک لتبدل الموضوع؛ إِذ ان السّلطنة السابقة کانت فی ظرف السّلطنة الفعلیة علی الشیء، و المفروض انتفاؤها و زوالها، و دعوی الوحدة العرفیة الکافیة فی جریان الاستصحاب ممنوعة جدّاً؛ لوضوح الفرق عندهم بین الزوج فی حال بقاء العدة و بینه فی حال الانقضاء، و کذا سائر الموارد.

المقام الخامس- ما المراد بملک الإقرار

ذکر الشیخ الأعظم (قده) فی رسالته (4)فی هذه القاعدة ما ملخّصه: ان المراد بملک الإقرار إذا کان أصیلاً واضح، و إن کان غیر أصیل کالولیّ و الوکیل فیحتمل أموراً

ص:211


1- 1) التحریر للعلّامة جزء 2:114.
2- 2) المبسوط 3:3.
3- 3) إیضاح الفوائد 2:429،230.
4- 4) المکاسب للشیخ:369.

الأوّل السلطنة علی الإقرار به، بمعنی ان إقراره ماض مطلقا، و یکون کإقرار ذلک الغیر، حتی انه لا یسمع منه بیّنة علی خلافه، فضلاً عن حلفه علی عدمه، قال: و هذا المعنی و إن کان بحسب الظاهر انسب بلفظ الإقرار، الّا انه یکاد یقطع بعدم إرادته.

الثانی ان إقراره به نافذ بالنسبة إلی الأصیل کنفوذ إقراره، و إن لم یترتب علیه جمیع آثار إقراره، فالتعبیر بالإقرار من حیث انه لمّا کان فی التصرف نائباً عنه و کان کالتصرف الصادر عن نفسه، فالاخبار به کأنه أیضاً صادر عن نفسه، ففعله کفعله و لسانه کلسانه، و لا فرق حینئذ بین ان تقع هناک دعوی و بین ان لا تقع، و لا بین ان تکون الدعوی مع ذلک الأصیل و بین ان تکون مع ثالث، و حینئذ فلو أخبر الوکیل بقبض الدین من الغریم، فاخباره یکون بمنزلة البینة للغریم علی الأصیل لو ادّعی علیه بقاء الدین.

الثالث ان یراد قبول قوله بالنسبة إلی الأصیل لو أنکره، فیختص بالتداعی الواقع بینهما، فلا تعرض فیه لقبول قوله بالنسبة إلی الأصیل لو کانت الدّعوی ترجع علی ثالث، حتی یکون کالشاهد للثالث علی الأصیل، قال: و بهذا یجمع بین حکم المحقق و العلّامة بتقدیم قول الوکیل فیما إذا ادّعی علی الموکل إتیان ما وکّل فیه، معللین بأنه أقرّ بما له ان یفعله، و تقدیم قول الموکّل فیما إذا ادعی الوکیل شراء العبد بمائة و ادعی الموکل شراءه بثمانین، معللین بان الموکل غارم و معنی ذلک ان الوکیل لا یرید ان یدفع عن نفسه شیئاً، و إنما یرید ان یثبت لغیره حقّا علی موکّله، فهو بمنزلة الشاهد علی الموکّل، و بعبارة اخری: انما یعتبر إقراره بما له ان یفعله فی

ص:212

ما یتعلق بنفسه لا فی ما یتعلق بغیره.

و هو و إن لم یصرح بترجیح أحد الاحتمالین الأخیرین علی الأخر، الّا انه ربما یستظهر من کلامه ترجیح الاحتمال الأخیر، و هو اختصاص قبول قوله بما إذا کان فی مقابل الأصیل، و کان التداعی واقعاً بینهما، و الظاهر انه لا محیص عن ترجیحه لو کان المدرک للقاعدة هو الإجماع؛ لأنّه القدر المتیقن من مفادها، کما انه لو کان المدرک لها هی الدلالة الالتزامیة العرفیة المتقدمة، لکان اللازم ترجیحه ایضاً؛ لعدم ثبوت الدلالة المذکورة بأزید من هذا المقدار، کما لا یخفی.

ثمّ انه ذکر الشیخ (1)ایضاً ان المراد بملک الإقرار یحتمل ان یراد به السلطنة المستقلة المطلقة، بمعنی انه لا یزاحمه أحد فی إقراره، و انه نافذ علی کلّ أحد، و إن یراد به مجرّد ان له الإقرار به، فلا سلطنة مطلقة له، فیمکن ان یزاحمه من یکون له أیضاً سلطنة علی الفعل، فیکون ملک الإقرار بالشیء علی نحو السلطنة علی ذلک الشیء، فلیس للبنت البالغة الرشیدة بناء علی ولایة الأب علیها مزاحمة الولیّ فی إقراره، کما لیس لها مزاحمته فی أصل الفعل، و کذا إذا قامت البیّنة علی إقرار الأب حین صغر الطفل بتصرف فیه أو فی ماله، فلیس له بعد البلوغ مزاحمته، و هذا بخلاف الموکّل، فإنه یزاحم الوکیل فی إقراره، کما یزاحمه فی أصل التصرف.

أقول: معنی المزاحمة فی الإقرار الثابتة فی الموکل انه یمکن للموکّل الإقرار قبل الوکیل، فلا یبقی موضوع لإقرار الوکیل، مثلاً إذا أقرّ بأن مورد الوکالة ملک لزید، یترتب علی إقراره آثار ملکیة زید، و لا یبقی حینئذ

ص:213


1- 1) المکاسب:370.

موضوع لإقرار الوکیل بأنه باعه من عمرو مثلاً، مع انه لو لم یکن مسبوقاً بإقرار الموکل، لکان یترتب علی إقرار الوکیل تحقق المعاملة و ثبوت الملکیة لعمرو؛ لان من ملک شیئاً ملک الإقرار به، فالمزاحمة فی الإقرار کالمزاحمة فی أصل التصرف، فاذا باع الموکل مورد الوکالة من شخص قبل ان یتحقق البیع من الوکیل، لا یبقی حینئذ موضوع لتصرف الوکیل.

و الظاهر من الاحتمالین فی معنی ملک الإقرار هو الثانی؛ لرجوعه إلی مساواة ملک الإقرار لملکیة الشیء و السّلطنة علیه، بخلاف الاحتمال الأوّل الذی مرجعه إلی توسعة دائرة ملک الإقرار بالنسبة إلی ملک الشیء، کما لا یخفی.

هذا مضافاً الی انه مع ثبوت السلطنة للآخر کما هو المفروض یصیر الأخر أیضاً مشمولاً للقاعدة، فیملک الإقرار کما یملکه الأوّل، و لا مجال لإخراجه بعد تساوی نسبة القاعدة إلیهما، فمقتضی الأخذ بعموم القاعدة ترجیح الاحتمال الثانی.

ص:214

قاعدة الغرور

اشارة

و هی من القواعد المعروفة المشهورة فی باب الضمانات، و المستند إلیها فی الأبواب المختلفة فی الکتب الفقهیّة، و الکلام فیها یقع فی مقامات:

المقام الأوّل- فی مدرکها و مستندها،

اشارة

و ما قیل أو یمکن ان یقال فی هذا المجال أمور:

الأمر الأوّل- الروایة النبویة المشهورة بین الفریقین و هی قوله (صلی الله علیه و آله) : المغرور یرجع الی من غرّه،

و قد حکی إسنادها إلی النبی (صلی الله علیه و آله) عن المحقق الثانی فی حاشیة (1)الإرشاد، و یظهر ایضاً من صاحب الجواهر (2)فی کتاب الغصب إذ قال: «بل لعلّ قوله (صلی الله علیه و آله) : المغرور (3)یرجع الی من غرّه،

ص:215


1- 1) حاشیة الإرشاد.
2- 2) الجواهر 37:145.
3- 3) سنن البیهقی 7:219، مع اختلاف یسیر و نقل من علی (علیه السلام) .

ظاهر فی ذلک، و حکی عن ابن الأثیر فی نهایته ذلک ایضاً، و لکنی لم أجده فیها» .

و کیف کان فقد ادّعی بعض المتتبعین فی کتب الأحادیث انه لا یوجد هذا الحدیث فی شیء منها، و من البعید ان یکون المحقق الثانی، و کذا صاحب الجواهر وجداها فیها، بل کان الاسناد مستنداً الی ما هو المعروف، و علیه فیشکل الاعتماد علیها؛ لأنّ الشهرة الجابرة لضعف الحدیث انّما یکون موردها صورة وجود الحدیث و النقل عن المعصوم (علیه السلام) ، غایة الأمر ان ضعفه بالإرسال أو بغیره یکون مجبوراً بموافقة الشهرة له، و استناد المشهور الیه، و أمّا لو کان أصل وجود الحدیث مشکوکاً، و لم یعلم وجود النقل و عدمه، فلا معنی للانجبار، بل یرجع الکلام إلی حجیة نفس تلک الشهرة أو الإجماع و عدمها، کما لا یخفی، الّا ان یقال: ان اسناد مثل صاحب الجواهر یکفی فی تحقق النقل و وجود الحدیث، غایة الأمر کونه بنحو الإرسال، و لکنه یبعده انه لو کان المرسل مثل الصدوق (علیه السلام) من قدماء أصحابنا الإمامیّة (رض) و قریب الزّمن الی المعصوم (علیه السلام) لکان ذلک کافیاً فی تحقق الحدیث و وجود النقل، و أمّا مع بعد العهد و انحصار الطریق بکتب الحدیث، فلا مجال للاکتفاء به، فالظاهر أن إسناده کما عرفت کان مستنداً الی ما هو المعروف، لا الی الوجدان فی بعض کتب الحدیث.

الأمر الثانی- الرّوایات الواردة فی الموارد الخاصّة الدالّة علی رجوع المغرور فیما غرمه و تضرر به الی الغار،

مثل ما ورد فی التدلیس فی باب النکاح، و قد عقد صاحب الوسائل باباً لذلک عنوانه: ان المهر یلزم بالدخول ان کان بالمرأة عیب، و یرجع به الزوج علی ولیّها ان کان دلّسها،

ص:216

و إن لم یدخل بها فلا مهر لها، و کذا ان کانت دلّست نفسها و حکم العدة.

و من روایاته روایة (1)ابی عبیدة عن ابی جعفر (علیه السلام) قال فی رجل تزوج امرأة من ولیّها فوجد بها عیباً بعد ما دخل بها، قال: فقال: إذا دلست العفلاء و البرصاء و المجنونة و المفضاة و من کان بها زمانة ظاهرة، فإنّها ترد علی أهلها من غیر طلاق، و یأخذ الزوج المهر من ولیها الذی کان دلّسها، فان لم یکن ولیّها علم بشیء من ذلک فلا شیء علیه، و ترد علی أهلها، قال: و إن أصاب الزوج شیئاً ممّا أخذت منه فهو له، و إن لم یصب شیئاً فلا شیء له، الحدیث. و توصیف الولیّ بأنّه دلّسها ظاهر فی عموم الحکم و جواز الرجوع فی جمیع موارد التدلیس، و یظهر من الرّوایة بقرینة المقابلة انّ التدلیس یتحقّق بمجرد العلم بالعیب و عدم إظهاره و بیانه، فلو لم یکن عالماً بالعیب أصلاً، لا یتحقق هناک تدلیس، کما انه فی صورة العلم لا یتوقف تحقق عنوانه علی إراءتها بنحو لا یکون عیب فیها، بل یکفی مجرد السکوت و عدم البیان، کما لا یخفی.

و منها روایة (2)رفاعة بن موسی، قال سألت أبا عبد اللّه (علیه السلام) الی ان قال: و سألته عن البرصاء فقال: قضی أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی امرأة زوجها ولیها و هی برصاء ان لها المهر بما استحلّ من فرجها، و إن المهر علی الذی زوّجها، و انّما صار علیه المهر؛ لانّه دلّسها، و لو انّ رجلا تزوج امرأة و زوّجه ایّاها رجل لا یعرف دخیلة أمرها، لم یکن علیه شیء، و کان المهر یأخذه منها. و هذه الروایة أظهر من السّابقة

ص:217


1- 1) الوسائل 14:594 ب 2 من أبواب العیوب و التدلیس ح 1.
2- 2) الوسائل 14:596 ب 2 من أبواب العیوب و التدلیس ح 2.

لصراحتها فی ان استقرار المهر علی الولیّ إنّما لأجل التدلیس الواقع منه، کما ان عدم التفصیل فی الولیّ من جهة التدلیس و عدمه انّما هو لکون موردها البرصاء و هو عیب لا یکاد یخفی علی الولیّ، بخلاف الروایة السّابقة المشتملة علی بعض العیوب التی یمکن عدم علم الولیّ بها کالافضاء و نحوه.

و منها (1)صحیحة الحلبی عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی حدیث قال: انما یردّ النکاح من البرص و الجذام و الجنون و العفل، قلت: أ رأیت ان کان قد دخل بها، کیف یصنع بمهرها؟ قال: المهر لها بما استحلّ من فرجها، و یغرم ولیّها الذی أنکحها مثل ما ساق إلیها، و المراد من إنکاح الولیّ ایّاها و لو بقرینة سائر الروایات صورة التدلیس، لا مجرّد الإنکاح و لو کان بدونه.

و منها صحیحة (2)محمد بن مسلم عن ابی جعفر (علیه السلام) قال: فی کتاب علی (علیه السّلام) من زوج امرأة فیها عیب دلّسه و لم یبیّن ذلک لزوجها، فإنه یکون لها الصداق بما استحلّ من فرجها، و یکون الذی ساق الرجل إلیها علی الذی زوّجها و لم یبیّن. و هذه ایضاً تدل علی الرجوع فی صورة التدلیس، و تدل ایضاً علی ان المراد بالتدلیس مجرد العلم و عدم البیان و لم یفرق فی الروایة بین الولیّ و غیره.

و یؤید هذه الروایات ما رواه فی قرب (3)الاسناد عن عبد اللّه بن الحسن عن علی بن جعفر عن أخیه (علیه السلام) قال: سألته عن امرأة دلّست

ص:218


1- 1) الوسائل 14:596 ب 2 من أبواب العیوب و التدلیس ح 5.
2- 2) الوسائل 14:597 ب 2 من أبواب العیوب و التدلیس ح 7.
3- 3) الوسائل 14:598 ب 2 من أبواب العیوب و التدلیس ح 8.

نفسها لرجل و هی رتقاء، قال: یفرق بینهما و لا مهر لها (1)؛ فان عدم ثبوت المهر مع سببیة الدخول له، انّما هو للتدلیس الحاصل من ناحیة الزوجة نفسها.

و مثل الروایات الواردة فی شاهد الزور الدّالة علی رجوع المحکوم علیه به إذا رجع عن شهادته و کذب نفسه مثل:

صحیحة (2)جمیل عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی شهادة الزور ان کان قائماً، و إلا ضمن بقدر ما أتلف من مال الرّجل.

و روایة (3)محمّد بن مسلم عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی شاهد الزور ما توبته؟ قال: یؤدی من المال الذی شهد علیه بقدر ما ذهب من ماله، ان کان النصف أو الثلث، ان کان شهد هذا و آخر معه.

و مرسلة (4)جمیل عن أحدهما (علیهما السلام) قال فی الشهود: إذا رجعوا عن شهادتهم و قد قضی علی الرجل، ضمنوا ما شهدوا به و غرموا، و إن لم یکن قضی طرحت شهادتهم و لم یغرموا الشهود شیئاً.

و مرسلة (5)ابن محبوب عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی أربعة شهدوا علی رجل محصن بالزّنا، ثمّ رجع أحدهم بعد ما قتل الرجل، قال: ان قال الرابع (الراجع خ. ل) أو همت، ضرب الحدّ و أغرم الدّیة، و إن قال: تعمّدت

ص:219


1- 1) الوسائل أبواب العیوب و التدلیس، الباب الثانی، حدیث 8.
2- 2) الوسائل 18:238 ب 11 من أبواب الشهادات ح 3.
3- 3) الوسائل 18:238 ب 11 من أبواب الشهادات ح 1.
4- 4) الوسائل 18:238 ب 10 من أبواب الشهادات ح 1.
5- 5) الوسائل 18:240 ب 12 من أبواب الشهادات ح 1.

قتل.

و روایة (1)ابی بصیر عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی امرأة شهد عندها شاهدان بانّ زوجها مات، فتزوجت، ثمّ جاء زوجها الأوّل، قال: لها المهر بما استحلّ من فرجها الأخیر، و یضرب الشاهدان الحدّ، و یضمنان المهر لها عن (بما غرّا) الرجل، ثمّ تعتدّ و ترجع الی زوجها الأوّل (2).

و روایة (3)محمد بن قیس عن ابی جعفر (علیه السلام) قال: قضی أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی رجل شهد علیه رجلان بأنه سرق، فقطع یده، حتی إذا کان بعد ذلک، جاء الشاهدان برجل آخر، فقالا: هذا السّارق، و لیس الذی قطعت یده، انّما شبّهنا ذلک بهذا فقضی علیهما ان غرّمهما نصف الدیة، و لم یجز شهادتهما علی الأخر (4).

و غیر ذلک من الروایات الواردة فی هذا المجال، و لکن الظاهر ان استفادة القاعدة الکلیة منها فی غایة الإشکال، و إن کان لا یخلو بعضها عن الاشعار بها، کما لا یخفی.

و مثل ما ورد فی الأمة المبتاعة أو المزوّجة مثل:

روایة (5)جمیل بن دراج عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی الرجل یشتری الجاریة من السّوق فیولدها، ثمّ یجیء مستحق الجاریة، قال: یأخذ الجاریة

ص:220


1- 1) الوسائل 18:242 ب 13 من أبواب الشهادات ح 2.
2- 2) الوسائل أبواب الشهادات، الباب الثالث عشر، حدیث 2.
3- 3) الوسائل 18:242 ب 14 من أبواب الشهادات ح 1.
4- 4) الوسائل أبواب الشهادات، الباب الرابع عشر، حدیث 1.
5- 5) الوسائل 14:592 ب 88 من نکاح العبید و الإماء ح 5.

المستحقّ، و یدفع الیه المبتاع قیمة الولد، و یرجع علی من باعه بثمن الجاریة و قیمة الولد التی أخذت منه (1).

و روایة (2)ولید بن صبیح عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی رجل تزوج امرأة حرّة، فوجدها امة قد دلّست نفسها له، قال: ان کان الذی زوجها إیاه من غیر موالیها فالنکاح فاسد، قلت: فکیف یصنع بالمهر الذی أخذت منه؟ قال: ان وجد ممّا أعطاها شیئاً فلیأخذه، و إن لم یجد شیئاً فلا شیء له، و إن کان زوجها إیاه ولیّ لها، ارتجع علی ولیّها بما أخذت منه، و لموالیها علیه عشر ثمنها ان کانت بکراً، و إن کانت غیر بکر فنصف عشر قیمتها؛ بما استحلّ من فرجها.

الأمر الثالث- الإجماع المحصّل من تتبع کلامهم علی رجوع المغرور الی الغار بمقدار الضرر الذی أوقعه الغارّ فیه،

فضلاً عن الإجماعات المحکیة، بل یظهر من کلماتهم انهم أرسلوه إرسال المسلّمات، و یظهر ذلک بملاحظة فتاویهم و تعابیرهم خصوصاً فی مسألة تعاقب الأیادی فی باب الغصب؛ إذ یصرّحون برجوع الضامن الذی أخذ المثل أو القیمة منه الی من قبله إذا کان غارّاً له فی ذلک، و لا خلاف بینهم فی ذلک، و إن کان ربما یقع الخلاف فی بعض موارد تطبیق القاعدة، کما إذا کان الغار جاهلاً و مشتبهاً، مثلاً إذا اعتقد ان امرأة جمیلة و لها ثروة کثیرة، فمدحها بذلک، فتزوج بها لأجل ذلک رجل له طمع فی مالها و جمالها، فبذل لها مهراً کثیراً، ثمّ انکشف الخلاف و عدم کونها کذلک، فإنه فی مثله وقع الخلاف فی رجوع الزوج الی

ص:221


1- 1) الوسائل أبواب نکاح العبید و الإماء، الباب الثامن و الثمانون، حدیث 5.
2- 2) الوسائل 14:577 ب 67 من أبواب نکاح العبید و الإماء ح 1.

المادح و عدمه، و لکنه لا خلاف بینهم فی الکبری بوجه، هذا و لکن احتمال استناد المجمعین فی إجماعهم إلی النبوی المعروف أو الی بعض الأدلة الأخری یمنع من جعل الإجماع حجة برأسه و دلیلاً مستقلا فی مقابل سائر الأدلّة، کما أشرنا إلیه مراراً.

الأمر الرابع استقرار سیرة العقلاء و بنائهم علی رجوع المغرور المتضرر الی الغار

فیما تضرر به و خسره، و لا مجال لإنکار هذا البناء: لثبوته قطعاً بینهم؛ فانّ من قدّم ضیافة طعاماً مملوکاً لغیره فأکله الضیف، لا اشکال عند العقلاء فی انه یرجع الأکل بقیمة الطعام الذی کان فی الواقع ملکاً لغیر المقدّم علی المقدِّم الیه لتغریره إیاه من جهة ظهور عمله فی کون الطعام ملکاً لنفسه لا للغیر، و لا شبهة فی الرجوع فی مثله، و من جملة موارده موارد الروایات الخاصة المتقدّمة من تزویج الولیّ المعیوبة، و کون الأمة المبیعة ملکاً للغیر، و موارد شهادة الزّور، و علیه فیمکن ان یقال بان هذه الروایات إمضاء لما علیه العقلاء، کما انه یمکن ان یقال بصلاحیة الإجماع المتقدم لان یکون إمضاء للسیرة العقلائیة إذا لم نقل بکفایة مجرد عدم الرّدع.

و بالجملة لا إشکال فی تمامیة هذا الأمر فی مقام الاستدلال علی القاعدة، و لکن الظاهر عدم التساوی بین مورد بناء العقلاء و بین مورد القاعدة؛ فإنه لم یعلم تحقق بناء العقلاء فی صورة جهل الغارّ و عدم علمه، کما ان الظاهر ان العقلاء یحکمون بضمان الغار ابتداء من باب قوة السبب علی المباشر فی بعض الموارد، کما لا یبعد فی مثال الطعام المتقدم مع ان مورد القاعدة ما إذا توجه الضمان ابتداء علی المغرور المباشر و استقرّ علی

ص:222

الغارّ، و مع ذلک فهذا الدلیل قویّ جدّاً.

الأمر الخامس- ما یظهر من کلمة الأصحاب من ان الغار سبب فی الإتلاف

و المغرور مباشر ضعیف، و المباشر متی ضعف یصیر الضمان علی السبب، و قد اختار الشیخ (1)الأعظم (قده) هذا الوجه مدرکاً لرجوع المغرور الی الغار فیما إذا کان المشتری عن الفضولی جاهلاً بأن البائع فضولی و لیس بمالک فتضرّر.

و أورد علیه بوجهین:

الأوّل ان هذا لو تمّ لزم عدم تحقق الضمان علی المغرور أصلاً؛ لعدم کونه متلفاً و متصرفاً فی الحقیقة، مع انهم یقولون: ان المغرور یضمن و یرجع بما اغترمه علی الغار، و هذا ینافی ضعف المباشریة، و بعبارة اخری: لو کان السبب هو الإتلاف، فسبب الضمان هنا شیء واحد، فان کان علی الغار فلا وجه لضمان المغرور، و إن کان علی المغرور، فلا وجه للرجوع الی الغار، و إن کانا مشترکین فلا بد من التبعیض، فتعدد الضمان مع وحدة السبب لا وجه له.

الثانی ان ضعف المباشر الموجب لضمان السبب انّما هو فیما إذا کان المباشر کالآلة کالصبی غیر الممیز و المجنون و الحیوان و المکره بالفتح الخالی عن الاختیار و نحو ذلک حتی یصدق الإتلاف علی السبب و المغرور فی المقام بالغ عاقل شاعر مختار قاصد فکیف یعقل جعله کالآلة فلا بد من إثبات سبب آخر غیر الإتلاف یوجب ضمان الغارّ.

و أجیب عن هذا الوجه بان هذا فیما إذا لم یکن الفاعل المختار جاهلاً

ص:223


1- 1) المکاسب:147.

بالضرر المترتب علی فعله، امّا لو کان جاهلاً بالمفسدة و الضرر المترتب علی ذلک الفعل، کما لو وصف شخص دواء سامّاً بأنه نافع و له آثار کذا و کذا، و غرّره بشرب ذلک الدواء، فالسبب هاهنا أقوی من المباشر، و إن کان الفعل صادراً عن الفاعل المختار، و لعلّه من هذه الجهة یقال: ان الطبیب ضامن و إن کان حاذقاً، بل یمکن ان یقال: إِنه یقاد لو کان عالماً بأنه سامّ، و مع ذلک غرّر المریض بشربه.

أقول: ان هذا الدلیل علی فرض تمامیّته لا ینطبق علی جمیع موارد القاعدة؛ فإن الأقوائیة انما تتم مع علم الغارّ، و أمّا مع جهله فلا مجال لها أصلاً، کما لا یخفی.

المقام الثانی- فی مفاد القاعدة و معناها،

فنقول: لا شبهة فی ان الغار و المغرور إذا کان کلاهما عالماً بترتب الضرر علی الفعل الصادر من المغرور، لا یکون هناک رجوع، کما انه لا یکون غرور أصلاً؛ فإنه مع علم المغرور بأن المأخوذ مغصوب مثلاً و مع ذلک أخذه و تصرف فیه، لا مجال لتحقق الغرور. کما انه لا شبهة فی انه إذا کان الغار جاهلاً و المغرور عالماً، لا یکون فی البین رجوع و لا غرور بطریق اولی من الصورة المتقدمة.

و أمّا صورة العکس، بان کان الغار عالماً و المغرور جاهلاً فهی القدر المتیقن من القاعدة علی تقدیر اعتبارها؛ لوضوح تحقق الغرور و عنوانی الغارّ و المغرور.

إنّما الإشکال و الارتیاب فی صورة جهل کلیهما، و منشأ الاشکال ان الجاهل بترتب ضرر علی فعل إذا أوقع شخصاً فی ارتکاب ذلک الفعل بتشویقه الیه و توصیفه بترتب النفع علیه، هل یصدق علیه عنوان الغار؟

ص:224

أم لا یصدق علیه خصوصاً إذا کان معتقداً بترتب النفع علیه؟ کالطبیب الحاذق الذی یصف الدواء للمریض باعتقاد تأثیره فی العلاج و قطع المرض، فاستعمله المریض فتبین الخلاف، و إن الدواء کان مضرّاً، و إن الطبیب قد اشتبه علیه ذلک.

ربما یقال: إنه حیث لا یکون التغریر من العناوین القصدیة التی یتوقف تحققها علی قصد عنوانها کالتعظیم مثلاً، بل من العناوین المتحققة بنفس الفعل، کعنوان الضرب؛ إذ لا یتوقف تحققه علی قصد عنوانه، فالظاهر حینئذ تحققه و إن کان الغار جاهلاً، و لازمه عدم قصد إیقاعه فی الضرر المترتب علی ذلک الفعل؛ لکونه جاهلاً بالترتب، بل معتقداً بثبوت نفع له مکان الضّرر.

أقول: الظاهر ان صدق الغرور الذی هو بمعنی الخدعة فی صورة الجهل مشکل؛ فإنه کیف تتحقق الخدعة من الجاهل مع فرض جهله؟ فهل یکون الطبیب الحاذق فی المثال المتقدم خادعاً و مدلّساً، و قد عرفت نفی عنوان التدلیس عن الولیّ الجاهل بعیب المرأة فی بعض الروایات المتقدمة الواردة فی عیوبها؟ نعم لا یلزم ان یکون العالم فی مقام إراءَة غیر الواقع و إخفائه، بل یکفی مجرد العلم و السکوت و عدم البیان، و منه یظهر ان دعوی مدخلیة العلم فی معنی الغرور و التدلیس لا تکون مستلزمة لکون هذا العنوان من العناوین القصدیّة؛ فان دخالة العلم فی المعنی أمر، و لزوم قصد العنوان أمر آخر، و علیه یظهر الخلل فی ما افاده المحقق البجنوردی فی هذا المقام فتدبّر.

هذا بالنسبة إلی معنی کلمة «الغرور» المأخوذة فی القاعدة، و أمّا کلمة

ص:225

«یرجع» فظاهرها ان المغرور ایضاً ضامن، و للمضمون له الرجوع الیه سواء کان له الرجوع الی الغارّ ایضاً کما فی مورد تعاقب الأیدی فی العین المغصوبة، أو لم یکن له الرجوع الیه، کما فی مورد المرأة المعیوبة المدلّسة المدخول بها؛ فان الظاهر انه لا یکون لها الرجوع ابتداء الی ولیّها الذی أنکحها، بل لها الرجوع الی الزوج فقط، و علی ایّ حال فیستفاد من هذه الکلمة أمران:

أحدهما: کون المغرور ضامناً یجب علیه تدارک الضرر و الخسارة التی أوقعها بالغیر و الآخر: ان رجوعه الی الغار انّما هو بعد تدارک الضرر، لعدم صدق الرجوع بدونه. هذا کله بالنسبة إلی الکلمات المأخوذة فی القاعدة.

و أمّا بلحاظ الحکم، و هو جواز الرجوع، فالظاهر انه یختلف باختلاف الأمور المتقدمة المذکورة فی مدرک القاعدة و مستندها؛ فإنه ان کان المستند هی الروایة النبویة المعروفة، فإن قلنا بعموم لفظ الغرور لصورة الجهل، فمقتضی عموم الروایة و إطلاقها الشمول لهذه الصّورة أیضاً، فالمغرور یرجع حینئذ إلی الغار مطلقاً، سواء کان عالماً أو جاهلاً، و إن قلنا باختصاص الغرور بخصوص صورة العلم، فلا مجال حینئذ للحکم بجواز الرجوع الی الغار بمقتضی الروایة الواردة، کما لا یخفی.

و إن کان المستند هو الإجماع، فالقدر المتیقن من معقده خصوص صورة العلم، من دون فرق بین القول بعموم لفظ الغرور لصورة جهل الغار و بین القول باختصاصه بصورة العلم؛ و ذلک لأن الإجماع دلیل لبّی یقتصر فی مورده علی القدر المتیقن، خصوصاً مع وجود الخلاف فی صورة الجهل.

ص:226

و إن کان المستند هو بناء العقلاء، فالظاهر اختصاص مورده بصورة العلم؛ فإنهم لا یرون الجاهل ضامناً بوجه، کما یظهر من مثال الطبیب الحاذق، بل لا یرون مثله غارّاً و مدلّساً و خادعاً أصلاً.

و إن کان المستند هی الروایات الخاصة الواردة فی موارد مختلفة، التی قد تقدم بعضها مثل ما ورد فی باب تدلیس المرأة المعیوبة، و رجوع شاهد الزور عن شهادته، فالظاهر بل المصرح به فی بعضها انّ موردها صورة العلم، و قد صرّح فی روایة (1)ابی عبیدة المتقدمة بأنه ان لم یکن ولیّها عالماً بشیء من ذلک، فلا شیء علیه، و کذا روایة (2)رفاعة و بعض الروایات الأخری، و هکذا الروایات الواردة فی شاهد الکذب؛ فان موردها صورة العلم بالکذب باعتبار لفظ التوبة الواقع فی بعضها، و باعتبار طرح شهادتهم و عدم الحکم علی طبقها فی ما إذا لم یکن قضی علی وفقها، و کذا باعتبار الحکم بأنه یضرب الشاهدان الحدّ، مع انه لا حدّ فی صورة الجهل، نعم فی مرسلة (3)ابن محبوب ثبوت الحدّ، ای: حدّ القذف، فی صورة الوهم و عدم التعمّد، و کذا لزوم غرامة الدّیة، و لکنها من جهة الحدّ معارضة ببعض الروایات الأخری الدالة الدالّ علی عدم الثبوت، و من جهة غرامة الدیة یکون للمورد خصوصیة و هی خصوصیة القتل؛ إذ تثبت الدّیة بسببه فی قتل الخطأ، مع ان مورد هذه الروایات لا یکون من مصادیق قاعدة الغرور، لما عرفت من ان موردها ما إذا کان الرجوع أوّلاً إلی المغرور، غایة الأمر ان المغرور یرجع الی الغار، و مورد هذه الروایات من مصادیق

ص:227


1- 1) الوسائل 14:569 ب 2 من أبواب العیوب و التدلیس ح 1 و 2.
2- 2) الوسائل 14:569 ب 2 من أبواب العیوب و التدلیس ح 1 و 2.
3- 3) الوسائل 18:240 ب 12 من کتاب الشهادات ح 1.

قوة السبب بالنسبة إلی المباشر، إذ یکون الضمان ثابتاً بالنسبة إلی السبب فقط، کما لا یخفی.

و أمّا روایة (1)جمیل بن درّاج المتقدمة الواردة فی الأمة المبیعة المستحقة للغیر، فظاهرها و إن کان هو الإطلاق من جهة علم البائع باستحقاق الغیر ایّاها و جهله، خصوصاً مع کونه سوقیّاً، الّا انه باعتبار کون البائع عالماً بخصوصیات الأمة نوعاً لا مجال للاتکال علی هذا الإطلاق فتدبّر.

و إن کان المستند هو اقوائیة السبب من المباشر، فالظاهر انه لا فرق بین صورة علم الغارّ و جهله، و یدلُّ علیه الروایات الواردة فی شهود الزور الدالة علی الضمان مع الجهل ایضاً، کما عرفت، نعم قد مرّ منّا المناقشة فی صدق الأقوائیة فی صورة الجهل.

ثمّ انه ربما یقال: إِنْ الأدلة الواردة فی باب ضمان الطبیب تدل علی ضمان الغار و إن کان جاهلاً، و لکنا حققنا فی کتاب الإجارة ان المستفاد من مجموع الروایات الواردة فیه هو ثبوت الضمان فی ما إذا کان استناد الإتلاف و الإفساد الی الطبیب، و إن لم یتحقق منه المباشرة، کما فی التطبیب علی النحو المتعارف، فإن الإسناد إلی الطبیب فیه أمر عرفی، نعم لا یتحقق الاستناد فی توصیف الدواء و مثله، فلا یکون فیه ضمان کما صرّح به سیدنا الأستاذ الامام (مد ظله العالی) فی کتاب (2)الإجارة، و علیه فترتبط مسألة الطبیب ایضاً بمسألة اقوائیة السبب من المباشر، و لا ترتبط بالقاعدة.

ص:228


1- 1) الوسائل 14:592 ب 88 من أبواب العیوب و التدلیس ح 5.
2- 2) تحریر الوسیلة 1: کتاب الإجارة 584.

المقام الثالث- فی تحقق الاشتراک فی باب الغرور

انّه کما یتحقق فی باب الید الموجبة للضمان الترکب و الاشتراک، کما إذا اشترکا فی غصب عین بحیث لو لم یکن اشتراک لما کان یتحقق الغصب، و قد عبّرنا عنه فی قاعدة ضمان الید بالید المرکّبة، کذلک یتحقق الاشتراک فی باب الغرور ایضاً، کما إذا شهدا علی مال بأنّه ماله، فأخذه و أتلفه، ثمّ بان انه ملک للغیر، و انّ إتلافه إتلاف لمال الغیر، فإن شهادة کل واحد جزء سبب فی الغرور، و هو قد تحقق بمجموع الشهادتین؛ ضرورة عدم کفایة شهادة واحدة فی جواز التصرف فی مال، و فی هذه الصّورة یتحقق الاشتراک فی الضمان، و یمکن فرض الاجتماع علی ان یکون فعل کل منهما علة تامة فی الغرور، کما لو فرض صدور السبب من کل منهما دفعة، بحیث لو لم یکن أحدهما لکفی الأخر، فیکون کلّ منهما علة مستقلّة بهذا المعنی، و لازم ذلک ایضاً الاشتراک فی الضّمان.

المقام الرّابع- فی ان قرار الضمان علی من تحقق التلف بیده

ظاهر کلام الفقهاء فی مسألة تعاقب الأیدی فی باب ضمان الید ان الأیدی و إن کانت کلّها ضامنة، و یجوز للمالک الرجوع الی أیّة واحدة منها شاء، الّا ان قرار الضمان علی من تحقق التلف بیده بإتلافه أو بسبب آخر، فاستقرار ضمان الغصب علی الغاصب المتلف مثلاً و ظاهر کلماتهم فی هذا المقام، أی: قاعدة الغرور، انّ قرار الضمان علی الغارّ، و إن المغرور یرجع الیه، و حینئذ لو فرض غار و مغرور و متلف لم یکن مغروراً، کما إذا أخذ العین المغصوبة من ید المغرور قهراً علیه، ثمّ أتلفها، فإنه یجوز للمالک الرجوع الی کل واحد منهم، فاذا رجع الی المتلف و أخذ المثل أو القیمة منه، فلا یجوز له الرجوع الی واحد من الأوّلین؛ لأن المفروض عدم کونه مغروراً من أحدهما، و کون الثانی مغروراً من قبل الأوّل،

ص:229

لا یستلزم کون الثالث مغروراً بوجه، بعد فرض أخذ العین من یده قهراً علیه، و دعوی انه لو کان یعلم بان المال لغیره ربما لا یقدم علی الأخذ کذلک، مدفوعة بأن مثل ذلک لا یوجب تحقق الغرور، مع ان لازمه کون الثانی غارّاً بالنسبة الی الثالث، و لا مجال للالتزام به بوجه.

و إذا رجع المالک الی المغرور الذی هو الثانی، فالظاهر انّ له الخیار، فیمکنه له الرجوع الی الغارّ باعتبار قاعدة الغرور، و یجوز له الرجوع الی المتلف؛ لأنه أیضاً یستقر الضّمان علیه.

و إذا رجع المالک الی الغارّ و أخذ المثل أو القیمة فالظاهر، انه لا یجوز له الرجوع الی الآخرین؛ امّا المغرور فواضح، و أمّا المتلف، فلانة لا وجه للرّجوع الیه، و عدم کونه غارّاً بالنسبة إلیه لا یوجب جواز الرجوع، و لکنه یحتمل بملاحظة ما ذکرنا فی مسألة ضمان الأیدی المتعاقبة، من انه إذا رجع المالک الی السابق یجوز للسابق الرجوع الی اللاحق، ما لم یکن غارّاً له، و المفروض فی المقام عدم کونه غارّاً بالنسبة إلی اللّاحق المتلف، و مع ذلک فجواز الرجوع فی هذه الصورة محل تأمّل و إشکال.

المقام الخامس- انه لو کان المدرک للقاعدة غیر الروایات المتقدمة الواردة فی موارد خاصّة، لکانت القاعدة جاریة فی جمیع أبواب الفقه

مما له ارتباط بها، خصوصاً باب المعاملات و المعاوضات و الضمانات، و أمّا لو کان المدرک هی الروایات السّابقة، فقد عرفت الإشکال فی استفادة العموم منها لغیر مواردها، و إن کان فیها اشعار به، و یستفاد من کلماتهم اجراء القاعدة فی غیر تلک الموارد، و لا بأس بالإشارة الی بعض الموارد فنقول

ص:230

منها: ما ذکره الشیخ (1)الأعظم الأنصاری (قده) فی باب بیع الفضولی من ان المشتری إذا لم یخبره الفضولی بأن هذا مال الغیر موهماً انّه ماله، ثمّ تبین للمشتری بعد ذلک انه مال الغیر، و أنّ المالک الأصیل أخذ العین من یده و غرّمه أیضاً، بأن أخذ منه اجرة سکنی الدّار سنین مثلاً و قد یتفق فی بعض الصّور ذهاب العین مع الثمن الذی بذله للبائع الفضولی لهذه الدار مثلاً و هذه الخسارة حصلت له من ناحیة البائع الفضولی و تغریره به؛ بعدم ذکره ان المبیع لیس له.

و قد قال: ان رجوع المشتری الی الفضولی فی خساراته التی لم یحصل له نفع فی مقابلها إجماعی؛ للغرور فإن البائع مغرّر للمشتری و موقع إیاه فی مخاطر الضمان و متلف علیه ما یغرمه، فهو کشاهد الزور، أی: یضمن کما یضمن شاهد الزّور.

و منها: ما ذکروه فی باب الغصب من انه لو قدم الغاصب طعاماً الی شخص بعنوان ضیافته له، فتبین انه ملک الغیر، فالمالک الأصلی إذا رجع الی الآکل نظراً إلی أنه مباشر للإتلاف أو الی وقوع یده علی ماله و المفروض کونها ید ضمان، فیجوز للأکل الرجوع الی الغاصب، لقاعدة الغرور بل ذکروا ان الغاصب لو قدم مال المالک الیه بعنوان انه مال الغاصب لا المالک، و کان المالک جاهلاً بذلک، یکون الغاصب ضامناً؛ لهذه القاعدة.

و منها: ما ذکروه فی باب الإجارة من انه لو قال للخیاط مثلاً-: ان کان یکفی هذا قباء فاقطعه، فقال: یکفی، و قطعه فلم یکف، فسقط عن

ص:231


1- 1) المکاسب 146.

القیمة أو قلّت قیمته، فیرجع صاحب الثوب الی الخیاط بما نقص، لانه غرّه، و قال: یکفی.

و منها: ما ذکروه فی باب العاریة من انه لو اعاره مال الغیر بعنوان انه مال نفسه، ثمّ تبین انه مال الغیر، و رجع ذلک الغیر الذی هو المالک الی المستعیر ببدل ما انتفع من ماله بعنوان العاریة، فللمستعیر الرجوع الی المعیر؛ لانه غرّه.

و منها: غیر ذلک من الموارد التی تظهر للمتتبع فی أبواب الفقه.

هذا تمام الکلام فی قاعدة الغرور.

ص:232

قاعدة نفی السّبیل

اشارة

و هی ایضاً من القواعد الفقهیة المشهورة التی یستند إلیها فی مختلف أبواب الفقه فی فروع کثیرة فی باب المعاملات و النکاح و الولایات و الإرث و غیرها علی ما سنبیّنه إن شاء اللّه تعالی فی مقام تطبیق القاعدة، و الکلام فیها یقع فی مقامات:

المقام الأوّل- فی مدرک القاعدة و مستندها،

اشارة

و ما قیل فی هذا المجال أمور:

الأوّل الإجماع علی انه لم یجعل فی الشریعة حکم موجب لوجود السبیل للکافر علی المسلم

و ثبوت السّلطة له علیه، و لم یظهر من أحد إنکار هذا الأمر، کما یظهر بالتتبع فی موارد هذه القاعدة کمسألة تزویج المؤمنة من الکافر و بیع العبد المسلم من الکافر، و غیرهما من الموارد، و بالجملة الظاهر تحقق الإجماع، و قد بلغ نقل الإجماع حدّ الاستفاضة بل التواتر،

ص:233

کما یظهر بمراجعة کلمات الأصحاب (رض) .

و لکن مع ذلک کله لا یکون الإجماع متصفاً بالأصالة و لا یکون حجة مستقلة؛ لأنه من المحتمل جدّاً ان یکون مستند المجمعین فی هذه القاعدة بعض الأدلة الآتیة، فلا یکون کاشفاً عن رأی المعصوم (علیه السلام) بل اللازم النظر فی تلک الأدلة من جهة التمامیة و عدمها.

الثانی قوله تعالی وَ لَنْ یَجْعَلَ اَللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی اَلْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً

(1)و الظاهر من الآیة ان المراد منها انه تعالی لم یجعل و لن یجعل بالجعل التشریعی حکماً موجباً لتحقق السبیل و السلطة للکافر علی المؤمن، خصوصاً بعد ملاحظة ان الجعل التکوینی بمعنی الغلبة الخارجیة التکوینیة أمر متحقق مشاهد بالوجدان، و قد أخبر به تعالی فی بعض الآیات الحاکیة عن ظفر الکفار و مغلوبیة المسلمین، فسبیل الآیة حینئذ سبیل آیة نفی الحرج المشتملة علی نفی جعل حکم حرجی فی الدّین، فکما أن آیة نفی الحرج حاکمة علی الأدلة الأولیة الظاهرة فی ثبوت الحکم فی مورد الحرج ایضاً، و متصرفة فیها بالحمل علی غیر صورة الحرج، غایة الأمر بلسان الحکومة لا بلسان التخصیص، کذلک هذه الآیة حاکمة علی الأدلة الأولیة الدالة علی ثبوت الحکم فی مورد السبیل أیضاً، فهی حاکمة علی مثل (أحلّ الله البیع) الدال بإطلاقه علی نفوذ بیع العبد المسلم من الکافر، و علی أدلة النکاح الدالة بإطلاقها علی مشروعیة تزویج المؤمنة من الکافر، و علی أدلة ولایة الأب و الجدّ الدالّة کذلک علی ثبوت الولایة لهما إذا کانا کافرین علی الولد المسلم، و علی غیرها من الأدلة الأولیة الأخری، و یوجب اختصاصها

ص:234


1- 1) سورة النساء الآیة 141.

بما إذا لم یتحقق السّلطة و السبیل، و إلا لم تجعل مشروعیّة البیع و النکاح و الولایة المذکورات، و بالجملة هذه الآیة، و إن لم یقع فیها التعبیر بالدین کما فی آیة الحرج، الّا ان الظاهر اتّحاد سبیلهما، و إن المراد من الجعل المنفی هو الجعل التشریعی المرتبط بمقام الاحکام و تشریعها، و علی ما ذکرنا فدلالة الآیة علی القاعدة ظاهرة.

و لکن أورد علی الاستدلال بالآیة بأمور:

منها: ان قوله تعالی قبل ذلک فَاللّهُ یَحْکُمُ بَیْنَکُمْ یَوْمَ اَلْقِیامَةِ قرینة علی انه لیس المراد بالآیة ما ذکره المستدلّ، بل المراد بها نفی جعل الحجة للکافرین علی المؤمنین فی یوم القیامة، بمعنی انه فی ذلک الیوم الذی هو یوم ظهور الحقائق و انکشاف الواقع، لا یبقی حجة بنفع الکافر علی ضرر المسلم، بل تکون الحجة للمؤمنین علی الکافرین، و یؤید هذا المعنی ما رواه الطبری فی محکیّ تفسیره عن ابن وکیع بإسناده عن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (علیه السلام) قال: قال رجل: یا أمیر المؤمنین أ رأیت قول اللّه وَ لَنْ یَجْعَلَ اَللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی اَلْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً و هم یقاتلوننا فیظهرون و یقتلون. قال له علیّ (علیه السلام) : ادنُه ادنُه ثمّ قال (علیه السلام) : « فَاللّهُ یَحْکُمُ بَیْنَهُمْ یَوْمَ اَلْقِیامَةِ و لَنْ یَجْعَلَ اَللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی اَلْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً » یوم القیامة. و عن ابن عباس تفسیر الآیة بیوم القیامة، و إن المراد من السبیل فیها هی الحجّة (1).

و الجواب: انّ مجرّد المسبوقیّة بذلک لا دلالة له علی الاختصاص، و قد اشتهر ان المورد لا یکون مخصّصاً، غایة الأمر انّ المسبوقیة توجب تعمیم

ص:235


1- 1) جامع البیان المعروف بتفسیر الطبرسی 5:333.

مفاد الآیة و الحکم، بان مرادها ان اللّه لن یجعل الغلبة للکافر علی المؤمن، لا فی مقام التشریع و جعل الاحکام، و لا فی یوم القیامة، و هذا المعنی ممّا یساعده و یؤیّده تناسب الحکم و الموضوع؛ فان عدم جعل السبیل بهذا النحو الکلی یناسب عدم ثبوت الغلبة فی یوم القیامة، فتدبّر، و أمّا الروایة الواردة فی التفسیر، فمضافاً الی عدم اعتبارها، فإِن الغرض المهمّ فیها نفی جعل السبیل التکوینی و الغلبة الخارجیة، الأمر الذی یکذبه الوجدان؛ لثبوتها فی الخارج وجداناً، و لا دلالة لها علی نفی الجعل التشریعی بوجه.

و منها: ان المراد بالسبیل هی الحجّة کما عن بعض المفسّرین، و قد ورد فی الخبر ایضاً، و هو ما روی فی العیون (1)عن ابی الحسن (علیه السلام) ردّاً علی من زعم ان المراد بها نفی تقدیر اللّه سبحانه بمقتضی الأسباب العادیة، تسلط الکفار علی المؤمنین، حتی أنکروا؛ لهذا المعنی الفاسد الذی لا یتوهّمه ذو مسکة، انّ الحسین بن علی (علیه السلام) قتل، بل شبه لهم و رفع کعیسی (علیه السلام) ، فیکون مفادها: انه تعالی لن یجعل حجة للکافر علی المؤمن، بل الحجة للثانی علی الأوّل، فیکون سبیل الآیة سبیل قوله تعالی (2)کَتَبَ اَللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِی ، بناء علی ان یکون المراد منه هی الغلبة فی مقام الحجة و الاحتجاج، فالحجة فی جمیع الموارد بنفع المؤمن و فی جانبه.

و الجواب: ان حمل السبیل علی الحجة ان کان بلحاظ المسبوقیة بیوم القیامة، فقد عرفت الجواب عنه، و إن کان فی نفسه، فلا مجال له، لعدم الدلیل علیه أصلاً؛ فإن السّبیل له معنی عام یشمل الحجة و غیرها،

ص:236


1- 1) عیون اخبار الرضا (علیه السلام)2:203.
2- 2) سورة المجادلة الآیة:21.

و لا وجه لحملة علی خصوصها، مع انه ربما یقال بأنه علی هذا التقدیر ایضاً یتم الاستدلال بالآیة؛ نظراً الی ان حجة الملک و الزوجیة و الولایة من أعظم الحجج فتأمّل.

و منها: ان الکافرین و کذا المؤمنین فی الآیة جمعان محلّیان باللّام مفیدان للعموم، و علیه فمفاد الآیة: انه تعالی لم یجعل لکل فرد من افراد الکافر علی کل فرد من افراد المؤمن سبیلاً، فهی تدل علی سلب العموم لا عموم السلب، الذی هو المدعی، فلا تنافی الآیة وجود السبیل لبعض افراد الکفار علی جمیع افراد المسلم فضلاً عن بعضه، کما لا یخفی.

و الجواب وضوح کون المراد من الجمعین هو الجنس الذی هو أحد معانی الجمع المحلی باللّام، و مناسبة الحکم و الموضوع تقتضی ذلک ایضاً، مع ان سلب العموم فی الآیة یدل علی عموم السّلب؛ بعدم القول بالفصل، و الآیة لا تنفیه بوجه، کما لا یخفی.

الثالث ما رواه الصّدوق فی باب میراث أهل الملل من قوله (صلی الله علیه و آله) : الإسلام یعلو و لا یعلی علیه،

(1)

و الکفار بمنزلة الموتی لا یحجبون و لا یورثون. و ضعف السند مجبور باشتهار التمسک به بین الفقهاء و استنادهم إلیه فی الموارد المختلفة.

و توضیح دلالته علی القاعدة ان قوله (صلی الله علیه و آله) : الإسلام یعلو و لا یعلی علیه، لو لم یکن مذیّلاً بالذیل المذکور، لکان یحتمل ان یکون فی مقام الاخبار عن علوّ الإسلام فی مستقبل الزمان، و انه ینتشر فی أقطار العالم،

ص:237


1- 1) من لا یحضره الفقیه 4:334.

و تنحصر مرتبة العلوّ و الحکومة به، و یصیر نظیر قوله تعالی (1)هُوَ اَلَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ اَلْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی اَلدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ اَلْمُشْرِکُونَ بناء علی کونه إخباراً بغلبة الدین الحنیف علی سائر الأدیان فی عهد مولانا صاحب العصر و الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه) .

و لکن الذیل المذکور فی الحدیث یرشدنا إلی أمرین، أحدهما: کون الروایة فی مقام الإنشاء و الجعل دون الاخبار، و الآخر: کون مقابل الإسلام هو الکفار دون الکفر، فالمراد بالإسلام هو المسلمون المتدینون به لا نفس الإسلام.

و بعد ذلک یتضح المراد من الحدیث الشریف، و إن معناه ان المسلم لم یجعل علیه حکم یوجب علوّ الکافر علیه، بل الأحکام المجعولة فی الإسلام فی ما یرجع الی الأمور التی بین المسلمین و الکفار کلها مجعولة للمسلمین، و قد روعی فیها جانبهم و لوحظ فیها علوّهم، فملکیة الکافر للمسلم الموجبة لعلوّه علیه غیر مجعولة فی الإسلام، من دون فرق بین ان یراد بیعه منه و بین ان یسلم العبد الکافر للمولی الکافر، و هکذا غیر الملکیّة من الزوجیة و الولایة و غیرهما.

فالإنصاف تمامیة دلالة الحدیث علی القاعدة، الّا ان یناقش فیها من إذ السند؛ نظراً الی ان المقدار المجبور بالشهرة و الاستناد انّما هو صدر الروایة دون جمیعها، و صدرها فی نفسه لا ینطبق علی القاعدة کما عرفت، الّا ان یقال ان فهم الفقهاء منه ذلک دلیل علی اعتبارهم لذیل الروایة أیضاً، فتأمّل.

ص:238


1- 1) سورة الصّف الآیة:9.

هذا و لکن لصاحب کتاب «العناوین» (1)تحقیق فی هذا المقام یظهر منه دلالة الحدیث علی القاعدة مع قطع النظر عن الذیل أیضاً، فإنه بعد نفی کون المراد بعلوّ الإسلام هو علوّ الشرف و الرتبة؛ نظراً الی کونه سبیل النجاة دون سائر الأدیان، قال ما ملخصه: «ان کان المراد الاخبار عن ان الإسلام تزید شوکته و قوّته بحیث یعلو علی سائر الأدیان بکثرة المتدینین و الأعوان، فلا ریب ان الاخبار عن هذا المعنی لیس ممّا هو وظیفة للشارع من إذ هو کذلک، مع انّا نری علوّ سائر الأدیان و کثرة الکفر و الشرک و مقهوریة المسلمین، و احتمال إرادة أنّه یعلو فی أواخر الأزمنة بحیث یضمحل الکفر، فالاخبار عن هذا المعنی ممّا لا ریب فی بعده عن الخبر عند الإنصاف، سیّما مع التأکید بقوله: و لا یعلی علیه؛ فان الظاهر من إثبات العلوّ للإسلام فی المستقبل، و إن کان أعم من کونه دائماً أو فی زمان من الأزمنة، لکن نفی علوّ غیره فی المستقبل، مع حذف المتعلق و الزّمان، ظاهر فی النفی دائماً، فالفقرة الأولی مجملة فی إثبات العلوّ من هذه الجهة، و المتیقن منه بعض الأزمنة، و لکنه لا ینفی العلوّ فی الجمیع، و الفقرة الثانیة دالة علی عدم علوّ غیره مطلقا؛ لانّ المصدر فی ضمن الفعل نکرة، فاذا دخل علیه أداة النفی اقتضی العموم المستلزم لنفی جمیع افراد العلوّ فی الزمن المستقبل، و هذا مدلول لا معارض له فی الفقرة الأولی، غایة الأمر دورانه بین علوّ الإسلام فی بعض الأوقات، و مساواته مع للکفر فی بعض آخر، أو علوّه دائماً، فیدور الأمر بین الاحتمالین، و علی ایّ تقدیر یکون مدلول الخبر الاخبار عن عدم علوّ الکفر علی الإسلام فی وقت من الأوقات، و لازمه

ص:239


1- 1) عناوین الأُصول میر فتاح 299.

الکذب؛ لأنا نری بالوجدان قوة الکفار و مقهوریة المسلمین فی بعض الأزمنة، فلا وجه لحمل الخبر علی الاخبار، بل ینحصر الطریق فی حمله علی الإنشاء» .

ثمّ انه مما ذکرنا ظهر ان حمل الروایة علی ان الإسلام یعلو فی الحجة و البرهان علی سائر الأدیان فی غایة البعد، و لیس احتماله مبطلاً للاستدلال بها، خصوصاً بعد عدم مساعدة معنی العلوّ للغلبة علی الخصم فی مقام الاحتجاج؛ لان العلوّ بمعنی التسلط و الغلبة بالحجة لیس تسلّطاً علی الخصم.

نعم هنا اشکال علی الاستدلال بالرّوایة و کذا بآیة نفی السبیل المتقدمة، و هو ثبوت السبیل و العلوّ للکافر علی المسلم فی الجملة کما إذا اقترض المسلم من الکافر غیر الحربی، أو أتلف ماله، فإنه لا شبهة فی ثبوت التسلط و السبیل للکافر علی أخذ ماله و ثبوت الضمان للمسلم فی مقابله.

و أجیب عن ذلک تارة بالالتزام بالتخصیص فی مفاد الدلیلین، و أخری بعدم شمولهما لمثل هذه الفروض، حتی یحتاج الی التخصیص؛ لان المتبادر منهما عدم جعل السبیل و کذا عدم ثبوت العلوّ بأصل الشرع، بمعنی ان الشارع لم یسلط الکافر علی المسلم ابتداء، و أمّا إذا فعل المسلم فعلاً سلّطه به علی نفسه، فلا دخل لذلک بالإسلام و علوه، و انّما هو شیء خارجی.

و الجواب عن الأوّل وضوح کون الدلیلین سیّما الآیة المشتملة علی کلمة «لن» آبیین عن التخصیص؛ ضرورة منافاة لحنهما لعروض ایّ

ص:240

تخصیص علیهما.

و عن الثانی مضافاً الی النقض بما إذا أرادت المرأة المؤمنة تزویج نفسها من الکافر، فإنه لا فرق بینه و بین صورة الاقتراض بوجه، مع انهم لا یقولون بالجواز فی النکاح انّ منشأ التسلط فی هذه الفروض ایضاً جعل الشارع و حکمه بلزوم أداء القرض الی المقرض، و کون الإتلاف سبباً للضمان؛ ضرورة انه مع عدم هذا الجعل لم یکن المقترض ملزماً بالأداء و لا المتلف ضامناً لماله أصلاً، فالإشکال لا یندفع بمثل ذلک.

و یمکن الجواب عن النقض بان عدم جواز تزویج المرأة المؤمنة نفسها من الکافر مستند الی الرّوایات الخاصة الواردة فی مورد، و لم یعلم انّ الوجه فیه هی قاعدة نفی السبیل، بل یمکن ان یکون بملاک آخر لا یوجد فی مثل الاقتراض و الضمان.

الرّابع دلیل الاعتبار أو مناسبة الحکم و الموضوع،

بمعنی ان شرف الإسلام و عزّته یقتضی ان لا یجعل فی أحکامه و شرائعه ما یوجب ذلّ المسلم و هو انه، و قد حصر اللّه تعالی (1)فی کتابه العزیز العزة بنفسه و برسوله و بالمؤمنین، و علیه فکیف یمکن ان یجعل اللّه حکماً یکون سبباً لعلو الکفار علی المسلمین و منافیاً للعزة الموجودة فیهم المنحصرة بهم؟ و هذا لیس من باب اعمال الظن فی استخراج الحکم الشرعی، حتی یقال: إن الأصل فی الظن عدم الحجیة و الاعتبار إلا إذا قام دلیل علیه، بل من باب تنقیح المناط القطعی، بل یکون استظهاراً من الأدلة اللفظیة علی ما عرفت.

ص:241


1- 1) سورة المنافقون الآیة:8.

قال المحقق البجنوردی (1)(قده) بعد ذکر هذا الدلیل: «و عندی ان هذا الوجه أحسن الوجوه للاستدلال علی هذه القاعدة، لأنه مما ترکن النفس الیه و یطمئن الفقیه به» .

أقول: الظاهر ان هذا الوجه ایضاً لا ینطبق علی جمیع موارد القاعدة، فإن مثال التزوج المتقدم من موارد القاعدة علی حسب قولهم، مع انه لا یکون فیه ذلّ بوجه؛ فإن الزوجیة المتقوّمة بالطرفین المفتقرة إلی رضا کلیهما، کیف تکون مستلزمة للذل و الهوان إذا أرادت المؤمنة ان تزوج نفسها من الکافر، فهل ارادة التزویج من ناحیة المرأة ارادة للوقوع فی المذلّة؟ أم هی متاع یشتریها الزوج بأغلی الثمن، کما فی بعض الروایات الواردة فی جواز النظر إلیها قبل العقد، و کون الطلاق بید الزوج الذی هو من أخذ بالساق لا یوجب کون التزویج هواناً و ذلّاً.

الخامس ما دلّ علی وجوب التعظیم للشعائر

و حرمة الإهانة من العقل و النقل؛ فان الشارع إذا حرّم علی الناس اهانة الشعائر و منها المؤمن، فکیف یرضی بتسلط الکافر علیه، مع ان فیه من الإهانة ما لا یخفی.

و یرد علی هذا الوجه ما ورد علی الوجه السابق.

و قد انقدح من جمیع ما ذکرنا فی هذا المقام تمامیة بعض الأدلة التی استدل بها علی القاعدة، و إن کان بعضها الأخر مخدوشاً کما عرفت، فلا مجال للمناقشة فیها من إذ الدّلیل.

المقام الثانی- فی مفاد القاعدة،

قد ظهر مما ذکرنا فی المقام الأوّل خصوصاً ما مرّ فی تقریب دلالة آیة نفی السبیل ان مفاد القاعدة انه لم یجعل

ص:242


1- 1) القواعد الفقهیة للبجنوردی 1:162.

فی الشریعة الإسلامیة حکم یوجب ثبوت السبیل للکافر علی المؤمن و علوّه علیه، فکل ما یری خلافه من مفاد الأدلة الأولیة الدالة بعمومها أو إطلاقها علی تحقق السبیل و العلوّ فهو غیر مجعول للّه تبارک و تعالی، فنسبة القاعدة إلی تلک الأدلة نسبة الدلیل الحاکم الناظر الی الدلیل المحکوم الشارح له و المبین للمراد منه سعة و ضیقاً، کنسبة قاعدة نفی الحرج إلی الأدلة الأولیة من دون فرق بینهما أصلاً، فکل ما یوجب ثبوت السبیل الکافر علی المؤمن بأی نحو کان فهو غیر مجعول فی الشریعة، و إن کان مقتضی الأدلة الأولیة الثبوت، فآیات الإرث و إن کانت مطلقة من جهة الوارث الّا ان قوله (صلی الله علیه و آله) فی روایة: الإسلام یعلو و لا یعلی علیه، الکفار بمنزلة الموتی لا یحجبون و لا یورثون، یوجب تضییق دائرتها و اختصاص الإرث بالوارث المسلم إذا کان المورث مسلماً.

المقام الثالث- فی موارد تطبیق القاعدة،

و هی و إن کانت کثیرة فی مختلف أبواب الفقه، إلّا أنا نقتصر علی إیراد جملة منها، فنقول:

منها: تملک الکافر للعبد المسلم بأیّ نحو من أنحاء التملک الاختیاری، سواء کان بالبیع أو الشراء أو بمثل الصلح و الهبة و غیرهما من النواقل الشرعیة، فإن هذا التملک غیر جائز بمقتضی قاعدة نفی السبیل؛ لان التملک من أوضح مصادیق السبیل المنفی فی القاعدة، و کذا من أظهر أفراد العلوّ، فهو غیر مجعول و غیر ممضی فی الشریعة.

و لأجله لو وقع تملکه له قهراً، کما إذا انتقل إلیه بالإرث من المورّث الکافر، الذی لم یتحقق البیع علیه قهراً بعد، أو أسلم العبد الکافر فی ملک مولاه الکافر، فإنه لا یقر یده علیه، بل یباع علیه قهراً، و إن کان المولی

ص:243

غیر راض به، کما یدل علیه مرسل حماد بن عیسی عن ابی عبد اللّه (1)(علیه السلام) ان أمیر المؤمنین (علیه السلام) أتی بعبد ذمی قد أسلم فقال: اذهبوا فبیعوه من المسلمین و ادفعوا ثمنه الی صاحبه و لا تقروه عنده، و هذه الروایة متعرضة لحکم کلا التملکین الاختیاری و القهری، امّا الأوّل فقوله: فبیعوه من المسلمین، الظاهر فی عدم جواز البیع من الکافر، و أمّا الثانی فهذا القول ایضاً بلحاظ الأمر بالبیع قهراً علی مولاه، و قوله: لا تقروه عنده.

و فی هذا المورد من موارد تطبیق القاعدة جهات من البحث:

الاولی انه ذکر الشیخ (2)الأعظم الأنصاری (قدس سره) ان هذه القاعدة معارضة بعموم أدلة صحة البیع، و وجوب الوفاء بالعقود، و حلّ أکل المال بالتجارة عن تراض، و عموم الناس مسلطون علی أموالهم.

مع انّک عرفت فی المقام الثانی ان هذه القاعدة کقاعدة نفی الحرج حاکمة علی الأدلة الأولیة الدالة بعمومها أو إطلاقها علی ثبوت السبیل و العلوّ للکافر علی المسلم، فدلیل صحة البیع و إن کان یشمل بإطلاقه هذا البیع، الّا ان مقتضی حکومة هذه القاعدة الالتزام بعدم کون إطلاقه مراداً للمولی، و إن کان ثابتاً بمقتضی اللفظ، فلا مجال حینئذ لدعوی المعارضة بعد ثبوت الحکومة و وضوح تقدم الدلیل الحاکم علی الدلیل المحکوم کما قد حقّق فی محلّه من علم الأصول.

ص:244


1- 1) الوسائل 12:282 ب 28 من أبواب آداب التجارة ح 1.
2- 2) المکاسب:159.

الثانیة الظاهر ان مرسلة حمّاد المتقدمة الدالة علی لزوم بیع العبد المسلم للذمی من المسلمین بمنزلة المفسّر للآیة الدالة علی انه تعالی لن یجعل سبیلاً للکافر علی المؤمن، بعد وضوح کونها آبیة عن التخصیص، و مقتضی تفسیرها لها ان نفس الملکیة لا تکون سبیلاً، بل السّبیل هی الملکیة المستقرّة، بمعنی ان الشارع لم یرض ببقاء ملک الکافر للعبد المسلم، و لذا أوجب علی الحاکم بیعه من المسلمین و دفع ثمنه الیه، و یدلّ علیه قوله (علیه السلام) : و لا تقرّوه عنده، الظاهر فی ان المبغوض هو إقراره عنده، و أمّا حمل السبیل علی السلطنة غیر المنافیة للملکیة، غایة الأمر کون المالک محجوراً علیه فی التّصرف مجبوراً علی بیعه، کما افاده الشیخ الأعظم (قده) فی کتاب (1)المکاسب فممّا لا دلیل علیه، مضافاً الی ان الکافر لا یکون محجوراً علیه فی التصرف کالصغیر؛ لانه لو أراد بیع عبده بنفسه یکون بیعه صحیحاً، بخلاف الصغیر إذا أراد بیع عبده، و إلی ان نفس الملکیة مع الاستقرار سبیل علی الظاهر و علوّ قطعاً، نعم یبقی علی ما ذکرنا أمران:

أولهما ان لازم ما ذکرنا ان لا یکون تملک الکافر للعبد المسلم غیر جائز؛ لأن المفروض ان المنفی هی الملکیة المستقرة، لا أصل الملکیة مع انه خلاف الفتاوی.

ثانیهما ان مقتضی الروایة لزوم البیع علیه و النهی عن إقراره عنده، و هذا لا ینافی ثبوت الملکیة المستقرة؛ لأنه لو فرض عدم تحقق البیع عصیاناً أو لعدم وجود المشتری مثلاً یکون العبد باقیاً علی ملک الکافر، و قد عرفت فرض إرث الکافر العبد المسلم من المورّث الکافر، فالروایة الدالة

ص:245


1- 1) المکاسب:159.

علی الأمر و النهی المتقدمین لا تنفی الملکیة المستقرّة.

و الجواب عن الأمر الأوّل: انه لا ملاءمة بین الحکم بجواز التملک و بین الحکم بلزوم البیع علیه و النهی عن إقراره عنده، فمن ثبوت الثانی کما هو المذکور فی الرّوایة یستکشف عدم ثبوت الأوّل، و هذا بخلاف العبد المنعتق علی المشتری بمجرد الاشتراء، فان الانعتاق لا ینافی الحکم بصحة الاشتراء بل هو مترتب علیه و متفرع علی تحققه، بخلاف المقام الذی لا یجتمع الحکم فیه بصحة البیع من الکافر مع الحکم بلزوم البیع علیه فوراً، کما لا یخفی، مضافاً الی ظهور الروایة فی اختصاص جواز البیع بالمسلمین.

و قد أجاب المحقق (1)البجنوردی (قده) عن الوجه الثانی بالالتزام بالتخصیص، بمعنی ان الروایة تکون مخصصة للآیة و دالة علی ان هذا المقدار من الملکیة الموقتة، أی: البقاء الی زمان تحقق البیع، قد خرج عن تحت العموم تخصیصاً بالروایة.

مع انک عرفت إباء سیاق الآیة عن التخصیص، و إن الروایة بمنزلة المفسّر لها و المبین للمراد منها، و حینئذ یبقی الإشکال بحاله، و هو انه ان کان المراد من السبیل المنفی هی الملکیة المستقرة، فالروایة لا تنافیها، و إلا کان اللازم الانعتاق علیه قهراً، من دون حاجة الی البیع علیه، مضافاً الی عدم ملاءمة حکم الشارع بالملکیة المستقر للحکم بإیجاب البیع علیه و النهی عن إقراره عنده.

فاللّازم اما الالتزام بعدم حجیة الرّوایة؛ لکونها مرسلة، و لا فرق فی عدم اعتبارها بین المرسلین کما هو المحقق فی محلّه، و علیه فاصل الملکیة

ص:246


1- 1) القواعد الفقهیة 1:165.

عرفاً من مصادیق السبیل المنفی، فهی غیر مجعولة فی الشریعة، و أمّا الالتزام بعدم إباء سیاق الآیة عن التخصیص، و دعوی کون الروایة مخصصة لها کما عرفت من بعض، و أمّا الالتزام بعدم کون الملکیة المستقرة أیضاً من مصادیق السبیل، بدعوی کون السبیل له معنی لا ینافی الملکیة، کالسلطنة التی أشار إلیها الشیخ (قده) علی ما مرّ، و أمّا الالتزام بکون السبیل المنفی هی الملکیة المستقرة المتداولة التی لم یجعل فی مقابلها الحکم بلزوم البیع و النهی عن الإقرار، فافهم.

الثالثة لو قلنا بدلالة الآیة و الروایة المتقدمة علی بطلان بیع العبد المسلم من الکافر، و عدم جواز تملکه له، فلا یبقی مجال لاستصحاب الصحة فی ما إذا کان کفر المشتری مسبوقاً بالإسلام أو إسلام العبد مسبوقاً بالکفر، و التتمیم فی غیره بعدم القول بالفصل، لا لان الاستصحاب تعلیقی و هو غیر جار؛ لانّ الاستصحاب التعلیقی فی ما إذا کان التعلیق شرعیّاً جار، و المقام و إن لم یکن التعلیق فیه شرعیا، الّا انه لیس بتعلیقی أصلاً؛ لأن المشتری کان فی زمن إسلامه جائز البیع منه منجّزاً لا بنحو التعلیق، و کذا العبد فی زمن کفره کان جائزاً بیعه کذلک؛ بل لانه لا مجال للاستصحاب مع وجود الدلیل اللفظی الذی هو الأمارة.

و لو لم نقل بدلالتهما علی البطلان فلا یبقی مجال للاستصحاب المذکور أیضاً؛ لأن المرجع حینئذ عمومات أدلة الصحة، و معها لا تصل النوبة إلی الاستصحاب و إن کان موافقاً لها، فلا مجال علی کلا التقدیرین للرجوع الی الاستصحاب کما فی کلام الشیخ (1)الأعظم (قده) .

ص:247


1- 1) المکاسب:159.

ثمّ انه ظهر من جمیع ما ذکرنا ان بیع العبد المسلم من الکافر الذی ینعتق علیه بمجرد تحقق الملک لا مانع منه أصلاً؛ لعدم تحقق السبیل المنفی بأیّ معنی کان فی هذا الفرض، فان الحکم بثبوت الملکیة له انّما هو بعنوان المقدمة للانعتاق؛ لانه لا معنی لانعتاقه علیه إذا لم تتحقق ملکیته له کما لا یخفی، و الملکیة بهذا العنوان لا تکون سبیلاً بوجه.

و منها: اجارة المسلم نفسه من الکافر، أو إجارة العبد المسلم من الکافر، و فیه أقوال کثیرة: القول بعدم الجواز مطلقا، و القول بالجواز کذلک، و القول بالتفصیل بین ان تکون الإجارة علی الذّمة فتصح و بین ان تکون علی العین کما إذا استأجره مدة من الزمان شهراً أو سنة فلا تصح؛ حکی ذلک عن جامع (1)المقاصد و المسالک (2)، و القول بالتفصیل بین الحرّ و العبد، فتصح فی الأوّل دون الثانی، حکی ذلک عن الشهید فی الدروس (3)، و القول باختلاف الموارد من جهة تحقق السبیل و العلوّ من دون فرق بین الإجارة علی الذمة و الإجارة علی العمل الخارجی، و من دون فرق بین الحرّ و العبد أصلاً.

و منشأ الاختلاف بعد کون الدلیل منحصراً بقاعدة (نفی السبیل) هو اختلاف الانظار و الآراء فی تحقق السبیل و عدمه، و کذا فی تحققه مطلقا أو فی بعض الفروض، و اللازم ملاحظة هذه الجهة.

فنقول: الظاهر عدم تحقق السبیل فی شیء من فروض الإجارة،

ص:248


1- 1) جامع المقاصد 7:156.
2- 2) سالک الأفهام 1:257.
3- 3) علی ما نقل فی المسالک 1:257، و لم نعثر فی الدروس.

حتی فی مثل اجارة العبد للخدمة للکافر؛ فإنّ الإجارة المتقومة برضا الطرفین المفیدة لملک المنفعة لا تؤثر إلّا فی استحقاق المؤجر للأجرة و المستأجر للخدمة، و مجرد الاستحقاق لا یوجب تحقق السبیل المنفی، و کذا کون المنفعة خدمة و کون الأجیر عبداً؛ لعدم الفرق بین الخدمة و الخیاطة مثلاً و عدم الفرق بین الحرّ و العبد من هذه الجهة، فکما ان استیجار الحرّ للخیاطة لا یوجب تحقق السبیل و العلوّ، فکذلک استیجار العبد للخدمة.

فالظاهر عندی هو القول الثانی، و هو الجواز مطلقا؛ لما ذکر، و مما ذکرت یظهر حکم اعارة العبد المسلم للکافر؛ فإنه لا مانع منها؛ لعدم تحقق السبیل بمجرد تأثیر العاریة فی ثبوت حق الانتفاع بالعین المعارة؛ لعدم کون مثل هذا الحق موجباً لتحقق السبیل و العلوّ.

ثمّ انه بعد جواز الإعارة یظهر ان الحکم بالجواز فی الإیداع عنده یکون بطریق أولی؛ لأن مجرد تسلیط الکافر علی حفظ العبد المسلم من دون ان یکون له حق الانتفاع ایضاً، لا یکون سبیلاً و علوّاً أصلاً، و کون تشخیص کیفیة الحفظ بید الکافر، لا یقتضی سبیلاً له علیه، فلا مانع من الإیداع.

و منها: جعل العبد المسلم رهناً عند الکافر و فیه أقوال: المنع مطلقا، کما عن القواعد و الإیضاح، و الجواز مطلقا، و التفصیل بین ان یکون العبد المسلم المرهون عند مسلم حسب رضاء الطرفین فیجوز و بین ان یکون تحت ید الکافر فلا یجوز، کما اختاره الشیخ الأعظم (قده) (1).

و الظاهر هو الثانی؛ لأن مجرد کونه وثیقة عند الکافر و تحت یده

ص:249


1- 1) المکاسب:159.

لغرض استیفاء الدین منه فی فرض عدم أدائه من ناحیة الرّاهن، لا یوجب کونه سبیلاً و علوّاً، و المباشر للبیع فی هذا الفرض لیس هو الکافر بنفسه بل المالک أو الحاکم عند امتناعه.

و منها: وقف العبد المسلم علی الکافر، و فیه ایضاً أقوال ثلاثة: القول بالمنع مطلقا، و القول بالجواز مطلقا، و التفصیل بین ما إذا لم یکن الوقف موجباً لتحقق السبیل و العلوّ کما إذا وقفه علی تعلیم أقاربه الکفار أو معالجة مرضاهم فیجوز، و بین ما إذا وقفه علی خدمتهم، بان یکون خادماً لهم أو خادمة فلا یجوز.

و الحقّ انه ان قلنا بان الوقف فی مثله موجب لتحقق الملکیة للموقوف علیهم، و إن الوقف فیه من موجبات الانتقال، فالظاهر عدم الجواز مطلقا؛ لانّ نفس الملکیة سبیل و علوّ، و إن کان ممنوعاً من بعض التصرفات کالبیع و نحوه.

و لو قلنا بان الوقف لا یوجب ملکیة الموقوف علیهم، فالظاهر هو الجواز مطلقا؛ لما ذکرنا فی باب الإجارة من عدم اقتضائها لتحقق السبیل و العلوّ، و إن کان أجیراً للخدمة.

و منها: انه لا یجوز جعله قیّماً علی صغار المسلمین و سفهائهم، بل و مجانینهم، و کذا لیس له الولایة علی تجهیز المیت المسلم الذی یکون أباه و دفنه و تکفینه، و لا تتوقف هذه الأمور علی اذنه، و الوجه فی ذلک قاعدة نفی السبیل؛ نظراً الی وضوح کون الولایة و مثلها سبیلاً منفیّاً.

و منها: انه لو قلنا بتوقف صحة نذر الولد علی اذن الوالد، لا یکون هناک توقف إذا کان الولد مسلماً و الوالد کافراً، و کذا لو قلنا: یتمکن الوالد

ص:250

من حلّ نذره، لا یکون هناک تمکن فی الصورة المفروضة؛ لوضوح کون التوقف علی الاذن و کذا التمکن من الحلّ سبیلاً و علوّاً.

و منها: انه لا یجوز جعل الکافر متولّیاً علی الوقف الراجع الی المسلمین کالمدارس الدینیّة الموقوفة علی طلاب العلوم الدینیة، و المستشفی الذی یکون وقفاً علی مرضی المسلمین، و کذا المدارس التی توقف علی أولاد المسلمین لتحصیلهم فیها، فلا یجوز فی مثلها جعل الکافر متولیا، بحیث یکون الدخول و الخروج باذنه و اختیاره، فإنه سبیل منفی بلا اشکال.

و منها: عدم ثبوت حق الشفعة و الأخذ بها للکافر، إذا کان المشتری مسلماً، سواء کان البائع مسلماً أم کافراً؛ و ذلک لان مرجع ثبوت هذا الحق إلی تسلط الکافر لأخذ حق المشتری بلا اذن منه بل قهراً علیه، و مقتضی دلیل ثبوت الشفعة و إن کان هو الإطلاق، الاّ أن حکومة قاعدة نفی السبیل علیه تقتضی تقییده بالمسلم.

و منها: ان نکاح الکافر یبطل بإسلام الزوجة ان لم یسلم الزوج الکافر فی العدّة؛ نظراً الی ان بقاء الزوجیة مع کفر الزوج یرجع الی علوّ الکافر علی الزوجة المسلمة، و إن یکون له سبیل علیها؛ لان الرّجال قوّامون علی النّساء. و لکنّک عرفت انّ مسألة النکاح لا ترتبط بقاعدة نفی السبیل، لعدم کون الزوجیة موجبة لتحقق السبیل و العلوّ بعد تساوی نسبتها الی الزوجین، و وجوب إطاعة الزوج إذا أراد الاستمتاع و الوطی لا یوجب تحقق السبیل، بعد ثبوت بعض الأحکام الوجوبیة فی ناحیة الزوج ایضاً کلزوم النفقة و السکنی و اللباس و غیرها، و قد عرفت ان الحکم بعدم جواز تزویج المرأة المؤمنة نفسها من الکافر مستند الی الروایات

ص:251

الخاصة الواردة فی هذا المجال، لا إلی قاعدة نفی السّبیل، و علیه فیمکن ان یقال باستفادة الحکم بالبطلان فی المقام من تلک الرّوایات؛ نظراً إلی انه إذا لم یرض الشارع بالحدوث فالظاهر عدم رضائه بالبقاء ایضاً، و أمّا قوله (1)تعالی «اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی اَلنِّساءِ» فلم یعلم ان المراد بالرجال هم الأزواج و بالنساء هن الزوجات، بل هو فی مقام تفضیل الجنس علی الجنس و اللازم الرجوع الی التفسیر.

و منها: عدم ثبوت حق القصاص للکافر إذا کان القاتل مسلماً؛ فان ثبوت هذا الحق من أظهر مصادیق السبیل، و مقتضی حکومة القاعدة علی أدلة القصاص عدم ثبوته فی هذا الفرض، و لکن مقتضی ما ذکروه فی باب إتلاف المسلم مال الکافر من ثبوت الضمان له علیه لأنّ منشأه فعل نفس المکلف ثبوت القصاص هنا أیضاً؛ لأن موجبه القتل المتحقق من القاتل فأیّ فرق بین الإتلاف الموجب للضمان و بین القتل الموجب للقصاص، و العمدة فی هذا المقام ایضاً روایات دالة علی ان المسلم لا یقتص منه بید الکافر، لا قاعدة نفی السبیل.

و منها غیر ذلک من الموارد الکثیرة التی تظهر بعد التتبع فی مختلف أبواب الفقه.

خاتمة- تشتمل علی بیان أمرین:

أولهما لا شبهة فی ان المراد بالمؤمنین فی آیة نفی السبیل خصوصاً بقرینة المقابلة مع الکافرین هو المسلمون

و هم المظهرون و المعترفون بنبوة نبیّنا محمد (صلی الله علیه و آله) و انه رسول من قبل اللّه، و إن کلّ ما جاء به من الاحکام

ص:252


1- 1) سورة النساء:34.

فهو حق و من عند اللّه، و یعترفون بوجوب الصلاة و الزکاة و الصوم و الحج و هو الذی کما فی الروایة الآتیة به حقنت الدماء و علیه جرت المواریث و جاز النکاح و اجتمعوا علی الصلاة و الزکاة و الصوم و الحج، و بالجملة المراد بالایمان ما یوجب الخروج عن حدّ الکفر و تحقق الإضافة الی الایمان، و علیه فلا شبهة فی عدم اختصاص الآیة بالمؤمن فی مقابل المخالف الذی هو اصطلاح خاص، و لا فی عدم اختصاصها بالمؤمن الذی یراد به من استقر فی قلبه و ورد الإسلام فیه کما یشعر به قوله (1)تعالی فی الاعراب وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ اَلْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ .

و یدلُّ علی عدم الاختصاص روایة (2)حمران بن أعین عن ابی جعفر (علیه السلام) قال: سمعته یقول: الایمان ما استقر فی القلب و أفضی به الی اللّه عزّ و جلّ و صدقه العمل بالطّاعة للّه و التسلیم لأمره، و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذی علیه جماعة الناس من الفرق کلّها، و به حقنت الدّماء و علیه جرت المواریث و جاز النکاح و اجتمعوا علی الصلاة و الزکاة و الصوم و الحج فخرجوا بذلک من الکفر و أضیفوا الی الایمان، الی ان قال: فهل للمؤمن فضل علی المسلم فی شیء من الفضائل و الأحکام و غیر ذلک؟ فقال: لا هما یجریان فی ذلک مجری واحد.

و بالجملة المراد بالمؤمن فی الآیة مقابل الکافر لا الأخص من المسلم.

ثمّ الظاهر عدم اختصاص الحکم فی ناحیة الکافرین و کذا فی جانب المؤمنین بخصوص البالغین منهم، بل الآیة تعم الأطفال من کلا الطرفین،

ص:253


1- 1) سورة الحجرات:14.
2- 2) أُصول الکافی 2:26.

فلا یجوز بیع العبد المسلم من أطفال الکفار، و کذا بیع طفل المسلم إذا کان عبداً من الکفار، و کذا إذا کان کلا الطرفین طفلاً.

و الدلیل علی عدم الاختصاص وحدة الملاک و المناط المستفاد من الآیة، و إن شرف الإسلام و عزّه مانع عن جعل السبیل للکافر علی المؤمن، هذا ان لم نقل بصحة استعمال اللفظین فی غیر البالغین کما ربما یدعی، و أمّا ان قلنا بالصحة فالآیة تدل بالعموم اللفظی علی ذلک و هو الظاهر؛ لان ولد المسلم مسلم حقیقة یترتب علیه أحکام الإسلام، و ولد الکافر کافر کذلک یترتب علیه أحکام الکفر، و علی کلا التقدیرین فالآیة لا تختص بالبالغین کما عرفت.

ثانیهما- فی موارد استثنیت من القاعدة

انا و إن ذکرنا إباء سیاق آیة (1)نفی السبیل عن التخصیص؛ نظراً الی عدم ملاءمة لحنها خصوصاً مع استعمال کلمة «لن» فیها لورود التخصیص علیها، الّا انه ربما یقال بأنه استثنی من القاعدة موارد لا بأس بالتعرض لها:

منها: ما إذا کان الاشتراء سبباً للانعتاق، ای کان للبیع ممّن ینعتق علی المشتری؛ لکونه أباً له مثلاً؛ نظراً إلی صحة هذا الاشتراء و دخول العبد المسلم فی ملک الکافر بسبب الشراء؛ فان هذه الملکیة و إن کانت سبیلاً، لکنها مستثناة من آیة نفی السبیل.

و قد عرفت ان هذه الملکیة التی یکون الالتزام بها انّما هو لکی یتحقق موضوع الانعتاق؛ لانه لا معنی لانعتاقه علیه إذا لم یدخل فی ملکه، لا یکون سبیلاً بوجه، و علیه فخروج هذا المورد انّما هو بنحو التخصص

ص:254


1- 1) سورة النساء الآیة:141.

لا التخصیص.

و منها: من أقرّ بحریّة مسلم ثمّ اشتراه و هو کافر، فإنه یؤخذ بمقتضی إقراره، و یحکم علیه بالحریّة ظاهراً، و بعبارة اخری: یصحّ البیع و یحکم بحریّته بعده، و إن کان بحسب الواقع عبداً، و لا مجال لتوهم العلم بفساد البیع، لأنه ان کان المبیع عبداً لا یجوز بیعه من الکافر، و إن کان حرّا لا یصح بیعه مطلقا، فالبیع فاسد علی ایّ تقدیر، وجه بطلان التوهّم. انّ إقراره بالحریة لا یکون نافذاً قبل البیع؛ لأنه إقرار فی حقّ عبد الغیر، فقبل البیع یکون محکوماً بالعبودیة، فلا مانع من تحقق البیع من هذه الناحیة، و أمّا بعد البیع من المقر فحیث یکون إقراره معتبراً، لکونه فی حق عبد نفسه، یترتب علیه آثاره فیصیر حرّا، و من المعلوم انه لا مانع من صحة بیعه منه و الحال هذه، و لکن لیس ذلک لأجل قیام دلیل علی التخصیص فی مقابل الآیة، بل لما عرفت من عدم کون مثل ذلک سبیلاً و علوّاً، فالخروج انما هو بنحو التخصّص.

و منها: ما إذا قال الکافر لمولی العبد المسلم: أعتق عبدک عنی، فأعتقه عنه، فإنه إذ لا یمکن العتق عن الغیر الّا بعد الدخول فی ملکه، لانه لا عتق إلّا فی ملک، فالبناء علی صحة العتق المزبور کما هو المشهور یوجب الالتزام بالدخول فی ملک الکافر و تحقق العتق عنه.

هذا و لکن ذلک لا یقتضی الالتزام بالتخصیص فی مفاد الآیة؛ لوضوح ان الالتزام بالملکیة لأجل توقف صحة العتق علیها لا یوجب تحقق السبیل و العلوّ بل خروجه بنحو التخصّص.

و منها: ما إذا اشترط بائع العبد المسلم علی الکافر المشتری عتقه،

ص:255

فإن المحکی عن الدروس و الروضة انه مستثنی عن عموم الآیة و الرّوایة.

و الظاهر انه ان کان الشرط بنحو شرط الفعل لا شرط النتیجة، لا دلیل علی الاستثناء، فان مجرد التزام المشتری بأن یعتقه لا یخرجه عن السبیل المنفیّ، و لا دلیل علی الخروج عن الحکم، نعم إذا کان بنحو شرط النتیجة یصیر هذا المورد من قبیل کون المبیع ممن ینعتق علی المشتری.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا انه لا یوجد مورد یکون خروجه عن آیة نفی السبیل بنحو التخصیص، و إن الموارد الخارجة انما یکون خروجها بنحو التخصص.

هذا تمام الکلام فی قاعدة نفی السبیل.

ص:256

قاعدة الجبّ

اشارة

و هی ایضاً من القواعد الفقهیة التی یستند إلیها فی کثیر من أبواب الفقه کقضاء الصلاة و الصوم واصل الحجّ و الزکاة و بعض من أبواب الضمانات و باب الحدود و الدیات و غیرها، و التکلم فیها أیضاً فی مقامات:

المقام الأوّل- فی مدرکها،

و العمدة فی هذا المقام الحدیث النبوی المعروف الذی رواه العامّة و الخاصّة و هو قوله (صلی الله علیه و آله) : الإسلام یجبّ ما قبله، ففی المحکیّ عن سیرة (1)ابن هشام فی حکایة إسلام المغیرة بن شعبة، أنه وفد مع جماعة من بنی مالک علی المقوقس ملک مصر، فلما رجعوا قتلهم المغیرة فی الطریق، و فرّ إلی المدینة مسلماً، و عرض خمس أموالهم علی النبیّ (صلی الله علیه و آله) ، فلم یقبله، و قال لا خیر فی غدر، فخاف المغیرة

ص:257


1- 1) لم نعثر علی ذلک فی المصدر المذکور و لکن عشرتها علیه فی مسند ابن حنبل 4:199 و 204 و 205.

علی نفسه و صار یحتمل ما قرب و ما بعد، فقال (صلی الله علیه و آله) : الإسلام یجبّ ما قبله.

و حکی مثله ابن سعد فی کتابه «الطبقات (1)الکبری» فی قصة إسلام المغیرة.

و فی تفسیر علی بن إبراهیم (2)القمی فی تفسیر قوله تعالی (3)وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَکَ حَتّی تَفْجُرَ لَنا مِنَ اَلْأَرْضِ یَنْبُوعاً الی آخر الآیة قال: فإنها نزلت فی عبد الله بن أبی أمیّة أخی أمّ سلمة (رحمة اللّه علیها) و ذلک انه قال هذا لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بمکة قبل الهجرة، فلما خرج رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) الی فتح مکّة استقبله عبد الله بن أبی أمیة فسلّم علی رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فلم یرد علیه السلام فاعرض عنه و لم یجبه بشیء، و کانت أخته أمّ سلمة مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فدخل إلیها و قال: یا أختی ان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قبل إسلام الناس کلّهم و ردّ علیّ إسلامی، و لیس یقبلنی کما قبل غیری، فلما دخل رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) علی أمّ سلمة قالت: بأبی أنت و أمّی یا رسول اللّه سعد بک جمیع الناس الّا أخی من بین قریش و العرب، رددت إسلامه و قبلت الناس کلّهم فقال (صلی الله علیه و آله) : یا أمّ سلمة انّ أخاک کذّبنی تکذیباً لم یکذبنی أحد من الناس هو الذی قال لی: لن نؤمن لک حتی تفجر لنا من الأرض ینبوعاً، الی آخر الآیات، قالت أمّ سلمة: بأبی أنت و أمّی یا رسول اللّه أ لم تقل ان الإسلام یجبّ ما کان قبله؟ قال (صلی الله علیه و آله) : نعم فقبل، رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)

ص:258


1- 1) لم نعثر علی تلک القصّة فی الکتاب المذکور.
2- 2) تفسیر القمی 2:26.
3- 3) سورة الإسراء:90.

إسلامه.

و فی السیرة (1)الحلبیّة ان عثمان لما شفع فی أخیه ابن ابی سرح قال (صلی الله علیه و آله) : اما بایعته و آمنته قال بلی، و لکن یذکر ما جری منه معک من القبیح و یستحی، قال (صلی الله علیه و آله) : الإسلام یجبّ ما قبله.

و فی السیرة المذکورة حکی هذا القول عنه (صلی الله علیه و آله) فی إسلام هبار بن اسود.

و روی ذلک فی کتب اللغة أیضاً، ففی مجمع البحرین (2)رواه هکذا: الإسلام یجبّ ما قبله، و التوبة تجب ما قبلها من الکفر و المعاصی و الذنوب، و فی البحار (3)نقل ذلک عن علیّ (علیه السلام) إذ روی فی ذکر قضایا أمیر المؤمنین (علیه السلام) انه جاء رجل الی عمر بن الخطاب فقال: انی طلقت امرأتی فی الشرک تطلیقة و فی الإسلام تطلیقتین، فما تری؟ فسکت عمر فقال له الرجل: ما تقول؟ قال: کما أنت حتی یجیء علی بن أبی طالب فجاء علیّ (علیه السلام) فقال: قصّ علیه قصتک، فقص علیه القصة، فقال علی (علیه السلام) هدم الإسلام ما کان قبله، هی عندک علی واحدة.

و بالجملة شهرة هذا الحدیث و الروایة عن النبی (صلی الله علیه و آله) توجب انجبار ضعف السّند کما صرح به صاحب (4)الجواهر فی کتاب الزکاة و کذا المحقق

ص:259


1- 1) السیرة الحلبیة 3:105.
2- 2) مجمع البحرین 2:21 مادة جبب.
3- 3) البحار 40:230.
4- 4) الجواهر 15:62.

الهمدانی (1)(قده) فی ذلک الکتاب أیضاً فی مقام الجواب عن صاحب المدارک؛ لأجل تضعیفه للروایة إذ قال: المناقشة فی سند هذه الروایة المتسالم علی العمل بها بین الأصحاب فممّا لا ینبغی الالتفات إلیها، و کذا فی دلالتها» بل ذکر صاحب العناوین (2)انّ هذا الحدیث من الأحادیث المسلمة الصدور.

ثمّ انه ربما یستدل لهذه القاعدة أیضاً بقوله تعالی قُلْ لِلَّذِینَ کَفَرُوا إِنْ یَنْتَهُوا یُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ یَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِینَ (3)، و صرّح صاحب الجواهر فی کتاب الزکاة بأنّه موافق لقوله (صلی الله علیه و آله) الإسلام یجبّ ما قبله، و یظهر منه ذلک فی کتاب الصوم (4)ایضاً، و استدل به فی کنز العرفان (5)علی عدم وجوب القضاء، ای قضاء الصلاة علی الکافر الأصلی، و استشکل فی شموله للمرتدّ؛ لظهور قوله تعالی لِلَّذِینَ کَفَرُوا فی الکافر الأصلی.

و حکی عن بعض مفسری المتأخرین من العامة انه ذکر فی ذیل هذه الآیة ما رواه (6)مسلم فی صحیحه عن عمرو بن العاص انه قال بعد کلام طویل: لما جعل اللّه الإسلام فی قلبی أتیت النبی (صلی الله علیه و آله) و قلت ابسط یمینک

ص:260


1- 1) مصباح الفقیه کتاب الزکاة:17.
2- 2) العناوین:337.
3- 3) سورة الأنفال آیة:38.
4- 4) الجواهر 17:210.
5- 5) کنز العرفان 1:166.
6- 6) صحیح مسلم 1:192.

لأبایعک، فبسط یمینه، قال: فقبضت یدی، قال: مالک یا عمرو؟ قال: قلت: أردت ان اشترط. قال: تشرط بما ذا؟ قلت ان یغفر لی، قال: اما علمت ان الإسلام یهدم ما قبله، و إن الهجرة تهدم ما قبلها، و إن الحج یهدم ما کان قبله؟ فیظهر منه انه جعل الروایة موافقة للآیة فی المفاد و الدلالة.

و لکن الظاهر بلحاظ التعبیر بالغفران فی الآیة انحصار مفادها بالمعاصی العملیة و المخالفة الاعتقادیة فی الفروع و الأصول، و لازمه عدم ترتب اثر علیها، فلا یترتب علیها الحدود و الدیات التی موضوعها المعصیة، و أمّا دلالتها علی عدم وجوب قضاء ما فات من عباداته مثل الصلاة و الصوم و غیرهما، و علی سقوط الزکاة بالإسلام و إن کان النصاب موجوداً و أمثالهما، فغیر ظاهرة، و لعلّه لأجل ذلک لم یستدل بها للقاعدة کثیر من الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین.

و مما یدل علی هذه القاعدة سیرة النبیّ (صلی الله علیه و آله) و معاملته لمن أسلم من الکفّار، إذ انه لم یکلف أحداً بقضاء العبادات التی فاتت منه فی حال کفره، و لا بأداء الزکاة مع ان العین الزکویة کانت موجودة عندهم و لم یطلب منهم زکاة السنین التی کانوا فیها علی الکفر. نعم لو کان حلول الحول بعد إسلامه فلا یسقط، و یجب علیه؛ لتعلق التکلیف بعد الإسلام به، فالسیرة مع قطع النظر عن الروایة أیضاً دلیل علی القاعدة.

المقام الثانی- فی مفاد القاعدة و مدلول الحدیث،

فنقول: لا خفاء فی ان الحدیث وارد فی مقام الامتنان علی من أسلم و التحریض و الترغیب بقبول الإسلام، و إن قبوله یمنع عن بقاء آثار ما فعل أو قال أو اعتقد، و فی الحقیقة تسهیل لطریق قبول الإسلام و تشویق الی ما یترتب علی قبوله من

ص:261

الآثار و البرکات، و یظهر ذلک من ملاحظة الموارد المتقدمة التی ورد الحدیث فیها کقصة إسلام المغیرة و هبار و عمرو بن العاص و عبد الله بن أبی أمیّة، و شفاعة عثمان فی أخیه من الرّضاعة، و بالجملة هذه العبارة حاکیة عن منّة الإسلام و تفضّله علی من یقبله و یتشرّف به، خصوصاً بعد کثرة المعاصی العملیة و الاعتقادات السخیفة فی الجاهلیة من الشرک فی العبادة، و قتل النفس، و ارتکاب الفجور و المعاصی، من الزنا و اللّواط و السرقة و شرب الخمر و غیرها.

و بعد ذلک نقول: ان مفاد الحدیث ان کل فعل أو قول أو ترکهما، أو اعتقاد إذا کان یترتب علیه فی الإسلام ضرر أو عقوبة، فالإسلام یوجب عدم ترتب ذلک الضرر أو العقوبة، و ینظر بذلک بنظر العدم و یجعله کأنه لم یتحقق و لم یصدر، لکن فی ما إذا کان الضرر و العقوبة ثابتاً فی الإسلام فقط، بمعنی انه لو کان مسلماً و یصدر منه ذلک العمل لکان یترتب علیه الضرر أو العقوبة، و لکنه لا یکون فی الکفر محکوماً بهذا الحکم، فالإسلام یجبّ و یقطع و یهدم ما قبله و یجعله کأنه لم یصدر أصلا، فإذا تحقق منه الزنا فی حال الکفر فبما انه لا یکون الزنا فی الکفر محکوماً بترتب الحدّ علیه، فالإسلام یهدمه و یجعله کأنه لم یتحقّق، و هکذا، و کذلک الترک الصادر منه فی حال الکفر إذا ترتب علیه أثر فی الإسلام کالقضاء و الکفارة، لا یترتب علیه الأثر بعد الإسلام، فلا یترتب علی ترک الصلاة قضاء، و إن کان الکافر مکلّفاً بها فی حال الکفر بناء علی ان الکفار مکلفون بالفروع ایضاً و کذا لا یترتب علی ترک الصوم قضاء و لا کفارة، هذا إجمال معنی الروایة، و أمّا التفصیل بلحاظ المسائل الواقعة من الکافر فی حال الکفر

ص:262

فنقول:

منها: الشرک و الکفر الواقع من الکافر، و لا ریب فی ان الإسلام یجبّه و یفرضه کالعدم فلا یترتب علیه العذاب الأخروی، فإذا أسلم ثمّ مات بلا فصل، فکأنّه لم یتحقق منه الشرک الذی هو ظلم عظیم و الکفر فی مدّة حیاته أصلاً، بل یلقی الله مسلماً طاهراً و إن کان زمان إسلامه بالنسبة إلی زمان کفره فی غایة القلّة.

و منها: المحرمات الشرعیة و المعاصی التی رتب علیها الحدّ أو التعزیر، کالأمثلة المتقدمة؛ فإنه لا یترتب علیها بعد إسلامه، و لو زنی فی السابق ألف مرّة أو سرق کذلک.

و منها: العبادات و الحقوق المختصة باللّه تعالی مع عدم اعتقادهم بها فی حال الکفر، کالصلاة و الصیام بل الحجّ، فترکها لا یترتب علیه بعد الإسلام شیء من القضاء و الکفارة، حتی الحج فی ما إذا کان مستطیعاً حال کفره و استقر علیه و لم یأت به، فصار غیر مستطیع ثمّ أسلم، نعم لو کانت الاستطاعة باقیة بعد الإسلام فالظاهر هو الوجوب؛ لتوجهه الیه بعده، و قد استدل جمع من الفقهاء لسقوط القضاء بهذه القاعدة، بل یظهر من صاحب العناوین ان هذا القسم واضح الدخول تحت الخبر، و قد عرفت جریان السیرة النبویة القطعیة علی عدم تکلیف أحد من الکفار الذین أسلموا بقضاء ما فات منه من الصلاة و الصیام و غیرهما.

و منها: حقوق اللّه مع اعتقادهم باشتغال الذمة بها فی کفرهم، کما لو کان فی دینهم مثلاً ان قتل الخطأ یجب فیه عتق رقبة، فتحقق منه القتل کذلک، ثمّ أسلم، فهل الإسلام یجبّ ذلک ایضاً؟ الظاهر هو الجبّ

ص:263

و عدم وجوب عتق الرّقبة علیه، و دعوی ان الإسلام یجب ما یلزم الإنسان من جهة الإسلام، فإذا أسلم الکافر فالشیء الذی اشتغلت ذمته به من جهة دین الإسلام فهو یسقط عنه، لا ما اشتغلت ذمّته به بسبب آخر، مدفوعة بأن اشتغال ذمته به بعد الإسلام لا بد و إن یکون مستنداً الی ما کان علیه من الکفر، و المفروض انه رجع عنه و اعتقد خلافه الذی هو الإسلام، و مجرد اعتقاده فی السابق لا یوجب ثبوته. نعم مقتضی ما ذکرنا فی معنی الحدیث إجمالاً عدم السقوط هنا، لأنا ذکرنا ان مفاد القاعدة سقوط الآثار المترتبة فی الإسلام فقط، و لم تکن تلک الآثار ثابتة فی حال الکفر، و أمّا مع ثبوتها فی حال الکفر ایضاً، فالحدیث لا یدل علی سقوطها کما لا یخفی.

و منها: حقوق الله المشترکة بین اللّه و بین المخلوقین کالزکاة و الخمس، و الظاهر شمول الحدیث لها، و قال فی الجواهر (1)فی باب الزکاة: و منه یستفاد ما صرّح به جماعة من سقوطها بالإسلام، و إن کان النصاب موجوداً، لأن الإسلام یجبّ ما قبله المنجبر سنداً و دلالة بعمل الأصحاب، الی ان قال: بل یمکن القطع به بملاحظة معلومیة عدم أمر النبی (صلی الله علیه و آله) لأحد ممن تجدد إسلامه من أهل البادیة و غیرهم بزکاة إبلهم فی السنین الماضیة، بل ربما کان ذلک منفراً لهم عن الإسلام، کما انه لو کان شیء منه لضاع و شاع، ثمّ قال: فمن الغریب ما فی المدارک من التوقف فی هذا الحکم؛ لضعف الخبر المزبور سنداً و متناً.

و قد عرفت ان الاشکال فی الحدیث من جهة السند ممّا لا مجال له

ص:264


1- 1) الجواهر 15:62.

أصلاً، و أمّا من جهة الدلالة فلا وجه له؛ لظهور شموله لهذه الموارد، و الإشکال فیها من جهات أخری سیأتی البحث عنه فانتظر.

نعم استشکل فی السقوط فی هذه الحقوق تارة من جهة ما عرفت من مجمع البحرین (1)من العطف علی الحدیث بقوله: و التوبة تجب ما قبلها من الکفر و المعاصی و الذنوب؛ نظراً الی اتحاد السیاق، و ذکر الکفر فی عداد المعاصی و الذنوب مع ان التوبة لا اثر لها إلّا بالنسبة إلی العقوبة، فجبّ الإسلام أیضاً یکون بهذه الملاحظة فقط، و أخری من جهة أن الحدیث انّما هو فی مقام الامتنان کحدیث الرفع و دلیل نفی العسر و الحرج، و هو انما یتم إذا لم یعارض بالامتنان فی مورد آخر، و فی المقام یکون الامتنان علی الکافر بإسقاط الزکاة عنه معارضاً لحق مستحقّی الزکاة من الأصناف الثمانیة المذکورة فی الکتاب، و ثالثة بان البعث سبب الی العمل المبعوث الیه، فاذا کان العمل المبعوث الیه مقیّداً بالإسلام، و کان الإسلام مسقطاً للتکلیف یلزم علیّة الشیء لعدم نفسه، و هو مستحیل.

و الجواب: ان عطف التوبة لا یقتضی الاتّحاد بعد کونهما حکمین مستقلین، خصوصاً بعد ملاحظة الموارد المتقدمة التی ورد فیها الحدیث و الامتنان فی المقام، إذ انّه یرجع الی أساس الإسلام فی مقابل الکفر و إلی التحریض و الترغیب فی رفع الید عن الکفر، فلا یقاس بالامتنان الذی یتضمنه جعل الزکاة للأصناف الثمانیة خروجاً عن الفقر و المسکنة و غیرهما، مع انه لیس بالنسبة الی کل واحد من الأصناف امتناناً، فان اَلْعامِلِینَ عَلَیْها انّما یأخذون أجرة عملهم، و لو لا الزکاة لکانوا یعملون فی بعض الأمور

ص:265


1- 1) مجمع البحرین 2:21، مادة جبب.

الأخری، فالإشکال من هذه الجهة مندفع.

و أمّا الاستحالة فربما یجاب عنها بان مقتضی الحدیث ان الإسلام یکون علّة لإثبات التکالیف علیه فی المستقبل فقط لا بالنسبة الی الماضی.

و مرجع هذا الجواب الی ان ما اشتهر من کون الکفار مکلفین بالفروع کالأصول، انّما هو بالنسبة إلی الکافر الذی بقی علی کفره الی آخر عمره، و أمّا الکافر الذی أسلم فلا یکون مکلّفاً بالفروع فی زمن کفره، و هذا فی غایة الضعف و الوهن؛ فإنه لا دلالة لحدیث الجبّ علی ذلک بوجه، بل مفاده ان الکافر و إن کان مکلّفاً، الّا ان الإسلام رفع الید عمّا سبق و جعله کالعدم، فالتکلیف کان ثابتاً، و لکنه رفع عنه بعد الإسلام، کحدیث الرفع بالنسبة إلی الأمور المذکورة فیه.

و الحقّ فی الجواب ان یقال: مضافاً الی النقض بالصلاة و الصیام و الحجّ، فان ترکها مجبوب بالإسلام، مع انّها لا تصح فی حال الکفر؛ لمدخلیة الإسلام فی صحّتها، ان هذه الاستحالة انما تتحقق إذا کان الخطاب متوجّها الی خصوص الکفار، کالخطاب المتوجه الی العاجز، و أمّا لو کان الخطاب متوجّها الی العموم من دون فرق بین المسلم و الکافر، فلا تکون صحة هذا الخطاب متوقفة علی صحته بالنسبة الی کل واحد من المخاطبین، أ لا تری انه یصحّ الخطاب إلی جماعة بخطاب واحد ان یعملوا عملاً و لو مع العلم بعدم قدرة بعضهم علی إیجاد العمل؟ نعم لو کان الجمیع أو الأکثر غیر قادرین، لما صحّ الخطاب و أمّا مع عجز البعض فلا مانع منه، مع انه لو انحلّ الخطاب الواحد الی خطابات متعددة لما صحّ؛ لاستحالة بعث العاجز مع العلم بعجزه المقام ایضاً کذلک؛ فان قوله تعالی أَقِیمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّکاةَ عام یشمل المسلم و الکافر، و لا ینحل الی خطاب خاص بالکافر حتی یقال بالاستحالة؛ نظراً الی علیّة الشیء لعدم نفسه، فالکافر ما دام کافراً یکون مکلّفاً بالعبادات المذکورة، و من شرائط صحتها الإسلام، و بعد الإسلام لا یجب علیه إتیان ما فات فی حال الکفر، فتدبر جیّداً.

ص:266

و الحقّ فی الجواب ان یقال: مضافاً الی النقض بالصلاة و الصیام و الحجّ، فان ترکها مجبوب بالإسلام، مع انّها لا تصح فی حال الکفر؛ لمدخلیة الإسلام فی صحّتها، ان هذه الاستحالة انما تتحقق إذا کان الخطاب متوجّها الی خصوص الکفار، کالخطاب المتوجه الی العاجز، و أمّا لو کان الخطاب متوجّها الی العموم من دون فرق بین المسلم و الکافر، فلا تکون صحة هذا الخطاب متوقفة علی صحته بالنسبة الی کل واحد من المخاطبین، أ لا تری انه یصحّ الخطاب إلی جماعة بخطاب واحد ان یعملوا عملاً و لو مع العلم بعدم قدرة بعضهم علی إیجاد العمل؟ نعم لو کان الجمیع أو الأکثر غیر قادرین، لما صحّ الخطاب و أمّا مع عجز البعض فلا مانع منه، مع انه لو انحلّ الخطاب الواحد الی خطابات متعددة لما صحّ؛ لاستحالة بعث العاجز مع العلم بعجزه المقام ایضاً کذلک؛ فان قوله تعالی أَقِیمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّکاةَ عام یشمل المسلم و الکافر، و لا ینحل الی خطاب خاص بالکافر حتی یقال بالاستحالة؛ نظراً الی علیّة الشیء لعدم نفسه، فالکافر ما دام کافراً یکون مکلّفاً بالعبادات المذکورة، و من شرائط صحتها الإسلام، و بعد الإسلام لا یجب علیه إتیان ما فات فی حال الکفر، فتدبر جیّداً.

و منها: الحقوق المختصة بالمخلوقین مع اعتقادهم بثبوتها فی أدیانهم، کالدین و ضمان المغصوب و ضمان الإتلاف و نحو ذلک، و الظاهر انه لا دلالة للحدیث علی سقوطها؛ لما ذکرنا من ان مفاده سقوط الآثار المترتبة فی الإسلام فقط، و أمّا الآثار الثابتة فی حال الکفر ایضاً بمقتضی الدین أو بمقتضی حکم العقل و قضاء ضرورته، فلا دلالة للحدیث علی سقوطها، و الحقوق المذکورة من هذا القبیل، فیلزم علی الکافر الذی تجدد إسلامه أداء دیونه و الخروج عن عهدة الغصب و الإتلاف و نحوها، و ظاهر الأصحاب أیضاً عدم السقوط.

و منها: الحقوق المختصة بالمخلوقین مع عدم اعتقادهم بثبوتها فی أدیانهم، کما لو لم یعتقدوا ان قتل العمد فیه القصاص، أو ان قتل الخطأ فیه الدیة علی العاقلة، فإذا أسلم الکافر و قد ارتکب القتل عمداً أو خطأً فهل یسقط القصاص أو الدیة عنه فی الإسلام أم لا؟ ظاهر کلمات الأصحاب عدم السقوط؛ لإطلاقهم ان حقّ المخلوق لا یسقط، و لکن الظاهر بمقتضی ما ذکرنا فی مفاد الحدیث إجمالاً هو السقوط؛ لانّ المفروض ثبوت القصاص مثلاً فی الإسلام، و لم یکن له سابقة فی سائر الأدیان، و لیس ثبوته بمقتضی حکم العقل و العقلاء، و قوله (1)تعالی وَ لَکُمْ فِی اَلْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی اَلْأَلْبابِ یشعر بعدم خضوع اولی الألباب فی أنفسهم لهذا الحکم الإلهی بل یحتاج إلی إرشاد اللّه تبارک و تعالی، خلافاً لما یحکم به العقل البدوی من کون القصاص ضمّ موت الی موت آخر، و إعدام زائد علی إعدام آخر، و علیه فمقتضی قوله (صلی الله علیه و آله) : الإسلام یجبّ ما قبله 1، هو السقوط، خصوصاً فی مسألة ثبوت الدیة علی العاقلة، الذی لا یتطرق الیه العقل بوجه.

ص:


1- 1) سورة البقرة الآیة:179.

و منها: الحقوق المختصة بالمخلوقین مع عدم اعتقادهم بثبوتها فی أدیانهم، کما لو لم یعتقدوا ان قتل العمد فیه القصاص، أو ان قتل الخطأ فیه الدیة علی العاقلة، فإذا أسلم الکافر و قد ارتکب القتل عمداً أو خطأً فهل یسقط القصاص أو الدیة عنه فی الإسلام أم لا؟ ظاهر کلمات الأصحاب عدم السقوط؛ لإطلاقهم ان حقّ المخلوق لا یسقط، و لکن الظاهر بمقتضی ما ذکرنا فی مفاد الحدیث إجمالاً هو السقوط؛ لانّ المفروض ثبوت القصاص مثلاً فی الإسلام، و لم یکن له سابقة فی سائر الأدیان، و لیس ثبوته بمقتضی حکم العقل و العقلاء، و قوله 1تعالی وَ لَکُمْ فِی اَلْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی اَلْأَلْبابِ یشعر بعدم خضوع اولی الألباب فی أنفسهم لهذا الحکم الإلهی بل یحتاج إلی إرشاد اللّه تبارک و تعالی، خلافاً لما یحکم به العقل البدوی من کون القصاص ضمّ موت الی موت آخر، و إعدام زائد علی إعدام آخر، و علیه فمقتضی قوله (صلی الله علیه و آله) : الإسلام یجبّ ما قبله (1)، هو السقوط، خصوصاً فی مسألة ثبوت الدیة علی العاقلة، الذی لا یتطرق الیه العقل بوجه.

نعم هنا اشکال و هو ان الظاهر ثبوت القصاص فی النفس فی الأدیان السّابقة أیضاً، دون القصاص فی ما دون النفس؛ فإنه ثابت فی الإسلام و من أحکامه، و مقتضی ما ذکرنا فی معنی الحدیث عدم جبّ الإسلام ما کان ثابتاً فیه و فی الأدیان السابقة، بل یختص الجبّ بخصوص ما ثبت فی الإسلام من الآثار و الأحکام، فاللازم حینئذ عدم رفع الإسلام للقصاص الذی هو من حقوق المخلوقین و کان ثابتاً عند الکافر و علی حسب اعتقاده ایضاً، مع ان الظاهر انه (صلی الله علیه و آله) لم یحکم بقصاص من أسلم من الکفّار القاتلین، بل یظهر من قصة إسلام المغیرة بن شعبة المحکیة فی سیرة ابن (2)هشام المتقدمة عدم حکمه (صلی الله علیه و آله) بقصاصه مع انه غدر بأصحابه و قتلهم و فرّ إلی المدینة، و دعوی ان عدم الحکم بالقصاص لا یکون مستنداً إلی قاعدة الجب بل مستند الی قوله (صلی الله علیه و آله) : کل دم کان فی الجاهلیة فهو تحت قدمی هاتین، مدفوعة باستناد النبی (صلی الله علیه و آله) : فی قصة المغیرة الی انّ الإسلام یجبّ ما قبله، و هو ظاهر فی دلالة القاعدة علی سقوط القصاص ایضاً.

ص:


1- 1) مسند ابن حنبل 4:199 و 204 و 205.
2- 2) لم نعثر علی تلک القصّة.

و اللازم ان یقال بعدم دلالة الحدیث علی سقوط القصاص کما ذکرنا فی معناه، و قصة المغیرة لا تکون معتبرة بجمیع خصوصیاتها، بل حکایتها انما هی للاشتمال علی القاعدة، و بعبارة اخری: حجیتها بالنسبة إلی القاعدة المذکورة فیها لا تستلزم حجیتها بالنسبة الی جمیع الخصوصیات الواقعة فیها، التی منها القتل الموجب للقصاص، کما لا یخفی.

فالحق ان سقوط القصاص کان مستنداً إلی أمر آخر، من دون فرق بین القتل الواقع فی القضایا الشخصیة و الموارد الجزئیة، و بین القتل الواقع فی الغزوات الواقعة بین المسلمین و الکفار، إذ لم ینقل الحکم بالقصاص فی شیء منها، بل المعلوم من عمل النبی (صلی الله علیه و آله) و سیرته الخلاف کما لا یخفی علی من رجع الی التاریخ.

و منها: العقود و الإیقاعات کالبیع و النکاح و الطلاق الصادر من الکافر حال کفره، فاذا باع داره فی تلک الحال ببیع فاقد لبعض شرائط الصحة فی الإسلام، کما لو فرض انه باعه بثمن مجهول أو تزوج بنکاح کذلک، أو طلّق زوجته بطلاق کذلک، کما إذا کان فاقداً لشرط حضور العدلین مثلاً فمقتضی إطلاق القاعدة تمامیة تلک العقود و الإیقاعات، لکون الشرائط من خصائص الإسلام، فلا یبطل بیعه و لا نکاحه و لا طلاقه، و ما مرّ فی قضایا أمیر المؤمنین (علیه السلام) من عدم الاعتبار بالتطلیقة الواحدة الواقعة فی حال الشرک، فهو لیس بمعنی بطلان ذلک الطلاق بالمرة، بل بمعنی عدم عدّه من الطلقات الثلاث المؤثرة فی الحرمة و الافتقار الی المحلّل، و عدم کونه جزء للسّبب من هذه الجهة.

ثمّ ان معنی صحّة النکاح الواقع منه فی حال کفره لا یرجع الی

ص:269

صحته و لو بالنسبة الی ما یمکن رعایته بقاء فی حال الإسلام أیضاً، فإذا أسلم المجوسی و قد نکح امّه أو أخته أو بنته، فمعنی القاعدة یرجع الی ملاحظة هذا النکاح بالنسبة الی ما مضی کالعدم، و أمّا بقاء فلا مجال لتوهم اقتضاء القاعدة صحة النکاح، و کون المجوسی المسلم باقیاً علی نکاح إحدی محارمه، کما انه إذا أسلم الزوج الکافر دون زوجته و قلنا بعدم صحة هذا النکاح بقاء ایضاً، لا یکون مفاد القاعدة الصحة و لو بحسب البقاء کما لا یخفی.

و منها: الأسباب الواقعة فی حال الکفر کأسباب الوضوء و الغسل و أسباب الغسل بالفتح و أسباب تحریم النکاح من رضاع أو مصاهرة أو وطی فی عدّة أو لذات بعل أو لواط بالنسبة إلی أمّ الموطوء و بنته و أخته و تطلیقات موجبة للتحریم حتی تنکح زوجاً غیره أو للتحریم المؤبد کما لو کانت الطلقات تسعاً فهل مقتضی القاعدة الجبّ فی الجمیع، أو انّها لا تقتضی الجبّ فی شیء منها، أو اللازم هو التفصیل؟ وجوه و احتمالات.

امّا الوجه الأوّل فیبتنی علی إطلاق القاعدة، خصوصاً مع ملاحظة انّ القاعدة کما عرفت انّما هی لطف و منّة، و الغرض منها التحریض و الترغیب بقبول الإسلام و رفع الید عن الکفر، و هذا الغرض موجود فی هذا المقام، مع ان الشارع إذا أسقط الزکاة و الخمس مع ثبوت حق الفقراء و السّادة ترغیباً و تشویقاً إلی الإسلام، فإسقاط هذه الأسباب عن السببیة یکون بطریق اولی، و مع ان روایة البحار (1)المتقدمة قد دلّت علی عدم کون التطلیقة الواحدة الواقعة فی حال الشرک جزء سبب للتحریم حتی تنکح

ص:270


1- 1) البحار 40:230.

زوجاً غیره، و للتحریم المؤبّد، و لا فرق بینها و بین سائر الأسباب خصوصاً مع ذکر القاعدة الکلیة قبل الحکم بعدم اعتبار التطلیقة فی حال الشرک، فمن هذه الروایة یستفاد إسقاط جمیع الأسباب عن السببیّة.

و أمّا الوجه الثانی فیبتنی علی عدم ثبوت إطلاق معتد به لهذه القاعدة، و لم یعلم العمل بها فی هذه الموارد، بل هذه الموارد تکون کالحقوق المختصة بالمخلوقین کالدیون و ضمان الغصب و الإتلاف و أشباهها، و روایة البحار ضعیفة غیر مجبورة حتی بالنسبة إلی صدور القاعدة من أمیر المؤمنین (علیه السلام) ، فلا مجال للاعتماد علیها، فیبقی الحکم فی هذه الموارد علی طبق القاعدة الأوّلیة المقتضیة لتأثیر هذه الأسباب فی مسبّباتها و ترتب أحکامها علیها، کما لا یخفی.

و أمّا التفصیل فیظهر من المحقق البجنوردی (قده) فی قواعده (1)الفقهیة؛ إذ اختار فی مثل الوطی فی العدة أو لذات البعل و کذا اللواط عدم کونه سبباً لتحقق التحریم لجریان القاعدة فیه، و فی مسألة الأحداث الموجبة للغسل أو الوضوء أو التیمم عدم جریانها، نظراً الی ان الشارع جعل الطهارة شرطاً لأشیاء کالصلاة و الطواف و مسّ المصحف مثلاً و لأن تلک الاحداث لا ترتفع آثارها إلّا بإحدی الطهارات الثلاث، فبعد إسلامه إذا أراد إیجاد ما هو مشروط بالطهارة، لا بد و إن یتطهر من ذلک الحدث، لعدم إمکان امتثال ما هو مشروط بالطهارة بدونها، و لا وجه لإجراء القاعدة هنا؛ لانه لا اثر لها لإثبات الشرط، کما ان الرضاع الحاصل فی حال الکفر یوجب حصول أحد العناوین المحرّمة کالامومة و البنتیة و الأختیّة، و مع

ص:271


1- 1) القواعد الفقهیة 1:44 و 45.

حصول أحد هذه العناوین لا یمکن ان یکون إسلامه رافعاً للحرمة عن أخته الرّضاعیّة مثلاً و کما انه لم یتوهم أحد ان هذه العناوین إذا حصلت فی حال الکفر عن النسب فاسلامه لا یوجب التحریم فکذلک الرضاع و السرّ، ان هذه العناوین إضافات تکوینیة، قد تحصل بواسطة الولادة، و قد تحصل بواسطة الرضاع، و قد جعلها الشارع موضوعاً لحرمة نکاحهن، و إذا وجد الموضوع و احرز وجوده وجداناً أو تعبداً یترتب علیه الحکم قهراً.

و نقول: أمّا مسألة الأحداث، فیظهر من کثیر من الفقهاء عدم ارتفاع آثارها بالإسلام، قال الشیخ فی محکیّ الخلاف (1): «الکافر إذا تطهر أو اغتسل عن جنابة ثمّ أسلم لم یعتد بهما، و به قال الشافعی، و قال أبو حنیفة: انه یعتد بهما، دلیلنا ما بیّناه من ان هاتین الطهارتین تحتاجان إلی نیّة القربة، و الکافر لا یصح منه نیة القربة فی حال کفره؛ لانه غیر عارف باللّه تعالی، فوجب ان لا یجزیه» فان التعبیر بعدم الاعتداد فی الصدر، و بعدم الاجزاء فی الذیل، یدل علی لزوم الوضوء و الغسل علیه بعد الإسلام، کما ان مراده بالتطهر فی الصدر هو الوضوء بقرینة اعتبار قصد القربة فیه.

و قال الشهید الثانی فی «المسالک» فی باب غسل الجنابة: «انه یمکن ان یقال علی هذا یحکم عند الإسلام بسقوط وجوب الغسل عنه ان کان فی غیر عبادة مشروطة به؛ لان الوجوب من باب خطاب وضع الشرع، ثمّ إذا دخل وقتها أو کان حاصلاً وقت الإسلام حکم علیه بوجوب الغسل، اعمالاً للسبب المتقدم، کما لو أجنب الصبیّ بالجماع، فإنه یجب علیه الغسل

ص:272


1- 1) الخلاف 1:27 و 70.

بعد البلوغ فی وقت العبادة» (1).

و قال فی مفتاح (2)الکرامة فی البحث عن سقوط قضاء الصلاة عن الکافر: «و استثنی المحقق الثانی فی حاشیته حکم الحدث کالجنابة و حقوق الآدمیین قال: و المعلوم ان الذی یسقط ما خرج وقته، و کذلک الشهید الثانی، و فی الذخیرة: ان ذلک محلّ وفاق: و کذا مجمع البرهان، قال: ان حقوق الآدمیین مستثنی بالإجماع» .

و قال صاحب الجواهر (3)فی کتاب الطهارة: «فإذا أسلم وجب علیه الغسل عندنا بلا خلاف أجده، و یصح منه لموافقته للشرائط جمیعها؛ إذ الظاهر ان المراد بکونه یجبّ ما قبله انّما هو بالنسبة إلی الخطابات التکلیفیة البحتة، لا فیما کان الخطاب فیه وضعیّاً کما فیما نحن فیه، فان کونه جنباً یحصل بأسبابه، فیلحقه الوصف و إن أسلم» .

و قال صاحب مصباح الفقیه (4): «لا ینبغی الاحتیاط فی وجوب الغسل علیه بعد ان أسلم، و إن لم نقل بکونه مکلّفاً به حال کفره؛ إذ غایته ان یکون کالنائم و المغمی علیه و غیرهما ممن لا یکون مکلّفاً حین حدوث سبب الجنابة، و لکنه یندرج فی موضوع الخطاب بعد اجتماع شرائط التکلیف، فیعمه قوله (5)تعالی وَ إِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا و قوله (علیه السلام) : إذا

ص:273


1- 1) المسالک 1:8.
2- 2) مفتاح الکرامة 3:381.
3- 3) الجواهر 3:40.
4- 4) مصباح الفقیه مبحث الغسل.
5- 5) سورة المائدة:6.

دخل الوقت وجب الصلاة و الطهور، و لا ینافی ذلک ما ورد من ان الإسلام یجبّ ما قبله؛ لان وجوب الغسل لصلاته بعد ان أسلم من الأمور اللّاحقة فلا یجبّه الإسلام، و حدوث سببه قبله لا یجدی؛ لأن الإسلام یجعل الافعال و التروک الصادرة منه فی زمان کفره فی معصیة الله تعالی کأن لم تکن، لا ان الأشیاء الصادرة منه حال کفره ترتفع آثارها الوضعیة، خصوصاً إذا لم یکن صدورها علی وجه غیر محرّم، کما لو بال أو احتلم، فإنه کما لا ترتفع نجاسة ثوبه و بدنه المتلوث بهما بسبب الإسلام، کذلک لا ترتفع الحالة المانعة من الصلاة الحادثة بسببهما، و کیف کان فلا مجال لتوهم ارتفاع الحدث بالإسلام، کما لا یتوهم ذلک بالنسبة إلی التوبة التی روی فیها ایضاً انها تجب ما قبلها» .

و هذه العبارات و إن اشترکت فی عدم سقوط الغسل بالإسلام، الّا انّها مختلفة فی بیان وجهه، فیظهر من بعضها ان عدم السقوط انّما هو بنحو الاستثناء من القاعدة، کعدم سقوط حقوق الآدمیین، و من بعضها الآخر ان عدم السقوط لأجل عدم شمول القاعدة للآثار و الأحکام الوضعیة، و بعضها غیر متعرض للدّلیل.

أقول: امّا الاستثناء، فلا بد له من دلیل، و لا مجال للأخذ به بدونه، و الظاهر عدم وجود الإجماع الذی له أصالة علیه، و إن ادعی صاحب الجواهر عدم وجدان الخلاف فیه؛ لانّ حکمه بعده بعدم شمول دلیل القاعدة للأحکام الوضعیة ظاهر فی ان الدلیل هو قصور دلیل القاعدة، لا الإجماع.

و أمّا عدم شمول القاعدة للأحکام الوضعیّة، فیردّه ان لازم ذلک بطلان العقود و الإیقاعات الصادرة من الکافر إذا لم تکن واجدة لجمیع

ص:274

الشرائط المعتبرة فی الإسلام، مع ان مقتضاها جعل السببیة لها و الحکم بترتب الآثار التی هی أحکام وضعیة کالملکیة و الزوجیة و الفراق و أشباهها، کما ان لازم ذلک ترتب الحدّ أو التعزیر علی ما صدر منه فی حال الکفر، لان شرب الخمر مثلاً سبب لوجوب حدّه، و هکذا سائر الموجبات للحدّ أو التعزیر، فلا مجال للمناقشة فی عموم القاعدة للأحکام الوضعیّة.

نعم یمکن الاستدلال علی وجوب الغسل أو الوضوء علی الکافر امّا من طریق ما مرّت الإشارة إلیه فی کلام بعض الأجلّة، و هو ان المستفاد من آیة الوضوء و الغسل و التیمم ان هذه الأمور شروط یجب تحصیلها، فمعنی قوله تعالی إِذا قُمْتُمْ إِلَی اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ الی آخر الآیة، انه عند إرادة الصلاة لا بد من الوضوء أو مثله، و إن لم یعلم بکونه محدثا و لم یثبت ذلک و لو ظاهراً، کما فی مورد تعارض استصحابی الطهارة و الحدث، فإنه لا بد له من تحصیل الطهارة؛ إحرازاً للشرط، و کما فی المریض الذی لیس له بول و لا غائط بل یقیء کلّما یأکل، و الکافر ایضاً من هذا القبیل؛ فإنه یجب علیه تحصیل الطهارة بمعنی الوضوء أو الغسل أو التیمم للعبادات المشروطة بها، و إن لم نقل بسببیّة ما وقع منه فی حال الکفر لحدوث الحدث، و بعبارة اخری: الطهارة شرط، لا انّ الحدث مانع، و یؤیده التعبیر عن مثل البول و الغائط بالناقض الذی مرجعه الی رفع ما یکون شرطاً، لا إیجاد ما یکون مانعاً، و علیه فلا یرتبط بالقاعدة ایضاً.

و أمّا ما یشعر به کلام الشهید الثانی (قده) المتقدم من ان السّبب لا یکون مؤثراً فی المسبب ما دام کافراً، فاذا زال الکفر باختیار الإسلام فالسبب السابق یؤثر فی مسببه فعلاً، فان الکافر الذی بال أو أجنب یکون

ص:275

بعد الإسلام محدثاً بالحدث الأصغر أو الأکبر، و مثله یجری فی باب الرضاع أیضاً، بأن یقال: الرضاع الواقع فی حال الکفر لا یترتب علیه اثر ما دام الکفر باقیاً، فاذا زال الکفر و أسلم یترتب علیه الأثر، فإذا نکح أخته من الرّضاعة فهذا النکاح لا یترتب علیه اثر و عقوبة ما دام کافراً، و بعد زواله یترتب علیه آثاره.

و لا یتوهم ان ذلک یوجب الالتزام بعدم اشتراک الکفار مع المسلمین فی الاحکام؛ لان ما ذکرنا انّما هو بالنسبة إلی الکافر الذی أسلم بلسان الجبّ و القطع و الرفع، و أمّا الکافر الذی بقی علی کفره، فهو یشترک مع المسلم فی جمیع أحکام الإسلام أعم من التکلیفیة و الوضعیة، فالحکم بعدم تأثیر بوله فی الحدث الأصغر انّما هو بلحاظ القاعدة فی خصوص زمان الکفر ایضاً، و هکذا الرّضاع.

و أمّا ما افاده المحقق البجنوردی (1)فی باب الرّضاع من ان عناوین الأمومة و الأختیة و البنتیة عناوین تکوینیة و لا یمکن ان یکون الحدیث رافعاً لها، فلم نعرف له وجهاً؛ فإنه یرد علیه أوّلاً: ان تحقق هذه العناوین انّما هو بمعونة التعبد بأن الرضاع لحمة کلحمة النسب؛ ضرورة انه لو لم یکن هذا التعبد لما تحققت هذه العناوین أصلاً.

و ثانیاً: ان کون العناوین تکوینیة لا ینافی جریان القاعدة لوضوح کون الأحکام المترتبة علیها شرعیة تعبدیة، و جریان القاعدة انّما هو بلحاظ تلک الاحکام لا بلحاظ العناوین، و قد عرفت فی المجوسی الذی أسلم و قد نکح امّه فی زمان الکفر، ان القاعدة تجری بالنسبة الی الماضی،

ص:276


1- 1) القواعد الفقهیة 1:45.

و أمّا بالنسبة إلی المستقبل فلکون العنوان باقیاً لا مجال لصحّة نکاحه.

و قد ظهر مما ذکرنا حکم التطلیقة أو التطلیقات الواقعة فی حال الکفر، فان مقتضی القاعدة عدم ترتب الأثر من جزئیة السّبب أو السّببیة التامة للتحریم علیها؛ لعدم اختصاصها بالأحکام التکلیفیة، و لا حاجة فی ذلک الی روایة البحار، حتی یناقش فیها من إذ السّند، کما لا یخفی.

خاتمة- تشتمل علی بیان أمور:

الأوّل الکافر المنتحل للإسلام کالخوارج و الغلاة و النواصب و المجسمة و نحو ذلک، إذا رجع الی الإسلام، فهل یکون مشمولاً للقاعدة أم لا؟

نسب الی ظاهر إطلاق الأصحاب أنه ایضاً کالکتابی و الوثنی فی هذا الحکم، و لکنه محلّ تردّد و إشکال؛ لانه ربما یقال: ان المتبادر من حدیث الجبّ هو الإسلام المسبوق بکفر صرف لا تدیّن بالإسلام فیه، و یمکن الإیراد علیه بان المقصود من التدین بالإسلام ان کان هو التدین الواقعی فهو لا یجتمع مع کفرهم، کما هو المفتی به للأصحاب، و إن کان هو التدین الاعتقادی فهو ینکشف خلافه بعد الإسلام؛ لأن المنتحل بعد ما أسلم یری انه کان غیر مسلم، و الاعتقاد السابق لا یجدی، کما ان الکافر لا یری نفسه کافراً فی زمان کفره، و علیه فلا یبعد ان یقال بالشمول.

الثانی الظاهر عدم شمول القاعدة للمخالف

إذا استبصر؛ لما عرفت من انّها فی مقام التحریض و الترغیب بالإسلام فی مقابل الکفر، فلا دلالة لها علی حکم المخالف بوجه، بل لا بد فی استفادة حکمه من الرجوع الی القواعد الأخری، مثل قاعدة (لا تعاد) فی باب الصلاة و غیرها، و قد ورد فی باب زکاته روایات خاصّة.

ص:277

الثالث الکافر إذا أسلم فی أثناء العبادة،

کما إذا أسلم فی نهار شهر رمضان و لم یأت بشیء من المفطرات، فهل یتحقق الجبّ بالنسبة إلی مجموع هذه العبادة فلا یجب علیه صوم ما بقی من النهار و لا قضاؤه، أو لا یتحقق الجبّ فلا بد من الإتیان بها أداءً لو کان له فرض أو قضاء کما فی مثال الصوم المذکور، أو یتحقق الجبّ بالنسبة الی ما مضی فی حال الکفر دون ما بقی، فیأتی بالباقی مؤمناً مسلماً؟ وجوه و احتمالات، و لا یبعد ترجیح الاحتمال الأخیر.

الرّابع الواجبات الموسّعة إذا أسلم الکافر و قد مضی من وقتها مقدار یمکن أداؤها فیه

مع الشرائط، و لم یأت بها علی ما هو المفروض؛ لکونه کافراً، فهل یسقط التکلیف بها أم لا؟ فیه وجهان:

من تعلق الخطاب به قبل الإسلام؛ لأن المفروض مضی مقدار من الوقت یمکن أداؤها فیه، فیکون مشمولاً للقاعدة، فلا یجب علیه الإتیان بها فیما بقی من الوقت، و من استمرار الخطاب فی آنات الوقت الموسع و استصحاب اشتغال الذمة و الشک فی شمول القاعدة لهذه الصورة، فیجب علیه الإتیان بها.

و ربما یؤید الوجه الأول ملاحظة أن الواجبات الموسعة ما دام العمر، کصلاة الزلزلة و قضاء الصّلوات الیومیة، لا ریب فی سقوطها بالإسلام؛ فإن الکافر إذا أسلم فی شهر شوال، فلا ریب فی عدم وجوب قضاء شهر رمضان علیه، مع ان قضاء رمضان موسّع بحسب الرّخصة إلی رمضان الآتی، و بحسب الاجزاء الی آخر العمر، و لا یری فرق بین الواجبات الموسعة أصلاً.

ص:278

أقول: الظاهر هو الفرق؛ فان وجوب القضاء متفرع علی الفوت، و بعد اقتضاء الحدیث کون الترک کالعدم، لا یبقی مجال لوجوب القضاء، و وجوب صلاة الزلزلة مسبّب عنها، و قد مرّ ان الحدیث یشمل الأحکام الوضعیة أیضاً، و هذا بخلاف مثل صلاة الظهر التی دخل وقتها ثمّ أسلم بعد مضیّ مقدار من الوقت یمکن أداؤها فیه، فإنه لا مجال للحکم بسقوطها بالقاعدة مع فرض سعة الوقت و إمکان الأداء، و هو مسلم فتدبّر.

هذا تمام الکلام فی قاعدة الجبّ.

ص:279

ص:280

قاعدة الإحسان

اشارة

و هی ایضاً من القواعد الفقهیّة المعروفة، و یستند إلیها فی الفروع المختلفة الفقهیة التی سیأتی التعرض لبعضها إن شاء اللّه تعالی، و الکلام فیها یقع فی مواقف:

الموقف الأوّل- فی مدرکها و مستندها،

اشارة

و ما قیل فی هذا المجال أمور:

الأوّل-

قوله تعالی لَیْسَ عَلَی اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَی اَلْمَرْضی وَ لا عَلَی اَلَّذِینَ لا یَجِدُونَ ما یُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَی اَلْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ وَ لا عَلَی اَلَّذِینَ إِذا ما أَتَوْکَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُکُمْ عَلَیْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْیُنُهُمْ تَفِیضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ یَجِدُوا ما یُنْفِقُونَ إِنَّمَا اَلسَّبِیلُ عَلَی اَلَّذِینَ یَسْتَأْذِنُونَکَ وَ هُمْ أَغْنِیاءُ رَضُوا بِأَنْ یَکُونُوا مَعَ اَلْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اَللّهُ عَلی قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا یَعْلَمُونَ (1).

ص:281


1- 1) سورة التوبة آیة 92 93 94.

و قد ذکر المفسر العظیم القدر صاحب مجمع البیان (1)فی شأن نزول الآیات: قیل ان الآیة الأولی نزلت فی عبد اللّه بن زائدة و هو ابن أم مکتوم و کان ضریر البصر جاء الی رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فقال: یا نبیّ اللّه انّی شیخ ضریر خفیف الحال نحیف الجسم، و لیس لی قائد فهل لی رخصة فی التخلف عن الجهاد فسکت النبی (صلی الله علیه و آله) ، فانزل الله الآیة عن الضحاک، و قیل: نزلت فی عائد بن عمرو و أصحابه عن قتادة، و الآیة الثانیة نزلت فی البکائین، و هم سبعة نفر منهم عبد الرحمن بن کعب و علیة بن زید و عمرو بن ثعلبة و ابن غنمة، و هؤلاء من بنی النّجار و سالم بن عبیر و هرم بن عبد اللّه و عبد اللّه بن عمرو بن عوف و عبد اللّه بن معقل من مزینة جاءوا الی رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فقالوا: یا رسول الله احملنا؛ فإنه لیس لنا ما نخرج علیه، فقال: لا أجد ما أحملکم علیه، عن أبی حمزة الثمالی، و قیل: سبعة نفر من قبائل شتّی أتوا النبی (صلی الله علیه و آله) فقالوا له: احملنا علی الخفاف و البغال، عن محمد بن کعب و ابن إسحاق، و قیل: کانوا جماعة من مزینة عن مجاهد، و قیل: سبعة من فقراء الأنصار، فلما بکوا حمل عثمان منهم رجلین، و العباس بن عبد المطلب رجلین، و یامین بن کعب النضری ثلاثة، عن الواقدی، قال: و کان الناس بتبوک مع رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ثلاثین ألفاً منهم عشرة آلاف فارس» .

و علی ما ذکرنا فالمراد من السبیل المنفی بالنسبة إلی المورد هو العذاب و العقاب الأخروی، کما انه المراد بالسبیل المثبت فی مورد الآیة الثالثة،

ص:282


1- 1) مجمع البیان 4:118.

و لکنّه إذ لا یکون المورد مخصّصاً، و قوله (1)تعالی ما عَلَی اَلْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ منزلة ضابطة کلیة و قاعدة عامّة، لا بد من الالتزام بعدم اختصاص السبیل بالعقاب، بل له معنی عام شامل لکلّ ما یکون بضرر المحسن و موجباً لمؤاخذته و الأخذ به، سواء کان عقاباً فی الآخرة، أو أمراً ضرریّاً علیه فی الدّنیا، کضمانه و تغریمه و تعزیره، فله معنی عام یشمل الجمیع، و هذا إجمال معنی القاعدة، و سیأتی التفصیل فی الموقف الثانی إن شاء اللّه تعالی.

الثانی حکم العقل بقبح مؤاخذة المحسن علی إحسانه،

و لعلّه الیه یشیر قوله تعالی هَلْ جَزاءُ اَلْإِحْسانِ إِلاَّ اَلْإِحْسانُ (2)؛ فإن مرجعه الی ان مکافأة الإحسان لا تلائم الإساءة بل تنحصر فی الإحسان، و بعبارة اخری: المحسن منعم، و المنعم شکره انّما هو بالإحسان إلیه، و یقبح کفرانه بنظر العقل، فلا معنی للحکم بضمانه فی مورد إحسانه، مثلاً إذا رأی مال الغیر فی معرض التلف، کما إذا ذهب به السیل أو أطارته الریح مثلاً فأخذه بقصد حفظه و إیصاله الی مالکه لیتمکن من التصرف فیه و الاستفادة منه، فحفظه فی محلّ معدّ للحفظ عرفاً، و لکنه علی خلاف الانتظار سرق أو خرب السقف مثلاً فتلف المال، فهل الحکم بضمانه فی هذه الصورة و أخذ المثل أو القیمة منه ملائم لإحسانه أو انه قبیح عند العقل؟ و هکذا سائر الموارد المشابهة مثل الودیعة التی أخذها المستودع إحساناً للمودع فحفظها فی مکان کذلک، ثمّ عرض لها التلف بمثل ما ذکر، فهل یجوز عند العقل الحکم بتغریمه و تضمینه و أخذ المثل أو القیمة منه؟

ص:283


1- 1) سورة التوبة الآیة:92.
2- 2) سورة الرحمن آیة 60.

و ربما یجاب عن هذا الوجه بأنه صرف استحسان، مع ان إثبات الحکم الشرعی علی موضوع أو نفیه عنه لا یجوز بالظنون الاستحسانیة، بل لا بد من قیام دلیل و حجة ثبتت حجیته بالحجیة القطعیة، فلو وجد سبب الضمان من إتلاف أو ید غیر مأذونه أو تعدٍّ أو تفریط من الأمین أو غیر ذلک من أسباب الضمان، لا یصح الحکم بعدم الضمان بصرف هذا الاستحسان.

و أنت خبیر بأن إتلاف مال الغیر لا یجتمع مع الإحسان، نعم فی ما إذا لم یکن الإتلاف عن عمد و التفات یمکن الاجتماع، و کذلک التعدّی و التفریط لا یجتمعان مع الإحسان، و المراد بالإذن ان کان أعم من إذن المالک و الشارع لم یتحقق مورد من موارد الإحسان یکون خالیاً عن اذن واحد منهما، کما لا یخفی.

و علی ما ذکرنا یرد علی هذا الوجه انّ الحکم بعدم الضمان فی غیر مورد الإتلاف و التعدی و التفریط لا یکون مستنداً إلی قاعدة الإحسان، بل الی عدم الدلیل علی الضمان؛ لاختصاص قاعدة ضمان الید بغیر الید المأذونة من قبل المالک أو الشارع، و لا دلیل علی الضمان غیر هذه القاعدة.

نعم لو فرض عنوان موجب للضمان و مجتمع مع عنوان الإحسان کالإتلاف فی حال النوم مثلاً فی الموارد المذکورة، لا مانع من الحکم فیه بعدم الضمان، و إن کان مقتضی قاعدة الإتلاف ثبوته، لان حکم العقل بعدم مکافأة الإحسان بالإساءة و التغریم حکم عقلی قطعی، و لا مجال لدعوی کونه من الظنون الاستحسانیة غیر القابلة لإثبات الحکم أو نفیه.

الثالث الإجماع علی ثبوت هذه القاعدة

علی ما یظهر من تتبع

ص:284

کلمات الأصحاب؛ فإن الفقهاء یستدلون بها فی کتبهم و فتاویهم فی موارد کثیرة، فتراهم یستدلون بها علی عدم ضمان المستودع، إذا کان المال عنده فی مکان معدّ للحفظ و مناسب له، ثمّ غیر مکانه الی مکان آخر یعتقد أنه أحفظ من المکان الأول، و لکن انکسرت الودیعة أو تلفت فی حال النقل؛ نظراً الی کونه محسناً فی هذا النقل، و لا معنی لثبوت الضمان علیه للقاعدة، و هکذا الموارد الأخری الکثیرة التی حکم فیها بعدم الضمان معلّلاً بالقاعدة.

و لکن الظاهر عدم اتصاف الإجماع بالأصالة و الکاشفیة عن رأی المعصوم (علیه السلام) بل استناده الی الآیة الشریفة کما یصرحون به کثیراً، و یؤیده تعبیراتهم المقتبسة من الآیة من الإحسان و السبیل و غیرهما، فالإجماع لا یکون حجة برأسه فی مقابل الآیة کما لا یخفی.

و قد انقدح من جمیع ما ذکرنا فی هذا الموقف انه لا مجال للإشکال فی القاعدة من إذ المدرک و المستند.

الموقف الثانی- فی بیان المراد من هذه القاعدة و شرح معناها،

اشارة

و العمدة فی هذا الموقف ایضاً ترجع الی توضیح المراد من الآیة الشریفة، فنقول: التکلم فی الآیة من جهتین:

الجهة الاولی فی بیان المراد من مفردات الآیة

(1)، و هی عنوان الإحسان و مفهوم السبیل، و کلمتا «ما» و «علی» فنقول: لا إشکال فی ان ما نافیة، و الغرض منها افادة نفی السبیل و عدم ثبوته علی المحسن، کما ان کلمة علی للضرر، و مرجعها الی عدم ثبوت سبیل و حکم یوجب تضرّر المحسن و الإساءة إلیه المقابلة للإحسان.

ص:285


1- 1) سورة التوبة الآیة:92.

و أمّا السّبیل فقد عرفت انه بلحاظ موارد الآیات و شأن نزولها یشمل العذاب الأخروی و العقوبة فی عالم الآخرة، و لکنّه لا یختص بها؛ لان المورد لا یکون مخصّصاً، بل قوله تعالی ما عَلَی اَلْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ واقع فی مقام افادة قاعدة کلیة و ضابطة عامة، غایة الأمر لا بد و إن یکون شاملاً للمورد و هو العذاب الأخروی؛ لئلا یلزم الاستهجان، فالسبیل له معنی عام یشمل ذلک، و التکالیف الشاقّة، و الأحکام الضرریة الدنیویة، مثل الضمان و التعزیر و شبههما.

و أمّا الإحسان فهل المراد منه خصوص جلب المنفعة، أو خصوص دفع المضرة، أو یعم کلیهما؟ وجوه و احتمالات، و ربما یقال بالثانی کما حکاه صاحب العناوین (1)عن شیخه الأستاذ، و لکنه نفسه اختار الوجه الثالث؛ نظراً الی شمول اللفظ لکلیهما، بل ربما یکون صدقه علی إیصال النفع أوضح و أظهر من صدقه علی منع المضرة و دفعها.

و الظاهر انه لا مجال للإشکال فی العموم و الشمول بمقتضی مفهوم اللفظ و معنی الإحسان، و لکن هنا موارد قد حکموا فیها بالضمان، و هی من موارد جلب المنفعة کما إذا أخذ دابّته بغیر اذنه و ذهب بها الی المرعی؛ لکی ترعی فیه، أو نقل متاعه کذلک الی مکان للبیع بالثمن الأوفی، أو أخذ ماله کذلک للاسترباح به، و نحو ذلک؛ فإنه یکون مشتملاً علی جلب المنفعة، و مع ذلک قد حکموا فیها بالضمان؛ لان الاستیلاء علی مال الغیر کان بغیر اذنه، فان قلنا بأنّها من موارد قاعدة الإحسان یلزم الالتزام بالتخصیص فی مفادها، و سیاقها آبٍ عن التخصیص، فاللازم بعد ثبوت الضمان فیها و عدم

ص:286


1- 1) عناوین الأُصول میر فتّاح، عنوان 64:332.

جریان المناقشة فیه الالتزام بخروجها عن عنوان الإحسان المذکور فی الآیة الشریفة.

نعم ربما یقال: ان کون وضع الید علی مال الغیر إحساناً، انما یکون کذلک فی صورة دفع المضرة، امّا فی صورة جلب المنفعة فلیس إثبات الید جلب نفع، بل إیصال النفع انّما هو بشیء آخر، فیتعلق الضمان بإثبات الید، و لا ینفع بعد ذلک الإحسان المتأخر.

و یرد علیه مضافاً الی النقض بدفع المضرة، فإن المال قد یؤخذ من ید السارق مثلاً و قد یؤخذ من مکان یجری فیه احتمال السّرقة بعداً و الفرض الثانی مماثل للامثلة المذکورة فی جلب المنفعة ان الإثبات بقصد الإحسان المتأخر نفسه إحسان کما لا یخفی.

ثمّ انه هل یعتبر فی مفهوم الإحسان مجرّد القصد الیه و اعتقاد کون عمله إحساناً، و إن لم یکن فی الواقع کذلک، أو یعتبر الواقع، بان یکون العمل بحسب الواقع دفع مضرة و منعها؟ أو یعتبر الأمران معاً، فلا یتحقق الإحسان إلّا بعد کونه بحسب الواقع کذلک، و کان اعتقاده مطابقاً للواقع؟ فلو سقی الدابة بلحاظ کونها عطشی و کانت فی الواقع کذلک، یکون هذا السقی متصفاً بالإحسان، فلو تلفت الدّابة فی حال السقی مثلاً لا یکون علی الساقی المحسن ضمان، و هذا بخلاف ما لو اختل أحد الأمرین من الاعتقاد و الواقع؟ وجوه و احتمالات، یظهر ثالثها من صاحب العناوین (1)، و ثانیها من المحقق البجنوردی (2)، و قد استدلّ الأخیر بأن الظاهر من

ص:287


1- 1) کتاب العناوین میر فتّاح، عنوان 64:332.
2- 2) القواعد الفقهیة 4:9.

العناوین و المفاهیم التی أخذت موضوعاً للحکم الشرعی هو واقعها و المعنی الحقیقی لها، و لا شک فی ان العرف لا یفهم من لفظ الإحسان غیر ما هو المعنی الحقیقی له.

أقول: لا خفاء فی کون الظاهر من العناوین هو المعنی الحقیقی لها، انما البحث فی ذلک المعنی الحقیقی، و انه هل یعتبر فیه القصد و الاعتقاد کالعناوین القصدیة التی تکون معانیها الحقیقیة متقومة بالقصد، أو یعتبر فیه واقع دفع المضرة و منعها، و إن لم یکن مقصوداً بل و لا معتقداً به بوجه، أو یعتبر فیه کلا الأمرین؟ هذا و الظاهر بحسب نظر العرف هو الأخیر، امّا اعتبار مصادفة الواقع فلا شبهة فیه، غایة الأمر انه مع عدم المصادفة ربما یکون معذوراً، و لا یعدّ محسناً، و أمّا اعتبار القصد فالظاهر انه ایضاً کذلک؛ لان العرف لا یری غیر القاصد للإحسان، بل القاصد للاساءة محسناً بمجرد مصادفة الواقع، فلو کان السقی فی المثال المذکور دفع مضرة بحسب الواقع و إساءة بحسب القصد و الاعتقاد، هل یکون السّاقی عند العرف محسناً؟ الظاهر لا؛ فالعرف یری اعتبار کلا الأمرین، و لا یکتفی بوجود واحد منهما کما لا یخفی.

الجهة الثانیة فی بیان المراد من مجموع الجملة الواقعة فی الآیة،

فنقول: الظاهر ان هذه الآیة (1)کآیة (2)نفی السبیل للکافرین علی المؤمنین واقعة فی مقام الإنشاء و حاکیة عن عدم جعل السبیل علی المحسن فی الشریعة، و إن کانت خالیة عن لفظ الجعل، بخلاف آیة نفی السبیل، الّا ان

ص:288


1- 1) سورة التوبة:92.
2- 2) سورة النساء الآیة:141.

الظاهر اشتراک الآیتین و کون کلیهما حاکیتین عن عدم جعل السبیل فی الشریعة، و کون مورد الآیة فی المقام هو العذاب الأخروی کما تقدم لا یقتضی أن تکون الآیة فی مقام الاخبار؛ فان نفی العذاب الأخروی عن المذکورین فی الآیة الأولی و الآیة الثانیة مرجعه الی عدم ثبوت التکلیف بالجهاد و الشرکة فی الحرب بالنسبة إلیهم، فمعنی نفی السبیل خروجهم عن دائرة التکلیف بالجهاد، و لذا سأل ابن أمّ مکتوم من النبی (صلی الله علیه و آله) انه هل کان لی رخصة فی التخلف عن الجهاد؟ فمعنی نفی السبیل ثبوت الرّخصة و الخروج عن دائرة التکلیف، و لأجله تکون هذه الآیة حاکمة علی الأدلة الأولیة الظاهرة فی ثبوت التکلیف بالجهاد، و التکالیف الأخری و الأحکام الوضعیة کالضمان و نحوه، و دالة علی عدم کون مفاد الأدلة الأولیة شاملاً للمحسن، و إن کان بحسب الدلالة اللفظیة عامّاً، فلا مجال للإشکال فی مفاد الآیة من هذه الجهة.

و أمّا کلمة «المحسنین» فهی جمع محلّی باللام مفیدة للعموم، ای: جمیع افراد المحسنین و مصادیقهم کما انّ «السبیل» نکرة واقعة فی سیاق النّفی، و هی ایضاً تفید العموم، و لیس السلب الذی تفیده الآیة سلب العموم غیر المنافی للإثبات الجزئی، بل عموم السلب الذی لا یجتمع مع الموجبة الجزئیة، و مرجعه الی انتفاء کل فرد أو نوع من افراد السبیل أو أنواعه، عن کل فرد من افراد المحسن، فالاحسان و طبیعته لا یلائم السبیل و طبیعته بوجه، و هذا هو المتفاهم العرفی من مثل تعبیر الآیة، لا سلب العموم الذی لا یصلح للاستدلال به، و لو فی مورد بل عموم السلب، و هو صالح للاستدلال به فی جمیع الموارد؛ لکونه بمنزلة کبری کلیة و قاعدة عامّة.

ص:289

ثمّ انه فرق بین هذه الآیة و بین آیة نفی السبیل من جهة ان مقتضی تلک الآیة کما ذکرنا فی معناها عدم ثبوت السبیل للکافر علی المؤمن من ناحیة الشرع، و أمّا لو فتح المسلم سبیلاً له علیه، کما إذا أتلف ماله المحترم، فضمانه ثابت علیه، و لا ینافی الآیة بوجه، و السرّ فیه ان نفی السبیل وقع بلسان نفی جعل اللّه إیاه، و هو ظاهر فی ما، جانب الشرع ابتداءً و أمّا هذه الآیة فلسانها نفی ثبوت السبیل مطلقاً، و هو ینافی الضمان فی المورد المزبور و مثله، فتدبّر.

ثمّ ان تعلیق الحکم علی الإحسان ظاهر فی ارتباط نفی السبیل بحیثیة الإحسان، فمرجعه الی عدم ثبوت السبیل من ناحیة الإحسان، و فی مورده المرتبط به، و أمّا السبیل بلحاظ عنوان آخر موجب للضمان، فلا مانع منه، و إن کان مقروناً بالإحسان، فلو أتلف الودعی الودیعة اختیاراً و عمداً، یکون ضامناً لها؛ لارتباط الضمان بما هو خارج عن الإحسان، و داخل فی عنوان آخر، فلا منافاة بین الأمرین.

الموقف الثالث- فی موارد تطبیق هذه القاعدة،

فنقول: تارة تلاحظ القاعدة بالنسبة إلی الإحسان بمعنی دفع الضرر و منعه عن الغیر، و أخری بالنسبة إلی الإحسان بمعنی جلب المنفعة و إیصالها الی الغیر علی تقدیر کونه إحساناً.

امّا الأوّل فموارده کثیرة مثل ما إذا رأی اشتعال النّار فی لباس إنسان و توقف طریق حفظه عن الهلاک أو الاحتراق علی تمزیق لباسه و قطعه، فانّ الممزق القاصد للحفظ لا شبهة فی کونه محسناً تنطبق علیه القاعدة، فیحکم بعدم ضمانه لذلک اللّباس، و لو خرج عن المالیة بالمرّة.

ص:290

و مثل ما إذا رأی توجه السّیل المخرب و المعدم الی منزل شخص، و توقف حفظه علی جعل بعض أثاث ذلک المنزل فی مقابله؛ لیتوجّه عنه الی غیره، فان هذا الوضع المقرون بقصد حفظ المنزل عن ورود السیل علیه و خرابه، یکون إحساناً تجری فیه القاعدة، فلا یکون ضامناً للاثاث المذکور.

و مثل ما إذا ابتلی شخص بنوبة قلبیّة، و کان حفظه متوقفاً علی تمزیق بعض ألبسته کذلک، و کذلک لو توقفت نجاة السفینة و من فیها و ما فیها علی تخفیفها بإلقاء بعض الأموال فی البحر، و فرض کون الأموال لصاحب السفینة، فإن هذا الإلقاء إحسان ینطبق علی فاعله قاعدة الإحسان.

و مثل ما یکون متداولاً فی هذه الأزمنة من توقفت نجاة الطفل الذی فی رحم الامّ علی إجراء العملیة الجراحیّة للأم و قد یترتب علیها موت الأمّ أحیاناً، و الأمثلة لهذا القسم کثیرة.

و لکن الاشکال فیه من جهة ان عدم الضمان فی هذه الموارد، انّما هو لثبوت الاذن فیها، بل الإیجاب فی بعضها من ناحیة الشارع، کما فی المثال الأوّل؛ فإن الشارع أوجب الحفظ، و تمزیق اللباس مقدمة منحصرة لتحقّق الحفظ، و مع الاذن أو الإیجاب لا معنی لثبوت الضمان، و لو لم یکن هناک قاعدة الإحسان، فعدم ثبوت الضمان لا یکون مستنداً إلی القاعدة، بل الی قصور دلیل الضمان عن الشمول له.

الاّ ان یقال: ان عدم الشمول انّما هو بلحاظ قاعدة ضمان الید، إذ انّها قاصرة عن افادة الضمان فی الید المأذونة من قبل المالک أو الشارع، و أمّا بلحاظ قاعدة الإتلاف فلا مانع من الشمول و الدلالة علی الضمان، و إن

ص:291

کانت الید مأذونة، نعم إذا کان الإتلاف مأذوناً فیه فالظاهر عدم شمول قاعدة الإتلاف کما ذکرنا فی البحث عنها، لکن الظاهر انّ الإتلاف الخارج عن القاعدة هو الإتلاف المأذون فیه بعنوانه، کما إذا اذن المالک فی الإتلاف، و أمّا الموارد المتقدمة فلیس عنوان الإتلاف مأذوناً فیه و لو من قبل الشارع؛ فان الشارع انّما أوجب حفظ النفس فی المثال الأوّل، و توقف الحفظ علی تمزیق الألبسة یوجب عدم کونه متّصفاً بالحرمة مع الانحصار، لانه لا تجتمع حرمة المقدمة المنحصرة مع وجوب ذیها، و أمّا کون المقدمة مأذوناً فیها من قبل الشارع، فلا، الاّ ان یقال: ان نفس عدم الحرمة کافٍ فی الخروج عن القاعدة، فتدبّر، و لکنه یندفع بان الشارع أوجب حفظ النفس، و مع ذلک حکم بالضمان فی ما إذا توقف حفظها علی أکل طعام الغیر بدون رضاه.

و أمّا الثانی فموارده أیضاً کثیرة، مثل الأفعال الصادرة من الأولیاء، کالحاکم و الأب و الجدّ له، لغرض إیصال النفع الی المولی علیه، فاتفق ترتب الضرر علیه، فإنه حینئذ لا ضمان علی الولیّ؛ لکونه محسناً، و قد فعل الفعل باعتقاد حصول مصلحة فیه و نفع عائد إلی المولّی علیه، کما إذا اشتغل فی قناة له بالحفر و الإصلاح لغرض ازدیاد الماء، فصار ذلک سبباً لانهدام القناة کلها أو بعضها، فإنه لا یکون فیه ضمان، و کما إذا اعطی الحاکم النقود التی عنده لإجراء العبادات کالصلاة للمیت و الحج مطلقا للأجیر الذی یکون ثقة عنده فاتفق انه لم یأت بتلک العبادة، و مات و لم یترک مالاً، فإنه لا ضمان علی الحاکم؛ لکونه محسناً.

و کما إذا أجر الأب أو الجد له سفینة المولی علیه أو إبله أو جمله،

ص:292

فغرقت السفینة و هلکت الإبل أو الجمل، فلا ضمان علیه، و کذا نظائره من الموارد الکثیرة.

و لهذا القسم موارد حکموا فیها بالضمان کالأمثلة المتقدمة فی معنی الإحسان التی من جملتها ما إذا أخذ دابة الغیر فذهب بها الی المرعی لترعی فیه فتلفت، فإنه مع کونه محسناً لکنهم حکموا فیها بالضمان، و الفرق بینها و بین ما لم یحکموا فیه بالضمان هو ثبوت الاذن فی التصرف هناک و عدم ثبوته هنا، و لأجله یشکل الحکم بعدم الضمان فیها مستنداً إلی قاعدة الإحسان؛ لعدم الفرق فی جریان القاعدة بین الموردین؛ ضرورة انه ان کان الإحسان شاملاً لجلب النفع، فأیّ فرق بین الموردین؟ مع ان الظاهر انه لا خلاف بینهم فی عدم الضمان فی تلک الموارد، مع ان شمول الإحسان لجلب المنفعة محلّ خلاف، فالإنصاف ان عدم الضمان فی تلک الموارد لا یکون مستنداً إلی القاعدة، بل الی عدم شمول قاعدة ضمان الید لها، موردها بالید غیر المأذونة أو الید العادیة، کما انّک عرفت ان الحکم بعدم الضمان فی القسم الأوّل أیضاً انّما هو لقصور دلیل الضمان عن الشمول لمثله، سواء کان هی قاعدة ضمان الید أو قاعدة ضمان الإتلاف، فالباقی ان قاعدة الإحسان امّا تصیر بلا مورد، أو یکون لها موارد قلیلة علی ما عرفت فی القسم الأول فتدبر.

تتمة-

ربما یستشکل فی القاعدة بأن الفقهاء ذکروا فی باب اللقطة ان الملتقط بعد الیأس عن إیصال المال الی صاحبه یتصدق به عنه، و مع ذلک حکموا بأنه ضامن للمالک إذا ظهر بعد التصدق و علم به و لم یرض، مع ان الملتقط لا یکون فی عمله هذا الا محسناً محضاً، فکیف یکون ضامناً؟

ص:293

و أجیب عنه بان الشارع حکم بجواز التصدق مع الضمان ان ظهر صاحبه، فالتصدق إحسان مع هذا القید، فصرف التصدق بدون هذا القید لا یکون إحساناً؛ إذ لا یمکن أخذ مال الناس و التصدق به عنهم استناداً إلی أنه إحسان، فالتصدق المقید مصداق للإحسان، و هذا الحکم لا یکون مختصاً باللقطة، بل یجری فی کل ما هو مجهول المالک، کالأموال المسروقة الواقعة فی یده التی لا یعلم صاحبها، و الدین المجهول صاحبه، و القراضة فی دکان الصائغ و أمثالها.

و ربما یستشکل فیها ایضاً بحکمهم بضمان الطبیب مطلقا، أو فی خصوص ما إذا باشر العلاج بنفسه، مع انه لا شبهة فی کونه محسناً و غرضه علاج المریض، فکیف یکون ضامناً؟ الّا ان یقال: إِن الحکم بالضمان فی مثله مستند الی الروایات المتعددة التی یستفاد منها الضمان، و هذه الروایات تکون بمنزلة المخصص لقاعدة الإحسان، و فیه تأمل؛ لإباء سیاقها عن التخصیص، کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی قاعدة الإحسان.

ص:294

قاعدة الاشتراک

اشارة

و هی ایضاً من القواعد الفقهیة المعروفة، و یترتب علیها فروع کثیرة، بل قلّ ما تخلو مسئلة فی الفقه من الحاجة إلیها و الابتناء علیها، إذ معظم الأدلّة لم یرد بعنوان قضیة کلیّة حتی تشمل الأشخاص و الأزمان و الأحوال، بل وردت فی وقائع خاصة دعت الحاجة المکلفین إلی السؤال عنها فلا، عموم فیها، و المقصود منها انّه إذا ثبت حکم لواحد من المکلفین أو لطائفة منهم، و لم یکن هناک ما یدل علی مدخلیة خصوصیة لا تنطبق الّا علی شخص خاص أو طائفة خاصة أو زمان خاص کزمان حضور الامام (علیه السلام) ، فالحکم مشترک بین جمیع المکلفین رجالاً و نساءً الی یوم القیامة، سواء کان ثبوته بخطاب لفظی أو دلیل لبّی من إجماع أو غیره، و الکلام فی هذه القاعدة أیضاً یقع فی مقامات:

المقام الأوّل- فی مدرکها و مستندها، و هی أمور متعددة:

اشارة

ص:295

الأوّل الاتفاق القطعی من الأصحاب علی اشتراک الجمیع فی الحکم المتوجه الی بعض آحاد المکلّفین،

و یشهد به استدلالهم بالخطابات الخاصّة فی إثبات عموم الحکم خلفاً بعد سلف، و کان هذا هو المتداول من الصدر الأول إلی یومنا هذا، فتری مثلاً فی صحیحة (1)زرارة المعروفة الواردة فی الاستصحاب ان المفروض فی موردها اصابة دم الرعاف أو شیء من المنی ثوب زرارة، و الحکم الواقع فی الجواب فی جمیع الفروض المفروضة لزرارة انما وقع بصورة الخطاب الشخصی متوجّهاً الی زرارة، و هکذا فی کثیر من الروایات الواردة بهذه المثابة، و مع ذلک یستدلون بها للحکم الکلّی، و لم یناقش فیه أحد منهم، و منه یظهر عدم ارتباط ذلک بمسألة عموم الخطابات الشفاهیة و عدمه، التی هی مسألة مختلف فیها، و سکوتهم عن التعرض لمسألة الاشتراک و عدم اقامة الحجة علیه، انّما هو للاتکال علی کونه من المسلم عندهم، و ربما یقال: انه من ضروری الدین، و لا أقل من کونه ضروری الفقه، نعم من الواضح انه لو کان قید مأخوذاً فی الموضوع کقید الاستطاعة الوارد فی دلیل وجوب الحج، فلا مجال لدعوی اقتضاء الاشتراک لثبوت التکلیف لغیر المستطیع ایضاً، کما انه لو احتمل اشتراط التکلیف بمثل وجود الإمام أو نائبه الخاص، کالتکلیف بوجوب صلاة الجمعة، لا مجال لدعوی کون القاعدة مقتضیة للاشتراک بالنسبة إلی زمن الغیبة أیضاً.

و الإنصاف تمامیة هذا الدلیل و ثبوت الاتفاق، بل الضرورة علی ذلک، و قد بلغ نقل الإجماع فی ذلک مضافاً الی الإجماع المحصّل حدّ

ص:296


1- 1) الوسائل 2:1065 ب 44 من أبواب النجاسات ح 1.

الاستفاضة، بل التواتر.

الثانی الاستصحاب،

و تقریبه ان یقال: إذا توجه حکم الی بعض آحاد المکلفین أو الی طائفة منهم، فلا شبهة فی عدم الاختصاص بذلک البعض أو تلک الطائفة دون غیرهم من الموجودین فی زمان صدور الحکم من الامام (علیه السلام) ، بل یعمّ الموجودین قطعاً، و علیه فالحکم ثابت فی ذلک الزمان بالنسبة إلی الجمیع، و مع الشک فی البقاء بالنسبة إلی الموجودین بعد ذلک الزمان، یکون مقتضی الاستصحاب البقاء، و هو معنی قاعدة الاشتراک.

و أورد علیه أوّلاً: بأن الخطاب إذا کان متوجها الی شخص خاص أو طائفة مخصوصة، فمن این نعلم باتّحاد الموجودین فی زمان صدور الحکم مع المخاطب أو المخاطبین؟ و ثانیاً: انه إذا کان الاتّحاد بالنسبة إلی الموجودین فی ذلک الزمان معلوماً، فالاتحاد بالنسبة إلی الموجودین فی الأزمنة المتأخرة أیضاً یکون معلوماً، لانه لا خصوصیة لوجودهم فی ذلک الزمان، و مع العلم لا یبقی مجال للاستصحاب.

و ثالثاً: ان الاستصحاب انما تصل النوبة إلیه لو لم تکن الأدلة اللفظیة قائمة علی البقاء، و مع وجودها تکون حاکمة علی الاستصحاب.

و أنت خبیر بعد وضوح عدم کون الإیراد الثالث وارداً علی الدلیل؛ لان کل دلیل انما یلاحظ مستقلا و مع قطع النظر عن الدلیل الأخر، و إلاّ فالإجماع القطعی الذی کان دلیلاً لا یبقی مجالاً للاستصحاب، مع عدم کونه دلیلاً لفظیّاً بان اشتراک الموجودین فی زمن الخطاب مع المخاطبین، ان کان من مصادیق قاعدة الاشتراک یکون الاستناد إلیه أوّل الکلام، و إلا

ص:297

فلو فرض کونه مسلّماً فی نفسه و خارجاً عن قاعدة الاشتراک، لا یبقی مجال للایرادین الأوّلین.

مع انه یمکن تقریر الاستصحاب بنحو یکون فیه المستصحب هو الحکم الثابت لذلک الشخص أو تلک الطائفة، فإنه یشک فی بقائه مع زواله، و مقتضی الاستصحاب البقاء، و لازمه التعلق بجمیع الموجودین فی الأزمنة المتأخرة؛ إذ لا معنی للبقاء مع عدم التعلق، کما انه لا معنی للبقاء مع التعلق بواحد غیر معلوم، و لا یجری فیه إمکان الترجیح فتدبّر.

الثالث ثبوت ارتکاز المتشرعة حتی العوام منهم علی أن حکم اللّه فی هذه الواقعة واحد و ثابت للجمیع،

من دون ان یکون مختصّاً بالمخاطب، و هذا الارتکاز لا محالة قد نشأ من مبدإ الوحی و الرّسالة، و قد انتقل من السلف الی الخلف، و لذا لو سأل أحد مقلدیهم من المجتهد و استفتاه فی حکم موضوع، استفاد منه المقلد الأخر و تعینت وظیفته ایضاً، من دون حاجة الی استفتاء جدید، و السؤال فی الروایات انّما کان علی هذا المنوال، فاذا قال الامام (علیه السلام) فی جواب زرارة الذی سأله عن اصابة المنیّ ثوبه، و قد نسیه فصلی فیه: أعد صلاتک مثلاً یکون المرتکز فی ذهن المتشرعة ثبوت هذا الحکم بالنسبة الی جمیع من کان منطبقاً علیه مفروض السؤال، و إن کان المخاطب بحسب اللفظ و البیان هو زرارة، و هذا لا ینافی اختصاص بعض التکالیف ببعض الطوائف أو بعض الأشخاص؛ فإن المراد من الاشتراک عدم اختصاص التکلیف بمن توجه الخطاب الیه، و هذا لا ینافی کون موضوع الحکم الملقی الی المکلف مقیّداً ببعض القیود أو متصفاً ببعض الصفات، أو کونه من طائفة خاصة أو کونه من الرجال أو من

ص:298

النساء؛ لانه لیس المراد من قاعدة الاشتراک اشتراک جمیع المکلفین، سواء کانوا واجدین لقیود موضوع الحکم أم لم یکونوا واجدین لها، فالاشتراک فی تکلیف الحج مرجعه الی ثبوت وجوبه لکل مستطیع، لا وجوبه علی الکل، مستطیعاً کان أم لم یکن کما مرّ فی الدلیل الأوّل.

الرّابع انه قد ثبت فی محلّه بمقتضی الاخبار و تسلّم الأخیار انه لا یخلو شیء من الوقائع المبتلی بها عن حکم من الأحکام الإلهیّة،

فإذا ثبت حکم لأحد مثل زرارة فی المثال المتقدم، فاللازم الحکم بثبوته لغیره ممّن هو مثله فی الجهات الراجعة إلی الحکم؛ إذ مع ثبوته لغیره لا بد امّا من الالتزام بخلوّ نفس هذه الواقعة بالنسبة إلی غیره عن الحکم، فینافی، ما دلّت علیه الاخبار و التزم به الأخیار، و أمّا من الالتزام بجعل مثله بالنسبة إلی الغیر بجعل مستقل جدید، و المفروض انه لا دلیل علی هذا الجعل؛ إذ الفرض ان الدلیل فی المسألة منحصر بما ورد فی قصة (1)زرارة مثلاً و لا دلیل علی جعل آخر بنحو العموم کما لا یخفی، و الظاهر أنه الی هذا الدلیل ینظر کلام بعض المحققین فی ما حکی عنه: «و القول بان الکون فی زمان النبی (صلی الله علیه و آله) دخیل فی اتّحاد الصنف الذی هو شرط شمول الخطابات هدم لأساس الشریعة؛ و ذلک من جهة ان الاحکام ان کانت مخصوصة بالحاضرین فی مجلس النبیّ (صلی الله علیه و آله) المخاطبین أو مطلق الموجودین فی ذلک الزمان انتهی أمر الدین العیاذ باللّه، و یکون الناس بعد ذلک کالبهائم و المجانین، و هذا أمر باطل بالضرورة، لأنه یوجب هدم أساس الدین، فادعاء الضرورة علی اشتراک الجمیع فی التکالیف لا بعد فیه، بل

ص:299


1- 1) الوسائل 2:1065 ب 44 من أبواب النجاسات ح 1.

هو کذلک» .

الخامس دلالة نفس الأدلة اللفظیة الواردة فی موارد خاصة علی العموم،

بحسب المتفاهم العرفی و الظهور العقلائی المعتبر فی باب دلالة الألفاظ، فإذا سأل سائل عن حکم رجل شک فی الصلاة بین الثلاث و الأربع، لا یسبق إلی أذهان العرف الّا کون مورد السؤال نفس الشک بین الثلاث و الأربع من دون ان یکون للرّجولیة خصوصیة فی ذلک، و لذا یجری الجواب لبیان الحکم فی النساء أیضاً، و فی مثال زرارة المتقدم، یکون المتفاهم العرفی من سؤال زرارة هو اصابة ثوب المکلف و ملاقاة الدم أو شیء من المنیّ له، لا اصابة شیء من ذلک ثوب زرارة، و إن کان الثوب مضافاً إلیه، ففی الحقیقة مقتضی هذا الدلیل عموم نفس ذلک الدلیل اللفظی، و عدم کون الخصوصیة دخیلة بنظر العرف و العقلاء أصلاً.

السادس ما ربما یقال من تنقیح المناط القطعی؛ نظراً الی ان الاحکام التابعة للمفاسد و المصالح

نفس الأمریّة لا تختلف بحسب افراد المکلفین؛ للزوم دفع المضرة و جلب المنفعة اللازم علی الکل، و دعوی ان المفروض تبعیتها للوجوه و الاعتبارات و لعلّ للخصوصیة مدخلیة، مدفوعة بأن المراد بالوجوه و الاعتبار ما عدا خصوصیات المکلفین من حیث هم کذلک؛ لأنها خصوصیّات مختلفة لا تدور مدارها الأمور نفس الأمریة، بل مدارها علی المفاهیم العامة، کالمریض و الصحیح، و المسافر و الحاضر، و نحو ذلک من الصفات اللاحقة للمکلفین أو العارضة للافعال، و أمّا مع اتحاد ذلک فخصوص زید و عمرو لا دخل له فی ذلک، و دعوی انتقاضه بخصائص النبی (صلی الله علیه و آله) مدفوعة بعدم کون الخصائص لشخصه، بل انّما هو لعنوان کلی،

ص:300

غایة الأمر انحصار ذلک العنوان فی فرد واحد و مصداق فأرد، و یؤید هذا الدلیل طریقة العقلاء؛ فإنهم إذا رأوا رجلاً فعل فعلاً فتضرر به، أو فعل فعلاً فانتفع به، یجتنبون الأول و یرتکبون الثانی، و لا یلتفتون الی احتمال الخصوصیة أصلاً.

السابع الرّوایات الواردة فی المقام الدالة علی اشتراک أحکام اللّه تبارک و تعالی بین الکلّ،

و عدم مدخلیة خصوصیة الأشخاص و العوارض المشخصة لهم، ککونه أباً لفلان أو ابناً له، أو لونه کذا أو قبیلته الفلانیة، أو سنّة کذا، أو حرفته کذا أو علمه کذا، و أمثال ذلک و هی کثیرة:

منها: ما رواه فی الوسائل (1)عن محمد بن یعقوب الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن بکر بن صالح عن القاسم بن یزید الزبیدی عن ابی عمرو الزهری عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی حدیث طویل فی کتاب الجهاد، فی باب من یجوز له جمع العساکر و الخروج بها الی الجهاد، قال (علیه السلام) فیه بعد کلام طویل فی شرائط من یتصدی لجمع العساکر للجهاد: «لان حکم اللّه عزّ و جلّ فی الأولین و الآخرین و فرائضه علیهم سواء، الّا من علة أو حادث یکون، و الأوّلون و الآخرون ایضاً فی منع الحوادث شرکاء، و الفرائض علیهم واحدة، یسأل الآخرون من أداء الفرائض عما یسأل عنه الأولون، و یحاسبون عما به یحاسبون» (2).

و منها: النبوی (3)المشهور: حکمی علی الواحد حکمی علی الجماعة،

ص:301


1- 1) الوسائل 11:27 ب 9 من أبواب الجهاد ح 1.
2- 2) الوسائل.
3- 3) عَوالی اللّئالی 1:456. الّذی عثرتُ علیه فی المصادر معنی الحدیث ما رواه الترمذی فی کتابه 4:153 ب 40 من کتاب؟ ؟ ؟ ، قال رسول (صلی الله علیه و آله) إنّما قولی لمائة امرأة قولی لامرأة واحدة.

و ظهوره فی الاشتراک بعد کون المراد بالجماعة هو العموم لا جماعة خاصّة انّما هو بلحاظ ان الظاهر منه: ان حکمی الذی هو حکم اللّه علی أحدکم لأجل کونه مخاطباً أو مورداً، لا یختص بذلک المخاطب أو ذلک المورد، بل یعم الجمیع، فدلالته علی الاشتراک ظاهرة.

و منها قوله (1)(علیه السلام) فی الخبر المشهور: حلال محمد (صلی الله علیه و آله) حلال الی یوم القیامة و حرام محمد (صلی الله علیه و آله) حرام الی یوم القیامة، و تقریب دلالته بعد وضوح ان المراد هو حلال اللّه و حرامه و نسبته النبی (صلی الله علیه و آله) انّما هی بلحاظ کونه واسطة فی الوحی و مبلغاً لأحکام اللّه تعالی، و بعد وضوح ان المراد لیس خصوص الحلال و الحرام من بین الاحکام بل المقصود جمیع الأحکام الإلهیة و القوانین السّماویة ان بقاء الاحکام الی یوم القیامة مرجعه الی عدم الاختصاص بزمان و لا بشخص أو طائفة؛ ضرورة انه إذا کانت جمیع الأزمنة متساویة من حیث الحکم، فلا محالة یشترک جمیع المکلفین فیه، و معناه تساوی الأولین و الآخرین فی ذلک، فاذا کان هذا التساوی ثابتاً، فالتساوی فی زمن صدور الحکم بین المخاطب و غیره یکون بطریق اولی، بل یستفاد من الروایة مفروغیته.

و منها: قوله (2)ص-: فلیبلغ الشاهد الغائب، فإن إیجاب تبلیغ الشاهد الغائب لا یکون له وجه الّا اشتراکهما فی ثبوت الحکم و تحقق

ص:302


1- 1) الکافی 2 17 ح 2. و فی البحار 89:148 طبع قدیم و أصول کافی 1:58.
2- 2) البحار 22:150 و 478 ح 142 ح 26

التکلیف؛ لانه لا مجال له مع عدم الاشتراک، و إطلاق الغائب ینفی خصوص جماعة من الغائبین، بل یشمل الغائب المعدوم فی زمن الخطاب الموجود بعده ایضاً.

و منها: قوله (صلی الله علیه و آله) اوصی الشاهد من أمتی و الغائب منهم و من فی أصلاب الرجال و أرحام النساء الی یوم القیامة، ان یصلوا الرّحم، و من الواضح انه لا خصوصیة لصلة الرحم من بین الاحکام، و دعوی ان التصریح بالاشتراک فی خصوص صلة الرحم لعلّه کان لأجل خصوصیة فیه دون غیره، مدفوعة بوضوح خلافها.

و منها: غیر ذلک من الروایات التی یستفاد منها الاشتراک، کالروایات الواردة فی إرجاع الناس الی جماعة من الرواة و نقلة الحدیث، کزرارة و زکریا بن آدم و یونس بن عبد الرحمن و أمثالهم؛ فان هذا الإرجاع لا یکاد یصحّ الا مع کون الحکم الذی تعلمه الراوی من الامام (علیه السلام) و أخذه منه مشترکاً بین العموم، و إلا فلو کان الحکم فی مثال زرارة (1)المتقدم منحصراً به باعتبار کونه المخاطب بالإعادة مثلاً لما کان وجه لإرجاع النّاس الیه، و دعوی کون الإرجاع محدوداً بالأحکام الخالیة عن الخطاب، المتعلقة بالعناوین العامة، مدفوعة بوضوح عدم محدودیة دائرة الإرجاع؛ ضرورة انه إذا رجع مکلف إلی زرارة فی المثال المتقدم لما کان زرارة آبیاً عن جوابه، نظراً الی کونه المخاطب، کما لا یخفی.

الثامن ما جعله المحقق البجنوردی (قده) وجهاً وجیهاً،

(2)

و ما هو

ص:303


1- 1) الوسائل 2:1065 ب 44 من أبواب النجاسات ح 1.
2- 2) القواعد الفقهیة 2:48.

التحقیق عنده، و ملخّصه: ان جعل الاحکام من الأزل علی الموضوعات المقدرة الوجود علی نحو القضایا الحقیقیة، و لیس من قبیل القضایا الخارجیة، حتی تکون تسریته الی غیر الحاضرین فی مجلس الخطاب أو غیر الموجودین فی ذلک الزمان بدلیل الاشتراک، بل شموله للحاضرین و الغائبین و المعدومین علی نسق واحد، کما هو الشأن فی جمیع القضایا الحقیقیة الکلیة، سواء کان إخباراً أو إنشاء فقول (1)الله تعالی (وَ لِلّهِ عَلَی اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَیْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً) ، فی قوة ان یقال بصورة الجملة الخبریة: کل إنسان مستطیع یجب علیه الحج، یشمل الموجودین و المعدومین فی عرض واحد، و بعبارة اخری: بما ان اللّه تعالی عالم فی الأزل بوجود المصلحة الملزمة فی الفعل الفلانی، الصادر من شخص متصف بکذا و کذا، هذا العلم علة لجعل الوجوب متعلقاً به، فلا محالة یحصل الجعل، یصیر الفعل واجباً علی کل شخص یکون مصداقاً لذلک العنوان مع القیود المأخوذة فیه، و نسبة الحکم الی جمیع المصادیق فی عرض واحد، و لو کان بین افراد ذلک الموضوع تقدم و تأخر بحسب الوجود، الی ان قال: فلا یبقی محل و مجال لدلیل الاشتراک، و فی الحقیقة هذا الوجه یوجب هدم هذه القاعدة، و لا یبقی معه احتیاج إلیها.

أقول: قد مرّت الإشارة الی ان مورد قاعدة الاشتراک ما إذا لم یکن بیان الحکم بصورة القضیة الحقیقیة، أو بما یرجع إلیها مثل، قوله تعالی لِلّهِ عَلَی اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَیْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً ؛ فان کان مراده ان بیان جمیع الاحکام انما یکون بهذه الصورة حتی مثل قوله (علیه السلام) : أعد، مخاطباً

ص:304


1- 1) سورة آل عمران الآیة:97.

زرارة فی المثال المتقدم، بحیث یکون مرجعه الی ان الحکم فی مثله انما یکون بنحو کلی و بهذه الصورة، فیدفعه وضوح خلافه، بل اننا نری الاختلاف بین الرجال و النساء فی کثیر من الاحکام، و هذا لا ینافی ما تقدم منا من إلغاء الخصوصیة فی مثله، فتدبر، و إن کان مراده انه لا مجال لدلیل الاشتراک فیما إذا کان بیان الحکم بصورة القضیة الحقیقیة، فهذا لا ینافی ثبوت القاعدة فی غیر هذه الصورة، کما فی مثال زرارة المتقدم.

التاسع مفهوم ما دلّ علی الاختصاص فی بعض المقامات،

کقوله تعالی (1)وَ مِنَ اَللَّیْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَکَ ، و النصوص فی ان الرجل یفعل کذا، و المرأة تفعل کذا؛ فإنّها دالة علی ان غیر ما نصّ فیه علی الاختصاص شامل للعموم.

فانقدح من جمیع ما ذکرنا فی هذا المقام ثبوت المستند بل المستندات لقاعدة الاشتراک، و انه لا مجال للخدشة فیها من حیث المدرک بوجه.

المقام الثانی- فی مفاد قاعدة الاشتراک

و المراد منها، و قد مرّت الإشارة إلیه مراراً، و لمزید التوضیح نقول: ان محلّ الاستفادة من القاعدة ما إذا توجه حکم الی شخص أو طائفة بحیث کان المخاطب ببیان الحکم و ثبوته هو ذلک الشخص أو الطائفة، و لا یشمل دلیل الحکم بحسب الدّلالة اللفظیة غیرهما، فدلیل الاشتراک یوجب التعمیم و إثبات الحکم لکل من کان مصداقاً لما أخذ موضوعاً لذلک الحکم، یعنی: کان متحد الصنف مع ذلک الشخص أو تلک الطائفة، کما فی مثال زرارة الذی مرّت الإشارة إلیه مراراً، و أمّا لو کان الحکم مبیّناً بصورة القضیة الحقیقیة أو بما یرجع إلیها،

ص:305


1- 1) سورة الإسراء الآیة:79.

فلا مجال لقاعدة الاشتراک؛ لشمول الدلیل بحسب الدلالة اللفظیة للمعدومین، کما یشمل الموجودین فقوله (1)تعالی وَ لِلّهِ عَلَی اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَیْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً ، کما یدل علی وجوب الحج علی المستطیع الموجود فی زمان نزول الآیة و صدور لحکم یدل ایضاً علی وجوبه علی المستطیع الذی یوجد بعداً، و الدلالة علیه فی عرض الدلالة علی الأوّل، و فی مثله لا حاجة الی قاعدة الاشتراک أصلاً.

المقام الثالث- فی موارد تطبیق هذه القاعدة،

و قد ذکرنا ان موارد تطبیقها کثیرة جدّاً، و إن هذه القاعدة مورد للحاجة فی جمیع أبواب الفقه، من أوّل کتاب الطهارة إلی آخر کتاب الدیات، فإنه ما من مسألة إلّا و قد وردت فیها روایة أو روایات یکون موردها أو المخاطب فیها شخصاً أو طائفة، و تحتاج تسریة الحکم إلی قاعدة الاشتراک، مثل صحیحة زرارة الواردة فی باب الاستصحاب المستدل بها علی حجیة الاستصحاب؛ فان موردها و المخاطب فیها زرارة، و قد وقع فیها التعبیر بقوله (2)(علیه السلام) : لأنک کنت علی یقین من طهارتک و لا ینبغی ان تنقض الیقین بالشک، و تری مثله فی أکثر أبواب الفقه، و لا یبعد ان یقال بابتناء الفقه علی هذه القاعدة، لأن بیان الحکم بصورة القضیة الحقیقیة أو بما یرجع إلیها لا یبلغ من الکثرة مقدار موارد قاعدة الاشتراک، کما یظهر بمراجعة الکتب الفقهیة الاستدلالیة، و الأحادیث الواردة فی المسائل الفقهیة، فراجع.

المقام الرابع- فی بیان الموارد التی قیل بانخرام القاعدة فیها،

و هی

ص:306


1- 1) سورة آل عمران الآیة 97.
2- 2) الوسائل 2:1065 ب 44 من أبواب النجاسات ح 1.

متعددة:

منها: مسألة الظهر و البطن فی الوضوء للرجل و المرأة، فإنه یستحب علی الرجل صب الماء ابتداء علی ظهر الید، و علی المرأة صبه کذلک علی بطنها، و قد ورد فیه روایة (1)محمد بن إسماعیل بن بزیع عن ابی الحسن الرضا (علیه السلام) قال: فرض اللّه علی النساء فی الوضوء للصلاة ان یبدأن بباطن أذرعهنّ، و فی الرجال بظاهر الذراع.

و منها مسألة الستر الواجب شرطاً فی الصلاة، فإنه یجب علی الرجل ستر العورتین فقط، و علی المرأة ستر تمام البدن، ما عدا الوجه و الکفین و القدمین، و قد وردت فیه روایات متعددة یستفاد منها التفصیل بهذه الکیفیة، و هکذا الستر الواجب نفسیّاً، و إن کان بعض المستثنیات للمرأة محلّ مناقشة و إشکال.

و منها مسألة الجهر و الإخفات، فإنه یتعین علی الرّجل الجهر فی الصلوات الجهریة، و علی المرأة الإخفات فیها، و لا أقل من عدم تعین الجهر علیها.

و منها مسألة لبس الذهب و الحریر، فإنه لا یجوز للرجال مطلقا لا فی حال الصلاة و لا فی غیرها، بخلاف النساء، فإنه یجوز لبسهن لهما مطلقا.

و منها: غیر ذلک من الموارد الکثیرة، مثل کیفیات قیامها و قعودها فی الصلاة، و جواز لبس المخیط فی الإحرام، و عدم وجوب الجهاد ابتداء علیها، و قبول توبتها إذا کانت مرتدة عن فطرة، و عدم الجز و التغریب

ص:307


1- 1) الوسائل 1:328 ب 40 من أبواب الوضوء ح 1.

علیها فی باب الزّنا، و عدم جواز إمامتها للرجال، و عدم رجحان خروجها الی المسجد، و عدم وجوب الجمعة علیها، و تحریم لبس ما یستر ظهر القدم و التظلیل فی الإحرام للرجل دون المرأة، و أفاضتها من المشعر قبل الفجر، و غیر ذلک من الموارد.

هذا و الظاهر ان خروج هذا الموارد عن قاعدة الاشتراک لیس بنحو التخصیص حتی یوجب انخرام القاعدة، بل بنحو التخصص الذی مرجعه الی عدم کونه داخلاً فی القاعدة من الأوّل؛ ضرورة ان موردها کما عرفت مراراً ما إذا ورد حکم فی مورد أو خطاب الی شخص أو طائفة، و لم یقم دلیل علی الاختصاص و لا علی عدمه، و کان غیر ذلک المورد أو غیر ذلک الشخص أو الطائفة متّحداً معه فی الجهات و الخصوصیات، فمقتضی قاعدة الاشتراک هو العموم و الشمول، و أمّا لو کان الدلیل بنفسه دالّاً علی الاختصاص، فلا مجال لقاعدة الاشتراک، فاذا دل الدلیل علی الفرق بین الرجل و المرأة فی الجهر و الإخفات و فی الستر الواجب نفساً أو شرطاً، و کذا فی باب الوضوء و حدّ الزنا و مثلها، فلا یکون مثله مورداً للقاعدة حتی یکون خارجاً عنها، أ فهل یمکن ان یقال: إن المسافر و الحاضر خارجان عن القاعدة تخصیصاً؟ أو المستطیع و غیر المستطیع فی باب الحج أو العناوین التسعة المرفوعة فی حدیث الرفع (1)فهل رفع الحرمة عن شرب الخمر الواقع اکراهاً قد خرج عن القاعدة کذلک؟ من الواضح خلافه؛ فان قیام الدلیل علی اختصاص حکم بعنوان یوجب خروجه عن مجری القاعدة تخصّصاً، فالظاهر عدم انخرام القاعدة فی شیء من الموارد.

ص:308


1- 1) التّوحید:353 و المحاسن:336.

خاتمة-

قال صاحب (1)العناوین: «ان فقهاءنا قد یمنعون اجراء حکم صدر فی واقعة فی غیرها و یقولون: إنه قضیة فی واقعة، و تحقیق القول فیه: ان القضایا الواقعة فی مقامات خاصّة، ان کانت عناوینها معلومة من لفظ المعصوم أو السائل الذی أجیب فهی متبعة یطرد الحکم فی مقاماتها کافة؛ لما مرّ من القاعدة یعنی قاعدة الاشتراک إلّا إذا عارض ذلک دلیل أقوی منه، فیؤوّل بأحد التأویلات، و منها: احتمال الخصوصیة فی ذلک و إن کان خلاف الظاهر، و أمّا بدونه فلا وجه لردّه، بأنه قضیة فی واقعة، نعم لو نقله ناقل شاهد الواقعة، کما فی قضایا أمیر المؤمنین (علیه السلام) فهناک محلّ للبحث: فیحتمل ان یقال؛ انه یعمّ الجمیع: اتباعاً للفظ الناقل و عنوانه الذی عبّر به، لأصالة عدم مدخلیة شیء آخر فی ذلک، و یحتمل القول بالمنع، لان الناقل لا یتمکن غالباً من الالتفات الی کلّ ما له مدخل فی ذلک، الحکم فیتخیل عدم مدخلیة شیء سوی ما ذکره، و الذی أراه الوجه الأوّل، ما لم یعارضه معارض أقوی؛ لأن الثقة لا یعلق الحکم فی موضوع الّا مع فهمه کونه المناط فی ذلک، و لا یجوز له التعبیر بالأعم إذا احتمل إرادة الخصوصیة، فینحلّ فی الحقیقة الی الاخبار بنوع الواقعة و حکمها، و خبر الثقة حجة فی ذلک، فلعلّ قولهم: انه قضیّة فی واقعة، انّما هو مع قوة المعارض، کما یشهد به تتبع کتب الفاضل العلّامة (أعلی اللّه مقامه) و شیخنا الشهید (قدّس سرّه السّعید) و إلا فقد تراهم یتمسکون بالوقائع الخاصة لعموم الحکم فی الحدود و التعزیرات کثیراً، و فی غیرها کذلک و احتمال فهمهم من ذلک عدم الخصوصیة بعید جدّاً. و محصّله ان حمل الحکم علی کونه فی

ص:309


1- 1) عناوین الأصول میر فتاح عنوان 1:4.

واقعة خاصة أو علی ان القضیة شخصیة، انّما هو فی صورة وجود المعارض الأقوی، و من الواضح ان هذه الصورة خارجة عن مجری قاعدة الاشتراک، کما عرفت.

هذا تمام الکلام فی قاعدة الاشتراک.

ص:310

اشتراک الکفار مع المؤمنین فی التکلیف

اشارة

و هذه القاعدة أیضاً من القواعد المعروفة المشهورة، و البحث فیها یستدعی التکلم فی مقامات:

المقام الأوّل- فی مستند هذا الاشتراک

اشارة

الذی یرجع الی عدم شرطیة الایمان المقابل للکفر فی باب التکالیف و الأحکام، و هو أمور:

الأوّل ثبوت الشهرة و تحققها من فقهائنا قدیماً و حدیثاً علی وفقه،

بل یظهر من عبارة کثیر من الأصحاب دعوی الإجماع علیه؛ فإنهم یعبّرون عنه بلفظ عندنا و عند علمائنا و نحو ذلک، بل ربما یقال: إنه من ضروریات مذهب الإمامیة، و الظاهر ان المراد کونه من ضروریات فقههم لا ضروریات مذهبهم، و لکن الظاهر انه لا حجیة لهذا الإجماع؛ لأنه مضافاً الی وجود المخالف فی المسألة کالمحدث (1)الکاشانی

ص:311


1- 1) الوافی 2:82.

و الأمین (1)الأسترآبادی و صاحب الحدائق، علی ما حکی عنهم، و إلی ان الإجماع المنقول لا حجیة فیه کما بیّن فی محلّه لا یکون هذا الإجماع کاشفا، لاحتمال کون مستند المجمعین بعض الوجوه الآتیة، فلا یکون للإجماع أصالة و کاشفیة بوجه.

الثانی إطلاق أدلة التکالیف

و عدم تقیید العناوین المأخوذة فیها بقید الایمان غالباً، کما فی مثل (2)قوله تعالی وَ لِلّهِ عَلَی اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَیْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً ، و قوله تعالی «یا أَیُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا» ، و غیرهما مما هو شامل للکافر ایضاً، و أمّا ما وقع فیه عنوان المؤمن کقوله (3)تعالی یا أَیُّهَا اَلَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ اَلصِّیامُ و قوله (4)تعالی یا أَیُّهَا اَلَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ ، و غیرهما من الآیات التی وقع فیها بیان التکلیف بصورة الخطاب للمؤمنین، فالظاهر انه لا دلالة فیه علی الاختصاص، بل توجیه الخطاب إلی المؤمنین انما هو لأجل کونهم متصدین لإطاعة التکالیف، الإتیان بالوظائف، و إلا فربما وقع هذا النحو من التعبیر فی باب الأصول الاعتقادیة، مع انه لا شبهة فی اشتراک الکفار مع المؤمنین فی هذه المسائل؛ ضرورة ان الکافر یجب علیه ان یرفع الید عن الکفر و یؤمن بما آمن به المؤمن، کقوله تعالی (5)یا أَیُّهَا اَلَّذِینَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ فیستفاد منه ان تخصیص الخطاب بالمؤمنین لیس لأجل اختصاص الحکم بهم.

ص:312


1- 1) الحدائق الناضرة 3:39 و 40
2- 2) سورة آل عمران الآیة:98.
3- 3) سورة البقرة:183.
4- 4) سورة المائدة الآیة 6.
5- 5) سورة النساء:36.

و عدم تقیید العناوین المأخوذة فیها بقید الایمان غالباً، کما فی مثل 2قوله تعالی وَ لِلّهِ عَلَی اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَیْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً ، و قوله تعالی «یا أَیُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا» ، و غیرهما مما هو شامل للکافر ایضاً، و أمّا ما وقع فیه عنوان المؤمن کقوله 3تعالی یا أَیُّهَا اَلَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ اَلصِّیامُ و قوله 4تعالی یا أَیُّهَا اَلَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ ، و غیرهما من الآیات التی وقع فیها بیان التکلیف بصورة الخطاب للمؤمنین، فالظاهر انه لا دلالة فیه علی الاختصاص، بل توجیه الخطاب إلی المؤمنین انما هو لأجل کونهم متصدین لإطاعة التکالیف، الإتیان بالوظائف، و إلا فربما وقع هذا النحو من التعبیر فی باب الأصول الاعتقادیة، مع انه لا شبهة فی اشتراک الکفار مع المؤمنین فی هذه المسائل؛ ضرورة ان الکافر یجب علیه ان یرفع الید عن الکفر و یؤمن بما آمن به المؤمن، کقوله تعالی 5یا أَیُّهَا اَلَّذِینَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ فیستفاد منه ان تخصیص الخطاب بالمؤمنین لیس لأجل اختصاص الحکم بهم.

نعم قد یقع بیان الحکم بصورة الخطاب الی شخص خاص أو طائفة خاصّة کزرارة مثلاً و فی مثله تجری قاعدة الاشتراک المتقدمة، و مقتضاها عدم الفرق بین المؤمن و الکافر ایضاً، کما لا یخفی.

الثالث ما ربما یقال من انه لا ریب فی کون الکفار مکلفین بالایمان،

و قد ورد فی بعض الاخبار ان الایمان لیس مجرد الاعتقاد بالعقائد الحقة، بل هو مع العمل بالأرکان و إطاعة الوظائف و الأحکام.

و أورد علیه بان الایمان لیس هو المواظبة علی جمیع الاحکام قطعاً، و الترجیح لبعض الاحکام لا وجه له، و لا ریب ان فاعل المحرّمات و تارک الواجبات مع اعتقاده العقائد الحقّة یسمّی مؤمناً مسلماً، فما فی الروایة المتقدمة یکون تعریفاً للایمان الکامل، کقوله تعالی إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِینَ إِذا ذُکِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (1).

الرّابع بعض الآیات الظاهرة فی أنهم مکلفون بالفروع

کقوله تعالی حکایة عنهم بعد السؤال عنهم عن انه ما سَلَکَکُمْ فِی سَقَرَ: « قالُوا لَمْ نَکُ مِنَ اَلْمُصَلِّینَ وَ لَمْ نَکُ نُطْعِمُ اَلْمِسْکِینَ وَ کُنّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخائِضِینَ وَ کُنّا نُکَذِّبُ بِیَوْمِ اَلدِّینِ» (2)، و قوله تعالی فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّی (3). و قوله تعالی

ص:


1- 1) سورة الأنفال الآیة 2.
2- 2) سورة المدثر، لآیات 43 46.
3- 3) سورة القیامة، لآیة 31.

وَ وَیْلٌ لِلْمُشْرِکِینَ اَلَّذِینَ لا یُؤْتُونَ اَلزَّکاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ کافِرُونَ (1).

و أورد علیه بان قوله لَمْ نَکُ مِنَ اَلْمُصَلِّینَ ، لا دلالة علی کونهم مکلّفین بالصلاة فی حال الکفر، بل لعلّ المراد انه لو آمنّا و صرنا مکلفین بالصلاة و صلّینا لنجونا، و لکن لم نک من المصلین، لعدم کوننا من المسلمین، و کذا قوله تعالی فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّی لا یدل علی التکلیف بالصلاة فی حال عدم التصدیق، بل مثل هذه العبارة یقال کثیراً فی الأمرین المترتبین أو الأمور المترتبة؛ فإنه إذا قیل لزید: أضف عمراً، و إذا أضفته فأعطه درهماً، فان وجوب الإعطاء مشروط بالضیافة، بحیث لو لم تکن الضیافة لا یجب الإعطاء، فإذا ترک زید کلیهما یقال: لا أضاف و لا اعطی، و لا یلزم وجوب کل منهما وجوباً مطلقاً.

هذا و الظاهر کون هذا الإیراد مخالفاً لظاهر الآیة؛ فإن ذکر ترک الصلاة أوّلا بعنوان العلة الموجبة للسلوک فی سقر لا یلائم عدم التکلیف بها فی حال الکفر، و بعبارة أخری: إذا لم یکن الکافر مکلفا بالصلاة أصلاً، فلا وجه لان یقال: إن بان ترک الصلاة صار موجباً لوقوعه فی سقر فی ردیف الخوض مع الخائضین و التکذیب بیوم الدین الذی هو عبارة أخری عن الکفر، فالظاهر تمامیة الاستدلال بالآیة، و کذا بالآیتین بعدها، نعم أجاب صاحب الحدائق عن الآیة الأولی بأن المراد من قوله تعالی لَمْ نَکُ مِنَ اَلْمُصَلِّینَ (2)انه لم نک من اتباع الأئمة، کما فی تفسیر علی بن إبراهیم، فیکون المصلی بمعنی الذی یلی السابق، و یدفعه وضوح کونه خلاف ظاهر

ص:314


1- 1) سورة فصلت، الآیتان 6 و 7.
2- 2) الحدائق الناضرة 3:43

الآیة، خصوصاً مع ملاحظة قوله: « وَ لَمْ نَکُ نُطْعِمُ اَلْمِسْکِینَ و لعلّ الروایة ناظرة إلی کونه من بطون القرآن.

الخامس ما ربما یقال من انه لو لا تکلیف الکفار بالفروع، یلزم ان یکون الکافر القاتل للنبی (صلی الله علیه و آله) و المعین له من الکفار متساویین فی العقاب؛

لفرض عدم التکلیف، مع ان ضرورة العقل قاضیة بخلافه، و لیس ذلک الّا من جهة کونه معاقباً علی الفروع و مکلفاً بها کالأصول.

و ربما یجاب بان عدم تساویهما لا یستلزم کونهما مکلفین بفروع شرع الإسلام، لأنه یمکن ان تکون العلّة هی قبح القتل فی شرع الکفر ایضاً.

و ردّ هذا الجواب بان ثبوت الإسلام ناسخ للشرائع السّابقة، فلا دین غیره حتی یکون التفاوت لأجل مخالفة ذلک الدین دون الإسلام، فلا ینافی عدم کونه مکلّفاً فی شرعنا الذی هو محلّ الخلاف فی هذا المقام.

و قال صاحب العناوین (1): «یمکن ان یقال: ان نزاع التکلیف بالفروع انّما هو فی الفروع الثابتة بالشرع ابتداء، و أمّا ما یستقل به العقل کالظلم و القتل و نحو ذلک، فلا بحث فی کون الکافر مؤاخذاً به و معاقباً علیه، و المثال انما هو من الثانی دون الأوّل، أو یقال: ان نسخ الإسلام للشرائع السّابقة فیما استقل به العقل ممنوع، بل هو باق علی حکم الشرائع السّابقة، فیکون العقاب لقبحه فی شرعهم کشرعنا، و مجرّد فرض کون العقاب انّما هو لمخالفة هذا الشرع دون السابق انما ینفع فی إثبات کون شرعنا مطاعا من حیث هو کذلک، فما وافق الشرع السابق أیضاً یؤخذ من حیث کونه من شرعنا، لا من حیث کونه من الشرع السابق، و لا من حیث الاجتماع، و لا ینفع فی

ص:315


1- 1) العناوین سید میر فتّاح عنوان 90:394.

مقامنا هذا؛ إذ الدلیل قضی بالتفاوت بین القاتل و المعین، و أمّا ان ذلک لجهة شرعنا أم لا، فلا یقضی به ذلک» .

أقول: عطف القتل علی الظّلم فیما استقل العقل بقبحه ممنوع؛ لان القتل ربما ینطبق علیه بعض العناوین المحسّنة بل المشتملة علی المصلحة الملزمة، فیستدعی وجوبه، و لا أقلّ مشروعیته و جوازه، کالقتل الواقع قصاصاً، و القتل الواقع حدّا، و لیس شیء مما یستقلّ به العقل خارجاً عن حکمه باعتبار عروض بعض العناوین، فالظلم بعنوانه قبیح مطلقا، و القتل القبیح انّما هو الذی انطبق علیه عنوان الظلم، و لا مجال لعطف القتل علی الظلم فی الحکم بالقبح مطلقا.

و علی ما ذکرنا فیمکن ان لا یکون هناک تکلیف منجز و لا عقوبة علی قتل الکافر النبی (صلی الله علیه و آله) فیما إذا کان اعتقاده کذبه، و انه مخالف لما هو دین اللّه، و انه یجب ان یقتل خوفاً من الإضلال، کما هو الغالب فی وجه هذا النحو من القتل، و هذا بخلاف الظلم الذی لا ینفک عن استحقاق العقوبة بوجه، فتدبّر.

السادس بعض الروایات التی یستفاد منها ذلک،

کروایة سلیمان بن خالد قال: قلت: لأبی عبد اللّه (علیه السلام) : أخبرنی عن الفرائض التی افترض اللّه علی العباد ما هی (1)؟ فقال: شهادة ان لا إله إلّا اللّه و إن محمّداً رسول اللّه و أقام، الصّلوات الخمس، و إیتاء الزکاة، و حج البیت، و صیام شهر رمضان، و الولایة، فمن أقامهنّ و سدّد و قارب و اجتنب کل مسکر، دخل الجنّة؛ فإن مورد السؤال ما افترض اللّه علی عموم العباد؛ لان الجمع

ص:316


1- 1) الوسائل 1:12 ب 1 من کتاب الطهارة ح 17.

المحلّی یفید العموم، و ظاهر الجواب فی نفسه ایضاً ذلک؛ لانه جعل الواجبات الفرعیة عطفاً علی الشهادتین اللتین تجبان علی جمیع العباد بلا اشکال، و الاقتصار فی الجواب علی الأمور الخمسة بلحاظ أهمیّتها و علوّ شأنها کما یظهر من الروایة (1)المعروفة الدالة علی ان الإسلام بنی علی الخمس، و لیس ذلک لأجل اختصاص العمومیة بهذه الخمسة، و یؤیده ذیل الروایة الظاهر فی توقف دخول الجنة علی اجتناب المسکر و مثله ایضاً، کما لا یخفی.

و صحیحة (2)البزنطی قال: ذکرت لأبی الحسن الرّضا (علیه السلام) الخراج و ما سار به أهل بیته، فقال: العشر و نصف العشر علی من أسلم طوعاً ترکت أرضه فی یده و أخذ منه العشر فی ما عمر منها، و ما لم یعمر منها أخذه الوالی فقبله ممن یعمره، و کان للمسلمین، و لیس فی ما کان أقل من خمسة أوساق شیء، و ما أخذ بالسیف فذلک الی الامام یقبّله بالذی یری، کما صنع رسول اللّه بخیبر، قبل أرضها و نخلها، و الناس یقولون: لا تصلح قبالة الأرض و النخل إذا کان البیاض أکثر من السّواد، و قد قبل رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) خیبر و علیهم فی حصصهم العشر و نصف العشر (3).

و الاستدلال بها مبنی علی کون المراد من العشر و نصف العشر هو الزکاة التی مقدارها کذلک، و لکن الظاهر خصوصاً بملاحظة قوله (علیه السلام) : یقبّله بالّذی یری، و بملاحظة قوله: و الناس یقولون لا تصلح قبالة الأرض، هو

ص:317


1- 1) الوسائل 1:7 ب 1 من کتاب الطهارة ح 2.
2- 2) الوسائل 11:120 ب 72 من أبواب جهاد العدو ح 2.
3- 3) الوسائل أبواب جهاد العدوّ، الباب الثانی و السبعون، حدیث 2.

ان العشر و نصف العشر جزء من قبالة الأرض المجعولة من قبل الامام لا من باب الزکاة.

السّابع قاعدة الجبّ

المستفادة من قوله (صلی الله علیه و آله) (1): الإسلام یجبّ ما قبله، و تقریب دلالتها علی الاشتراک فی المقام انه علی تقدیر اختصاص الأحکام الفرعیة بالمؤمنین، یلزم اختصاص مورد قاعدة الجبّ و مفادها بخصوص الکفر و الشرک المحقق قبل الإسلام، بحیث یکون مفاد القاعدة: ان الإسلام یجبّ ما قبله من الشرک و الکفر و یجعلهما کالعدم، مع ان شأن ورودها کما تقدم فی البحث فیها هو بعض الأحکام الفرعیة، مثل القتل و شبهه، مع ان الفقهاء (رض) یستدلون بها علی جبّ مثل ترک الصلاة و الصوم و الزکاة و أشباههما، فهذه القاعدة أیضاً دلیل علی الاشتراک فی المقام.

و قد انقدح من جمیع ما ذکرنا تمامیة أکثر أدلة المشهور القائلین بالاشتراک، و أمّا المنکرون له فقد استدلوا بوجوه تعرض فی الحدائق لخمسة منها:

منها: عدم الدلیل علی الاشتراک، و هو دلیل العدم.

و یدفعه وجود أدلة المشهور التی عرفت تمامیة أکثرها.

و منها: الرّوایات الظاهرة فی توقف التکلیف علی الإقرار و التصدیق بالشهادتین، کصحیحة (2)زرارة قال: قلت: لأبی جعفر (علیه السلام)

ص:318


1- 1) عوالی اللئالی 2:54 الجامع الصغیر للسیوطی 1:123 مسند ابن حنبل 4:199 و 204 و 205.
2- 2) الکافی 1:180.

أخبرنی عن معرفة الإمام منکم واجبة علی جمیع الخلق؟ فقال: ان اللّه عزّ و جلّ بعث محمّداً (صلی الله علیه و آله) الی الناس أجمعین رسولاً و حجة للّه علی جمیع خلقه فی أرضه، فمن آمن باللّه و بمحمد (صلی الله علیه و آله) رسول اللّه و اتبعه و صدّقه، فإن معرفة الإمام منا واجبة علیه، و من لم یؤمن باللّه و برسوله و لم یتبعه و لم یصدقه و یعرف حقّهما، فکیف یجب علیه معرفة الإمام و هو، لا یؤمن باللّه و رسوله و یعرف حقّهما الحدیث (1).

قال فی الوافی (2)بعد نقل هذه الرّوایة: و فی هذا الحدیث دلالة علی ان الکفار لیسوا مکلفین بشرائع الإسلام کما هو الحقّ، خلافاً لما اشتهر بین متأخری أصحابنا. و الظاهر ان وجه الدلالة انه إذا لم تجب معرفة الامام علی الکافر باللّه و رسوله، فعدم وجوب سائر التکالیف و عدم ثبوتها یکون بطریق اولی، خصوصاً مع ملاحظة أن الوصول و الاطلاع علی سائر الأحکام یکون نوعاً من طریق الامام (علیه السلام) .

و ما رواه علی بن إبراهیم القمی فی تفسیره المعروف (3)، فی تفسیر قوله تعالی وَ وَیْلٌ لِلْمُشْرِکِینَ اَلَّذِینَ لا یُؤْتُونَ اَلزَّکاةَ (4)عن أبان بن تغلب قال: قال لی أبو عبد اللّه (علیه السلام) یا أبان أ تری انّ اللّه (عزّ و جلّ) طلب من المشرکین زکاة أموالهم، و هم یشرکون به حیث یقول وَیْلٌ لِلْمُشْرِکِینَ اَلَّذِینَ لا یُؤْتُونَ اَلزَّکاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ کافِرُونَ ؟ قلت له

ص:319


1- 1) أصول الکافی باب معرفة الإمام، حدیث 3.
2- 2) الوافی 2:82
3- 3) تفسیر القمی 2:262
4- 4) سورة فصّلت الآیة:7.

کیف ذاک جعلت فداک؟ فسّره لی. فقال: ویل للمشرکین الذین أشرکوا بالإمام الأوّل و هم بالأئمة الآخرین کافرون، یا أبان إنّما دعا اللّه العباد الی الایمان به، فاذا آمنوا باللّه و برسوله افترض علیهم الفرائض.

و ما رواه فی الاحتجاج (1)فی احتجاج أمیر المؤمنین (علیه السلام) علی زندیق من قوله (علیه السلام) : و أمّا قوله إِنَّما أَعِظُکُمْ بِواحِدَةٍ فإن اللّه (عزّ و جلّ) نزّل عزائم الشرائع و آیات الفرائض فی أوقات مختلفة، کما خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیّامٍ ، و لو شاء لخلقها فی أقل من لمح البصر، و لکنه جعل الأناة و المداراة أمثالاً لأمنائه، و إیجاباً للحجّة علی خلقه، فکان أوّل ما قیدهم به الإقرار بالوحدانیة و الرّبوبیة و الشهادة بان لا إله إلّا اللّه، فلمّا أقروا بذلک تلاه بالإقرار لنبیّه بالنبوة و الشهادة له بالرّسالة، فلما انقادوا لذلک فرض علیهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحج ثمّ الجهاد ثمّ الزکاة ثمّ الصدقات و ما یجری مجراها من مال الفیء.

أقول: الظاهر ان الرّوایة الأخیرة لا دلالة لها علی مرام القائل بالاختصاص، و إن کان فیها اشعار بذلک؛ فان ظاهرها بیان کون نزول الاحکام انما هو بنحو التدریج، و الکلام انّما هو بعد النّزول، و لو قیل بثبوت الدلالة، لکان اللازم الالتزام بالترتیب فی مسألة الوحدانیة و الرّسالة، مع انه لا ترتیب بینهما من حیث الوجوب، و کذا الالتزام بالترتیب فی الأحکام الفرعیة بین الصلاة و الصوم و بین الصوم و الحج إلخ، مع انه لم یقل به أحد.

و أمّا الرّوایتان الأولیان فقد أجاب عنهما الشیخ الأعظم الأنصاری

ص:320


1- 1) الاحتجاج صفحة 379.

(قده) فی کتاب طهارته (1)فی مسألة وجوب الغسل من الجنابة و غیرها من الاحداث علی الکافر بأقسامه عند حصول سببه بما لفظه: «انّا لا نقول بکون الکفار مخاطبین بالفروع تفصیلاً، کیف و هم جاهلون بها غافلون عنها؟ و کیف یعقل خطاب منکری الصانع و الأنبیاء؟ و علی تقدیر الالتفات فیستهجن، بل یقبح خطاب من أنکر الرّسول بالایمان بخلیفته و المعرفة بحقّه و أخذ الاحکام منه، بل المراد ان المنکر للرسول مثلاً مخاطب بالایمان به و الایتمار بأوامره و الانتهاء بنواهیه، فان آمن و حصل ذلک کلّه، کان مطیعاً، و إن لم یؤمن ففعل المحرّمات و ترک الواجبات عوقب علیها کما یعاقب علی ترک الایمان، لمخاطبته بها إجمالاً، و إن لم یخاطب تفصیلاً بفعل الصلاة و ترک الزنا لغفلته عنها، نظیر ذلک ما إذا أمر الملک أهل بلد نصب لهم حاکماً بالإذعان لولایته من قبل الملک، و الانقیاد له فی أوامره و نواهیه المسطورة فی طومار بیده، فلم تذعن تلک الرعیة لذلک الحاکم، و لم یلتفتوا الی ذلک الطومار و لم یطلعوا علیه أصلاً، فاتفق وقوعهم من أجل ذلک فی مخالفة کثیر من النواهی و ترک الأوامر الموجودة فیه، فإنه لا یقبح عقابهم علی کل واحد واحد من تلک المخالفات؛ لکفایة الخطاب الإجمالی مع تمکن المخاطب من المعرفة التفصیلیة» .

أقول: تارة تلحظ الروایتان مع قطع النظر عن التعلیل الوارد فیهما، و أخری مع ملاحظته، ففی الأوّل لا مجال للمناقشة فیهما، لظهورهما فی ان التکلیف بمثل الصلاة و الصیام یختص بالمؤمن الذی آمن باللّه و برسوله، و القیاس بالمورد المذکور فی کلام الشیخ حینئذ یکون مع الفارق؛ لأن فی

ص:321


1- 1) کتاب الطهارة شیخ الأنصاری (ره) باب أحکام غسل الجنابة.

المقیس علیه یکون المفروض توجه تکلیفین من ناحیة الملک، أحدهما متعلق بقبول الولایة و الإذعان لها، و الثانی بالایتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهیه، و فی المقام لا یکون بحسب ظاهر الرّوایتین حکم مع عدم الایمان باللّه و برسوله، و بعبارة اخری: لیس الکلام فی المقام بهذا اللحاظ الّا ما یکون مرتبطاً بمقام الإثبات، و هو انه هل الدلیل علی عدم الاختصاص أو علیه، موجود أم لا؟ و فی هذه المرحلة لا خفاء فی ظهور الروایتین فی الاختصاص.

و فی الثانی و إن جرت المناقشة فی التعلیل؛ لظهوره فی الاستحالة، و لا أقل من الاستهجان، الّا ان هذه المناقشة لا تسری إلی أصل الحکم المذکور فیهما الذی هو العمدة فی مقام الاستدلال، فاللازم ان یقال: امّا الروایة الثانیة الواردة فی تفسیر الآیة فهی فی مقام بیان تأویل الآیة؛ لأن حمل الشرک و الکفر علی الشرک بالأوّل و الکفر بالآخرین لا یکون خارجاً عن التأویل بوجه، و لا ینافی الاستناد الی ظاهر الآیة الذی هو عبارة عن کون المراد بالشرک و الکفر هو المعنی الظاهر منهما، و عن کون المشرکین مأمورین بالزکاة مضافاً الی ان الشرک الملازم لعدم الإتیان بالزکاة لیس الشرک بالمعنی المذکور فی الروایة، فتدبّر. و أمّا الروایة الأولی فهی دالة علی عدم کون الکافر مأموراً بالولایة و معرفة الامام، التی هی من الأصول الاعتقادیة، مع ان الظاهر انه لا یقول القائل بالاختصاص بذلک أیضاً؛ فإن ظاهرهم التسلیم بثبوت التکلیف للکافر بالنسبة الی جمیع الأصول الاعتقادیّة، فالروایتان لا تصلحان للاستدلال بهما.

و منها و هو العمدة-: ان التکالیف ممتنعة الحصول من الکافر حال

ص:322

کفره؛ إذ لا إشکال فی اشتراط الصحة بالإسلام و عدم وقوع العبادة من الکافر متصفة بالصّحة، و مقتضی قوله (1)(صلی الله علیه و آله) الإسلام یجبّ ما قبله، ان الإسلام مسقط لما قبله، فاذا کان کذلک فلا یمکن صدور العمل من الکافر علی وجه یوافق الأمر، فلا مجال للقول بکون الکافر مکلفاً بالفروع؛ لعدم جواز التکلیف بما لا یطاق عندنا و عند أکثر العقلاء، لو لم یکن ممتنعاً علی تقدیر الإسلام فهو لغو قطعاً؛ إذ طلب الفعل علی تقدیر لو أرید الإتیان به علی ذلک الفرض أسقط الخطاب خال عن الفائدة بالمرّة.

و الجواب عنه مضافاً الی ان الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار، و إلی ان قاعدة الجبّ کما مرّ البحث فیها سابقاً لا تشمل جمیع التکالیف و الأحکام الوضعیّة ما مرّ فی تلک القاعدة أیضاً من ان هذا الاشکال انما یرد علی تقدیر اختصاص التکلیف بالکافر و کونه المخاطب بالخصوص، و أمّا علی تقدیر عمومیة الخطاب و ثبوت التکلیف بنحو العموم، فلا مجال لهذا الإشکال، لأنه لا یعتبر فی التکالیف و الخطابات العامّة ان یکون جمیع مصادیقها و أفرادها واجداً للشرائط، فیصح توجیه الخطاب الی العموم و إن کان بعض الافراد عاجزاً غیر قادر؛ لانه لا یعتبر فی صحته الّا عدم کون الأکثر کذلک، لا کون کل افراده کذلک، و یدلّ علیه الرجوع الی العقلاء الذین هم الملاک فی الحکم بصحة الخطاب و عدمها، و بالجملة لو کانت الخطابات العامّة منحلة إلی خطابات جزئیة متکثرة حسب تکثر الافراد و تعددها، لکان اللازم ملاحظة حال جمیع الافراد؛ لفرض الانحلال، و أمّا مع عدم الانحلال کما هو الحقّ، فلا مجال لملاحظة حال الجمیع، فالتکلیف

ص:323


1- 1) عوالی اللئالی 2:54 مسند ابن حنبل 4:199.

یشمل العاجز أیضاً فی ضمن العموم، غایة الأمر کون عجزه مانعاً و عذراً له فی مقابل المولی و لا یکاد یکون الکفر کذلک؛ لانّه باختیاره، و یمکن له رفع الید عنه، و هذا المعنی الذی ذکرناه لا یرتبط بمسألة القضیة الحقیقیة و کون الأحکام مبنیّة بمثلها، بل هو مبنی علی کون الخطاب بنحو العموم غیر المنحل الی خطابات جزئیة و لو لم تکن القضیة حقیقیة، فإذا قال المولی لعبیده المتعددین: سافروا غداً، یصحّ هذا الخطاب إذا کان أکثرهم قادراً علی السفر، و إن کان بعضهم غیر قادر علیه، و المصحّح له کون الخطاب بنحو العموم و عدم الانحلال الی خطابات متعددة بتعدّد العبید مع عدم کون القضیة حقیقیة بلا ریب، فما ذکرناه مبنی علی افتراق الخطاب بنحو العموم عن الخطابات الشخصیة، و لا یرتبط بالقضیة الحقیقیّة بوجه، و بالجملة فهذا الدلیل ایضاً غیر وجیه.

و منها: غیر ذلک مما یظهر جوابه مما ذکرنا، أو یکون جوابه ظاهراً فی نفسه، مثل لزوم التکلیف بما لا یطاق لو کان الکافر مکلفا بالفروع؛ لانه جاهل بالتکلیف و الأمر و النهی، و تکلیف الجاهل قبیح، و ما ورد ممّا ظاهره تخصیص الأمر بطلب العلم بالمسلم کقوله (1)(صلی الله علیه و آله) طلب العلم فریضة علی کل مسلم، و اختصاص الخطاب فی ظواهر بعض الآیات بالمؤمنین کقوله تعالی یا أَیُّهَا اَلَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ اَلصِّیامُ (2)، و هو یوجب تقیید ما ورد بصورة العموم، و عدم أمر النبی (صلی الله علیه و آله) کل من أسلم بالغسل، مع العلم العادی بأنه جنب، و الجواب عن الأخیر: منع عدم الأمر، بل الظاهر

ص:324


1- 1) الوسائل 18:15 ب 4 من أبواب صفات القاضی ح 27 و 28.
2- 2) سورة البقرة الآیة:183.

ان الاغتسال بعد الإسلام، کان من الأمور المعتادة کما هو المتداول فی هذه الأزمنة، و قد مرّ البحث فی هذه الجهة فی قاعدة الجبّ المتقدمة، و قد انقدح من جمیع ما ذکرنا تمامیة القاعدة من حیث المستند.

المقام الثانی- فی مفاد القاعدة و ما یراد منها،

و فنقول: المراد منها هو مجرّد اشتراک الکفار مع المؤمنین فی التکالیف الإنشائیة و الفعلیة البالغة مرتبة البعث و الزجر، بمعنی انه کما یکون المسلم مبعوثاً الی مثل الصلاة کذلک یتوجّه البعث الی الکافر ایضاً من دون فرق، و کما یکون المسلم مزجوراً عن مثل شرب الخمر کذلک یتوجّه الزجر الی الکافر ایضاً بنفس ذلک الخطاب، و أمّا مرحلة التنجز المتوقفة علی الالتفات و العلم أو الاحتمال الذی لا یکون معذوراً فیه، فتتوقف فی الکافر علی شرائطها کما تتوقّف فی المسلم، و علیه فالتکلیف فی أکثر الکفار لا یبلغ هذه المرحلة للغفلة أو العلم بالخلاف، باعتبار اعتقادهم بصحة مذهبهم أو بطلان الإسلام بالمرّة، و منه یظهر انه لا مجال لعطف العقاب علی التکلیف فی أکثر العبارات؛ فإن دائرة العقاب محدودة ببلوغ التکلیف مرحلة التنجز، بخلاف أصل التکلیف الذی لا یشترط فیه الإسلام و لا العلم و الالتفات أصلاً، کما لا یخفی.

المقام الثالث- فی انه بعد أن لم یکن الإسلام شرطاً فی أصل التکلیف و فعلیّته، فهل یکون شرطاً فی الصحة

إذا کان العمل عبادة، أم لا یکون شرطاً فیها ایضاً؟ ربما یقال: نعم؛ لإجماع الأصحاب علیه فی ما عدا الوقف و الصدقة و العتق، علی القول باشتراط نیّة القربة فیها، و لاشتراط نیّة القربة فی صحة العبادة، و هی لا تتحقق من الکافر و لقوله تعالی: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ کَفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسُولِهِ 1. و لدلالة الآیات الکثیرة علی کون الکفار معذّبین بالنّار خالدین فیها، و لو کانت عباداتهم صحیحة لزم وصول الأجر إلیهم فی الآخرة و هو منفیّ بالآیات المذکورة، و لقوله تعالی إِنَّما یَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِینَ بضمیمة انّ أوّل التقوی الإسلام، و لدلالة الأخبار الکثیرة علی بطلان عبادة المخالف، فضلاً عن الکافر.

ص:325

إذا کان العمل عبادة، أم لا یکون شرطاً فیها ایضاً؟ ربما یقال: نعم؛ لإجماع الأصحاب علیه فی ما عدا الوقف و الصدقة و العتق، علی القول باشتراط نیّة القربة فیها، و لاشتراط نیّة القربة فی صحة العبادة، و هی لا تتحقق من الکافر و لقوله تعالی: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ کَفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسُولِهِ (1). و لدلالة الآیات الکثیرة علی کون الکفار معذّبین بالنّار خالدین فیها، و لو کانت عباداتهم صحیحة لزم وصول الأجر إلیهم فی الآخرة و هو منفیّ بالآیات المذکورة، و لقوله تعالی إِنَّما یَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِینَ بضمیمة انّ أوّل التقوی الإسلام، و لدلالة الأخبار الکثیرة علی بطلان عبادة المخالف، فضلاً عن الکافر.

و أجیب عن الإجماع بأنه لا أصالة له؛ لاحتمال استناده إلی الأدلة الأخری، و عن مسألة قصد القربة بان عدم إمکانه انّما هو فی الکافر الجاحد بالربوبیّة مطلقا، و أمّا الکافر المقر باللّه المنکر لصفة الوحدانیة أو للنبوة، فیعقل فیه قصد القربة، خصوصاً إذا کان من المنتحلین للإسلام کالغلاة و النواصب، و تری أهل الکتاب یجتمعون فی معابدهم و یعملون اعمالاً یکون الداعی لهم إلیها التقرب الی اللّه تعالی بالمعنی الشامل للوصول الی الثواب و الفرار عن العقاب.

نعم یمکن ان یقال: إن العمل العبادی الذی یکون فی الإسلام و لیس له سابقة فی الأدیان لا یکون الکافر المنکر للنبوة معتقداً بکونه مأموراً به من اللّه تعالی و مقرباً للعبد الیه، و علیه فکیف یتمشی منه قصد القربة مع هذا الاعتقاد؟ نعم، یمکن فرضه فی الأعمال العبادیة المشترکة، و هی قلیلة؛ إذ الاختلاف موجود و لا أقل فی الکیفیة.

و أجیب عن الاستدلال بقوله تعالی وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ . . بان القبول أخص من الصّحة، و فیه ان المراد بالقبول ان کان ترتب الثواب فهو لا ینفک عن الصحة؛ لأنه إذا کان العمل موافقاً للمأمور به جامعاً لجمیع

ص:


1- 1) سورة التوبة، آیة 54.

الخصوصیات المعتبرة فیه، فلا محالة یکون صحیحاً و تترتب علیه المثوبة، و إن کان المراد به ما هو أعلی من ترتب الثواب، فهو ممنوع؛ فان القبول الفقهی مساوق للصحّة، و دعوی ان ضمیر الجمع فی الآیة یرجع الی المنافقین، و البحث انّما هو فی الکافرین، مدفوعة بأن ظاهر الآیة: ان المانع من القبول هو الکفر باللّه و الرّسول لا عنوان النّفاق.

و أجیب عن الآیات الدالة علی ان الکفار معذبین بالنّار بأنه لا ینافی صحة أعمالهم و المثوبة علیها فی الدنیا، و یمکن ان یقال بتأثیر عملهم فی تخفیف العذاب، فان للنار مراتب متفاوتة بالشدة و الضعف، کما انه یمکن ان یقال: إن التعذیب بالنار انما هو لأجل عدم إتیانهم خارجاً بما هو وظیفة لهم، و البحث انّما هو فی الصحة علی تقدیر الإتیان، و بعبارة اخری: ما ذکر فی مقام الاستدلال من انه لو کانت عباداتهم صحیحة لزم وصول الأجر إلیهم فی الآخرة، لا بد ان یکون المراد بالعبادات الواردة هی العبادات التی حثّ علیها فی الإسلام، و من الواضح عدم إتیانهم بشیء منها خارجاً، فلا ینافی کونهم معذبین بالنار خالدین فیها، کما هو ظاهر.

و أمّا الأخبار الدالة علی بطلان عبادة المخالف، فظاهر أکثرها مثل الروایة (1)المعروفة الدالة من انه بنی الإسلام علی خمس، و من جملتها الولایة، و انه لم یناد أحد بشیء مثل ما نودی بالولایة، و إنَّ عمل غیر القائل بالولایة لمّا لم یکن بدلالة الوالی لا یکون من حیث الصحة مورداً للاطمئنان؛ لعدم أخذه علم الاحکام من العالم بها المطّلع علیها، و لا دلالة له علی البطلان مع الموافقة التامّة و اجتماع شرائط الصّحة، لأجل عدم

ص:327


1- 1) الوسائل 1:7 ب 1 من کتاب الطهارة ح 2.

الاعتقاد بالولایة.

هذا و مع ذلک کلّه لا یبعد القول ببطلان عبادة الکافر و إن کانت مشتملة علی نیة القربة؛ لتمامیة بعض الوجوه المذکورة، فتدبّر.

و أمّا الوقف و الصدقة و العتق فقد ذکر صاحب العناوین (1): «ان بعض من اعتبر قصد القربة فیها منع من صحتها من الکافر، و جماعة منهم قالوا بصحّته، منهم الشهید (ره) فی اللمعة (2)؛ فإنه مع اشتراطه القربة فی العتق؛ قال: و الأقرب صحة العتق من الکافر، و خلافهم فی هذه الثلاثة مع اتفاقهم علی بطلان سائر العبادات منه، امّا من جهة ان الدلیل دلّ فی هذه الأمور علی اعتبار ارادة وجه اللّه، و هی ممکنة من الکافر کما فی الخبر: انه لا عتق الّا ما أرید به وجه اللّه، و لیس کذلک سائر العبادات، و قد عمل بذلک الشهید الثانی (قده) و أمّا من جهة ترکب هذه الثلاثة من جهة مالیّة و جهة عبادة، و یرجّح من ذلک جانب المالیّة، و أمّا من جهة ان هذه کلها إخراج عن الملک و ملک الکافر أضعف من ملک المسلم، فهو اولی بالفک، و أمّا من جهة ان الکافر لیس بمالک فی الحقیقة و انّما هی صورة ملک، لبقاء النّظم، فإذا أخرجه و دفعه خرج عن ملکه و إن لم یترتب علیه الآثار من الثواب و نحوه، ثمّ قال: و التحقیق ان هذه الثلاثة لیست صحیحة من جهة کونها عبادة، و لذلک لا ثواب فیها، نعم هی صحیحة من جهة کونها معاملة و فکّ ملک، غایة ما هناک انّه یرد انّ هاتین الجهتین مرتبطتان لا تنفک إحداهما عن الأخری، و لذلک لو لم ینو المسلم القربة، لم یصح عتقه أصلاً، و نجیب

ص:328


1- 1) کتاب العناوین لسید میر فتاح:396 عنوان 90
2- 2) اللمعة 6:242 و 243.

عن ذلک بان الکافر و المخالف یلزم بمعتقده، فان اعتقاده فیه الصحة، و هذا المقدار یصیر حجة علیه فی الخروج عن الملک، و یدخل فی عموم ألزموهم بما الزموا به أنفسهم» .

أقول: علی تقدیر القول ببطلان عبادة الکافر، لا بد من الالتزام بالبطلان فی هذه الثلاثة أیضاً؛ إذ لم یقم دلیل علی الصحة فیها، حتی یوجّه بما ذکر، و قاعدة الإلزام علی تقدیر جریانها فی الکافر مع ان موردها المخالف تقتضی الحکم بصحة عباداته أیضاً، الّا ان یقال بالفرق بینها و بین مثل الصلاة فتدبّر.

هذا تمام الکلام فی قاعدة اشتراک الکفار مع المؤمنین فی التکلیف.

ص:329

ص:330

عدم شرطیة البلوغ فی الأحکام الوضعیّة

اشارة

و هی ایضاً من القواعد المعروفة المشهورة، و فیها جهات من البحث:

الجهة الاولی- فی مدرکها و مستندها، و هو أمور متعدّدة:

الأوّل عموم الأدلة الواردة فی هذه الاحکام

مثل قوله (صلی الله علیه و آله) علی الید ما أخذت حتی تؤدّی (1)و قوله (صلی الله علیه و آله) : ایضاً من أحیا أرضاً مواتاً فهی له (2)و قوله (علیه السلام) : من حاز شیئاً من المباحات فقد ملکه (3)و قوله (علیه السلام) : من أتلف مال الغیر فهو له ضامن (4)و ما ورد فی باب الجنابة و کون الوطی

ص:331


1- 1) سنن البیهقی 6:95 کتاب الغصب و عوالی اللئالی 1:224.
2- 2) الوسائل 17:327 ب 1 من کتاب احیاء الموات ح 5 و 6. و فی سنن أبی داود 3: ح 3073 و 3074 کتاب الخراج.
3- 3) هذه قاعدة معروفة بین العلماء اصطاد و ها من نصوص مختلفة.
4- 4) من المحتمل قویّاً کونها قاعدة مأخوذة من الروایات الواردة.

و الإدخال المتحقق بغیبوبة الحشفة سبباً لتحقّقها، و ما ورد فی باب الملاقاة للنجاسة و انها سبب لتأثر الملاقی بالکسر و حصول النجاسة له، و ما ورد فی باب الالتقاط، و ما ورد فی باب الدّیات و مثلها من الأدلّة.

و دعوی انصراف مثل ذلک الی البالغین، لان سیاقها کسیاق الأدلة الواردة فی الأحکام التکلیفیة، مدفوعة بأن أدلّة التکالیف ایضاً لا یجری فیها الانصراف، و اختصاصها بالبالغین انّما هو لقیام الدلیل علی الاختصاص، و هو لا یجری فی الأحکام الوضعیة کما سیأتی، کما ان دعوی ان قیام الدلیل علی الاختصاص فیها بحیث صار مرتکزاً فی أذهان المتشرعة حتی یعبرون عن غیر البالغ بغیر المکلف و عن البالغ بالمکلف، یوجب تحقق الانصراف فی هذه الأدلة، مدفوعة بمنع وجود ملاک الانصراف فی المقام، بل اللفظ عام لغة و عرفاً، مضافاً الی انه یستفاد منه العلیّة الثابتة للعمل، مع قطع النظر عن خصوصیة المباشر، فان قوله (صلی الله علیه و آله) : من أحیا أرضاً. . ظاهر فی ان الاحیاء سبب لحصول الملک و الاختصاص، فالسببیة وصف للاحیاء، و لا خصوصیة للمحیی بوجه و هکذا سائر الأدلّة.

الثانی الإجماع المتحقق لکل متتبع فی الفقه؛

لانه لم ینقل الخلاف عن أحد فی ثبوت الضمان علی الصبی الغاصب، و کذا ثبوته علی الصبی الذی أتلف مال الغیر، و هکذا سائر موارد الأحکام الوضعیة، نعم یظهر من العبارة الآتیة من الشیخ الأعظم وجود الخلاف فی سببیة الإتلاف فی الصبیّ، و هل لهذا الإجماع أصالة و کاشفیة أم لا کما فی أکثر الإجماعات المحققة فی سائر القواعد الفقهیة؟ ربما یقال بالأوّل؛ نظراً الی ان ثبوت

ص:332

الاتفاق علی مثل الضمان فی الموردین، و الاختلاف فی شمول الأدلة اللفظیة المتقدمة لغیر البالغین کاشف عن کاشفیة الإجماع و أصالته؛ لانه لو کان نظر المجمعین الی تلک الأدلة لکان اللازم الاختلاف لثبوته فیها.

الثالث سیرة العقلاء قاطبة علی ان الصّبی إذا أتلف مال الغیر أو غصبه فوقع تلف المغصوب فی یده مثلاً یکون ضامناً

للمتلف أو المغصوب، و لم یردع الشارع عن هذه السیرة بل أمضاها بالأدلة العامة و المطلقة المتقدمة.

و یدفعه مضافاً الی منع تحقق السیرة العقلائیة فی جمیع الموارد، لأنّه إذا کان غیر ممیز و فاقداً للإدراک و الشعور لا یحکمون بضمانه بوجه، و إلی ان الأدلة العامّة لا مجال لإیرادها بعنوان الإمضاء بعد کونها دلیلاً مستقلا بنفسه ان السیرة المتحققة هی سیرة المتشرعة، و هی ناشئة عن فتاوی مجتهدیهم و آراء مقلدیهم، و لا تکون دلیلاً فی مقابل الإجماع.

و قد انقدح مما ذکرنا تمامیة القاعدة من حیث المستند، و لکن ربما یتخیل ان فی مقابل تلک الأدلة ما ورد من قول علیّ (علیه السلام) : اما علمت رفع القلم عن ثلاثة عن الصّبی حتی یحتلم و عن المجنون حتی یفیق و عن النائم حتی یستیقظ (1)نظراً الی ظهوره فی انه لم یکتب علی الصبی قبل الاحتلام شیء، و لم یجعل علیه فی الإسلام حکم لا تکلیفاً و لا وضعاً؛ لانه مقتضی إطلاق رفع القلم، فهذه الروایة بمنزلة المخصص لتلک الأدلة اللفظیة، کما انها تخصص ما ورد فی باب التکالیف مثل قوله تعالی أَقِیمُوا اَلصَّلاةَ 1.

ص:333


1- 1) الوسائل 1:32 ب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 11.

و قد انقدح مما ذکرنا تمامیة القاعدة من حیث المستند، و لکن ربما یتخیل ان فی مقابل تلک الأدلة ما ورد من قول علیّ (علیه السلام) : اما علمت رفع القلم عن ثلاثة عن الصّبی حتی یحتلم و عن المجنون حتی یفیق و عن النائم حتی یستیقظ 1نظراً الی ظهوره فی انه لم یکتب علی الصبی قبل الاحتلام شیء، و لم یجعل علیه فی الإسلام حکم لا تکلیفاً و لا وضعاً؛ لانه مقتضی إطلاق رفع القلم، فهذه الروایة بمنزلة المخصص لتلک الأدلة اللفظیة، کما انها تخصص ما ورد فی باب التکالیف مثل قوله تعالی أَقِیمُوا اَلصَّلاةَ (1).

و یرد علیه مضافاً الی عدم نهوض مثل ذلک فی مقابل الإجماع المحقق، الّذی عرفته لکونه؛ دلیلاً قطعیّاً لا یقاومه شیء، و إلی ان الظاهر من رفع القلم فی نفسه هو رفع قلم المؤاخذة المتفرعة علی التکالیف الإلزامیة الوجوبیة أو التحریمیة؛ لان مخالفتها توجب استحقاق العقوبة و المؤاخذة، و علیه لا تشمل الروایة حتی التکالیف و الأحکام الاستحبابیة و مثلها، فضلاً عن الأحکام الوضعیة التی هی محل البحث فی المقام، و یؤیده عطف النائم علی الصبی مع ثبوت الحکم الوضعی فی حقّه. ما افاده الشیخ الأعظم الأنصاری فی مکاسبه (2)فی مقام استظهار عدم الاعتبار بعقد الصبی و إیقاعه مع وقوعه عن قصد من حدیث رفع القلم قال: بل یمکن بملاحظة بعض ما ورد من هذه الاخبار فی قتل المجنون استظهار المطلب من حدیث رفع القلم، و هو ما عن قرب (3)الاسناد بسنده عن أبی البختری عن جعفر عن أبیه عن علی (علیهم السلام) انه کان یقول فی المجنون و المعتوه الذی لا یفیق و الصبی الذی لم یبلغ: عمدهما خطأ تحمله العاقلة، و قد رفع عنهما القلم، فان ذکر رفع القلم فی الذیل لیس له وجه ارتباط الّا بان یکون علة لأصل الحکم و هو ثبوت الدیة علی العاقلة، أو بان یکون معلولا لقوله عمدهما خطأ یعنی: انه لما کان قصدهما بمنزلة العدم فی نظر الشارع و فی الواقع، رفع القلم عنهما، قال: و لا یخفی ان ارتباطها بالکلام علی وجه

ص:


1- 1) سورة البقرة الآیة:43.
2- 2) المکاسب:114.
3- 3) راجع الوسائل 19:307 ب 11 من أبواب العاقلة مع اختلاف یسیر.

العلیّة أو المعلولیة للحکم المذکور فی الرّوایة أعنی: عدم مؤاخذة الصبیّ و المجنون بمقتضی جنایة العمد و هو القصاص، و لا بمقتضی شبه العمد و هو الدیة فی مالهما، لا یستقیم الّا بان یراد من رفع القلم ارتفاع المؤاخذة عنهما شرعاً من حیث العقوبة الأخرویّة و الدنیویة المتعلقة بالنفس کالقصاص، أو المال کغرامة الدیة، و عدم ترتب ذلک علی أفعالهما المقصودة المتعمدة بما لو وقع من غیرهما مع القصد و التعمد لترتب علیه غرامة أخرویة أو دنیویة، الی ان قال: ثمّ ان مقتضی عموم هذه الفقرة بناء علی کونها علة للحکم عدم مؤاخذتهما بالإتلاف الحاصل منهما، کما هو ظاهر المحکی عن بعض الّا ان یلتزم بخروج ذلک عن عموم رفع القلم و لا یخلو من بعد لکن هذا غیر وارد علی الاستدلال؛ لانه لیس مبنیّاً علی کون رفع القلم علة للحکم؛ لما عرفت من احتمال کونه معلولاً لسلب اعتبار قصد الصبی و المجنون، فیختص رفع قلم بالمؤاخذة علی الأفعال التی یعتبر فی المؤاخذة علیها قصد الفاعل، فیخرج مثل الإتلاف، فافهم و اغتنم» .

أقول: محصّل مرامه اختصاص حدیث رفع القلم بالافعال التی یعتبر فی ترتب الأثر علیها و ثبوت المؤاخذة بها قصد الفاعل، کالقتل بالنسبة إلی القصاص، أو أخذ الدیة من ماله، و کالانشائیات فی باب العقود و الإیقاعات و أمّا مثل الإتلاف فلا دلالة للحدیث علی عدم ثبوت المؤاخذة به فی ماله؛ لانه لا یعتبر فی ترتب الحکم بالضمان علیه صدوره عن قصد و التفات؛ ضرورة ان إتلاف النائم موجب لضمانه مع وقوعه عن غیر قصد، فیکون إتلاف الصبیّ کذلک.

و لکن یرد اشکال علی الشیخ (قده) بناء علی ما اختاره فی باب

ص:335

الأحکام الوضعیة من عدم کونها مجعولة مستقلة کالأحکام التکلیفیة، بل انّما هی منتزعة عنها و مأخوذة منها، فالزوجیة منتزعة من جواز الوطی و الاستمتاع مثلاً و الملکیة مأخوذة من جواز التصرف المطلق، و الضمان فی باب الإتلاف مثلاً منتزع من لزوم أداء المثل أو القیمة عقیبه، و خلاصة الاشکال: انه إذا لم تکن الأحکام الوضعیة مستقلة بالجعل، بل کانت منتزعة عن التکالیف و متفرعة علیها، فاللازم الالتزام بعدم ثبوتها فی الصبی؛ لعدم ثبوت التکلیف فی حقّه، فاذا لم یکن الصبی مکلّفاً بلزوم أداء المثل أو القیمة عقیب الإتلاف؛ لأنه حکم تکلیفی و هو غیر ثابت فی حقّه، فکیف یکون إتلافه سبباً للضمان، مع ان الضمان منتزع عن التکلیف علی ما هو المفروض؟ بل یمکن توسعة دائرة الإشکال بناءً علی القول المشهور من استقلال الأحکام الوضعیة فی الجعل کالأحکام التکلیفیة أیضاً؛ نظراً الی ان اعتبار الأحکام الوضعیة و جعلها سواء کان جعلاً تأسیسیّاً أو إمضائیاً لما علیه العقلاء و العرف، انّما هو بلحاظ الأحکام التکلیفیة المترتبة علیها، و إلا یصیر لغواً بلا فائدة، فإن اعتبار الزوجیة بین الرجل و المرأة انّما یصح إذا کانت موضوعة لأثر مثل جواز النظر و الاستمتاع و الوطی، و کذا الملکیة فی باب البیع و مثله، و کذا الضمان فی باب الإتلاف مثلاً-، فان الحکم بثبوت الضمان فیما إذا أتلف مال الغیر انّما لا یکون لغواً إذا کان الضمان موضوعاً لوجوب أداء المثل أو القیمة، و بدونه یکون لغوا غیر ملائم للصدور عن العاقل، فضلاً عن الشارع الحکیم.

و حینئذ إذا فرض فی مورد عدم ثبوت الحکم التکلیفی کما فی الصبی

ص:336

الذی هو مفروض البحث، فکیف یصحّ جعل الحکم الوضعی؟ و لو قیل باستقلاله فی الجعل و الاعتبار؟ و قد أجیب عن الاشکال مضافاً الی النقض بالنائم الذی لا شبهة فی ضمانه فی مثل الإتلاف بوجهین:

أحدهما: ان ثمرة جعل الحکم الوضعی فی الصبیّ هو وجوب تفریغ ذمته علی الولیّ، و لا مانع من ان یکون فعل الصبی موضوعاً للحکم التکلیفی الإلزامی علی شخص آخر، کما مرّ فی الروایة (1)الواردة فی جنایته العمدیة الدالة علی ان عمد الصبی خطأ و الدّیة تحملها العاقلة، و فی المقام لا مانع من ان یکون إتلافه سبباً لضمانه، و أثر الضمان وجوب أداء المثل أو القیمة من مال الصبی علی الولیّ.

و الآخر: ان ثمرته ثبوت الحکم التکلیفی علیه بعد بلوغه، مضافاً الی ان من أحکام الضمان جواز الإبراء، و هو ثابت قبل البلوغ، و دعوی انه لم لا یجعل إتلافه سبباً لضمانه بعد البلوغ بحیث یکون الحکم الوضعی ثابتاً بعد البلوغ أیضاً: ؟ مدفوعة مضافاً الی کونها خلاف ظاهر الدلیل إِذ ان مقتضاه ترتب الضمان بمجرد الإتلاف لا الفصل بینهما بان لازم ذلک کون السببیة مجعولة لفعل الصبی، و السببیة ایضاً من الأحکام الوضعیة، فما الفرق بینها و بین الضمان؟ فتدبر، و قد انقدح من جمیع ما ذکرنا تمامیة القاعدة ثبوتاً و إثباتاً.

الجهة الثانیة- فی بیان المراد من القاعدة

و هو کما ظهر مما تقدم فی الجهة الأولی الفرق بین الأحکام التکلیفیة و الأحکام الوضعیة باختصاص الاولی بالبالغین و شمول الثانیة لغیر البالغین ایضاً، فکما ان إتلاف البالغ لمال

ص:337


1- 1) راجع الوسائل 19:307 ب 11 من أبواب العاقلة.

الغیر موجب لضمانه له، کذلک إتلاف الصبیّ غیر البالغ و لو کان فاقداً للتمییز و الشعور، کما انه ظهر مما ذکرنا هناک ان المراد بالأحکام الوضعیة الثابتة لغیر البالغین أیضاً هی الأحکام الوضعیة التی لم یؤخذ فی موضوعها القصد و الالتفات، کالإتلاف و الحیازة و الغصب و الجنابة و سائر الاحداث، و أمّا ما أخذ فی موضوعها القصد کالإنشاء فی باب المعاملات و العقود و الإیقاعات کالبیع و العتق و الطلاق، فلا تکون ثابتة فی حق الصبیّ؛ لما ورد من ان عمده خطأ و قصده کلا قصد، فلا تترتب الزوجیة علی العقد الصادر من الصبی، و لا الملکیة علی إنشائه للبیع، و لا الفراق علی إنشائه للطلاق، و هکذا، فالمراد من الأحکام الوضعیة التی هی محلّ البحث فی المقام غیر هذا النحو من الاحکام.

الجهة الثالثة- فی موارد تطبیق القاعدة،

و هی کثیرة منتشرة فی أبواب الفقه؛ لما عرفت من کون المراد عموم الأحکام الوضعیة من ناحیة، و خصوصها من جهة اختصاصها بما لم یؤخذ فی موضوعها عنوان القصد و الإتلاف، و علیه فمواردها مثل الجنابة الحاصلة له بغیبوبة الحشفة فی أحد الفرجین، و الحدث الحاصل له من أسبابه کالبول و الغائط و النوم و الریح، و الضمان الحاصل فی مورد إتلاف مال الغیر أو غصبه، و الملکیة الحاصلة له بسبب الحیازة أو الإحیاء، و الدیة الثابتة علیه بالإتیان بموجبها المذکور فی کتاب الدیات، و غیر ذلک من الموارد المجعول فیها حکم وضعی مع الشرط المذکور، أو الإضرار بطریق المسلمین أو مثلها، و المناقشة فی بعضها کما ربما یتراءی فی بعض الکلمات، انّما هی لأجل المناقشة فی ثبوته بالنسبة إلی البالغ ایضاً، لا لأجل المناقشة فی خصوص الصبی کما لا یخفی.

ص:338

هذا تمام الکلام فی مسألة عدم شرطیة البلوغ فی الأحکام الوضعیة.

ص:339

ص:340

مشروعیة عبادات الصبیّ و عدمها

اشارة

قد وقع الخلاف بعد الاتفاق علی شرطیة البلوغ فی الأحکام التکلیفیة الإلزامیة مثل الوجوب و الحرمة، و بعد الاتفاق علی اشتراط التمییز فی شرعیة العبادات و صحّتها فی شرطیة البلوغ أیضاً فی صحة العبادة و مشروعیتها، و محل الخلاف هو ان العبادات هل تکون مشروعة فی حق الصبی فیکون له ان یأتی بها بعنوان الإطاعة و الامتثال، فتتصف العبادة بالصحة؛ لکونها واجدة لشرطها، أم لا تکون مشروعة فی حقّه، فلا مجال للإتیان بها بقصد الامتثال و الإطاعة أصلاً، و لو اتی بها مع هذا القصد لا یتحقق الّا التشریع المحرّم فی حق البالغین؟ و فیها جهات من البحث أیضاً:

الجهة الاولی- فی الأقوال و الآراء و الاحتمالات الجاریة فی هذه المسألة و هی کثیرة.

اشارة

ص:341

الأوّل ان عبادات الصبیّ شرعیة

بمعنی کونها مندوبة للصبی، و إن کانت واجبة علی البالغ، و أثر الندب استحقاق الأجر و الثواب الأخروی علی تقدیر إتیانها بقصد الامتثال و نیّة القربة، کما ان المحرمات فی حقه مکروهة، و لو ترکها بقصد الإطاعة و بداعی کونها مکروهة یستحق علی ترکها، الثواب فالحکم المرفوع عن الصبی خصوص الحکم اللزومی من الوجوبی و التحریمی، و إلا فأصل العبادیة الملازم للرّجحان باق بحاله، فالأحکام الخمسة التکلیفیة الاصطلاحیة ثلاثة فی حق الصبی: الاستحباب و الکراهة و الإباحة، فالأوّل شامل للمستحبات، الواجبات و الثانی للمحرمات و المکروهات، و هذا لا ینافی توجه الأمر إلی الولی بعنوان التمرین، لان کون ثواب التمرین للولیّ لا ینافی کون الفعل مما فیه ثواب للطفل الفاعل له، کما لا یخفی، و قد حکی هذا القول عن مشهور الأصحاب (رضوان اللّه علیهم أجمعین) .

الثانی انّ هذه العبادات من الأطفال تمرینیّة صرفة،

و لا یترتب علیها أجر و ثواب من اللّه تعالی بالنسبة إلی الصبیّ؛ لعدم توجه خطاب الیه و لو بنحو الاستحباب أو الکراهة، و لو کان مراهقاً قریب العهد الی البلوغ، و کان واجداً للإدراک و الشعور کاملاً، غایة ما هناک ترتّب الثواب علی عمل الولی و تمرینه و تعویده لکونه مأموراً بذلک و لو بالأمر الاستحبابی، و لا تدخل هذه المسألة فی مسألة الأمر بالأمر بالشیء، حتی ملازم للأمر بالشیء فیصیر عمل الصبی مأموراً به استحباباً؛ و ذلک لان مورد المسألة ما إذا کانت المصلحة قائمة بنفس ذلک الشیء؛ و المولی حیث لا یکون قادراً علی مخاطبة جمیع عبیده مثلاً؛ لعدم حضورهم عنده، یأمر

ص:342

العبد الحاضر بأمر الباقین بإتیان ما تقوم به المصلحة المنظورة للمولی، و أمّا فی المقام فالمفروض ان الغرض من أمر الولیّ لیس تحقق الصلاة من الطفل، بل الغرض تحقق التمرین و التعوید، و فی الحقیقة یکون المأمور به ذلک، و المصلحة قائمة به، الّا ان یقال بعدم تحقق التمرین و العادة بمجرد أمر الولی الطفل بالصلاة مثلاً فإنه إذا لم تتحقق من الطفل الموافقة لأمر ولیه و الصّلاة مکرراً لا تتحقق العادة بوجه، و علیه فالعادة حاصلة بفعل الطفل، فاذا فرض قیام المصلحة بها، ففی الحقیقة یکون فعل الطفل مشتملاً علی المصلحة، لا بعنوان الصلاة بل بعنوان حصول الاعتیاد، لکنه یرجع ایضاً الی عدم کون الصلاة ذات مصلحة، فلا تکون شرعیة، فتدبّر.

الثالث ان عبادات الصبیّ شرعیة تمرینیّة لا انّها شرعیة أصلیّة،

و المراد بذلک انّ إتیان الصبی لها مطلوب للشارع لا نفسها، بل لحصول التعود و التمرن علی العمل بعد البلوغ، فصلاة الصبی فیها جهتان: جهة کونها صلاة و هذه الجهة ملغاة فی الصبیّ لا فرق بین کونها صلاة أو قیاماً أو نوماً أو نحو ذلک، فی انه لا رجحان فیها بالنسبة إلیه و لا یترتب علیها أجر من هذه الجهة، و جهة کونها تعوّداً علی شیء یکون مطلوباً بعد البلوغ، و إن کان لاغیاً الآن فی حدّ ذاته، و هذه الجهة مطلوبة للشارع و یترتب علیها الثواب، ففی الحقیقة یکون الطفل مأموراً بالتمرّن و التعوّد و یثاب علیه، لا علی أصل العبادة، حکی هذا القول عن جماعة من المتأخرین منهم الشهید الثانی، و ربما یظهر من المحکی عن بعضهم تنزیل کلام المشهور ایضاً علی ذلک لا الشرعیة بالمعنی الأوّل.

و الثمرة بین هذا القول و القول الثانی بعد اشتراکهما فی بطلان عبادة

ص:343

الصّبی، و عدم إمکان رعایة قصد الامتثال فیها، لعدم رجحانها بالنسبة إلیه أصلاً تظهر فی ترتب الثواب و حصول الأجر للصبی و عدمه، فإنه بناء علی القول الثانی یکون الصّبی بعیداً عن الثواب بمراحل؛ لعدم تعلق خطاب به بوجه، غایة الأمر کون الولیّ مستحقّاً للثواب إذا أمر الصبی بالعبادة و حمله علیها، و أمّا بناء علی القول الثالث فالصبی یستحق الثواب باعتبار التمرّن و التعوّد لکونه مأموراً به و لا ینافی استحقاق الولی من جهة موافقة الأمر بالتمرین و التعوید، نعم لا یستحق الصبی ثواباً من جهة أصل العبادة و تحقق الصلاة و الصیام و نحوهما.

و أمّا الفرق بین هذا القول و القول الأوّل المبنیّ علی الشّرعیة الأصلیة بعد اشتراکهما فی استحقاق الصبی للثواب و الأجر، غایة الأمر ان استحقاقه له فی الأوّل انّما هو لأجل تحقق العبادة المطلوبة منه و لأجل الإتیان بالصلاة الصحیحة مثلاً و فی الثانی انّما هو لأجل التمرّن و التعوّد لا لحصول الصلاة فهو ان العبادة بناء علی القول الأوّل تکون متصفة بالصّحة لاحتوائها جمیع الشرائط المعتبرة فیها، فیجوز ان تقع نیابة عن الغیر حیّاً کان أو میّتاً، و سواء کانت فی مقابل الأجرة أو بدونها، و أمّا بناء علی القول الثالث فلا تتصف بالصّحة أصلاً؛ لعدم کونها ذات مصلحة و مطلوبة للشارع، و الغرض حصول التمرن و التعود، و هو یتحقق بالمباشرة و لا یکون قابلاً للنیابة بوجه، و لا یکون فی أصل الفعل ثواب قابل للرجوع الی شخص آخر، فلا یمکن ان تقع نیابة عن الغیر مطلقا.

و ربما یقال بظهور الثمرة فی نیة العبادات الواجبة، فعلی التمرین ینوی الوجوب، و علی الشرعیة ینوی الاستحباب؛ لانه بناء علیها یکون جمیع

ص:344

العبادات مستحبة بالنسبة إلی الصّبی.

و لکن الظاهر انه بناء علی التمرین لا یلزم نیّة الوجوب؛ لانه و إن کان بناء علیه یکون المطلوب حصول صورة العمل بالنحو الذی یقع من البالغ، الّا ان لزوم نیة الوجوب ممنوعة؛ لأن الغرض حصول التمرین العملی لیسهل علیه الإتیان به بعد البلوغ، و لا دخالة للنیّة فی ذلک فتدبّر.

الرّابع ان عبادات الصّبی شرعیة

فیها ثواب أصل العمل مثل ثواب عمل البالغ، لکنه فی الصبی یرجع الثواب إلی الولیّ و لا یستحقّه الصغیر بوجه.

الخامس التفصیل بین العبادات الواجبة کالفرائض الیومیة و بین العبادات المستحبة

کصلاة اللیل، بالقول بالشرعیة فی الثانیة و عدمها فی الأولی.

الجهة الثانیة- فی أدلة الأقوال و الاحتمالات المذکورة فی الجهة الأولی،

فنقول:

امّا دلیل القول الثانی و هو عدم المشروعیة و کون عباداته تمرینیة صرفة لا یترتب علیها ثواب بالنسبة إلی الصغیر أصلاً فهو مضافاً الی أصالة عدم ترتب الثواب الّا بالدلیل و هو منتف، و انصراف الأدلة العامة الواردة فی التکالیف مطلقا عن الصّبی و اختصاصها بالبالغ، و وضوح تقید بعض الاحکام قطعاً بالبلوغ کالواجبات و المحرّمات من جهة الإیجاب و التحریم حدیث رفع القلم عن الصبی المعروف المعتمد علیه عند العامة و الخاصة، و تقریب دلالته: انّ ظاهر الحدیث رفع قلم مطلق التکلیف أعم من الوجوب و الاستحباب و الحرمة و الکراهة بل المباح ایضاً، فالمعنی: ان

ص:345

القلم الجاری الموضوع علی المکلفین المتضمن لثبوت التکلیف علیهم مرفوع عن الصبی حتی یحتلم، و لیس فیه اشعار فضلاً عن الدلالة بأن المرفوع خصوص قلم التکلیف الإلزامی وجوباً أو تحریماً، بل المرفوع جمیع الأحکام الخمسة التکلیفیة الثابتة علی البالغ، حتی الإباحة بعنوان انها حکم شرعی جری به القلم.

و منه یظهر انه لو نوقش فی انصراف الأدلة العامة عن الصبی، و قیل: إن مقتضی عمومها الشمول له ایضاً لکان مقتضی قاعدة التخصیص حملها علی خصوص البالغ، لان حدیث رفع القلم بمنزلة المخصص لتلک الأدلة، و یوجب اختصاصها بالبالغ.

و لو فرض کون النسبة بین بعض تلک الأدلة و بین حدیث رفع القلم عموماً من وجه کقوله: من قرأ سورة الفاتحة فله کذا و کذا من الأجر فإن النسبة بینه و بین الحدیث عموم من وجه، لاختصاص هذا القول بقراءة سورة الفاتحة، و عمومه بالنسبة إلی الصبی، و اختصاص حدیث الرفع بالصبی و عمومه لغیر قراءة سورة الفاتحة، فلا شک فی عدم تحقق التعارض، لان حدیث رفع القلم حاکم علی ذلک القول، کحکومة حدیث الرفع المعروف علی الأدلة الأوّلیة، کما لا یخفی.

فالنتیجة علی جمیع التقادیر لزوم الأخذ بحدیث رفع القلم، و الحکم بعدم ثبوت شیء من التکالیف الخمسة فی حقّ الصبیّ، و الثواب الموجود فی البین لا یرتبط بالصبی أصلاً، بل بالولیّ بعنوان کونه مأموراً بتمرینه و تعویده، فعباداته لا تکون شرعیة بل تمرینیة صرفة.

و یظهر الجواب عن دلیل هذا القول بما سنذکره من أدلة القول

ص:346

بالمشروعیة الأصلیة فنقول:

امّا ما یدلّ علیها فأمور متعدّدة:

أولها: ما دل من العمومات فی الکتاب و السّنة علی ترتب الثواب علی الافعال کقوله تعالی مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (1)و قوله (علیه السلام) : من صام یوم کذا فله من الأجر کذا و کذا؛ فان سیاقها مثل سیاق من أتلف مال الغیر فهو له ضامن، فکما ان الثانی لا یختص بالبالغ؛ لما عرفت من عدم اشتراط الأحکام الوضعیة بالبلوغ، کذلک لا ینبغی دعوی اختصاص الأوّل بالبالغ، و دعوی الانصراف ممنوعة، و علی تقدیره لا فرق بین المقامین کما هو ظاهر.

ثانیها: عموم الأدلة الواردة فی التکالیف الشامل للصبی أیضاً، و لا مجال لادعاء الانصراف فیها أصلاً، و القدر المسلم ثبوت التخصیص بالنسبة إلی الأحکام الوجوبیة و التحریمیة، من جهة عدم ثبوت إلزام من ناحیة الشارع علی الصبی غیر البالغ، و أمّا ثبوت التخصیص فی أدلة سائر الأحکام فغیر حاصل، و فی أدلة الحکمین أیضاً بالنسبة إلی المشروعیة و الرجحان زائداً علی اللزوم.

و أمّا حدیث رفع القلم فإن أخذ بمقتضی ظاهره فاللازم الحکم بعدم ثبوت الأحکام الوضعیة فی حق الصبی أیضاً، لأن القلم المرفوع أعم من قلم الحکم التکلیفی و الحکم و الوضعی؛ لان الضمان فی مورد الإتلاف مثلاً مجعول کالوجوب فی مورد الصلاة، و لا مجال لدعوی التخصیص فیه؛ لعدم ملاءمة سیاقه للتخصیص أصلاً، فاللازم ان یقال: ان المرفوع فی الحدیث

ص:347


1- 1) سورة الأنعام الآیة:16.

هو قلم المؤاخذة و العقوبة الأخرویة و الدنیویة ایضاً، کما مرّ فی العبارة المتقدمة عن الشیخ (قده) ، و لازمه عدم ثبوت التکلیف اللزومی فی حقّه، و عدم ترتب استحقاق العقوبة علی ترک الواجب و فعل الحرام، فیقتصر فی تخصیص عمومات أدلة التکالیف علی هذا المقدار.

و دعوی ان لازم ذلک عدم تحقق التخصیص فی أدلة المستحبات و المکروهات فقط، و أمّا أدلة الواجبات و المحرمات فبعد عروض التخصیص لها لا محالة کیف یستکشف مشروعیة عبادة الصبی مثل الصلاة و رجحانها حتی یحکم بصحتها، لان الدلیل الکاشف هو تعلق الأمر بها، و بعد انحصار دائرة الأمر بالبالغ، فلیس هنا ما یکشف عن رجحانها بالنسبة إلی الصبی، و بعبارة اخری: مدّعی القائل بالمشروعیة کون الواجبات فی حق البالغین مستحبات فی حق غیر البالغین، و کون المحرمات فی حق الطائفة الأولی مکروهات فی حق الطائفة الثانیة، و حینئذ یسأل عنهم: انه مع تخصیص أدلة الواجبات و المحرمات بحدیث رفع القلم لا یبقی ما یدل علی استحباب الاولی و کراهة الثانیة؛ لأن الدلیل کان منحصراً بدلیل الواجب و المحرم، و المفروض عروض التخصیص لهما، فمن این یستکشف رجحان الواجب و استحبابه و حزازة الحرام و کراهته بالنسبة إلی الصبیّ؟ نعم أدلة المستحبات و المکروهات لمّا لم یعرض لها التخصیص کما هو المفروض تکون باقیة بحالها.

هذه الدعوی مدفوعة بما قیل أو یمکن ان یقال فی جوابها من أمور متعدّدة:

الأوّل ان مقتضی طبع الطلب الصادر من المولی هو الوجوب؛

ص:348

لحکم العقل بلزوم إطاعته، الّا ان یأذن المولی فی الترک، و الاذن فی الترک کما یحصل بالتصریح به یحصل أیضاً بعناوین أخری مثل رفع العسر و الحرج، و رفع قلم الإلزام، فحدیث رفع القلم بمنزلة الاذن فی ترک الواجبات، فقهراً یکون مفاد الأدلة الأولیة فی حق الصبی بعد ورود الاذن فی الترک بلسان رفع القلم هو الاستحباب؛ لأنه لا یرفع الخطاب الوجوبی من رأس، بل یأذن فی الترک، فیتحقق الاستحباب لا محالة.

الثانی انه لا مانع مع الشک من الرجوع الی استصحاب بقاء الرجحان الذی کان متحقّقاً فی ضمن الوجوب و شک فی بقائه لارتفاع الوجوب قطعاً، و لا یرد علیه ان إثبات الاستحباب الذی هو فرد من القدر الجامع باستصحاب بقاء القدر الجامع یکون مثبتاً، و هو لا یجری علی ما هو التحقیق من عدم جریان الأصول المثبتة؛ و ذلک لانه لا حاجة الی إثبات الاستحباب بعنوانه، بل یکفی بقاء القدر الجامع فی المشروعیة و الرّجحان الموجب لصحة العبادة.

هذا، و لکن هذین الجوابین لا یمکن ان یکونا موردین لنظر المشهور القائل بمشروعیة عبادة الصبی؛ لکون الجواب الثانی مبنیّاً علی جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی، و لم یعلم ذهاب المشهور الی جریانه، کما ان الجواب الأوّل مخالف لظاهرهم قطعاً، فإنهم یقولون بانقسام الطلب فی نفسه الی قسمین وجوبی و استحبابی، کما انهم یقولون بدلالة هیئة افعل فی نفسها علی الوجوب، لا ان الوجوب مستفاد من حکم العقل و ان الاستحباب مستفاد من الاذن فی الترک، فلا بدّ من الجواب علی طبق نظر المشهور.

ص:349

و الظاهر ان یقال: انه بناء علی ما ذکرنا فی معنی حدیث رفع القلم من کون المرفوع قلم المؤاخذة و العقوبة و مرجعه الی عدم استحقاق العقوبة علی ترک الواجب و فعل الحرام، لا بد ان یقال بثبوت التکلیف فی حق الصبی مطلقاً، و لکنه لا یترتب علی المخالفة مؤاخذة و عقوبة، فتصرف الحدیث فی الأدلة العامة لیس کتصرف المخصّص فی العام، بنحو یوجب قصر مفاده و لو فی عالم الإرادة الجدیة علی غیر مورد الخاص، فان المقام لیس من هذا القبیل، بل الحدیث یخصّص لازم التکلیف لا نفسه، و استلزام تخصیص اللازم لتخصیص الملزوم ممنوع، لأن الملازمة غیر دائمیّة، و التعبیر عن العبادات الواجبة بالاستحبابیة فی حق الصبی، انما هو بلحاظ عدم ترتب ما یترقب من الوجوب؛ لعدم استلزامها لاستحقاق العقوبة و المؤاخذة بوجه، الّا ان یقال: ان الحدیث المتضمن للرفع فی مقام التشریع لا یکاد یرفع المؤاخذة أو استحقاقها أصلاً فتدبّر، و هذا الذی ذکرنا من المشروعیة لا یمنع من قیام الدلیل علی البطلان فی بعض المقامات، مثل ما ورد من عدم أجزاء حج الصبی المستطیع عن حجة الإسلام، مع ان عدم الاجزاء لا یلازم البطلان، کما لا یخفی.

و بهذا یتحقق الفرق بین المقام و بین قاعدة نفی الحرج، التی اخترنا فیها بطلان العبادة الحرجیة، و وجه الفرق ان لسان قاعدة نفی الحرج لسان نفی الجعل رأساً، و مع عدم الجعل لا مجال للحکم بصحة العبادة الحرجیة، و لسان المقام لسان رفع قلم المؤاخذة و العقوبة، لا رفع قلم الجعل و التکلیف، فتدبّر.

ثالثها: ان العقل مستقلّ بحسن بعض الافعال کالاحسان، و ردّ

ص:350

الأمانة إلی مالکها، و حفظ النفس المحترمة من الهلاک، و غیر ذلک من المستقلاّت العقلیة، و لا ریب عند العقل فی استحقاق الثواب و ترتب الجزاء علیها، من دون فرق بین البالغ و الصبی، خصوصاً إذا کان مراهقاً، و قد بقی مقدار شهر أو یوم أو ساعة إلی بلوغه الشرعی، و لا مجال لعروض التخصیص لما یستقل به العقل، و علیه فاللّازم بقاعدة الملازمة استحباب هذه الأمور شرعاً، و ترتب ثواب الاستحباب علیها، و بعدم القول بالفصل بین المستقلاّت العقلیة و غیرها، یتمّ المطلوب و یثبت الاستحباب فی سائر الواجبات ایضاً.

و یرد علیه: ان لازم ذلک الالتزام باستحقاق العقوبة فی ما یستقل العقل بقبحه کالظلم و منع المالک من ودیعته، و قتل النفس المحترمة، و غیر ذلک من المستقلات العقلیة، و الظاهر انه لا یلتزم به المستدلّ بوجه، لأن الصبی لا یؤاخذ بشیء من ذلک أصلاً من جهة الشرع کما لا یخفی.

رابعها: الاعتبار العقلی؛ فإنه من المستبعد جدّاً ان یکون هناک فرق بین ما قبل البلوغ بساعة و ما بعده؛ فان المراهق المقارب للبلوغ جدّاً، لا ریب فی انّه بمکان من الإخلاص و العبودیة للّه تعالی کما بعد البلوغ، بل فی الحالة الأولی ربا یکون أشد من الحالة الثانیة، فیبعد کونه مأجوراً علی الثانیة دون الاولی.

و یرد علیه: ان ذلک مجرّد استبعاد لا یکاد یصلح لان یکون دلیلاً، و یجری هذا الاستبعاد فی جمیع التقدیرات الشرعیة؛ فإنه من البعید ان یکون الماء أقل من الکرّ بمقدار قلیل و مع ذلک لا یترتب علیه شیء من آثار الماء الکرّ أصلاً، أو یصلّی الإنسان قبل الوقت عمداً بلحظة یدخل

ص:351

الوقت بعدها، و مع ذلک تکون صلاته باطلة، و هکذا سائر التقدیرات.

خامسها: ان الأمر بالأمر بالشیء أمر بذلک الشیء، کما قد حقق فی الأصول.

و الجواب عنه: ما مرّ فی الجهة الاولی فی تشریح القول الثانی من الأقوال الموجودة فی المسألة و لا نعید.

و هناک وجوه أخری ترجع الی بعض الوجوه المذکورة، أو استحسانات غیر صالحة لأن تکون مدرکاً و دلیلاً، و قد انقدح تمامیة الوجهین الأولین للاستدلال بهما علی المشروعیّة الأصلیّة.

و أمّا دلیل القول الثالث و هی الشرعیة التمرینیّة، فهو مرکب من أمرین: أولهما عدم شرعیة العبادات بعناوینها التی تعلقت الأوامر بها، لحدیث رفع القلم، الذی یدل علی رفع قلم جمیع التکالیف و الأحکام الخمسة، و یکون مخصّصاً للأدلة الأولیة العامّة، و ثانیهما الأخبار الکثیرة الدالة علی استحباب التمرن للعبادات و التعوّد علیها، و لا یرتفع هذا الاستحباب بحدیث رفع القلم؛ لان مفاده ارتفاع کل ما هو جار علی البالغ عن الصّبی، فرجحان أصل العمل مرفوع؛ لثبوته علی البالغ، و أمّا رجحان التمرّن فلا یکون فی البالغ حتی یکون مرفوعاً عن الصّبی، فیصیر الحاصل ثبوت ثواب التمرّن لا أصل العبادة.

و الأمران کلاهما ممنوع و إن کان منع أحدهما کافیاً فی إبطال الاستدلال:

امّا الأوّل؛ فلما عرفت فی أدلة المشروعیّة من ان حدیث (1)رفع القلم

ص:352


1- 1) الوسائل 1:32 ب 4 من أبواب مقدمات العبادات ح 11.

لا یرفع المشروعیة حتی فی الواجبات.

و أمّا الثانی، فمضافاً الی ان حدیث الرفع لو کان مفاده رفع الحکم الاستحبابی أیضاً، لکان مقتضاه نفی استحباب التمرن بالنسبة إلی الصّبی أیضاً، و الفرق بینه و بین سائر الأحکام الاستحبابیة بعدم کونه ثابتاً فی حق البالغ دونها، لا یوجب اختصاص الحدیث بالثانیة و عدم الشمول للاوّل، یرد علیه ان مفاد تلک الاخبار ثبوت الاستحباب بالنسبة إلی الولیّ و إن المستحب تمرینه و تعویده للصبی، و الثواب انّما یترتب علی عمله، فلا یکون فی فعل الصبی ثواب راجع إلیه أصلاً، إلّا إذا رجع الأمر الی ما قلنا من المشروعیة الأصلیّة.

و أمّا دلیل القول الرّابع فهو أمران:

أولهما: ان الطفل من جهة عدم کمال عقله، انما یکون المحرک و الداعی له الی العمل تمرین الولیّ و تشویقه و إجباره، و حیث ان المباشر ضعیف یکون السبب هو العمدة و هو الولیّ، و یکون الطفل بمنزلة الآلة، نظیر ما ذکروه فی باب المعاملات من جواز کون الطفل کالآلة و إن کان عاقلاً قاصداً مختاراً.

ثانیهما: ما ورد فی باب الخبر فی باب الحج فی حجّ الولیّ بالطفل الممیز، فإنه قال: ان الولیّ إذا فعل ذلک و تمم الاعمال کان له أجر حجّة، و الظاهر منه ان الولیّ کأنه فعل حجّا و هذا الفعل فی الحقیقة فعله فیکون، للولی فی کل مقام یأتی الصبیّ فیه بعمل ثواب ذلک العمل.

و یرد علی الأوّل مضافاً الی کونه أخص من المدعی؛ لانه ربما یأتی الطفل بالعبادة و یکون الداعی له إلی إتیانها تشخیص نفسه و درک شخصه

ص:353

من دون ان یکون هناک ولیّ أو تمرین منه أو تأثیر لتشویقه أو إجباره کما لا یخفی ان ضعف المباشر انما یکون فیما إذا کان العمل مسنداً الی السبب و کان المباشر بمنزلة الآلة، و من الواضح عدم کون الصبی فی المقام کذلک؛ فان صلاته لا تسند إلّا إلیه، و کذا سائر عباداته و أفعاله، و التشویق بل الإجبار لا یوجب سلب الاستناد، و قد ذکرنا فی باب الإکراه: ان الإکراه لا یقتضی عدم استناد العمل الی المکره بالفتح فشرب الخمر إذا وقع اکراها یکون المتصف به هو المکره دون المکره بالکسر حتی یترتب علی عمله الحدّ.

نعم، قد عرفت انه یترتب علی عمل الولی ثواب بلحاظ الأخبار الآمرة إیاه بتمرین الصبی و تعویده علی مثل الصلاة و الصوم.

و برد علی الثانی: ان ما ورد فی الخبر انّما هو ثبوت ثواب حجّة للولیّ، و لا دلالة له علی خلو عمل الصبی و حجّه من ثواب و أجر، و علیه فلا یمکن ان یستفاد منه انّ الولیّ کأنه فعل حجّا بمعنی عدم استناد الحج إلی الصبی و عدم وقوع هذه العبادة منه فتدبّر.

و أمّا دلیل القول الخامس، فهو: ان حدیث رفع القلم انما یرفع خصوص الاحکام اللزومیة من رأس، و یحکم بعدم شمول الأدلة العامة لها بالنسبة إلی الصبی، فلا یبقی لها مشروعیة، و أمّا سائر الاحکام، فلا دلالة للحدیث علی رفعها أصلاً، فهی باقیة علی عمومها و شمولها للصّبی، و هذا القول و إن لم یعرف له قائل، لکنه لیس ببعید؛ نظراً الی ان الجمع بین کون المرفوع فی الحدیث هو التکلیف لا المؤاخذة، و کون وقوع الحدیث فی مقام التفضّل و الرأفة و الامتنان، یقتضی عدم کون العبادات الواجبة مشروعة فی

ص:354

حقه، و بقاء العبادات المستحبة علی استحبابها، الّا ان یقال: إن سلب المشروعیة عن العبادات الواجبة لا یلائم التفضل و الرأفة، بل المناسب له سقوط اللزوم و بقاء المشروعیة و هذه أیضاً جهة أخری موجبة لعدم منافاة الحدیث للمشروعیة، زائدة علی الجهات المذکورة فی دلیل القول المشهور، و یتحصّل من جمیع ما ذکرنا ان الأظهر ما علیه المشهور.

الجهة الثالثة- فی موارد تطبیق قاعدة المشروعیة و هی کثیرة:

منها: الطّهارات الثلاث؛ فإنها بناء علی القول بالمشروعیة تکون مستحبة علی الصبی، کما انّها مستحبة علی البالغ أیضاً، غایة الأمر اتصافها فی حق البالغ بالوجوب الغیری أیضاً، بناء علی القول بوجوب المقدمة، و فی حق الصبی لا تتجاوز عن الاستحباب المتعلق بأنفسها، و تتصف بالاستحباب الغیری أیضاً، بناء علی ذلک القول، فقبل دخول الوقت تکون مستحبة نفساً، و بعده تتصف بالاستحباب الغیری أیضاً، و لا مانع من الجمع، لکون الحکمین طولیین لا عرضیین، و بعد اختلاف المتعلقین، و التحقیق فی محلّه.

و منها: جمیع العبادات الواجبة و المستحبة، فإنها بأجمعها مستحبة علی للصبی، فالصلاة مع جمیع أذکارها و أورادها و مقدماتها و مؤخّراتها مستحبة له و الصوم الواجب و المندوب مستحب له و کذا الحج و غیرها من العبادات و قد عرفت ان المکروهات مکروهة له ایضاً کما ان المحرمات أیضاً مکروهة له.

و منها: ما أشرنا إلیه من انه بناء علی المشروعیة لا مانع من استیجاره للعبادة، فیأتی بها نیابة عن الحیّ، کما فی باب الحج، أو المیت

ص:355

کما فی مثل الصلاة و الصیام؛ فإنه بناء علیه یکون عمله قابلاً لتحقق الاستیجار علیه، و شخصه صالحاً لأن یکون نائباً فی العبادة، و لکن مع ان المشهور قائلون بالمشروعیة، و لازمها صحة النیابة و الاستیجار، حکی عن جمع کثیر من أعاظم الفقهاء الخلاف و الحکم بعدم صحة نیابته، و لم یعرف له وجه وجیه بعد عدم ورود دلیل خاص فی المسألة.

و الفرع الذی ینبغی التعرض له فی الختام هو نذر الصبی عبادة غیر مالیة کصلاة اللیل مثلاً و إن هذا النّذر هل هو صحیح أم لا؟ الظاهر هو الثانی، لأنه مضافاً الی انعقاد الإجماع ظاهراً علی اشتراط البلوغ فی انعقاد النذر و صحته نقول: انّ هذا النذر إذا کان لغرض إیجاب العمل علی نفسه، نظراً الی ان حکمه وجوب الوفاء به، فهذا الغرض لا یترتب علیه؛ لان الحکم الوجوبی مرفوع عن الصّبی أیّاً ما کان، و إن کان لغرض آخر، فلا یکون هناک غرض آخر متصور، و بالجملة إذا لم یؤثر النذر أثراً زائداً فلا معنی لانعقاده و صحّته، الّا ان یقال: ان تعلق النذر به یوجب تأکد استحبابه و هو یصیر داعیاً الی العمل به، فان النذر یوجب ان یکون الوفاء به مستحبّاً بالنسبة إلیه، فتصیر صلاة اللیل بعنوانها مثلاً مستحبة نفساً، و الإتیان بها لکونه وفاء بالنذر مستحباً آخر فیتحقق استحبابان، فیتأکّد الداعی إلی الإتیان بها بحیث لو لم یکن هنا نذر لما کان استحباب صلاة اللیل بنفسه و بمجرده داعیاً له إلی الإتیان بها کما لا یخفی، فالعمدة حینئذ هو الإجماع، أو یقال: ان النذر من الإنشائیات و یعتبر فیها القصد، و قد عرفت ان قصد الصّبی کلا قصد، فلا یتحقق منه الإنشاء.

هذا تمام الکلام فی قاعدة مشروعیة عبادات الصبی.

ص:356

قاعدة أماریّة الید

اشارة

و هی ایضاً من القواعد الفقهیة المعروفة، و تحقیق الکلام فیها یقتضی البحث فی جهات:

الجهة الاولی- فی المراد من الید فی هذه القاعدة،

و إن الید التی تکون موضوعاً للاحکام و الآثار عند العقلاء، و قد وقع التعبیر بها فی بعض النصوص الواردة عن العترة الطاهرة علیهم آلاف الثناء و التحیّة ما ذا أرید بها؟ فنقول:

الظاهر ان المراد بها هو الاستیلاء الخارجی و السلطة الفعلیّة علی شیء خارجاً، و التعبیر عن الاستیلاء بالید لأجل کونه ملازماً للید بمعنی الجارحة المخصوصة، غایة الأمر اختلاف مناشئ الاستیلاء و تعدّد مبادیه باختلاف الموارد و الأشخاص، فالاستیلاء علی الخاتم مثلاً انما هو بکونه فی ید المستولی و کونه محیطاً بإصبعه أو کونه فی جیبه أو صندوقه مثلاً-

ص:357

و الاستیلاء علی الدار انما هو بکونه متصرفاً فیها بما شاء من التصرف، کما ان الاستیلاء علی الأراضی انما هو بالذرع و الغرس فیها و الاستیلاء علی الدکان انما هو بالکسب و التجارة فیه، أو بان یکون بابه مغلقاً و مفتاح فی یده، و هکذا، کما أن الاستیلاء یختلف باختلاف الأشخاص، فاستیلاء أحد الرّعیة لا یتجاوز حدود داره و عقاره مثلاً و أمّا السلطان فهو مستول علی الدولة بأسرها، فالتصرف فی شیء من أراضیها و غیرها و لو کان هی القطعة من السماء المختصة بها المعبر عنها بالحریم الفضائی، تصرف فیما هو تحت یده و استیلائه.

نعم ربما یتزاحم بعض الجهات الموجبة للاستیلاء مع البعض الأخر، کما إذا کان أحد الشخصین راکباً علی الدابة و زمامها بید الأخر، و فرض ادعاء کل منهما ملکیة تمامها، و لا بدّ حینئذ من الرجوع الی العرف، و انه هل یحکم بتقدم أحد الاستیلاءین فهو، و إلا یسقط کلاهما عن الاعتبار.

و بالجملة لا شبهة فی ان المراد بالید هو الاستیلاء الفعلی و السلطة الخارجیة الملحوظة عند العرف و العقلاء، و مجرّد القدرة علی تحصیل هذا الاستیلاء لا یوجب تحقق الید.

و دعوی ان الید بهذا المعنی تارة تکون مسببة عن الملکیة، کما فی موارد البیع و الصلح و الإرث الذی هو سبب قهری، و أخری تکون سبباً لحصولها، کما فی باب الحیازة، مدفوعة بأنه ان کان المقصود من هذه الدعوی کون الید عبارة أخری عن الملکیة التی هی أمر اعتباری، فیرده مضافاً الی منع اقتضاء السببیة و المسببیة لذلک کما هو واضح ان المراد بالید کما عرفت هو الاستیلاء الخارجی المعتبر عند العرف المتوقف علی

ص:358

مباد واقعیة و مقدمات خارجیة و هو یغایر الملکیة التی هی أمر اعتباری محض؛ فان الاستیلاء و إن کان امراً اعتباریّاً و لا مجال لدعوی کونه من الأمور التکوینیة؛ ضرورة ان ما یکون فی الخارج هو تصرف المستولی علی الدّار مثلاً بما شاء، الّا ان کون هذا التصرف استیلاء و یداً علیها منوط باعتبار العقلاء، بمعنی ان العرف یعدّ ذلک یداً و استیلاء، فالمقام نظیر الفوقیة و التحتیة التی هی من الأمور الاعتباریة غایة الأمر له مباد خارجیة، و إن کان المقصود انحصار دائرة الید بموارد ثبوت الملکیة سبباً أو مسبباً، فمن الواضح ایضاً خلافه؛ لانه ربما یتحقق غصباً أو بصورة التصرف فی مال الغیر بغیر إذنه، غایة الأمر ان الید التی هی موضوع القاعدة کما سیأتی عبارة عن الید المشکوکة التی لم یعلم اقترانها بالملکیة أو الاذن من المالک، و یحتمل کونها غاصبة، فلا مجال للمناقشة فی ان المراد بالید نفس الاستیلاء الخارجی المتحقق عند العرف و العقلاء.

ثمّ انه ربما یتحقق تعدد الید و الاستیلاء بالنسبة الی مال واحد و شیء فأرد، کالشریکین أو الشرکاء فی دار واحدة، و علیه فمقتضی قاعدة أماریة الید الحکم بثبوت الملکیة لهما أو لهم بنحو الشرکة و الإشاعة، و سیأتی الکلام فیه مفصّلاً إن شاء اللّه تعالی.

کما انه لا شک فی ان ید الوکیل إذا اعترف بالوکالة تکون ید الموکّل، و هکذا غیر الوکیل کالودعی و المستأجر و المستعیر و المرتهن و أشباههم.

الجهة الثانیة- فی مدرک القاعدة و مستندها

اشارة

و هو أمور:

الأوّل بناء العقلاء من جمیع الملل و الأمم،

من غیر فرق بین المتدینین منهم و غیرهم، علی اعتبارها و کونها امارة عندهم لملکیة ذی

ص:359

الید، و لا شبهة فی ثبوت هذا البناء و تحقق هذه السیرة؛ فإنهم یرتبون آثار الملکیة علی ما فی أیدی الناس و لا یتفحصون عن انه هل هو ملک لهم أم لا، بل یجعلون الید و الاستیلاء الخارجی امارة علی الملکیة و لا یعتنون باحتمال کونها یداً عادیة غیر مالکیة.

و ما ذکرنا من الأماریة لیس لأجل استحالة، ان یکون للعقلاء تعبد فی أمورهم حتی تمنع الاستحالة بل لأجل ان الأصل و التعبد مرجعه الی البناء علی ما هو مقتضی الأصل فی محلّ الشک و مورد الشبهة، مع انه من الواضح ان اعتبار الید عند العقلاء لیس بهذا النحو؛ ضرورة انهم لا یبنون علی الملکیة مع الشک فیها، و لا یتعبدون بالملک و آثاره مع احتمال خلافه، بل احتمال الخلاف ملغی عندهم، لا یعتنون به أصلاً، و بالجملة لا مجال للإشکال فی کون الید فعلاً عند العقلاء من الأمارات، و لا ننکر إمکان ان یکون بحسب الأصل أصلاً تعبدیا مجعولاً لأجل تحقق اختلال فی النظام أو عدم حفظ السوق بدون اعتبارها، لکن هذا الإمکان لا ینافی کونه بالفعل یعامل عند العقلاء معاملة الامارة الکاشفة الموجبة لإلغاء احتمال الخلاف.

و هذا المقدار الذی هو عبارة عن ثبوت الأماریة عند العقلاء یکفینا فی مقام الاستدلال و الاستناد، و لا یلزم التفحص و التفتیش عن ملاک الطریقیة عندهم، و انه هل هو الغلبة أو شیء آخر، مضافاً الی انه لا فائدة فیه؛ لعدم اقتضاء الفحص للوصول إلی إدراک الواقع و کشف الحقیقة کما لا یخفی.

ثمّ ان الظاهر عدم تحقق ردع من الشارع عن هذه الطریقة العقلائیة،

ص:360

و لو قیل بعدم کفایة عدم ثبوت الردع، بل بالافتقار إلی الإمضاء من ناحیته، نقول: ان الرّوایات المتکثرة الآتیة صالحة للإمضاء، و تأکید تلک الطریقة و إدخالها فی محیط الشرع.

الثانی الإجماع المحقق و الاتفاق علی اعتبار ملکیة ذی الید لما فی یده،

و لا شبهة فی تحقق هذا الإجماع، الاّ انه لا یصلح ان یکون حجّة برأسه و دلیلاً مستقلا؛ لانه بعد وجود مدارک متعددة و لا سیّما روایات متکثرة فی المسألة و احتمال استناد المجمعین إلیها، لا یبقی للإجماع أصالة و لا کاشفیة، فلا یکون دلیلاً فی مقابلها، کما أشرنا إلیه مراراً.

الثالث الروایات المتکثرة التی تستفاد منها القاعدة

اشارة

و هی علی ثلاث طوائف:

الطّائفة الأولی ما یدل بظاهره علی اعتبار الید بنحو الأماریّة

کموثقة (1)یونس بن یعقوب عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی امرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة، قال: ما کان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما کان من متاع الرجال و النساء فهو بینهما، و من استولی علی شیء منه فهو له (2).

و الإشکال فی سند الرّوایة من جهة الزّبیری مدفوع بان الظاهر باعتبار ملاحظة روایاته کونه ثقة فی نقل الرّوایة، کما ان دلالتها علی اعتبار الاستیلاء و الید و کونها طریقاً الی ثبوت الملک واضحة؛ فإن الحکم باختصاص متاع النساء بهن، انما هو لأجل کون ذلک امارة علی یدها،

ص:361


1- 1) الوسائل 17:525 ب 8 من أبواب میراث الأزواج ح 3.
2- 2) الوسائل أبواب میراث الأزواج، الباب الثامن، ح 3.

فهو امارة علی الامارة، کما انّ اشتراکهما فی ما کان مشترکاً بینهما، انما هو لأجل کشف ذلک عن ثبوت الید لهما معاً، فالجملتان الأولیان فی الروایة تدلان علی وجود الید و ثبوتها، غایة الأمر ثبوتها فی الأولی للمرأة، و فی الثانیة للرجل و المرأة معاً، و الجملة الأخیرة تدل علی أماریة الید و کون الاستیلاء دلیلاً علی الملکیة، و لیس المراد الاقتصار علی الید فی مقام النزاع، بل الظاهر ان المراد بیان اعتبار الید بالنسبة إلی ذیها، حتی یجب علی الأخر إقامة البینة، و مع عدمها یکتفی بیمین ذی الید، و عدم تعرض الروایة لما کان من متاع الرجال فقط، و انه للرجل، لا یقدح فی الاستدلال بها؛ لإمکان ان یکون ذلک لأجل کون التعرض للقسمین الآخرین کافیاً و مغنیاً، بعد بیان الملاک، و انّه هو الید، و هی حجة کما لا یخفی.

و روایة (1)عبد الرحمن بن الحجّاج عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال: سألنی: هل یقضی ابن ابی لیلی بالقضاء ثمّ یرجع عنه؟ فقلت له: بلغنی انه قضی فی متاع الرجل و المرأة إذا مات أحدهما فادعاه ورثة الحیّ و ورثة المیت، أو طلقها فادّعاه الرجل و ادّعته المرأة، بأربع قضایا، فقال: و ما ذاک؟ قلت: أمّا أوّلهن فقضی فیه بقول إبراهیم النَّخعی، کان یجعل متاع المرأة الذی لا یصلح للرجل للمرأة، و متاع الرجل الذی لا یصلح للنّساء للرجل، و ما کان للرّجال و النساء بینهما نصفین، ثمّ بلغنی انه قال: انهما مدّعیان جمیعاً فالذی بأیدیهما جمیعاً بینهما نصفان، ثمّ قال: الرجل صاحب البیت و المرأة الداخلة علیه، و هی المدّعیة، فالمتاع کله للرجال الّا متاع النساء الذی لا یکون للرجل فهو للمرأة، ثمّ قضی بعد ذلک بقضاء لو لا انّی

ص:362


1- 1) الوسائل 17:523 ب 8 من أبواب میراث الأزواج ح 1.

شهدته لم اروه علیه، ماتت امرأة منّا و لها زوج و ترکت متاعاً، فرفعته الیه فقال: اکتبوا المتاع، فلما قرأه قال للزوج: هذا یکون للرجال و المرأة فقد جعلناه للمرأة إلّا المیزان فإنه من متاع الرجل فهو لک، فقال لی: فعلی أیّ شیء هو الیوم؟ فقلت: رجع الی ان قال بقول إبراهیم النخعی أن جعل البیت للرجل، ثمّ سألته عن ذلک فقلت: ما تقول أنت فیه؟ فقال: القول الذی أخبرتنی أنّک شهدته، و إن کان قد رجع عنه، فقلت: یکون المتاع للمرأة؟ فقال: أ رأیت إن أقامت بینة الی کم کانت تحتاج؟ فقلت: شاهدین، فقال: لو سئلت من بین لابتیها یعنی الجبلین، و نحن یومئذٍ بمکة لأخبروک أن الجهاز و المتاع یهدی علانیة من بیت المرأة إلی بیت زوجها، فهی التی جاءت به، و هذا المدّعی، فان زعم انه أحدث فیه شیئاً فلیأت علیه البیّنة.

و الروایة تدل علی اختصاص متاع البیت بالمرأة و إن الرجل هو المدعی ان زعم انه أحدث فیه شیئاً فلیأت علیه البیّنة، معللاً بوضوح ان الجهاز و المتاع یهدی علانیة من بیت المرأة إلی بیت زوجها فهی التی جاءت به، فمفادها ان المرأة مستولیة علی متاع البیت، و الاستیلاء کاشف عن کونها مالکة، فیجب علی الزوج إقامة البینة، و المرأة مع عدمها لا یجب علیها الّا الیمین، فدلالة الروایة واضحة کما ان سندها ایضاً غیر قابل للإشکال من جهة محمد بن إسماعیل الرّاوی عن الفضل بن شاذان، فإنه یستفاد من التتبع فی روایاته کونه مورداً للوثوق، مضافاً الی ان اجازة الفضل له نقل کتابه أیضاً تکشف عن الاعتماد علیه.

ص:363

و روایة (1)محمّد بن مسلم عن ابی جعفر (علیه السلام) قال سألته عن الدّار یوجد فیها الورق، فقال: ان کانت معمورة فیها أهلها فهی لهم، و إن کانت خربة قد جلا عنها أهلها، فالذی وجد المال أحقّ به (2).

و روایة (3)جمیل بن صالح قال: قلت لأبی عبد اللّه (علیه السلام) : رجل وجد فی منزله دیناراً، قال: یدخل منزله غیره؟ قلت: نعم کثیر، قال: هذا لقطة، قلت: فرجل وجد فی صندوقه دیناراً، قال: یدخل أحد یده فی صندوقه غیره أو یصنع فیه شیئاً؟ قلت: لا، قال: فهو له.

و روایة (4)دعائم الإسلام عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) انه سئل عن الورق توجد فی الدّار، فقال: ان کانت عامرة فهی لأهلها، و إن کانت خراباً فسبیلها سبیل اللقطة.

الطائفة الثانیة ما یدل علی حجیّة الید و اعتبارها من غیر دلالة علی کونها امارة

کروایة (5)محمد بن الحسین قال: کتبت الی ابی محمد (علیه السلام) : رجل کانت له رحی علی نهر قریة، و القریة لرجل، فأراد صاحب القریة ان یسوق الی قریته الماء فی غیر هذا النهر؛ و یعطل هذه الرحی، إله ذلک أم لا؟ فوقّع (علیه السلام) : یتّقی الله و یعمل فی ذلک بالمعروف، و لا یضرّ أخاه المؤمن.

ص:364


1- 1) الوسائل 17:354 ب 5 من أبواب اللّقط ح 1.
2- 2) الوسائل أبواب اللقطة، الباب الخامس، حدیث 1.
3- 3) الوسائل 17:353 ب 3 من أبواب اللّقطة ح 1.
4- 4) مستدرک الوسائل 17:128 ب 4 من أبواب اللّقطة ح 1.
5- 5) الوسائل 17:343 ب 15 من أبواب إحیاء الموات ح 1.

و روایة (1)العیص بن القاسم عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال سألته عن مملوک ادّعی انّه حرّ و لم یأت بیّنة علی ذلک أشتریه؟ قال: نعم.

و مثلها (2)روایة حمزة بن حمران قال: قلت لأبی عبد اللّه (علیه السلام) : ادخل السّوق و أرید اشتری جاریة، فتقول: إنّی حرّة، فقال: اشترها الّا ان یکون لها بیّنة.

و ما رواه (3)علی بن إبراهیم فی تفسیره عن أبیه عن ابن ابی عمیر عن عثمان بن عیسی و حمّاد بن عثمان جمیعاً عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) فی حدیث فدک انّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) قال لأبی بکر: أ تحکم فینا بخلاف حکم اللّه فی المسلمین؟ قال: لا، قال فان کان فی ید المسلمین شیء یملکونه ادّعیت انا فیه، من تسأل البینة؟ قال إیّاک کنت أسأل البیّنة علی ما تدّعیه علی المسلمین، قال: فاذا کان فی یدی شیء فادّعی فیه المسلمون تسألنی البیّنة علی ما فی یدی و قد ملکته فی حیاة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و بعده، لم تسأل المؤمنین البیّنة علی ما ادّعوا علیّ، کما سألتنی البینة علی ما ادّعیت علیهم؟ الی ان قال: و قد قال رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) البیّنة علی المدّعی و الیمین علی من أنکر. و رواه (4)الطبرسی فی الاحتجاج مرسلاً، و یمکن ان یقال بإشعار هذه الروایة بل دلالتها علی أماریّة الید و کاشفیتها؛ نظراً الی قوله (علیه السلام) : فان کان فی ید المسلمین شیء یملکونه؛ فان توصیفهم

ص:365


1- 2) الوسائل 16:39 ب 29 من أبواب العتق ح 4.
2- 3) التهذیب 7:74 ح 318.
3- 4) الوسائل 18:215 ب 25 من أبواب کیفیة الحکم ح 3.
4- 1) الاحتجاج للطبرسی:59.

بکونهم مالکین لیس الّا من جهة مجرّد الید الکاشفة عن الملکیة، لا انه کان هناک طریق آخر علیها، کما لا یخفی، نعم قوله (علیه السلام) بعده: و قد ملکته فی (حیوة) رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و بعده ربما ینافی ذلک فتدبّر.

الطائفة الثالثة ما یدل علی اعتبار الید ایضاً،

و لکن ربما تتوهم دلالته ایضاً علی کونها أصلاً، کروایة (1)حفص بن غیاث عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال: قال له رجل: إذا رأیت شیئاً فی ید رجل، یجوز لی ان اشهد انّه له؟ قال: نعم، قال الرّجل أشهد انّه فی یده و لا أشهد انّه له؛ فلعلّه لغیره، فقال أبو عبد اللّه (علیه السلام) أ فیحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد اللّه (علیه السلام) فلعلّه لغیره، فمن این جاز لک ان تشریه و یصیر ملکاً لک ثمّ تقول بعد الملک: هو لی، و تحلف علیه و لا یجوز ان تنسبه الی من صار من قبله إلیک ثمّ قال أبو عبد اللّه (علیه السلام) : لو لم یجز هذا لم یقم للمسلمین سوق (2).

و هذه الروایة و إن کانت ضعیفة من حیث السّند بقاسم بن یحیی الّا انّها مجمع علی العمل بها، و وجه توهم دلالتها علی کون الید أصلاً لا امارة قوله (علیه السلام) فی الذیل: لو لم یجز هذا لم یقم للمسلمین سوق؛ و ذلک لانه یستفاد منه ان اعتبار الید و جعلها حجة انّما هو لأجل اختلال سوق المسلمین بدونه، لا لأجل کونها کاشفة و طریقاً. و لکن یرد علیه مضافاً الی ان قوله (علیه السلام) فمن این جاز لک ان تشریه و یصیر ملکاً لک؟ ظاهر فی ان صیرورته ملکاً له انّما هو لأجل کونه تحت استیلاء البائع و یده الکاشفة

ص:366


1- 1) الوسائل 18:215 ب 25 من أبواب کیفیة الحکم ح 2.
2- 2) الوسائل أبواب کیفیة الحکم، الباب الخامس و العشرون، حدیث 2.

عن ملکه ثمّ انتقاله الیه بالبیع، و لو لم تکن الید امارة علی ثبوتها لما جاز الحلف علی الملکیة المترتبة علی الشراء بعد عدم ثبوتها للبائع ان التعلیل فی الذیل لا یدل علی الأصلیّة، لاحتمال ان یکون ذلک حکمة، لعدم ردع الشارع عن اعتبارها، لا لأصل اعتبارها، و بعبارة أوضح حیث ان الأمارات العقلائیة المعتبرة عند العقلاء یحتاج اعتبارها شرعاً الی عدم ردع الشارع عنها، و إلا فلا اثر لها بنظر الشرع، و من المعلوم ان الرّدع و عدمه لا یکون إلّا لأجل وجود المصلحة و عدمها؛ ضرورة انه لا یکون جزافاً و من غیر جهة، فلا محالة لا بد ان یکون عدم ردع الشارع فی المقام عن أماریة الید مسبّباً عن أمر، و قد بیّن فی الروایة ذلک الأمر، و هو اختلال سوق المسلمین بدونه، فهذه حکمة لعدم الرّدع عمّا هو المعروف بین العقلاء، لا بیان لقاعدة مخترعة للشارع فی قبال العقلاء، و بالجملة لو کان هذا تعلیلاً لأصل اعتبار الید لکان لتوهّم دلالته علی کون الید أصلاً وجه، و إلا فمع ظهوره فی کونه تعلیلاً لعدم الرّدع عما هو المعروف بین العقلاء أو مع احتماله، لا یبقی للتوهم المزبور مجال أصلاً فتدبّر.

و روایة (1)مسعدة بن صدقة عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال: سمعته یقول: کل شیء هو لک حلال حتی تعلم انّه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک، و ذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته و هو سرقة، و المملوک عندک لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبیع قهراً، أو امرأة تحتک و هی أختک أو رضیعتک، و الأشیاء کلّها علی هذا حتی یستبین لک غیر ذلک

ص:367


1- 1) الوسائل 12:60 ب 4 من أبواب ما یکتب به ح 4.

أو تقوم به البیّنة (1).

و هذه الروایة هی العمدة فی التّوهم المذکور و وجه استفادة الأصلیة منها: ان قوله (علیه السلام) کل شیء لک حلال إلخ، ظاهر فی ان الحکم بالحلیّة مترتب علی الشیء الذی شک فی حلیته و حرمته، فموضوع الحکم الشیء المشکوک بوصف کونه مشکوکاً، و من المعلوم ان هذا شأن الأحکام الظاهریّة و الأصول العملیة؛ إِذ انّها قواعد مجعولة للشاک بما هو شاک، و أمّا الأمارات فمرجع اعتبارها إلی إلغاء احتمال الخلاف و جعله کالعدم، و بالجملة لا إشکال فی ان هذه العبارة تدل علی أصالة الحلیة فی مورد مشکوک الحلیة، و حینئذ نقول: انه بعد بیان هذه القاعدة الکلیة قد بیّن فی الروایة بعض مصادیقها التی من جملتها الثوب المشتری الذی یحتمل ان یکون سرقة و العبد المبتاع الذی یحتمل ان یکون خدع فبیع، و من المعلوم ان انطباق تلک القاعدة علی هذا القبیل من الأمثلة لا یکاد یتم الّا مع اعتبار الید أصلاً، و إلا فلو کانت أمارة معتبرة عند الشارع لا تکاد تنطبق القاعدة المذکورة فی الصدر علیها أصلاً، کما هو أوضح من ان یخفی.

و یرد علیه: انه لا بد و إن تحمل الأمثلة المذکورة فی الذیل علی أنها انّما اتی بها بعنوان التنظیر و التمثیل، لا بعنوان بیان بعض المصادیق، و إلا فلو کانت تلک الأمثلة من مصادیق أصالة الحلیة التی دل علی اعتبارها قوله (علیه السلام) فی الصدر: کل شیء هو لک حلال. . لأمکن المناقشة فی الکلّ بعدم کون شیء منها مجری لأصالة الحلیة، لوجود أصل حاکم علیها مخالف لها أو موافق، کاستصحاب عدم تحقق الملکیة بالنسبة للثوب و المملوک فی

ص:368


1- 1) الوسائل أبواب ما یکتسب به، الباب الرابع، حدیث 4.

المثالین الأوّلین، و عدم تحقق الرضاع أو عدم تحقق الأختیّة بناء علی قول من یقول بجریان الاستصحاب فی مثله، أو عدم تحقق الزوجیة بناء علی قول من یقول بخلافه کما هو الحق، و قد حققناه بما لا مزید علیه فی استصحاب عدم القرشیة، و کذا استصحاب التذکیة، أی عدم قبولها کما فی المثالین الأخیرین، و من المعلوم انه لا مجال للأصل المحکوم مع وجود الأصل الحاکم موافقاً کان أو مخالفاً، و حینئذ لا محیص عن حمل الأمثلة علی بیان التنظیر لا الافراد و المصادیق، فلا دلالة للروایة بناء علیه الّا علی مجرد اعتبار الید، من غیر دلالة و لا إشعار بأن اعتبارها من باب الأصل.

و قد انقدح من جمیع ما ذکرنا انه لا معارض للطائفة الاولی من الاخبار الدالة علی أماریة الید و کونها کاشفة، فلا محیص عن الالتزام بها، نعم ذکر المحقق البجنوردی (1)(قده) انّه لا دلالة لشیء من الاخبار علی الأماریة، و إن غایة مفادها ترتیب آثار الملکیة لما تحت ید شخص من دون تعرض الی انّ الید طریق إلی الملکیة أم لا. فقوله: من استولی علی شیء منه فهو له، لا یدل علی ترتیب آثار الملکیة علی ما استولی علیه، و هذا المعنی أعم من الأماریة و الأصلیة، و یجتمع مع کل واحد منهما، فلا یمکن إثبات خصوص أحدهما بها حتی ان جواز الحلف و الشهادة اللذین أخذ العلم فی موضوعهما علی نحو الطریقیة مستنداً إلیها، لا ینافی أصلیتها، لأن الأصول التنزیلیة أیضاً مثل الأمارات تقوم مقام العلم الذی أخذ فی الموضوع علی نحو الطریقیة، فمن هذه الجهة أیضاً لا فرق بینهما.

و لکن یرد علیه انّ تشخیص المراد من الروایات موکول الی العرف

ص:369


1- 1) القواعد الفقهیة 1:114.

فإنه الحاکم فی هذا الباب، و من الواضح انه لو کان شیء عند العقلاء یعامل معاملة الطریقیة فإذا ورد فی کلام الشارع ترتیب الأثر علیه فلا محالة یفهم العرف من ذلک الکلام ان الشارع اعتبره علی النحو الذی یعتبرونه هم، فاذا کان الاستیلاء علی شیء موضوعاً عند العقلاء للحکم بالملکیة و ترتیب آثارها علیه بنحو یکون الاستیلاء کاشفا عنها و أمارة علیها، فاذا وقع موضوعاً للحکم بالملکیة فی کلام الشارع الملقی الی العرف، لا مجال للمناقشة بأن الحکم بالملکیة یمکن ان یکون من سنخ الأصول دون الأمارات، و الکلام یحتمل وجهین بل ظاهر فی الأماریة و الکاشفیة بنحو ما یکون عند العرف، و علیه فدلالة الروایة بهذه الملاحظة ظاهرة، و یؤیده جواز الحلف و الشهادة؛ فان الاکتفاء فیه بالأصول التنزیلیة علی حسب اصطلاحه محلّ کلام و اختلاف کما بیّن فی محله، مع انه لم یختلف أحد فی جواز الحلف و الشهادة فی المقام، و هذا یکشف عن عدم کونه من تلک الأصول بل من الأمارات.

الجهة الثالثة- فی مفاد القاعدة،

و قد ظهر من المباحث السّابقة ان مفاد القاعدة اعتبار الید و الاستیلاء علی شیء و الحکم بترتب آثار الملکیة علی ما تحتها من جواز الاشتراء و الحلف و الشهادة و سایر الآثار فی مورد کون مبدأ الاستیلاء و السیطرة مشکوکاً و إن منشأه هو الملکیة الاختیاریة أو القهریة کالإرث أو الاذن من المالک، أو انّه العدوان و قهر المالک، أو مع عدم الاذن منه، ففی صورة الشک تجری هذه القاعدة و تحکم بملکیة المستولی و صاحب الید، و بهذا یتحقق الفرق بین مورد هذه القاعدة و بین مورد قاعدة ضمان الید التی تقدم البحث فیها مفصّلاً؛ فان مورد تلک

ص:370

القاعدة صورة العلم بکون الاستیلاء واقعاً عدواناً و بدون اذن المالک و رضاه، و مورد هذه القاعدة صورة الشک فی ذلک، فتفترق القاعدتان من حیث المورد کافتراقهما من حیث الحکم و المفاد.

الجهة الرابعة- فی مقدار حجیّة القاعدة و موارد جریانها،

اشارة

فإنه قد وقع الخلاف فی جملة من الموارد بعد الاتفاق علی أصل الاعتبار فی الجملة، فنقول: لا شبهة فی جریانها فی الأعیان المملوکة إذا کانت العین فی حدّ نفسها قابلة للنقل و الانتقال، و لم تکن من قبیل الأعیان الموقوفة، بل و لا من الأراضی المفتوحة عنوة العامرة حال الفتح حیث؛ إِن جواز النقل و الانتقال فی الوقف یحتاج الی عروض بعض العناوین المجوزة کالخراب و مثله المذکورة فی محلّه، و فی الأراضی المفتوحة یحتاج الی ان یری ولیّ المسلمین المصلحة فی نقلها، و هذا الذی ذکرنا انّما هو من جهة کونها عیناً و من جهة القابلیة للنقل و الانتقال، و أمّا من الجهات الأخر کعدم کون الید من أوّل حدوثها مجهولة العنوان، و عدم کون ذی الید معترفاً بأنها لیست له، و غیر ذلک فهو محلّ خلاف کما سیأتی،

و بالجملة فموارد الخلاف کثیرة:

الأوّل المنافع،

فإنه وقع الإشکال فی جریان قاعدة الید فیها، و لکن الظاهر هو الجریان؛ لإطلاق قوله (1)(علیه السلام) فی موثقة یونس المتقدمة: من استولی علی شیء منه فهو له؛ لان المنافع من جملة الأشیاء، مضافاً الی ظاهر الروایة المتقدمة الواردة فی الرّحی التی کانت لرجل علی نهر قریة، فأراد صاحب القریة ان یسوق الی قریته الماء فی غیر هذا النهر، المستلزم لتعطیل الرّحی؛ إِذ حکم (علیه السلام) بوجوب اتقاء اللّه، و العمل

ص:371


1- 1) الوسائل 17:525 ب 8 من کتاب میراث الزوجین ح 3.

بالمعروف و عدم إضرار أخیه المؤمن.

هذا و قد صرّح المحقق النراقی (1)(قده) فی العوائد بعدم الشمول للمنافع، بل مقتضی ذیل کلامه عدم تحقق الید و الاستیلاء موضوعاً بالنسبة إلی المنافع، فإنه (قده) بعد الاستدلال لعدم الشمول بالأصل، و عدم ثبوت الإجماع فی غیر الأعیان، و اختصاص الاخبار بها علی اختلافها من حیث ظهورها فی خصوص الأعیان أو إجمالها أو عدم دلالتها علی ما هو المطلوب من الأماریة، و بعد دعوی اختصاص صدق الید حقیقة بالأعیان؛ لأنها المتبادرة عرفاً من لفظ الید و الاستیلاء، قال: و هنا کلام آخر و هو ان الید و الاستیلاء انما هو فی الأشیاء الموجودة فی الخارج القارّة، و أمّا الأمور التدریجیّة غیر القارّة کالمنافع، فلو سلّم صدق الید و الاستیلاء علیها، فإنّما هو فیما تحقّق و مضی لا فی المنافع المستقبلة التی هی المراد هاهنا.

و الجواب عنه أوّلاً بالنقض بأصل الملکیة؛ فإنه لو لم تکن المنفعة التی وجودها تدریجی قابلة لان یتعلّق بها الاستیلاء و تقع مورداً للسّلطة و الید باعتبار کون وجودها غیر قارّ، لم تکن قابلة لان تقع مملوکة ایضاً؛ لعدم الفرق بین الملکیة و الاستیلاء من هذه الجهة أصلاً، مع ان تعلق الملک بها مضافاً الی بداهته لا یلتزم القائل باستحالته کما هو ظاهر.

و ثانیاً بالحلّ، و هو ان المراد بالاستیلاء المساوق للید لیس هو الاستیلاء الحقیقی حتی یمنع تعلقه بالأمر غیر الموجود، بل الاستیلاء الاعتباری، الذی یعتبره العقلاء فی موارده، و یستتبعه الاختصاص، و هذا لا مانع من ان یتعلق بالأمر الذی لا یکون موجوداً بالفعل، کما ان الملکیة

ص:372


1- 2) عوائد الأیام:257.

المتعلقة به أمر اعتباری و نسبة معتبرة عند العقلاء بین المالک و المملوک، فالظاهر إمکان تحقق الاستیلاء و الید بالنسبة إلی المنافع، کما فی الملکیة، بل قد عرفت شمول الأدلة و عدم اختصاصها بالأعیان، فالإشکال فی هذه الجهة ممّا لا مجال له، و أمّا ما قیل من ان المراد بالید هی السیطرة و الاستیلاء الخارجی، سواء کان هناک معتبر فی العالم أم لا؛ إذ الید بالمعنی المذکور من الأمور التکوینیة الخارجیة، و لیست من الأمور الاعتباریة، و لذلک تتحقق الید من الغاصب مع انه لا اعتبار لا من طرف الشارع و لا من طرف العقلاء، و القول بأنه باعتبار نفسه شطط من الکلام یدفعه ان الاعتبار المفقود فی الغاصب هو اعتبار الملکیة لا اعتبار کونه فی یده و هو مستول علیه، کیف و قد حکم الشارع بضمانه بقوله (1)(صلی الله علیه و آله) : علی الید ما أخذت حتی تؤدّی؛ فإنه مع عدم اعتبار کونه مأخوذاً للید و هی آخذته، لا معنی للحکم بضمانه، و الإنصاف انها لیست من الأمور التکوینیة المتحققة مع قطع النظر عن الاعتبار، بل أمر متحقق به، و لذا یختلف مواردها کما ذکرنا فی أوّل بحث القاعدة، نعم یبقی الإشکال فی ان الاستیلاء المتعلق بالمنافع هل هو استیلاء مستقلّ فی قبال الاستیلاء المتعلق بالأعیان بحیث یکون لمالک العین و المنفعة استیلاءان یکشف کل منهما فی عرض واحد، عن ملکیة المستولی بالنسبة إلی المستولی علیه، الذی هو العین فی أحدهما و المنفعة فی الأخر، أو ان ید صاحب المنافع علیها تبعیة فی طول الاستیلاء المتعلق بالأعیان، أو انه لا یکون هنا الّا استیلاء واحد متعلق بالأعیان، غایة

ص:373


1- 1) سنن ترمذی 3: کتاب البیوع ح 1266. سنن ابن ماجة 2: کتاب الصدقات باب العاریة ح 2400 مسند حنبل 5:8 و 12 و 13.

الأمر أنه یکشف عن ملکیة العین و المنفعة جمیعاً، أو انه لا یکشف الّا عن ملکیة العین، غایة الأمر ان ملکیة العین تکشف عن ملکیة المنافع، فهی مکشوفة لا بأصل الاستیلاء المتعلق بالعین، بل بالملکیة المتعلقة بالعین المنکشفة بسبب الاستیلاء المتعلق بها؟ وجوه و احتمالات متصورة بحسب التصور الابتدائی و النظر البدوی، و لکن الظاهر هو الاحتمال الثانی؛ لابتناء الأخیرین علی عدم تعلق الاستیلاء بالمنافع، و قد عرفت وقوعه فضلاً عن إمکانه، و أمّا الاحتمال الأوّل فهو ایضاً خلاف ما هو المعتبر عند العقلاء؛ فإنهم لا یعتبرون الاستیلاء بالنسبة إلی المنافع الّا تبعاً للاستیلاء المتعلق بالأعیان، کما هو ظاهر.

ثمّ انه فصّل المحقق (1)البجنوردی (قده) فی المنافع من جهة جریان القاعدة فیها بما حاصله: أنه تارة یکون المدعی هو المالک باعتراف ذی الید، بان یقول مثلاً یا زید المدّعی هذه الدار التی الآن فی یدی ملکک، و لکنها فی اجارتی إلی سنة مثلاً و أخری یکون المدعی أجنبیّا أی لیس بمالک، مثل ان یدعی شخص آخر و یقول: فی اجارتی لا فی اجارتک، ففی الثانی تکون الید حجة فی مقابل الأجنبی دون الأوّل، أی فی مقابل المالک؛ نظراً الی ان المدعی لو کان هو المالک، فحیث انّ ذا الید معترف بان یده امانیّة و من قبل المالک، ففی الحقیقة یده ید المالک، فلا مجال للمخاصمة مع المالک مثل هذه الید؛ لأنه أسقطها عن الاعتبار بالنسبة إلی المالک، باعترافه ان یده امانیّة، و أمّا بالنسبة إلی الأجنبی فلا من جهة ان الید موجودة علی الفرض و لم یصدر عن ذی الید اعتراف یضرّ باماریتها بالنسبة إلی

ص:374


1- 1) القواعد الفقهیة 1:123.

الأجنبی، نعم یبقی المطالبة بدلیل علی اعتبار مثل هذه الید التبعیة، ثمّ اختار انه لو کان المدرک هو الاخبار أو الإجماع فإثبات الاعتبار مشکل فی الأوّل، و معلوم العدم فی الثانی، و لو کان المدرک هو بناء العقلاء یتعین التفصیل المذکور.

أقول: قد مرّ ان ید المستأجر انّما هی ید الموجر، کما انه قد مرّ ان الید علی المنافع و الاستیلاء علیها، انّما هو بتبع الید علی العین و فی طولها، لکن المراد بالأوّل هو ما إذا کانت الید ملحوظة بالنسبة إلی أصل ملکیة العین، بمعنی ان ید المستأجر کاشفة عن ملکیة الموجر للعین المستأجرة، کما ان ید المؤجر کاشفة عنها، و أمّا بالنسبة إلی المنفعة التی هی ملک للمستأجر بسبب الإجارة؛ فلا مجال لتوهم کون یده یده کما هو ظاهر، کما ان المراد بالثانی ما إذا کانت العین تحت ید المالک؛ فإنه حینئذ یکون الاستیلاء علی المنافع بتبع الاستیلاء علی العین و فی طولها، و أمّا إذا کانت العین تحت ید المستأجر فلا تکون هذه التبعیة، بل تصیر مثل أصل الملکیة؛ فإن تبعیة ملکیة المنافع لملکیة العین انّما هی فی مورد المالک للعین، و أمّا بالنسبة إلی المستأجر فالملکیة متحققة من دون ان یکون هناک تبعیة أصلاً، و علی ما ذکرنا لا یبقی مجال للتفصیل المذکور؛ فانّ الید کاشفة عن ملکیة المنافع سواء کانت المخاصمة مع المالک أو مع الأجنبی، و أمّا الإشکال فی شمول الاخبار للید علی المنافع فقد عرفت الجواب عنه، و إن بعض الروایات واردة فی خصوص المنفعة، فلا فرق بین ان یکون المدرک هی الاخبار أو بناء العقلاء، نعم قد عرفت المناقشة فی أصل اعتبار الإجماع فی القاعدة، بأنه لا أصالة له و لا یکشف عن موافقة المعصوم (علیه السلام)

ص:375

بوجه، فراجع.

الثانی من موارد الخلاف، جریان القاعدة بالنسبة إلی نفس صاحب الید

إذا شک فی ان ما بیده ملک له أو لغیره، و لم یکن فی مقابله مدّع أصلاً، و الظاهر هو الجریان؛ لإطلاق قوله (علیه السلام) فی موثقة یونس المتقدمة: و من استولی علی شیء منه فهو له، و لکنه ربما یناقش فی الاستدلال بها بان الظاهر من هذه الروایة انه (علیه السلام) فی مقام مخاصمة الزوج مع الزوجة حکم بان کل واحد منهما إذا کان مستولیاً علی شیء من متاع البیت فهو له، فلا إطلاق لها یشمل صورة عدم التنازع و عدم وجود مدّع فی البین.

و یدفع هذه المناقشة مضافاً الی ان المفروض فیها موت أحد الزوجین فلا معنی للمخاصمة بینهما انه علی تقدیر التصحیح بان المراد مخاصمة ورثة المیت لأحد الزوجین لم یفرض فی الروایة التخاصم و التنازع بوجه، بل قد عرفت انّ ذیل الروایة انّما هو فی مقام افادة قاعدة کلیة و ضابطة عامة و هی تشمل صاحب الید ایضاً کما لا یخفی، نعم لا مجال للاستدلال بموثقة مسعدة بن صدقة المتقدمة، لا لان مساق تلک الروایة فی بیان قاعدة الحلّ و لا ربط لها بباب الید أصلاً؛ فإنک عرفت تمامیّة دلالتها علی قاعدة الید، بل لأجل ان موردها اعتبار ید الغیر بالنسبة إلی ملکیة ما فی یده، و لا دلالة لها علی اعتبار الید فی حق نفس ذی الید.

و ربما یستدل علی الخلاف بصحیحة (1)جمیل بن صالح المتقدمة؛ إِذ انه (علیه السلام) حکم فیها فی ما وجده الرجل فی داره من الدینار مع دخول الغیر فیها أحیاناً، بأنه لیس له، مع ثبوت الید و الاستیلاء علیه، و أیضاً علل (علیه السلام)

ص:376


1- 1) الوسائل 17:353 ب 3 من أبواب اللقطة ح 1.

کون ما وجد فی الصندوق له بما یفید العلم بأنه لیس لغیره من عدم إدخال غیره یده فیه أصلاً.

و بموثقة (1)إسحاق بن عمّار عن رجل نزل فی بعض بیوت مکة فوجد فیها نحواً من سبعین درهماً مدفونة، فلم تزل معه و لم یذکرها حتی قدم الکوفة، کیف یصنع؟ قال یسأل عنها أهل المنزل لعلّهم یعرفونها، قلت: فان لم یعرفوها؟ قال یتصدق بها؛ نظراً إلی انه لا شک فی ان الدّراهم کانت فی تصرّف أهل المنزل و تحت أیدیهم، و لو کانت یدهم حجة بالنسبة إلیهم، لکان اللازم مع عدم المعرفة الردّ إلیهم لا التصدق بالدّراهم کما هو ظاهر.

أقول: امّا الصحیحة، فالظاهر عدم دلالتها علی ما رامه المستدل بوجه؛ فان الظاهر ان سؤال الإمام (علیه السلام) عن انه هل یدخل منزله غیره أم لا؟ کان لأجل افتراق الصّورتین فی الحکم؛ ضرورة انه لا مجال للاستفصال و السؤال مع اشتراک الحکم و عدم الاختصاص، و حینئذ یستفاد من الرّوایة ان دخول الغیر منزل الرجل له دخل فی الحکم بکون الدینار الذی وجده الرجل لقطة، و انه لو لم یکن کذلک لا یکون لقطة، بل هو لصاحب المنزل المستولی علیه، و الحکم بکونه لقطة فی ذلک المورد انّما هو لأجل انه مع دخول الغیر فی المنزل، خصوصاً إذا کان کثیراً، لا یکون للرجل استیلاء علی الدّراهم، خصوصاً مع کون المتعارف فی الدراهم و الدّنانیر ان لهما موضعاً مخصوصاً بعیداً عن أیدی الداخلین و أنظارهم، کما ان التفصیل فیما لو وجد فی صندوقه دیناراً بین ما یدخل أحد غیره یده فیه و بین غیره، لیس لأجل انه مع عدم إدخال الغیر یده فیه یحصل له

ص:377


1- 1) الوسائل 17:355 ب 5 من أبواب اللقطة ح 3.

العلم بکونه مالکاً له؛ ضرورة انه قد یحصل له الشک فیه و لو مع العلم بعدم إدخال الغیر یده فیه، کیف و لا مجال مع العلم للسؤال فی الروایة، بل لأجل انه مع انحصار التصرف فی الصندوق به نفسه یکون هو المستولی فقط علی ما فیه، و أمّا مع إدخال الغیر یده فیه، الذی یکون کنایة عن استیلاء الغیر ایضاً لا یکون الاستیلاء له فقط.

و أمّا الموثقة فالظاهر ایضاً عدم تمامیة الاستدلال بها؛ لان بیوت مکّة فی الموسم یکون أکثرها منزلاً للحجّاج علی ما هو المتعارف فی هذه الأزمنة، مع شدّة و کثرة عددها، فکیف بالأزمنة السّالفة؟ و من المعلوم انه فی تلک الأیام لا یبقی لصاحب المنزل استیلاء علی ما فی منزله، خصوصاً بالنسبة إلی الدراهم التی وجدها الرجل مدفونة، فإن الظاهر انه لیس المراد بالدفن الا کونها مستورة تحت رماد و نحو 5، مما هو من آثار من دخل فی المنزل قبل هذا الرجل ممّن هو مثله؛ لان الرجل المسافر لا یکون من شأنه الإقدام علی حفر منزل غیره، و بالجملة فالحکم بالتصدق مع عدم معرفة أهل تلک البیوت لیس لأجل عدم اعتبار ید المستولی بالنسبة إلی نفسه، بل لأجل عدم تحقق استیلاء فی أمثال مورد الروایة، فتدبّر.

الثالث من موارد الخلاف ما لو کان حال الید فی السابق معلوماً،

و بعبارة اخری: کان حال حدوثها معلوم العنوان، و فیه صور؛ فإنّه تارة یعلم بأنها کانت فی السابق یداً عادیة و کان ذو الید غاصباً لما تحت یده، غایة الأمر انه یحتمل فعلاً ان یکون مالکاً له بالانتقال الیه بناقل شرعی اختیاری، أو قهری کالإرث، و أخری یعلم بکون الید السابقة ید عاریة أو إجارة أو وکالة و نحوها، و الآن یحتمل کونه مالکاً للعین کذلک، و ثالثة

ص:378

یعلم بکون العین التی بیده موقوفة، و الآن یشک فی ملکیّة ذی الید باعتبار احتمال عروض بعض الأمور المسوغة لنقلها و تحقق النقل و الانتقال بعده.

امّا فی الصورة الأولی، فالظاهر عدم اعتبار الید، لان العقلاء لا یکون بناؤهم فی هذه الصورة علی معاملة ذی الید معاملة المالک، و لا تکون یده حینئذ امارة علی الملکیة و کاشفة عنها مضافاً، الی بعض ما یجیء فی الصورة الثانیة.

و أمّا فی الصورة الثانیة، فقد لا یکون فی مقابل ذی الید مدّع لملکیة العین أصلاً، و قد یکون، و علی التقدیر الثانی قد یکون المدّعی هو الذی کان مالکاً للعین سابقاً، و کان ذو الید مستأجراً له أو مستعیراً منه، و قد یکون المدّعی أجنبیّا، کما انه علی هذا التقدیر قد یقع الکلام فی حکم الید الکذائیة، و انه کیف یتعامل معها، و قد یقع الکلام فی حکم الحاکم و انه کیف یحکم؟ إذا عرفت ذلک، فاعلم ان مقتضی إطلاق کلام المحقق (1)النائینی (قدّس سرّه) سقوط الید فی جمیع التقادیر، و لزوم العمل علی ما یقتضیه استصحاب حال الید؛ نظراً الی ان الید انما تکون امارة علی الملک إذا کانت مجهولة الحال غیر معنونة بعنوان الإجارة و العاریة و الغصب و نحوها، و استصحاب حال الید یوجب تعنونها بعنوان الإجارة أو العاریة، فلا تکون کاشفة عن الملکیة، و لا مجال لدعوی حکومة الید علی الاستصحاب بتوهم ان الید امارة علی الملکیة فیرتفع بها موضوع الاستصحاب؛ لان موضوعه الید العادیة، و الید تقتضی الملکیة فلا یبقی موضوع للاستصحاب؛ و ذلک

ص:379


1- 1) فوائد الأصول 4:604.

لان الید انما تکون امارة علی الملکیة إذا لم یعلم حالها، و الاستصحاب یرفع موضوع الید کما هو واضح.

و أورد علیه بوجهین:

أحدهما ما افاده المحقق (1)العراقی (قده) من ان هذا الکلام له وجه لو قلنا بان الجهل بالحالة السّابقة مأخوذ فی موضوع دلیل اعتبار الید و حجیّته، لا ان یکون الجهل بالحالة السّابقة مورداً للقاعدة کما هو کذلک، و إلا لو کان الجهل موضوعاً لها یلزم ان تکون القاعدة أصلاً عملیّاً؛ و ذلک لان الفرق بین الأصل و الأمارة هو ان الشک و الجهل مأخوذ فی موضوع الأصل دون الامارة، نعم حجیة الامارة و اعتبارها فی مورد الجهل و استتار الواقع، و إلا فمع العلم بوفاقه أو خلافه لا یبقی مورد لجعل الامارة.

و قد أجاب عنه تلمیذهما المحقق (2)البجنوردی (قده) بأنه یمکن ان یقال: ان بناء العقلاء علی أماریة الید لا یثبت الملکیة شرعاً إلّا بإمضاء الشارع لذلک البناء، فاذا قال الشارع: لا تنقض الیقین بکونها ید عاریة أو ید أمانة مالکیة أو شرعیة بالشک فی بقاء تلک الحالة السابقة، و ابن علی بقاء تلک الحالة، فهذا ردع عن تلک السیرة و ذلک البناء.

ثانیهما ما افاده سیدنا الأستاذ الأعظم الخمینی مدّ ظله العالی من ان الید المسبوقة بکونها عاریة أو إجارة، امّا ان تکون عند العقلاء معتبرة و کاشفة عن الملکیة، و أمّا ان لا تکون کذلک، فعلی الأوّل لا مجال للاستصحاب بعد اختصاص اعتباره بشریعة الإسلام، و عدم اختصاص بناء

ص:380


1- 1) القواعد الفقهیة 1:118 و 119.
2- 2) القواعد الفقهیة 1:118 و 119.

العقلاء فی اعتبار الید بخصوص المتدیّنین منهم کما، هو ظاهر، و علی الثانی لا حاجة الی الاستصحاب؛ لان نفس وجود تلک الحالة السابقة کافٍ فی عدم الاعتبار علی ما هو المفروض.

ثمّ قال: و یمکن ان یقال کما هو ظاهر العبارة بأن الید التی هی مورد بناء العقلاء هی الید الموصوفة بکونها مجهولة الحال غیر معنونة بعنوان الإجارة و غیرها، و علیه فالرجوع الی الاستصحاب انّما هو من باب تشخیص مورد البناء و تمییزه عن غیره، فباستصحاب حال الید الحاکم بکونها معنونة بعنوان الإجارة أو العاریة یعرف عدم کون الید المسبوقة بذلک مورداً لبناء العقلاء و حکمهم بالاعتبار، و یرد علیه حینئذ مضافاً الی ما عرفت من عدم جواز تشخیص المورد بالاستصحاب الذی یختص اعتباره بطائفة خاصة من العقلاء و هم المتدینون بدین الإسلام، بعد کون المناط فی حجیّتها هو بناء العقلاء بما هم عقلاء انه مع قطع النظر عن ذلک نقول: إِنّ هذا الاستصحاب لیس واجداً لشرائط الحجیّة؛ لأنه یشترط فی حجیّته ان یکون المستصحب حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لأثر شرعی، و استصحاب حال الید و کونها معنونة بعنوان الإجارة أو العاریة لا یکون واجداً لهذا الشرط؛ لانه لم یرد فی دلیل شرعی ترتب اثر علی الید المعنونة بغیر عنوان الإجارة و العاریة حتی یحرز بالاستصحاب عدم تحقق الموضوع فیترتب علیه نفی ذلک الأثر، کما لا یخفی، هذا کلّه فیما لو استند فی اعتبار الید الی بناء العقلاء بما هم عقلاء، و أمّا لو استند فیه الی قوله (علیه السلام) فی موثقة یونس بن یعقوب المتقدمة: و من استولی علی شیء منه فهو له، فإن أخذ بظاهره فمقتضی إطلاقه اعتبار الید هنا، و إن ادّعی فیه التقیید، فان کان

ص:381

القید هو الملکیة، و کان المراد هو الاستیلاء الملکی، لزم کون القضیة ضروریة بشرط المحمول کما هو ظاهر، و إن کان القید هو عدم العلم بکونها ملکاً أو إجارة أو عاریة أو غیرها فمقتضاه اعتبار الید فی المقام؛ لان المفروض الشک فی کون الید الفعلیة بعنوان الإجارة أو العاریة أو غیرهما.

و بعبارة اخری: ان کان القید هو إحراز کونه استیلاء ملکیّاً لا اجارة و لا عاریة و لا غیرهما، فالشک فی ذلک یوجب عدم اعتبار الید، و لا یحتاج الی استصحاب بقائها علی الحالة السّابقة، و إن کان القید هو الشک فی ذلک، فمجرد الشک یوجب اعتبار الید بمقتضی الرّوایة و لا مجال للاستصحاب بعد حکومة الأمارة علیه، و منه ظهر الخلل فی ما افاده، و إن قلنا بان المستند هو بناء العقلاء؛ و ذلک لان المراد من قوله فی صدر العبارة: ان الید انما تکون امارة علی الملک إذا کانت مجهولة الحال، ان کان هو مجرد الجهل بحال الید و عدم العلم به، فلازمه اعتبار الید فی المقام؛ لان المفروض جهالة حال الید و عدم العلم به، و إن کان المراد هو عدم تعنونها بعنوان الإجارة و العاریة و نظائرهما، فاللازم إحراز ذلک، و لا یکاد یحرز عند العقلاء بما هم عقلاء بالاستصحاب الذی یختص جریانه بشریعة الإسلام کما عرفت.

و الحقّ ان یقال: انه لا ریب فی اعتبار الید فیما لو لم یکن فی مقابل ذی الید مدّع أصلاً، و کان هو المدّعی للملکیة لبناء العقلاء علی ذلک کما یظهر بالمراجعة إلیهم، نعم یحتمل ان یکون الوجه فی بنائهم هو کون ذی الید فی المقام مدّعیاً بلا معارض، فالأخذ بقوله انما هو لهذه الجهة، لا لأجل کونه ذا الید، و یحتمل ان یکون من باب کونه ادّعاء من ذی الید أو من باب الید المقرونة بالادّعاء، و تظهر الثمرة بین الاحتمالین فیما لو کان فی

ص:382

مقابله مدّع آخر أجنبی، فإن قلنا: إن الأخذ بقوله من باب کونه من قبیل المدّعی بلا معارض، فلا وجه حینئذ لتقدیم دعواه علی دعوی الأخر بعد خروجه عن ذلک العنوان و صیرورته مدّعیاً مع المعارض.

و إن قلنا: إن الأخذ بقوله من جهة کون ادّعائه دعوی صادرة من ذی الید، أو کون یده یداً مقرونة بالادّعاء، فالظاهر حینئذ تقدیم قوله و لو مع وجود معارض فی مقابله لترجیح دعواه علی دعواه؛ لکونه ذا الید دونه، و لمّا کان الظاهر ان الأخذ بقوله یکون عند العقلاء من جهة الاحتمال الثانی دون الأوّل کما یظهر بالمراجعة إلیهم فیظهر حکم ما لو کان فی مقابله مدّع أجنبی، و انه فی کلتا الصورتین یجب الأخذ بقوله و ترتیب الأثر علی یده و التعامل مع ما فی یده معاملة الملک.

و أمّا لو کان فی مقابله مدّع هو مالک العین سابقاً، و کان ذو الید مستأجراً له أو مستعیراً منه، فالظاهر عدم اعتبار الید هنا عند العقلاء؛ لأنهم لا یعتبرونها فی مقابل ادّعاء المالک للعین، و لا تکون فی نظرهم کاشفة و أمارة علی ملکیة العین بالنسبة إلی ذی الید الذی کان مستأجراً أو مستعیراً، هذا مع عدم رفع الأمر إلی الحاکم، و أمّا مع رفعه الیه فالظاهر بعد عدم اعتبار ید ذی الید انه یقدّم دعوی المالک؛ لانه بنظر العرف هو المنکر، کما ان قوله موافق للأصل الذی هو استصحاب بقاء ملکیته و عدم حدوث الملکیة لذی الید، فمع عدم البینة له علی دعواه، یتوجه الحلف الی المالک، و به یرتفع التخاصم.

کما انّه إذا کان فی مقابل ذی الید مدّع أجنبی، و رفع الأمر إلی الحاکم، یکون تقدیم قول ذی الید متفرعاً علی کون الأخذ بقوله، إذا

ص:383

لم یکن فی مقابله مدّع أصلاً، من باب کون دعواه دعوی صادرة من ذی الید أو یده یداً مقرونة بالادّعاء، و أمّا لو قلنا هناک: إن الأخذ بقوله انّما هو من باب کونه مدّعیاً بلا معارض، فلا وجه لتقدیم قوله هنا مع الترافع ایضاً، کما هو واضح.

هذا کلّه فیما لو کان ذو الید مدعیاً لملکیة العین، مدعیاً و کانت یده مقرونة بالادّعاء، و أمّا مع خلوّها عنه، فلا ریب فی عدم اعتبارها؛ لعدم بناء العقلاء علی الأخذ بها، کما هو ظاهر.

و أمّا الصورة الثالثة و هی کون العین فی السابق موقوفة، و الآن یحتمل کونها ملکاً لذی الید؛ باعتبار عروض بعض المسوغات لنقلها، فهی علی قسمین؛ لأنّه تارة تکون یده علیها فی السابق یداً علی العین الموقوفة، و الآن یحتمل ان تکون یده یداً علی ملک نفسه، و بعبارة اخری: کان حدوث یده بعنوان الید علی العین الموقوفة و بقاؤها محتملاً لان یکون بعنوان الملکیة، و أخری تکون العین فی السابق موقوفة، و یحتمل صیرورتها ملکاً لذی الید عند حدوث یده، بان کان انتقالها الیه و صیرورتها فی یده بعنوان الملکیة.

و حکی عن السیّد الطباطبائی (1)(قده) فی ملحقات العروة أنّه فصل بین الصّورتین، و حکم باعتبار الید فی الصورة الثانیة دون الاولی؛ نظراً الی ان استصحاب حال الید و انّها ید علی العین الموقوفة، حاکم علیها، بخلاف ما إذا لم یعلم ذلک، و احتمل ان تکون الید حدثت بعد بطلان الوقف، فإنه لا یکون فی البین ما یقتضی سقوط اعتبار الید و أماریّتها.

ص:384


1- 1) العروة الوثقی 3:17.

و الظاهر عدم اعتبار الید فی الصّورتین؛ لعدم بناء العقلاء علی ملاحظتها و ترتیب الأثر علیها؛ و ذلک لانّ الوقف الذی مرجعه الی تحبیس المال، و إن کان لا یختص بالمتشرعة، ضرورة ثبوته بین العقلاء غیر المنتحلین للشریعة، کما نراه بالوجدان، الّا ان المسوغ لنقل العین الموقوفة عند العقلاء امّا ان یکون منتفیاً رأساً، کما لعلّه الظاهر، أو یکون علی تقدیر وجوده نادراً جدّاً، بحیث لو تصرف ذو الید فی العین الموقوفة تصرفاً کاشفاً عن الملک و تعامل معها معاملة الملک لا یرونه الّا عادیا، و لا یخطر ببالهم احتمال عروض المسوّغ لنقلها و صیرورتها ملکاً له، کما ان الأمر فی نظر المتشرعة أیضاً کذلک، مع انه یجوز بیع الوقف فی شریعة الإسلام فی موارد کثیرة علی ما قیل، و إن کان بعضها بل جلّها لا یخلو عن نظر و إشکال؛ فإنهم أیضاً ینکرون علی من فی یده العین الموقوفة إذا تعامل معها معاملة الملک، و یتّهمونه بالتصرف فیها تصرّفاً عدوانیّاً.

و بالجملة لمّا کان المناط و الملاک فی اعتبار الید هو بناء العقلاء، و قد عرفت ان المسوّغ لبیع الوقف عندهم أمره دائر بین ان یکون منتفیاً رأساً، و بین ان یکون ثابتاً مع ندرته جدّاً، فالظاهر انهم لا یعتبرون الید فی الصورتین؛ لأن الغلبة المورثة للظن بکون ما فی الید ملکاً لذیها لا تکون ثابتة فی العین التی کانت موقوفة، لو لم نقل بأن الغلبة الموجبة للظن ببقائها علی الحالة السّابقة ثابتة، کما هو الظاهر، فالتفصیل المذکور لا وجه له.

ثمّ انّ ما ذکرنا کله، انّما هو فیما لو علم بکون العین فی السّابق موقوفة، و أمّا لو لم یعلم ذلک، بل احتمل ان تکون العین التی تحت ید المستولی موقوفة، فلا ریب فی اعتبار الید هنا و عدم اعتناء العقلاء بهذا

ص:385

الاحتمال، و إن کان کلام المحقق النائینی (1)(قده) علی ما فی التقریرات یوهم عدم اعتبارها هنا أیضاً؛ إذ انه یستفاد من بعض کلماته فی هذا المقام ان الید انما تکون امارة بعد الفراغ عن ان المال قابل للنقل و الانتقال، و الوقف لیس کذلک، فان ظاهره انه یعتبر فی أماریة الید إحراز کونه قابلاً للنقل و الانتقال، و بعبارة اخری: إحراز عدم کونه وقفاً، مع انه لیس کذلک؛ لما عرفت من ثبوت بناء العقلاء فی موارد الاحتمال کما اعترف به (قدس سره) فی ذیل کلامه فیما لو احتمل کون المبیع حرّا؛ نظراً إلی ادّعائه و لم یعلم بکونه حرّا قبل استیلاء ذی الید علیه و إن استند فی ذلک الی ما ورد من الرّوایة، الا ان الظاهر عدم الاحتیاج إلیها، مضافاً الی عدم دلالتها، لورودها فیمن کان عبداً سابقاً أو جاریة کذلک، و الآن یدّعی الحریة أو تدّعیها کما یظهر لمن راجعها.

ثمّ انه ربما یمکن ان یقال بابتناء ما ذکر علی کون المدرک للقاعدة منحصراً ببناء العقلاء، و أمّا لو قیل بدلالة الروایات مستقلة علی ذلک، فیمکن الاستدلال بإطلاق بعضها علی الأماریة، و لو کانت العین موقوفة فی أوّل حدوث الید؛ فان قوله (2)(علیه السلام) فی موثقة یونس المتقدمة: من استولی علی شیء منه فهو له، ظاهر فی ان مجرد الاستیلاء موجب للحکم بملکیة المستولی، و لا مانع من ان تکون دائرة الاعتبار فی الشرع أوسع ممّا علیه بناء العقلاء، کما انه یمکن ان یکون بالعکس، و علیه فمجرد محدودیّة بناء العقلاء فی باب الید لا یستلزم المحدودیة فی الشرع أصلاً.

ص:386


1- 1) فوائد الأُصول 4:607.
2- 2) الوسائل 17:525 ب 8 من کتاب میراث الزوجین ح 3.

و لکن یرد علیه: انّ قوله: علی شیء منه، یکون الضمیر فیه راجعاً الی متاع البیت، و خصوصیة متاع البیت و إن کانت ملغاة بنظر العرف، الاّ انه لا مجال لإلغاء خصوصیّة عدم کون متاع البیت وقفاً، فلا مجال لاستفادة الإطلاق أصلاً.

الرّابع من موارد الخلاف: ما إذا کان فی مقابل ذی الید مدّع للملکیة لما تحت یده،

و هو ینکره، و فیه صور أیضاً؛ فإنه تارة یکون للمدعی بیّنة علی الملکیة الفعلیة، فلا إشکال فی ان الحاکم یحکم له حینئذ، و أخری لا یکون، و فی هذه الصورة، تارة تکون ملکیته السّابقة ثابتة بالبینة أو بعلم الحاکم أو بإقرار ذی الید، و أخری غیر ثابتة، و لا إشکال فی الفرض الثانی، و أمّا الفرض الأوّل فالظّاهر ان علم الحاکم بالملکیة السّابقة أو قیام البینة لا یسوغ الانتزاع من ذی الید؛ لانّه لا أثر لشیء منهما بعد احتمال انتقال المال إلی ذی الید بناقل شرعی، و استصحاب بقائها علی الحالة السابقة محکوم لقاعدة الید التی هی أمارة کما فی أکثر موارد القاعدة، و أمّا لو کان ثبوت الملکیة السّابقة بإقرار ذی الید، فهو علی أقسام؛ لأنه تارة یدعی انتقالها من المدّعی الیه و أخری یدعی انتقالها من المدّعی علیه الی ثالث و منه الیه، و ثالثة یدعی انتقالها الی الغیر من دون ادّعاء انتقاله منه الیه، و رابعة یقتصر علی مجرد الإقرار بثبوت الملکیّة للمدعی سابقاً من دون اضافة ادعاء الانتقال منه الیه أو الی الغیر.

و قبل توضیح أحکام الصّور الأربع، نمهّد مقدمة و هی: انه لا اشکال نصّاً و فتوی فی ان البینة علی المدعی و الیمین علی من أنکر أو المدّعی علیه، حسب اختلاف تعبیر الروایات الواردة فی هذا المجال، و الظاهر ان

ص:387

تشخیص المدعی و المنکر انّما یکون بید العرف؛ لأنهما من الموضوعات الخارجیة التی لا بدّ فی تشخیصها من الرجوع الی العرف، کتشخیص عناوین الدم و الکلب و الخنزیر و غیرها من العناوین الموضوعة للاحکام، فتحدیدهما بان المدّعی هو الذی لو ترک ترکت الخصومة، بخلاف المنکر، أو بان المدّعی هو الذی کان قوله مخالفاً لحجة شرعیة من أصل أو ظاهر، بخلاف المنکر، فإنه الذی تؤیّده حجة شرعیة، ان کان المراد هو التحدید العرفی و بیان معناهما عند العقلاء، فلا بأس به، و لکن لو فرض حینئذ حکم العرف فی مورد بانطباق عنوان المدعی علی فلان مثلاً فاللازم ترتیب الأثر علیه، و لو لم ینطبق علیه شیء من الحدّین، و إن کان المراد به هو بیان معناهما عند الشارع، فیرد علیه انه لم یرد فی آیة و لا روایة التحدید بشیء منهما، بل لیس لبیانه ارتباط بالشارع؛ لأنهما کما عرفت من الموضوعات التی لا بد من الرجوع فی تشخیصها الی العرف، فاللازم الإحالة الیه و لو لم یساعد علی شیء من الحدّین.

إذا عرفت ذلک فاعلم انّه فی الصورة الأولی التی یدعی فیها ذو الید انتقال المال من المدعی علیه الیه من دون واسطة، ینقلب الإنکار من ذی الید الی الادّعاء، و یصیر المدعی منکراً مدّعیاً، لو کان الملاک فی تشخیص ذلک هو مصب الدعوی لا النتیجة کما هو الظاهر، فإنه بحسب النتیجة و إن لم یتحقق انقلاب أصلاً ضرورة انه بملاحظة ذلک یکون ذو الید منکراً و الطرف مدّعیاً، و أمّا بحسب مصب الدّعوی و مورد النزاع فالأمر ینقلب، لان ذا الید یدعی الانتقال و المدعی علیه ینکره، فیحلف لو لم یکن لذی الید بیّنة و هذا ممّا لا ریب فیه ظاهراً.

ص:388

و أمّا الصورة الثانیة، فالظاهر عدم تحقق الانقلاب فیها أصلاً؛ لأن ادّعاء الانتقال من المدّعی علیه الی ثالث لیس موضوعاً لحکم الحاکم بعد عدم ترتب الأثر علیه أصلاً، فإن انتقال المال من المدّعی علیه الی ثالث و عدمه، لیس له ارتباط بذی الید، و لیس ادّعاؤه منه موجباً لإقامة البینة علیه أو الحلف من الأخر مع عدمها کما هو المحقق فی محلّه کما ان ادّعاء انتقال المال من الثالث الیه لیس مرتبطاً بالمدّعی، فلا اثر لحلفه علی نفیه، و لا لإقامة ذی الید البینة علی ثبوته، فبعد عدم ترتب الأثر علی شیء من الدّعویین لا بد من ملاحظة النتیجة، و بحسبها یکون ذو الید منکراً و الآخر مدّعیاً، کما هو المفروض، و منه یظهر حکم الصورة الثالثة کما لا یخفی.

و أمّا الصورة الرّابعة، فانقلاب الإنکار فیها ادّعاء بعد عدم صدور ادّعاء من ذی الید بالنسبة إلی الانتقال من المدعی علیه الیه أو الی الغیر، مبنی علی ان تکون اللوازم العرفیة للکلام حجة موجبة لتشخیص المدعی من المنکر، فإنه حینئذ یصیر مدّعیاً؛ لان لازم الإقرار بثبوت الملکیة للمدعی سابقاً مع دعواه ملکیة نفسه فعلاً، هو انتقاله منه الیه مع الواسطة أو بدونها، فان قلنا باعتبار هذا اللازم العرفی، فاللازم تحقق الانقلاب و إلا فالعدم.

تذنیب

ربما یتوهم المنافاة بین ما ذکرنا من انقلاب الدعوی إلی الإقرار فی الصّورة الأولی و بین ما ورد فی محاجّة أمیر المؤمنین (1)(علیه السلام) مع

ص:389


1- 1) الوسائل 18:215 ب 25 من أبواب کیفیة الحکم ح 3. تفسیر علی بن إبراهیم القمی 2:155. شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 4:101.

ابی بکر فی قضیة فدک، و قد تقدم فی ضمن الروایات الدالة علی اعتبار الید الروایة الدالة علی هذه المحاجّة و رواها فی الاحتجاج (1)مرسلة.

بیان توهّم المنافاة أن الصّدیقة (علیها السلام) قد اعترفت بان فدکاً کانت ملکاً لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) و ادّعت انّها نحلة فلو کان الإقرار بانتقالها موجباً لانقلاب الدّعوی و صیرورة ذی الید مدّعیاً، لکان مطالبة ابی بکر البینة منها (علیه السلام) فی محلّها و لم یتوجه علیه اعتراض أمیر المؤمنین (علیه السلام) بعد البناء علی ان ما ترکه النبی (صلی الله علیه و آله) لم ینتقل الی وارثه، بل یکون صدقة للمسلمین علی ما رووه عنه (صلی الله علیه و آله) .

بیان الدّفع علی ما افاده بعض المحققین فی تعلیقته علی الرّسائل و تبعه المحقق الیزدی (قده) فی کتاب «الدّرر» (2)هو: ان الانقلاب و صیرورة المنکر مدّعیاً، انّما هو فیما إذا کان مقابل المدعی منکر حتی یتوجّه علیه الیمین مع عدم إقامة البیّنة، و أمّا إذا کان هنا مدّع مع عدم منکر فی مقابله، کما إذا قال الخصم: لا أدری صدق ما تقول أو کذبه و لا اعلم بالحال، فان کانت البینة للمدعی علی طبق ما یقول یؤخذ بها، و إلا فلا مانع من الأخذ بسائر القواعد الموجودة، من قبیل الاستصحاب أو الید، فلو کانت العین فی ید المدّعی، و یدعی انتقالها من المیت فی حال حیاته الیه، و لا ینکر ذلک الورثة جزماً، یحکم بکونها ملکاً لذی الید؛ إذ لا منکر فی مقابله، و منه ظهر الوجه فی اعتراض أمیر المؤمنین (علیه السلام) علی ابی بکر حین طلب منها (علیه السلام)

ص:390


1- 1) الاحتجاج 1:122.
2- 2) دُرَرُ الفوائد 2:616.

البینة؛ فإنه مع عدم إنکاره لدعواها الانتقال إلیها فی حیاة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) علی سبیل الجزم، بل عدم إنکار غیره کذلک، لا وجه للمطالبة البینة منها (علیه السلام) مع کون یدها ثابتة، فانتزاع فدک منها کان مستنداً الی محض العناد، و لغرض خلو ید صاحب الولایة من الأمور المالیة التی یمکن أن تؤثر فی إثباتها و تنفیذها، کما هو ظاهر.

ثمّ انه أفاد المحقق النائینی (1)(قده) فی مقام الجواب عن التوهم المذکور کلاماً طویلاً ملخّصه: «ان إقرار الصّدیقة (علیها السلام) بان فدکاً کانت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لا یوجب انقلاب الدعوی؛ فإنه علی فرض صحة قوله (صلی الله علیه و آله) نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث. . لا یکون إقرارها کإقرار ذی الید، بان المال کان لمن یرثه المدّعی؛ فان انتقال الملک من النبی (صلی الله علیه و آله) الی المسلمین، لیس کانتقال المال من المورث الی الوارث؛ لان انتقال الملک الی الوارث انما یکون بتبدل المالک الذی هو أحد طرفی النسبة، و أمّا انتقاله الی المسلمین فإنما یکون بتبدل أصل النسبة، نظیر انتقال الملک من الواهب الی المتهب، و من الوصی الی الموصی له، و توضیحه ان الملکیة عبارة عن النسبة الخاصة، و لها طرفان المالک و المملوک، و تبدل النسبة قد یکون من طرف المملوک کما فی عقود المعاوضات، فان التبدل فی البیع انما یکون من طرف المملوک فقط؛ فإنه قبل البیع کان طرف النسبة هو المثمن، و بعد البیع هو الثمن، و قد یکون من طرف المالک کالإرث، فإن التبدل انما یکون من طرف المالک فقط، و قد یکون بتبدل أصل النسبة کما فی الهبة؛ فإن الانتقال فیها لیس کالانتقال فی الإرث و لا کالانتقال فی البیع، بل انما یکون بإعدام

ص:391


1- 1) فوائد الأُصول 4:615.

النسبة بین الواهب و الموهوب، و إحداث نسبة اخری بین المتهب و الموهوب، و انتقال ما کان للنبی (صلی الله علیه و آله) الی المسلمین بناء علی الخبر المجعول یکون من هذا القبیل؛ ضرورة ان المسلمین لم یرثوا المال من النبی (صلی الله علیه و آله) حتی یکون سبیلهم سبیل الوارث، بل غایته ان أموال النبی (صلی الله علیه و آله) تصرف بعد موته فی مصالحهم، فانتقال المال إلیهم یکون اسوأ حالاً من انتقال المال الی الموصی له، و لا أقلّ من مساواته له، و إقرار ذی الید انما یوجب انقلاب الدعوی من حیث ان الإقرار للمورث إقرار للوارث؛ لقیامه مقامه فی طرف النسبة و إقرار ذی الید بانّ المال کان للموصی، یکون کإقراره بأن المال کان للثالث الأجنبی، و لیس للموصی له انتزاع المال من یده، بدعوی انه اوصی به الیه، بل تستقرّ ید ذی الید علی المال الی ان یثبت الموصی له عدم انتقاله إلی ذی الید فی حیاة الموصی، فاقرارها (علیه السلام) بانّ فدکاً کانت ملکاً لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) لا یوجب انقلاب الدعوی؛ لانه لا یرجع إقرارها بذلک إلی الإقرار بأنها ملک للمسلمین، فإنهم لا یقومون مقام النبی (صلی الله علیه و آله) بل هم اسوأ حالاً من الموصی له، فلم یبق فی مقابل یدها (علیه السلام) الّا الاستصحاب و هو محکوم بالید» .

و یرد علیه أمور:

منها: ان ما افاده من ان التبدّل فی الإرث انما یکون من طرف المالک مع بقاء المملوک علی ما هو علیه، غایته انه قبل موت المورّث یکون طرف النسبة نفس المورّث، و بعد موته یقوم الوارث مقامه و یصیر هو طرف النسبة، یرد علیه مضافاً الی انه لم یقم دلیل علی ذلک لو لم نقل بقیام الدلیل کظواهر الآیات الواردة فی الإرث علی الخلاف، و إن الوارث

ص:392

یملک ما ترک المورّث من غیر ان یقوم مقامه ان مقتضی ذلک انتقال الأموال إلی المیت لو فرض حیاته بعد موته؛ لان المفروض ان الوارث قائم مقامه، و مع وجود المبدل لا یبقی شأن للبدل، مع انه من المعلوم خلافه.

و منها: ان ما افاده من ان انتقال المال بالهبة إلی المتهب لیس من قبیل انتقاله بالإرث و لا من قبیل انتقاله بالبیع، بل انما یکون بإعدام نسبة و إحداث نسبة اخری، کما فی الوصیة، یرد علیه ان إیجاد النسبة الثانیة لا بد ان یکون مسبوقاً و لو رتبة بإعدام النسبة الأولی؛ لأنه ما لم یتحقق هذا الاعدام لا یمکن إیجاد نسبة اخری؛ لعدم اجتماع اضافتین فی آن واحد؛ لامتناع اجتماع ملکیتین مستقلتین علی مال واحد، و من المعلوم انه بعد انعدام النسبة الاولی لا یکون الواهب اولی بالموهوب، بل نسبته إلیه کنسبة المتهب الیه، و لا مرجح لأحدهما علی الأخر، فایجاده النسبة بعد عدم قیامها به لا اثر له أصلاً.

و منها: ان ما افاده من ان انتقال ما کان للنبی (صلی الله علیه و آله) الی المسلمین بناء علی الخبر المجعول لیس کانتقاله الی الوارث، بل هو أشبه بانتقال المال الی الموصی له، لما افاده، یرد علیه انه لا فرق فی الصورتین إلّا فی مجرد دعوی الوارث الملکیة و دعوی المسلمین أو ولیّهم السلطنة علی المال، و إن لم یکن ملکاً لهم، و أمّا کون هذا الفرق موجباً للانقلاب فی الصورة الأولی و عدمه فی الصورة الثانیة فلا وجه له أصلاً؛ لعدم مدخلیة هذه الجهة فی ما یرجع الی المدعی و المنکر و الآثار المترتبة علیهما، و بعبارة اخری: محلّ النزاع بین المتخاصمین هو تحقق الانتقال ممن کان ملکاً له أوّلاً و عدمه، و أمّا علی انه علی تقدیر عدم تحقق الانتقال إلی ذی الید و انتقاله الی

ص:393

الوارث یکون انتقاله کما فی سائر موارد الإرث، أو یکون بنحو خاص، فلا دخالة له فی الفرق أصلاً.

هذا و قد ذکر المحقق البجنوردی (1)(قده) انه علی تقدیر تسلیم دعوی الانقلاب فالأحسن ان یقال: ان هاهنا دعویین، إحداهما: دعوی الانتقال، و بالنسبة الی هذه الدعوی هی (سلام الله علیها) مدّعیة، و علیها البیّنة، و الأخری: دعوی الملکیة، و بالنسبة الی هذه الدعوی فلأنها (علیها السلام) کانت ذات ید، تکون البیّنة علی طرفها أی أبی بکر، الذی کان بزعمه ولیّ المسلمین فکأن أمیر المؤمنین (علیه السلام) احتج علی ابی بکر بالنسبة الی هذه الدعوی الأخیرة ان کانت الدعوی الاولی مسکوتاً عنها.

و یرد علیه: انه ان کان المراد هاهنا دعویین غیر مرتبطتین، وقعت الاولی مسکوتاً عنها و الثانیة مورداً للإنکار، فمن الواضح خلافه؛ ضرورة ارتباط الدعویین و ابتناء الثانیة علی الاولی، و إن الملکیة انّما هی لأجل تحقق النّحلة و الإعطاء من النبی الأکرم (صلی الله علیه و آله) .

و إن کان المراد انه مع تحقق الارتباط و ابتناء الثانیة علی الاولی یقطع النظر عن الاولی و یتکل علی الثانیة، و الاعتراض انما هو مبنی علیها، فالظاهر انه لا وجه للإغماض و قطع النظر عن الأولی التی هی الأصل للثانیة، فالجواب عن التوهم المذکور ما ذکرنا.

و ینبغی التّنبیه علی أمور:

الأوّل لا إشکال فی تقدم الید بناء علی کونها امارة علی الأصول العملیة،

التی منها الاستصحاب الجاری علی خلاف مقتضی الید فی جل

ص:394


1- 1) القواعد الفقهیة 1:123.

مواردها لو لم کلّها؛ و ذلک لتقدم الامارة علی الأصل العملی علی ما هو المحقق فی محلّه، و أمّا ما حکی عن المحقق (1)العراقی (قده) فیما إذا ادعی ذو الید انتقال المال من المدعی علیه الیه، من ان مقتضی الید هو کون هذا المال ملکاً لذی الید، و انه انتقل منه الیه، و مقتضی استصحاب عدم الانتقال عدم کونه ملکاً لذی الید و بقاؤه علی ملک الطرف، فأماریة الید هنا مع حجیة الاستصحاب مما لا یجتمعان، و بناء علی حجیة الاستصحاب لا یبقی مجال لأماریة الید؛ لأن مؤدی الاستصحاب هو التعبد بعدم الانتقال، و معه لا یبقی للید مجال، فیرد علیه: وضوح تقدم الامارة علی الأصل فی صورة التعارض و عدم الاجتماع، و إن کان مراده عدم حجیة الید فی خصوص هذا المورد؛ لما عرفت من الانقلاب و صیرورة المدعی منکرا و بالعکس، کما ذکرنا، فهو صحیح، و لکنه لا یلائم عبارته أصلاً کما لا یخفی.

و أمّا بناء علی کون الید أصلاً عملیّاً أو مردّداً بین کونه امارة أو أصلاً، فالظاهر ایضاً تقدمها علی الاستصحاب، لانه علی فرض التعارض أو تقدم الاستصحاب یصیر اعتبارها و جعل الحجیة لها تأسیساً أو إمضاء لغواً ففی الحقیقة علی هذا التقدیر یکون دلیل اعتبارها مخصصاً لدلیل اعتبار الاستصحاب، و هذا کقاعدتی الفراغ و التجاوز؛ إذ انّهما تقدمان علی الاستصحاب الجاری فی موردهما، و إلا تلزم اللّغویة کما ذکر.

و أمّا الید بناء علی کونها امارة، فبالنسبة إلی سائر الأمارات لا إشکال فی تقدم البیّنة علیها، بل ربما یدعی کونه فی باب الدعاوی من المسلّمات عند جمیع المسلمین؛ لان توقف ثبوت دعوی المدعی علی البینة

ص:395


1- 1) القواعد الفقهیة للبجنوردی 1:122.

و الحکم له استناداً إلیها، انّما هو فی مقابل ذی الید نوعاً، فلا شبهة فی هذا التقدّم، و أمّا تقدم الإقرار علی الید فیما إذا أقرّ بان ما فی یده لزید مثلاً فلأجل ان اعتبار الید عند العقلاء انّما هو فیما إذا لم ینضمّ إلیها الإقرار بعدم کونه ملکاً له، و لذا لو أقر بهذا المقدار و هو عدم کونه ملکاً له، کفی فی سقوط الید عن الحجیة و الاعتبار، و لا یلزم الإقرار بکونه ملکاً لفلان مثلاً، بل ربما یقال بعدم اعتبار الید مع تردد ذی الید فی کونه ملکاً له، و لکن عرفت فی ذکر بعض موارد الخلاف شمول أدلة اعتبار الید لهذه الصّورة، و لا یلزم اعتقاد ذی الید الملکیة أو إظهاره لها، کما لا یخفی.

و کیف کان فالظاهر انه لا شبهة فی تقدم الإقرار علی الید، و انحصار حجیتها بما إذا لم یکن هناک إقرار علی خلافها.

و أمّا بالنّسبة إلی سائر الأمارات غیر البینة و الإقرار، فکل امارة تکون حجیة الید مقیدة بعدمها، فهی متقدمة علی الید، و إلا تکون الأمارتان متعارضتین و لا یبقی ترجیح فی البین.

الثانی هل تجری القاعدة فی الحقوق أم لا؟

و الظاهر ان الحقوق کالمنافع، من دون فرق بین ما تعلّق منها بالأعیان المتمولة کحق الرهانة و حق التولیة و نحوهما من الحقوق، و بین ما تعلق منها بالأعیان غیر المتمولة کحق الاختصاص المتعلق بالعذرة و الخمر و المیتة، و قد عرفت فی المنافع انه لا فرق بین ما کان فی مقابل ذی الید مالک العین أو الأجنبیّ، و دعوی ان أدلة اعتبار الید لا تشمل الحقوق، و إن کانت شاملة للمنافع؛ لان الحقوق أمور اعتباریة صرفة معتبرة عند العقلاء و الشارع، أو خصوص الشارع، بخلاف المنافع؛ فإنها لیست اعتباریّة، بل موجودة بتبع وجود العین، غایة

ص:396

الأمر ان وجود المنافع تدریجی، بخلاف وجود العین، مدفوعة بأن مقتضی إطلاق أدلة الاعتبار الشمول للحقوق، بل یمکن ان یقال بورود الروایة الواردة فی الرّحی المتقدمة فی الحقوق دون المنافع، فتدبّر.

الثالث هل تجری قاعدة الید فی النسب و الاعراض أم لا؟

و ذلک کما لو تنازع شخص مع آخر فی امرأة تحت ید أحدهما، أی: فی بیته و یعاملها معاملة الزوجة، و هکذا فی صبیّ تحت ید أحدهما، فیدعی الأخر کونها زوجة له أو ولداً له، و ینکره صاحب الید بالمعنی المذکور، لا یبعد ان یقال بثبوت بناء العقلاء هنا ایضاً، کثبوته فی الاملاک، بل یمکن ان یقال بأقوائیة الملاک هنا، فان الظن الحاصل من الغلبة هنا أقوی من الظن الحاصل فی الاملاک؛ لشیوع الغصب فیها دون المقام، نعم الظاهر اختصاص الاعتبار فی الفرض الأوّل بما إذا لم یکن هناک إنکار من ناحیة الزّوجة التی فی بیته؛ لانه مع وجود الإنکار لم یثبت بناء العقلاء، لو لم نقل بثبوت العدم، فتدبّر. و یؤید ما ذکرنا حکایة الإجماع علی تقدیم قول صاحب الید فیما لو تنازع رجلان فی زوجیّة امرأة هی تحت أحدهما، نعم فی مسألة تنازع اثنین علی بنوّة صبی فی ید أحدهما یظهر من کلماتهم التساوی فی الدعوی، و انه من باب التداعی دون المدّعی و المدّعی علیه. نعم قال فی محکی القواعد (1): و لو تداعیا صبیّاً و هو فی ید أحدهما لحق بصاحب الید خاصّة، علی اشکال، و یظهر من الفخر (2)فی شرحه وجود القائل به، و إن اختار نفسه العدم، معلّلاً بان الید لا تأثیر لها فی النسب و لا فی ترجیحه،

ص:397


1- 1) القواعد 2:230 کتاب القضاء.
2- 2) إیضاح الفوائد 4:399.

بل ربما یقال بان التقدیم لو قیل به انما هو لترجیح أحد الإقرارین بالید لا لتقدیم قول ذی الید، من حیث هو ذو الید، علی من یدّعی علیه، هذا و الظاهر ما ذکرنا.

الرّابع قد وقع التسالم بین الفقهاء علی قبول إقرار ذی الید لأحد المتنازعین

فیما بیده بحیث یجعله المنکر کنفس ذی الید و یجعل الطرف الآخر مدّعیاً و علیه إقامة البیّنة و انّما الإشکال فی وجهه و اختلفت الآراء فی ذلک علی أقوال:

أحدها ان الوجه فی ذلک هی قاعدة إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز نظراً الی ان مقتضاها نفوذ الإقرار علی النفس و بضرره و حیث انّ ذا الید فی المقام یقرّ لشخص آخر و یعترف انّه له فهذا إقرار علی النفس و اللازم الأخذ به و الحکم بنفوذه و مضیّه.

أقول قد مرّ فی البحث عن قاعدة الإقرار ان مقتضاها الاقتصار فی النفوذ و المضیّ علی المقدار الذی بضرره و علی خصوص الجهة التی تکون علیه و أمّا الإقرار بنفع الغیر فلا یستفاد من القاعدة جوازه و نفوذه فالإقرار علی ان ما بیده ملک لزید مثلاً له جهتان إحداهما الجهة السلبیّة و هی عدم کونه له و الأخری الجهة الاثباتیة و هی کونه لزید فی المثال و الذی یستفاد من القاعدة نفوذه و مضیه هی الجهة الأولی فقط و قد تقدم فی البحث عن القاعدة ایضاً انه لا فرق فی ذلک بین ان یکون الظرف متعلقاً بالإقرار و بین ان یکون متعلقاً بجائز و انه علی التقدیر الأوّل أیضاً لا دلالة للقاعدة علی نفوذ الإقرار علی النفس مطلقا و لو بالإضافة إلی الجهة الاثباتیة فراجع.

ص:398

ثانیها ان الوجه فی ذلک هی قاعدة «من ملک شیئاً ملک الإقرار به» نظراً الی ان ذا الید مالک لان یملک ما فی یده للغیر ببیع أو صلح أو نحوهما فیملک الإقرار بأنه له.

و یرد علیه ان الذی یملکه هو تملیک الغیر المقرّ له فیملک الإقرار به، و المفروض فی المقام انه لم یقرّ به، بل أقرّ بکونه للمقرّ له، و إن مالکه و المقر لا یکون مالکاً لهذه الجهة حتی یملک الإقرار به، ففی هذا الوجه خلط.

ثالثها: ما حکی عن المحقق العراقی (1)(قده) من ان الید امارة علی ملکیّة ذی الید بالدلالة المطابقیة، و علی نفی کونه للغیر بالدلالة الالتزامیة، و هاتان الأمارتان تسقطان بسبب الإقرار للغیر، و أمّا بالنسبة الی ما عداهما فأماریتها باقیة علی حالها، فالنتیجة قیام الحجة علی نفی الملکیة عن ذی الید و عن غیره، ما عدا المقرّ له، و معلوم ان المال لا یبقی بلا مالک، و بعبارة اخری: ان هذا المال امّا للمقرّ له أو لغیره یقیناً، فاذا ثبت بواسطة إقرار ذی الید انه لیس لغیر المقرّ له، فلا بد و إن یکون له، فیکون هو المنکر و طرفه المدعی بناء علی ما هو التحقیق من ان المدّعی من یکون قوله مخالفاً للحجة الفعلیّة، و المنکر من یکون قوله مخالفاً للحجة الفعلیة.

و یرد علیه مضافاً الی ما عرفت من ان تمییز المدعی عن المنکر موکول الی العرف کسائر العناوین المأخوذة فی الأدلة موضوعاً للأحکام انه لا بد فی المقام من ملاحظة ان بناء العقلاء علی اعتبار إقرار ذی الید بالنسبة الی المدعی لما تحت یده هل یختص بما إذا لم یکن فی مقابل المدّعی مدّع آخر، أو یعمّ صورة وجود مدع آخر ایضاً؟ فعلی الأوّل لا یبقی مجال

ص:399


1- 1) القواعد الفقهیة للبجنوردی 1:137.

لما افاده؛ لعدم اعتبار الإقرار بوجه، فیصیر الرجلان متداعیین، و علی الثانی یکون المقرّ، له کنفس المقر و یقوم مقامه، فعلی الأخر إقامة البیّنة و لا یبعد ترجیح الثانی.

الخامس لو أقرّ بما فی یده لزید، ثمّ أقرّ به لعمرو، بان یکون المقرّ به فیهما تمام ما فی یده، ففی المسألة صورتان:

أولاهما: ما إذا کان الإقرار للثانی بعد الإقرار للاوّل، و فی کلام منفصل،

بل و فی مجلس آخر مثلاً و الظاهر عدم کون هذه الصورة مورداً لتعرض الأصحاب، کما ان الظاهر ان الحکم فیها بطلان الإقرار الثانی و عدم نفوذه علی المقرّ بوجه؛ لان نفوذ الإقرار الأوّل مع کونه واجداً للشرائط یجعل المقر أجنبیّا عن المقرّ به؛ لانه یحکم بسببه بکون المال للمقرّ له، و یؤخذ من یده و یجعل تحت ید المقرّ له، و لا مجال لتوهم کون نفوذه معلّقاً علی عدم إقرار بخلافه فیما بعد، و إلا تلزم لغویة القاعدة، مضافاً الی انه لا دلیل علیه؛ لان مقتضی قاعدة الإقرار ترتب الحکم بالمضی بمجرد تحقق موضوعه، و هو إقرار العاقل علی النفس، کما ان دعوی کون الإقرار الثانی بمنزلة التفسیر و شرح المراد من الإقرار الأوّل، فینبغی الاعتماد علیه، مدفوعة مضافاً الی عدم کونه تفسیراً له عرفاً بل مناقضاً و مغایراً له بعدم کون التفسیر بهذا النحو فی المحاورات العرفیّة مورداً لقبول العقلاء، و قد عرفت فی البحث عن قاعدة الإقرار الفرق بین مقام التقنین و جعل القانون و بین المحاورات العرفیّة الواقعة فی مقام بیان المقاصد، و علیه فالحکم فی هذه الصورة هو لغویة الإقرار الثانی.

ثانیتهما: ما إذا کان الإقرار للثانی عقیب الإقرار للاوّل و فی نفس

ص:400

ذلک الکلام، غایة الأمر بصورة الإضراب، کما إذا قال: هذا المال لزید بل لعمرو، و المشهور بل ادعی جماعة انه لا خلاف معتد به فیه، بل عن الإیضاح (1)ان ذلک من قواعدهم و لعلّه ظاهر فی الإجماع انه یقضی بما فی یده للاوّل و بغرامة بدله مثلاً أو قیمة للثانی؛ لأنه بإقراره الأوّل حال بین المقر له الثانی و بین ماله، فیجب علی المقر المثل أو القیمة.

و حکی عن ابن الجنید (2)الرجوع إلیه فی مراده ان کان حیّاً، و إلا فهو مال متداعی بینهما، فان انتفت البیّنة، حلفا و اقتسماه، و نفی عنه البعد فی الدروس (3)؛ إذ انه بعد حکایته عنه قال: «و لیس ذلک ببعید، لانه نسب الإقرار إلیهما فی کلام متصل و رجوعه عن الأوّل الی الثانی، محتمل لکونه عن تحقق و تخمین، فالمعلوم انحصار الحق فیهما، اما تخصیص أحدهما فلا» .

و احتمل فی المسالک (4)انه یقضی به للاوّل و لا یغرم للثانی؛ لأنه إقرار بما تعلّق به حق الغیر قبله کالصّورة الأولی.

و دلیل المشهور انه بالإضراب عدل عن إقراره الأوّل، و لا یسمع منه؛ لأنه إنکار بعد الإقرار، و قد مر فی بحث قاعدة الإقرار أنه لا یسمع الإنکار بعد الإقرار، فلا بد من ترتیب آثار الإقرار الأوّل، و لازمه إعطاء العین التی بید المقر الی المقرّ له الأوّل، و أمّا نفوذ إقراره الثانی؛ فلان المفروض ان المال بعد فی یده، و الکلام متصل، و له ان یلحق بکلامه

ص:401


1- 1) إیضاح الفوائد 2:458.
2- 2) علی ما نقل فی المختلف 1:264 کتاب الإقرار.
3- 3) الدروس 3:132.
4- 4) مسالک الافهام 1:177.

ما شاء من الإضراب و غیره، و لمّا کانت ان العین قد أعطیت إلی الأوّل، فلا بد من أداء المثل أو القیمة الی الثانی.

و قد أورد صاحب (1)الجواهر علی الدّروس بان احتمال السهو و غیره لا ینافی التعبد بظاهر قوله؛ لقاعدة الإقرار، فیکون کلا الإقرارین نافذاً، غایة الأمر انه یعطی العین للاوّل، و المثل أو القیمة للثانی، و بمثله أورد علی صاحب المسالک ایضاً.

و لکن أجیب عنه بان حال هذین الإقرارین حال سائر الأمارتین المتعارضتین، فیتساقطان؛ للعلم بکذب أحدهما و سقوط الید عن الاعتبار، فیکون من باب التداعی، و النتیجة، التحالف و التنصیف، الّا ان یقال بالموضوعیة فی باب الإقرار و هو فی غایة البعد.

و التحقیق ان یقال: انه لو لم یکن فی المسألة إجماع کما هو الظاهر، و یؤیده مخالفة ابن الجنید و الشهیدین، لکان اللازم إعطاء العین المقر بها الی المقر له الثانی، من دون غرامة للاوّل بشیء، و ذلک لانه لا مجال للحکم بثبوت إقرارین فی المقام، فإن الإقرار نوع من الاخبار، غایة الأمر ان الإقرار علی النفس اخبار بثبوت شیء و قراره و تحققه، و کون هذا الاخبار مما یترتب علیه الضرر علی نفس المقرّ، و بعبارة اخری: یکون المخبر به و المحکیّ عنه بضرر المخبر، و علیه فلا بد من ملاحظة انه فی موارد الاخبار بشیء نظیر المقام المشتمل علی بل الاضرابیة کقوله: جاءنی زید بل عمرو، هل یکون هناک خبران أو خبر واحد؟ و علی التقدیر الثانی، هل یکون المخبر به مجیء زید أم مجیء عمرو، لا ینبغی الإشکال بمقتضی ما ذکره علماء

ص:402


1- 1) الجواهر 35:131.

الأدب و النّحویون ان المخبر به فی الجملة المشتملة علی بل الاضرابیة شیء واحد هو مجیء عمرو فی المثال، و انه المعیار فی صدق القضیة و کذبها، فاذا کان الجائی فی المثال عمراً، تکون القضیة صادقة، و إذا لم یکن الجائی عمراً تکون القضیة کاذبة، سواء جاء زید أم لم یجیء.

و اللازم علی هذا ان یعامل فی المقام معاملة الإقرار مع الإقرار الثانی؛ لأنّه بعد ما کان هذا النحو من المحاورة و إفادة المقصود غیر باطل، و بعد انه یجوز للمتکلم أن یلحق بکلامه ما شاء، لا مجال لدعوی ثبوت إقرارین، و لا لدعوی صحة الإقرار الأوّل؛ لعدم الفرق بین المقام و بین المثال أصلاً.

السادس لو اشترک أزید من واحد فی الاستیلاء علی عین، فهل یکون استیلاء کل واحد منهما علی المجموع أو علی النصف المشاع؟

و علی التقدیرین فهل تکون ید کل منهما مستقلة تامّة، أو لا تکون إلّا ناقصة؟ وجوه و احتمالات بحسب بادئ النظر، و فی التصور الابتدائی.

قد یقال کما قاله سید الأساطین فی ملحقات العروة (1): إنه لا مانع من اجتماع الیدین المستقلتین علی مال واحد، کما ان الأقوی عنده جواز اجتماع المالکین المستقلین علی مال واحد، کما إذا کان ملکاً للنوع کالزکاة و الخمس و الوقف علی العلماء و الفقراء مثلاً و علی نحو بیان المصرف؛ فان کلّ فرد من النوع مالک لذلک المال، بل لا مانع من اجتماع المالکین الشخصیین ایضاً، کما إذا وقف علی زید و عمرو، أو اوصی لهما علی نحو بیان المصرف، فإنه یجوز صرفه علی کل واحد منهما، فدعوی عدم معقولیة

ص:403


1- 1) العروة الوثقی 3:123.

اجتماع المالکین علی مال واحد لا وجه لها، مع انه لا اشکال عندهم فی جواز کون حق واحد لکل من الشخصین مستقلا، کخیار الفسخ، و کولایة الأب و الجدّ علی مال الصغیر، و من المعلوم عدم الفرق بین الحق و الملک.

أقول: الملکیة المستقلّة عند العقلاء هی النسبة الخاصّة الحاصلة بین المالک و المملوک، المعتبرة عند العقلاء، المستتبعة للاختصاص الذی هو لازم أعمّ لها؛ ضرورة انه قد یوجد بدونها، و لکنه لا یمکن تحققها بدونه، فحصول هذه النسبة بدون الاختصاص غیر معقول، و من الواضح ان الاختصاص مغایر للاشتراک تغایر الضدین اللذین لا ثالث لهما، ففی مورد تحقق واحد منهما یمتنع حصول الأخر و یستحیل تحققه، و حینئذ نقول: ان فرض جواز اجتماع المالکین المستقلین علی مال واحد مرجعه الی فرض وجود الشیء و عدمه فی زمان واحد؛ ضرورة ان الملکیة المستقلة علی ما عرفت هی نسبة لازمها الاختصاص المغایر للاشتراک، و فرض الاجتماع مرجعه الی الاشتراک الذی لا یکاد یجتمع مع الاختصاص، فمرجع هذا الفرض الی فرض الاختصاص و عدمه فی زمان واحد، کما هو ظاهر.

و أمّا الموارد المتقدمة التی استشهد بها علی جواز اجتماع المالکین المستقلین علی مال واحد، فالظاهر عدم کون شیء منها من هذا الباب، و توضیحه:

انّ ما کان ملکاً للنوع لا یکون مالکه متعدداً؛ لان المالک هو النوع و هو غیر متعدّد، و الأفراد بما أنّها افراد متعددة و لها خصوصیات متکثرة لا تکون مالکة أصلاً، بل ذکر سیدنا الأستاذ الأعظم الخمینی (1)(مد ظله

ص:404


1- 1) الرسائل 1:271.

العالی) أنه یختلج بالبال فی الزکاة و الخمس عدم کونهما ملکاً للنوع ایضاً فضلاً عن الافراد و المصادیق، بل المالک لهما هی الدولة الإسلامیة الشاملة للفقیه فی زمان الغیبة، یصرفها فی المصارف المعینة، کما ان الدّول عند العقلاء مالکة یعتبرون لها الملک و إن کانت غیر قائمة بشخص خاص، بل یکون فی حال تغیّر و تبدّل.

و دعوی انه لا یعقل کون غیر ذوی العقول مالکاً معتبرة له النسبة التی هی الملک، مدفوعة بمنع عدم التعقل، بل هو واقع جدّاً؛ ضرورة ان الوقف علی المساجد لا یکون المالک له الّا نفس المسجد، و وقف بعض الأشیاء علی الضرائح المقدسة لا یقتضی إلّا صیرورة المالک له نفس ذلک الضریح، و غیر ذلک من الموارد، فالمالک للزکاة و الخمس هی نفس الدولة الإسلامیة التی هی أمر اعتباری قائم بأشخاص متعددة، و حینئذ لا یبقی مجال لما ذکره، بل علی تقدیر کونهما ملکاً للنوع فکما عرفت انه لا یکون المالک لهما الّا واحداً و هو النوع، و خصوصیات الافراد لا دخل لها أصلاً.

و منه یظهر الجواب عما إذا وقف علی العلماء أو الفقراء أو علی نحو بیان المصرف؛ فان المالک فی هذا المورد ایضاً هو النوع لا الافراد، و أمّا الوقف علی خصوص زید و عمرو، أو الوصیة لهما علی نحو بیان المصرف، فعلی هذا التقدیر، ای: تقدیر ان یکون علی نحو بیان المصرف، لا بد من الالتزام بان المالک هو القدر المشترک، الذی ینطبق علی زید و علی عمرو لا خصوص کلّ منهما، و علی غیر هذا التقدیر لا بد من القول باشتراکهما فی العین الموقوفة أو الموصی بها، بنحو یکون لکل منهما النصف المشاع لا المجموع، کما لا یخفی.

ص:405

و أمّا جواز کون حق واحد لکل من الشخصین مستقلا کخیار الفسخ، فهو و إن کان ممّا لا ینکر، الّا ان الظاهر ثبوت الفرق بین الحق و الملک عند العقلاء الذین هم المرجع فی مثل هذا الباب، و یشهد لذلک انه لو قامت بیّنة علی ان المال الفلانی مملوک بتمامه لزید، و بیّنة اخری علی انه مملوک بتمامه لعمرو، فالنسبة بین البینتین عند العقلاء هی التعارض و التکاذب، و لیس ذلک الّا لعدم إمکان اجتماع مالکین مستقلین علی ملک واحد، و هذا بخلاف ما لو قامت بینة علی ثبوت حق الفسخ لزید و بینة اخری علی ثبوته لعمرو؛ فإنهم لا یرون تعارضاً بین البینتین؛ بل یحکمون بثبوت الحق لهما بنحو یکون لکل واحد منهما الفسخ مستقلا و لیس ذلک الّا لجواز اجتماع شخصین علی حق واحد، و مع هذا الفرق عند العقلاء لا یبقی مجال لقیاس الملک بالحقّ.

و لعلّ السرّ فی الفرق ان الملک کما عرفت مستتبع للاختصاص الذی هو مغایر للاشتراک، و لا یکاد ینفک الملک عن الاختصاص أصلاً، و أمّا الحقوق فالظاهر اختلافها، فبعضها یکون کالملک کحق التحجیر و نحوه، فإنه لو اشترک اثنان فی تحجیر موضع مباح یکون حقّا مشترکاً بینهما، و لا یکون کل واحد منهما مستقلا بالنسبة إلیه، و بعضها لا یکون مستتبعاً للاختصاص کالملک، بل یمکن اجتماع أزید من واحد بالنسبة إلیه، کحق الفسخ علی ما عرفت، و هذا لا فرق فیه بین ان یقال بتعلق حق الخیار بالعین، أو بتعلقه بنفس العقد، أو لا بهذا و لا بذلک، بل هو عبارة عن مجرد کون الرجل مختاراً فی فعله الذی هو الفسخ، کما اختاره القائل (قده) فی حاشیة المکاسب، و بالجملة الحق لا یکون ملازماً للاختصاص، بخلاف الملک، فقیاس أحدهما

ص:406

بالآخر قیاس مع الفارق.

ثمّ انه أجاب بعض المحققین فی رسالته التی صنّفها فی قاعدة الید عن هذا القیاس بما لفظه: «ان الوحدة تارة تنسب الی العقد، و أخری الی الفسخ، فالأوّل موضوع حق الخیار، و الثانی متعلّقه، فیراد تارة قیام حقین لشخصین بعقد واحد، و أخری یراد قیام سلطنتین علی حلّ واحد؛ لانّ العقد واحد فحلّه ایضاً واحد، و من الواضح ان أحد الطرفین لاعتبار الحقّ هو ذو الحقّ، و طرفه الأخر هو حلّ العقد، فالنسبة الخاصة متقوّمة بطرفها و هو الحلّ دون العقد الخارجی الوحدانی، و المقوّم للحلّ المتعلق به الاعتبار فی أفق الاعتبار هو العقد بوجوده العنوانی لا بوجوده العینی، فبالنسبة إلی أفق الاعتبار اعتباران متعلقان بحصتین من الحلّ المتقوم کل منهما بوجود عنوانی من العقد، و وحدة طبیعیّ الحلّ لا توجب ورود حقین علی واحد شخصی؛ بداهة ان الحلّ القائم بأحدهما غیر الحلّ القائم بالآخر، فمتعلق سلطان کل منهما غیر متعلق سلطان الأخر» .

و یرد علیه: ان الحلّ الذی هو أحد الطّرفین لاعتبار الحق لیس هو طبیعی الحلّ الذی یتقوّم بالعقد بوجوده العنوانی؛ ضرورة ان السّلطنة الثابتة لکل منهما انما هی علی الحلّ المضاف الی العقد الشخصی الذی وقع فی الخارج، لا حلّ العقد بعنوانه العامّ، و من المعلوم ان الحلّ المضاف الی الأمر الوحدانی الخارجی لا یکون الّا واحداً لا تعدد فیه أصلاً، فإثبات تغایر متعلقی السّلطانین بذلک ممّا لا مجال له، بل الظاهر ما عرفت من عدم قدح الوحدة فی تعدّد ذی الحق؛ لأن مرجع حق الفسخ إلی القدرة علی ابطال العقد و عدمه، و لا مانع من اتصاف شخصین أو أزید بوصف القدرة

ص:407

علی ذلک، کما ان الأمر کذلک بالنسبة إلی الأمور التکوینیّة أیضاً، أ لا تری انه یمکن قیام وصف القدرة علی هدم دار مثلاً بمثل زید و عمرو و أکثر منهما مع ان هدم الدار لا تعدّد فیه أصلا ضرورة انه لا یعقل الهدم بعد الهدم؟ فتدبّر، و الحاصل ان تعدّد ذی الحق لا یستلزم تعدّد الحق کما عرفت.

و أمّا ولایة الأب و الجدّ علی مال الصغیر، فالظاهر ان مرجعها الی جعل حق التصرف لهما بما ان کل واحد منهما مدبّر یتصرف فی مال الصّغیر عن تدبیر، و لو سبق أحدهما بالتصرف لا یبقی موضوع لتدبیر الآخر، کما فی الوکلاء المتعددین، فإنه مع اتصاف کل منهم بوصف الوکالة و جواز تصرفه فی ما وکّل به، لا یبقی موضوع لوکالة المسبوق بتصرف وکیل آخر أو نفس الموکّل، کما هو واضح.

ثمّ انّه (قده) (1)بعد کلامه المتقدم بسطرین قال: «و دعوی ان مقتضی الملکیة المستقلّة ان یکون للمالک منع الغیر، و إذا لم یکن له منع الغیر فلا یکون مستقلا، ممنوعة؛ فإن هذا ایضاً نحو من الملکیة المستقلّة، و نظیره الوجوب الکفائی و التخییری فی کونهما نحواً من الوجوب مع کونه جائز الترک» .

و یرد علیه: ان الملکیة المستقلة علی ما عرفت هی المستتبعة للاختصاص الذی هو ضدّ الاشتراک، و لا یعقل تحققها مع عدم جواز منع الغیر، و لیس النزاع فی إطلاق لفظ الاستقلال، حتی یدعی جواز إطلاقه علی بعض افراد غیر المستقل ایضاً، بل النزاع فی حقیقته التی قد عرفت أنها مساوقة للاختصاص الموجب لجواز منع الغیر، و العجب من التنظیر

ص:408


1- 1) العروة الوثقی 3:123.

بالوجوب الکفائی و التخییری، فإنه لا إشکال فی أنهما نحوان من طبیعة الوجوب الصادقة علی العینی و الکفائی، و کذا التعیینی و التخییری، و لا یکونان من افراد العینی و التعیینی، و الغرض من التنظیر إثبات کون ما لم یکن للمالک منع الغیر، من افراد الملکیة المستقلّة، لا طبیعة الملکیة الصادقة علی المستقلّة و غیرها، و لعمری انه اشتباه واضح، و قد انقدح من جمیع ما ذکرنا بطلان دعوی جواز اجتماع المالکین المستقلّین علی مال واحد.

و بعد ذلک نرجع إلی أصل المقصود و هو ان استیلاء شخصین أو أزید علی مال واحد، هل یمکن ان یکون علی سبیل الاستقلال أم لا؟ و الظاهر هو العدم؛ لأن حقیقة الاستقلال ترجع الی عقد إیجابی، و هو جواز التصرف فیه، و عقد سلبی، و هو جواز منع الغیر عنه، فاجتماع استیلاءین مستقلین بعد مساوقة الاستقلال للاختصاص الموجب لجواز منع الغیر مما لا یمکن، کما یظهر ذلک بالتدبر فی نظائره، أ لا تری ان استقلال الملک بالنسبة إلی مملکته، و الحاکم بالنسبة الی بلده، لا یتحقق مع تصرف الغیر فیهما ایضاً، فاتصاف کل من الیدین بوصف الاستقلال ممّا لا وجه له أصلاً.

و یبقی الکلام بعد ذلک فی ان استیلاء شخصین أو أزید علی مال واحد هل یکون استیلاء علی المجموع، غایة الأمر کونه غیر مستقلّ، أو استیلاء مستقلا بالنسبة إلی النصف المشاع مثلاً أو غیر مستقل بالنسبة إلیه؟ و قبل الخوض فی ذلک ینبغی التکلم فی الکسر المشاع و إمکان الإشاعة و بیان حقیقتها، فنقول:

أوّلاً ان الجهل بحقیقة الإشاعة علی تقدیره لا یمنع من الالتزام

ص:409

بوجودها بعد شیوعها بین العقلاء؛ ضرورة أن المالکیة بالاشتراک المعتبرة بین العقلاء فوق حدّ الإحصاء، و بهذا یجاب عمّا یقال کما عن بعض الأعاظم من المعاصرین من ابتناء الإشاعة علی القول ببطلان الجزء الذی لا یتجزّأ؛ نظراً إلی انه لو انتهت التجزئة إلی حدّ غیر قابل لها، لا یبقی للإشاعة فیه بعد عدم قبوله للتجزیة مجال، و أمّا لو قیل: إن کل جزء متصوّر فهو قابل للتجزیة فلا مانع من الإشاعة حینئذ.

و الجواب: انه من الواضح انه لا تکون الإشاعة مبتنیة علی تلک المسألة العقلیة التی هی مورد للخلاف بین الفلاسفة و المتکلمین؛ ضرورة ان المتکلم القائل بعدم بطلان الجزء غیر القابل للتجزّی لا یأبی من الاشتراک فی الملک و نحوه بداهة، فالظاهر انه لا إشکال فی شیوع الإشاعة بین جمیع العقلاء، و الجهل بحقیقتها علی تقدیره لا یمنع عن التصدیق بوجودها بعد تداولها بلا ریب و لا إنکار، مضافاً الی عدم کونها مجهولة؛ لأن الظاهر ان الإشاعة أمر اعتباری عقلائی تتصف به العین الخارجیّة فی الخارج، و إن کان وعاء الاعتبار الذهن.

توضیح ذلک: ان الکسر المشاع لا یعقل ان یکون امراً عینیّاً خارجیّاً؛ ضرورة ان الموجود فی العین یستحیل ان یکون مبهماً لا معیّناً؛ لان الوجود مساوق للتعیّن الّذی هو نقیض الإبهام، و تردد الشبح الجائی من بعید بین زید و عمرو مثلاً لا یستلزم الإبهام فیه؛ لانه معین بحسب الواقع، غایة الأمر هو مجهول لنا، فالواقع المعیّن مردّد عندنا بین کونه زیداً أو عمراً لا انه مردّد واقعاً بینهما کما هو واضح، فالکسر المشاع الذی هو أمر غیر معین لا یعقل ان یکون امراً خارجیّاً، کما انه یستحیل ان یکون

ص:410

منتزعاً منه؛ لان المعین الذی لا تشوبه شائبة الإبهام لا یعقل ان یکون منشأً لانتزاع اللّابدیة معین الخالی من جمیع شئون التعیّن.

فلا بد من ان یقال: ان الکسر المشاع هو أمر اعتباری، یعتبره العقلاء فی وعاء الاعتبار الذی هو الذّهن، و إن کان ظرف الاتصاف به هو الخارج، فالموجود الخارجی متصف فی الخارج بأنّه له نصفان مثلاً و إن کان ظرف هذا الاعتبار هو الذهن، و لا غرو فی ان یکون العروض فی الذهن و ظرف الاتصاف هو الخارج، و هذا نظیر ما قاله الحکماء من ان اتصاف الماهیة بالإمکان فی الخارج، و إن کان العروض فی الذهن، و إلا یلزم التسلسل و نحوه، بل جمیع الأمور الاعتباریة العقلائیة التی لها مساس بالخارج کذلک؛ ضرورة ان الشیء یتصف فی الخارج بوصف المملوکیة، و الإنسان یتصف فی الخارج بوصف المالکیة، مع ان المالکیة و المملوکیة أمران اعتباریان لا یکون لهما ما بحذاء فی الخارج، کما ان المرأة متصفة فی الخارج بوصف الزوجیة، و کذا الزوج، مع عدم ثبوت شیء زائد علی ذاتهما فی الخارج، کما هو ظاهر.

ثمّ ان بعض المحققین أفاد فی بیان حقیقة الکسر المشاع فی رسالته فی قاعدة الید ما لفظه: «لا ریب فی ان الکسر المشاع یقابل الکلّی فی المعین، و أمّا إرجاعه إلیه فإنّما هو من باب الإلجاء و عدم الوقوف علی حقیقته، بل الکسر المشاع جزئی، و لأجله ربما یشکل بأن الجزئیة و الشیوع و السریان لا یجتمعان، و قد غفل عن ان الموجود الخارجی علی قسمین: موجود بوجود ما بحذائه، و موجود بوجود منشأ انتزاعه، فما له مطابق بالذات و موجود بالفعل نفس منشأ الانتزاع، و أمّا الأمر الانتزاعی فموجود

ص:411

بالعرض و القوة بنحو وجود المقبول بوجود القابل، و علیه فمفهوم النصف مثلاً ربما یکون موجوداً بوجود ما بحذائه و هو نصف المعین فی المعیّن، و ربما یکون عنواناً لموجود بالقوة لتساوی نسبته الی جمیع الإنصاف المتصورة فی العین باختلاف کیفیة التنصیف و التقسیم، فهذا الموجود بالقوة المتساوی النسبة جزئی بجزئیة منشأ انتزاعه، و له شیوع و سریان باعتبار قبوله لکل تعیّن من التعینات الخارجیّة المفروضة، و لأجله تکون القسمة معینة للاّمعین من دون لزوم معاوضة و مبادلة بین أجزاء العین، و علیه فالمملوک لکل واحد من الشریکین أوّلاً و بالذات هو النصف المشاع، و لیس لکل عین الّا نصفان علی الإشاعة، و العین الخارجیة مورد لمملوکین بالذات، فتکون مملوکة بالعرض، علی عکس من یملک عیناً واحدة بالذات؛ فإنه یملک کسورها المشاعة بالعرض، و مما ذکرنا تعرف ان المملوک بالذات لکل من الشریکین ملک استقلالی اختصاصی، فلذا لا یتوقف التصرف فی نصفه المشاع علی اذن من شریکه، و ما هو مورد للنصفین المشاعین و هی العین هی المنسوب إلیها الاشتراک و عدم الاستقلالیة، و لیست فی الحقیقة مملوکة بالذات لأحد، بل من حیث الموردیة للنصفین منها ینسب إلیها الملکیة بالعرض، فلم یلزم قیام فردین من الملکیة الحقیقیة الذاتیّة بعین واحدة، فتدبر؛ فإنه حقیق به» .

و أورد علیه سیدنا الأعظم الخمینی (1)(مد ظله العالی) بوجوه من الإیرادات:

منها: ان المراد من قوله: «ان مفهوم النصف مثلاً ربما یکون

ص:412


1- 1) الرسائل 1:275.

موجوداً بوجود ما بحذائه و هو نصف المعین فی العین» ان کان هو تحقق ذلک المفهوم و وجوده بوجود ما بحذائه قبل لحوق التقسیم الحقیقی أو الوهمی الاعتباری للعین الخارجیة، بحیث یکون الموجود فی الخارج واجداً للنصفین حقیقة و فعلاً، و لو لم تلحقه کثرة بعد، فیرد علیه: ان لازمه وجود الأمور غیر المتناهیة فعلاً فی شیء محصور بین حاصرین؛ ضرورة أن الکسور غیر متناهیة، و کما ان النصف موجود یکون نصف النصف ایضاً موجوداً، و هکذا الی ما لا نهایة له؛ لبطلان الجزء غیر القابل للتجزیة، فالأمر المتناهی الذی هو العین الخارجیة المحصورة بین الحاصرین یکون حینئذ واجداً حقیقیة للأمور غیر المتناهیة الموجودة بالوجود الحقیقی الذی له محاذٍ فی الخارج، و من المعلوم استحالة ذلک، فلا بدّ من ان یکون المراد من ذلک القول هو کون مفهوم النصف موجوداً بوجود ما بحذائه بعد عروض التقسیم للعین الخارجیة حقیقة، کما إذا انکسر الحجر الواحد و صار نصفین، أو وهماً کما إذا قسم اعتباراً من دون ان یقع فیه تغییر.

و حینئذ یرد علی ذلک ایضاً مضافاً الی انه بعد لحوق التقسیم خصوصاً فی التقسیم الحقیقی لا یبقی مجال و محلّ لعنوان النصف ان النصف الموجود فی الخارج کما یکون منطبقاً علیه عنوان النصف إذا لوحظ بالنسبة إلی المرکب منه و من النصف الأخر، کذلک ینطبق علیه عنوان الثلث أیضاً إذا لوحظ بالنسبة إلی المرکب منه و من الأمرین الآخرین؛ فانّ حبة من الحنطة مثلاً إذا لوحظت بالنسبة إلی حبّتین تکون نصفاً منهما، و إذا نسبتاً الی ثلاث حبّات تکون ثلثاً منها، و هکذا، و یلزم حینئذ ان تکون الأمور غیر المتناهیة التی هی الکسور غیر المتناهیة علی ما عرفت من بطلان

ص:413

الجزء الذی لا یتجزّأ موجودة حقیقة بوجود حبة من حنطة، و هو محال علی ما تقدم.

فالتحقیق: ان الشیء الموجود فی العین قبل لحوق التقسیم الحقیقی بالنسبة إلیها لا یکون الّا واحداً کما هو المحقق فی محلّه، من ان الوجود و التشخص مساوق للوحدة، و إن الکثرة بما هی کثرة تستحیل ان تتحقق فی الخارج، فثبوت النصفین لها لا یکون الّا بحسب الاعتبار و الوهم، کما ان الشیء بعد عروض الانقسام علیه لا تکون اجزاؤه الّا بحیث یکون کل واحد منها وجوداً مستقلا، و اتصافه بالجزئیة للمجموع و کونه نصفاً مثلاً منه لا یکون الّا بحسب الاعتبار؛ ضرورة انّ المجموع لا یبقی له وجود مستقلّ بعد الانقسام الّا اعتباراً، فاجزاؤه بما أنّها أجزاؤه ایضاً کذلک؛ لتضایف الوصفین، کما هو غیر خفیّ.

و منها: ان ما أفاده فی الکسر المشاع من انه عبارة عن موجود بالقوة تتساوی نسبته الی جمیع الإنصاف مثلاً المتصورة فی العین، و هو جزئی بجزئیة منشأ انتزاعه، و له شیوع و سریان باعتبار قبوله لکلّ تعین، محل نظر بل منع؛ لان المراد بالموجود بالقوة ان کان هو الهیولی القابلة للتّصور بصور مختلفة و التشکل بإشکال متعدّدة، فیرد علیه: ان لازم ذلک ان یصیر الموجود بالقوة فعلیّاً بعد عروض الانقسام له بوجه، مع انّا نری بقاء الإشاعة فی بعض الموارد، کما إذا وقع الانقسام بغیر رضا الشریکین، فإنّه حینئذ لا یکون الهیولی قابلة للتصور بغیر تلک الصّورة؛ لتبدل القوة إلی الفعلیّة، مع وضوح بقاء الاشتراک فی المجموع المقتضی للإشاعة.

هذا مضافاً الی انه ربما یکون الاشتراک و الإشاعة بالنسبة إلی

ص:414

الأشیاء المنفصلة بالحقیقة، کما إذا کان قفیز من برّ مشترکاً بین شریکین؛ فان کل واحد من حبّات الحنطة وجود واحد مستقل منفصل عن الحبّة الأخری حقیقة، فأین الهیولی القابلة للتّصور بصور مختلفة.

و إن کان المراد بالموجود هو الأمر المبهم القابل للانطباق علی کل نصف یتصور فی العین، باعتبار اختلاف کیفیة التنصیف و التقسیم، فیرد علیه انّ انتزاع ما حقیقته الإبهام عن الموجود فی العین الذی هو معین محض، غیر معقول، علی ما عرفت سابقاً؛ لان المعین الخالی من شوائب الإبهام کیف یمکن ان یصیر منشأً لانتزاع ما لم تشم منه رائحة التعین؟ کما هو واضح.

و منها: ان ما أفاده فی ذیل کلامه من ان المملوک لکل واحد من الشریکین أوّلاً و بالذات هو النصف المشاع و العین الخارجیة مورد لمملوکین بالذّات، فهی مملوکة بالعرض علی عکس من یملک عیناً واحدة، ممنوع أیضاً؛ فإنه لا فرق فی نظر العرف و العقلاء من حیث اتصاف العین بالمملوکیة بین ما کان المالک لها واحداً أو متعدداً، و کما انها فی الصورة الأولی تکون مملوکة بالذات، کذلک فی الصورة الثانیة، و کیف یمکن دعوی عدم کون العین فی الصورة الثانیة مملوکة فیما لو کان مالکها واحداً، ثمّ نقل نصفها المشاع الی غیره، فإنه یسأل حینئذ عن السبب الذی صار موجباً لخروج العین عن الملکیة رأساً کما هو المفروض، مع ان الناقل لم ینقل الّا نصفها، ثمّ عن السبب الموجب لانتقال النصف المشاع الی الناقل للنصف مع انه لم یکن مالکاً له و لم یتحقق السبب النّاقل، کما هو ظاهر.

کما انّ ما افاده من ان القسمة مرجعها الی تعیین اللّابدیة معین، من دون

ص:415

لزوم مبادلة و معاوضة بین أجزاء العین لا یستقیم؛ ضرورة ان مرجع الإشاعة إلی الاشتراک فی کل جزء متصور، فالتقسیم لا محالة یساوق التبادل بین الاجزاء و لا یعقل بدونه.

و قد بان من جمیع ذلک انه لا محیص فی تفسیر الإشاعة و بیان حقیقتها عما ذکرنا من انها أمر اعتباری عقلائی لیس له ما بحذاء فی الخارج، کما انه لا ینتزع منه بل الاتصاف به انّما هو فی الخارج علی حذو سائر الأمور الاعتباریة العقلائیة، کالملکیة و الزوجیة و نحوهما، فالعین الخارجیة متصفة فی الخارج بانّ لها نصفین قابلین لتعلق الملکیة بهما، غایة الأمر ان وعاء الاعتبار انّما هو الذهن، و مع قطع النظر عن اعتبار المعتبرین لا واقعیة للکسر المشاع أصلاً، بل لا یکون الموجود فی الخارج إلّا أمراً وحدانیّاً شخصیّاً لا تکثر فیه بوجه من الوجوه.

و الفرق بین الإشاعة و بین الکلی فی المعین هو ان الکلی فی المعین أمر کلّی کسائر الأمور الکلیة و الطبائع المتکثرة، غایة الأمر ان دائرة صدقه صارت بسبب التقیید مضیقة؛ فإن تقیید طبیعة الحنطة مثلاً بالحنطة من هذه الصبرة الموجودة فی الخارج، لیس الّا کتقییدها بکونها جیدة مثلاً، فکما ان مثل التقیید الثانی لا یخرج الطبیعة المقیدة عن کونها کلیة، غایة الأمر قلة أفرادها بالنسبة إلی الطبیعة المطلقة کذلک، مثل التقیید الأوّل، لا یخرج الطبیعة المقیدة عن کونها کلیة، فتقیید العالم الذی یجب إکرامه بکونه من أهل البلد الفلانی، کتقییده بکونه عادلاً، بلا فرق بینهما أصلاً.

و أمّا الکسر المشاع فهو أمر جزئی ملحوظ بالنسبة إلی العین الخارجیة، غایة الأمر أنه أمر اعتباری لا یکون له ما بحذاء فی الخارج

ص:416

و لا منشأ للانتزاع؛ لان حقیقته الإبهام، و التعین ینافیه، فلا یعقل اتّحادهما و لا کون المعین منشأ لانتزاعه، فافهم و اغتنم.

إذا عرفت ذلک، فلنرجع إلی أصل المقصود و نقول بعد الفراغ عن استحالة اجتماع استیلاءین مستقلین علی عین واحدة، کاستحالة اجتماع ملکیتین مستقلتین علیها: انه یحتمل تصوّراً ان یکون مرجع استیلاء أزید من واحد علی عین واحدة إلی ثبوت استیلاءین مثلاً علی المجموع، غایة الأمر کونهما ناقصین، و إن یکون مرجعه الی ثبوت استیلاءین تامّین بالنسبة إلی النصف المشاع، و إن یکون مرجعه الی ثبوت استیلاءین ناقصین بالنسبة إلی النصف المشاع ایضاً، و علی التقدیر الأوّل یحتمل ان یکون الاستیلاء الناقص بالنسبة إلی المجموع کاشفاً عن الملکیة الناقصة بالنسبة إلیه، و یحتمل ان یکون امارة علی الملکیة التامّة علی النصف المشاع.

و الظاهر من الاحتمالات الثلاثة هو الاحتمال الأوسط، علی ما هو المعتبر عند العقلاء الذین هم المرجع فی مثل الباب کما عرفت؛ إذ لا معنی لثبوت الاستیلاء علی المجموع و إن کان ناقصاً بعد ان لم یکن المجموع ملکاً للمستولی؛ لان مرجعه الی الاستیلاء علی مال الغیر، و ما هو مستولی علیه له، ثمّ علی فرض صحة هذا الاحتمال، ان قلنا بکون الاستیلاء الناقص یکشف عن الملکیة الناقصة بالنسبة إلی المجموع، فهو لا معنی له؛ لعدم معقولیة اجتماع ملکین علی المجموع، و لو کانا ناقصین، و إن قلنا بکونه کاشفاً عن الملکیة بالنسبة إلی الکسر المشاع، یلزم عدم تطابق الکاشف و المکشوف بوجه، و هو باطل؛ لان الاستیلاء علی المجموع کیف یمکن ان یکشف عن ملکیة النصف المشاع، فهذا الاحتمال ساقط رأساً.

ص:417

و أمّا الاحتمال الثالث، فیبعّده انه بعد کون کل منهما مالکاً للنصف المشاع، یکون کل واحد مستقلا فی التصرف فی ملکه؛ ضرورة انه یجوز لکل من الشریکین نقل حصته الی الغیر بالبیع أو الهبة أو غیرهما، و لو لم یطلع الأخر، بل لم یجز، علی تقدیر اطلاعه، غایة الأمر ثبوت حق الشفعة للآخر فی بعض الموارد، و هذا معنی تمامیة الاستیلاء و عدم نقصه، نعم لا یجوز لکل منهما مع قطع النظر عن رضا الأخر التصرف فی العین بالتصرفات العینیّة الخارجیة، و لکن ذلک لیس لأجل نقص فی الاستیلاء أو قصور فی الملکیة، بل لأجل استلزام التصرف فیه التصرف فی مال الغیر، و هو حرام بدون اذنه، کما ربما یمکن تصویره فی المالین المفروضین اللذین کان أحدهما ملکاً لزید و الآخر لعمرو، و کان التصرف الخارجی فی أحدهما مستلزماً للتصرف فی الأخر، کمصراعی باب غیر مفتوح، فإنه لا إشکال فی استقلال استیلاء کل منهما بالنسبة إلی ماله، بنحو یجوز له النقل و الانتقال و لو مع عدم رضی الأخر، مع ان التصرف الخارجی فی أحدهما یستلزم التصرف فی مال الغیر، فإن حرمة التصرف حینئذ لیس لأجل نقص أو قصور، بل لمجرد الاستلزام المزبور.

فانقدح من ذلک انه لا محیص عن الاحتمال الأوسط، و هو استقلال کل واحد من الاستیلاءین بالنسبة إلی النصف المشاع، و کون کل منهما کاشفاً عن الملکیة بالنسبة إلیه، فاشتراک اثنین فی الاستیلاء علی العین کاشف عن ملکیة کل واحد منهما لواحد من النصفین، و لازمها الاشتراک و الإشاعة، و علیه فلو ادّعی کل منهما ملکیة التمام، تکون دعواه بالنسبة إلی النصف مقبولة، فیما إذا لم تکن هناک بیّنة، و یترتب علی ذلک فروع کثیرة فی

ص:418

باب القضاء.

بقی الکلام فی قاعدة الید فی مباحث، مثل جواز الشهادة و الحلف مستنداً الی الید الظاهرة فی الملکیة، و کذا حجیة قول ذی الید بالنسبة إلی الطهارة و النجاسة، و کذا حلیة اللحم المأخوذ منه إذا کان مسلماً، و لکنها لا ترتبط بما هو محط البحث فی القاعدة و هی الأماریة و الکاشفیة عن الملکیّة، فاللازم إرجاع البحث فی تلک المباحث الی محالّها من کتاب الشهادات و کتاب الطهارة و غیرهما فراجع.

هذا تمام الکلام فی قاعدة الید.

ص:419

ص:420

قاعدة القرعة

اشارة

و هی ایضاً من القواعد الفقهیة المشهورة التی تترتب علیها ثمرات کثیرة، و قد وقع الاشکال و الخلاف فی سعة دائرتها و ضیقها، و منشؤه الاشکال فیما یستفاد من الأدلة الواردة فیها، و تحقیق البحث فی هذه القاعدة یستدعی التکلم فی مقامات:

المقام الأوّل- فی مدرکها و مستندها،

اشارة

و هو أمور،

الأوّل: الکتاب، فقد ورد فیه حکایة المساهمة

اشارة

فی موردین

أوّلهما، ما ورد فی قصة النبی یونس

من قوله (1)تعالی فَساهَمَ فَکانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِینَ ، و قد ورد فی الاخبار الاحتجاج علی شرعیة القرعة بهذه الآیة، و المراد بالمساهمة المقارعة، و بکونه من المدحضین صیرورته معلوماً بالقرعة ممتازاً عن غیره، واصل الدحض: الزلق، و الإدحاض: الإزالة و الإبطال، واصل المعنی

ص:421


1- 1) سورة الصّافات: الآیة 141.

کما عن المجمع (1): صار من المقروعین المغلوبین المقهورین، و کیفیة الواقعة علی ما فی الخبر انه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بینهم قبل ان یأمره اللّه تعالی به، فرکب فی السّفینة فوقفت السّفینة، فقالوا: هنا عبد أبق من مولاه، فاقرعوا، فخرجت القرعة علی یونس، فرمی بنفسه فی الماء، فالتقمه الحوت، و دعوی انه لا دلالة للآیة علی المشروعیة؛ فإن غایة مفادها الحکایة، و هی أعم من المشروعیة، مدفوعة مضافاً الی ما عرفت من انه ورد فی الاخبار الاحتجاج علی شرعیة القرعة بهذه الآیة بأنه لا مجال للمناقشة فی دلالة الآیة علی قبول یونس للمقارعة لو لم نقل بان ظاهرها تصدی نفسه لها، و القبول ان کان منشؤه کونه امراً تعبّدیاً جاء به یونس، فمقتضی الاستصحاب عند الشک فی البقاء بقاؤه فی هذه الشریعة؛ لما تقرر فی محلّه من جریان استصحاب أحکام الشرائع السابقة، و إن کان منشؤه کونه أمراً عقلائیّاً کما هو الظاهر، و قد أمضاه النّبی یونس، فاللازم ثبوته فی هذه الشریعة لهذه الجهة کما لا یخفی.

ثانیهما: ما ورد فی قصة التخاصم فی تکفل مریم و اقتراعهم علی ذلک

من قوله (2)تعالی وَ ما کُنْتَ لَدَیْهِمْ إِذْ یُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَیُّهُمْ یَکْفُلُ مَرْیَمَ و کیفیة الواقعة إنّ زکریا (علیه السلام) قال لهم: انا أحقّ بمریم، ای من جهة التکفل؛ لان عندی خالتها، قالوا: لا حتی نقرع علیها، فانطلقوا الی نهر الأردن فألقوا فیه أقلامهم التی کانوا یکتبون بها الوحی، علی ان من ارتفع قلمه فوق الماء فهو أحقّ بها، و قیل: ان أقلامهم کانت من الحدید،

ص:422


1- 1) مجمع البیان 4:458.
2- 2) سورة آل عمران: الآیة 40.

فألقوا أقلامهم ثلاث مرّات، و فی کل مرّة یرتفع قلم زکریّا و ترسب أقلامهم، و المناقشة فی دلالة الآیة علی المشروعیة مدفوعة بما عرفت فی الآیة الأولی.

الثانی الروایات

اشارة

و هی علی ثلاث طوائف:

الطائفة الأولی: ما یستفاد منها العموم فی جمیع الموارد،

مثل ما رواه الشیخ عن محمد بن حکیم، قال: سألت أبا الحسن (1)(علیه السلام) عن شیء فقال لی: کل مجهول ففیه القرعة، قلت له: ان القرعة تخطی و تصیب، قال: ما حکم اللّه به فلیس بمخطئ. و رواه الصدوق (2)بطریقین صحیحین عنه، و یظهر من الشیخ فی کتاب (3)النّهایة الاعتماد علی هذه الرّوایة، بل و صدور مضمونها من غیر ابی الحسن (علیه السلام) ایضاً و کذا یظهر منه الاعتماد علیها فی کتاب الخلاف، و کذا من الحلّی فی السّرائر و الشهید (4)فی القواعد مع اختلاف فی التعبیر، مضافا الی ان الظاهر ان محمد بن حکیم هو الخثعمی الذی لا تبعد دعوی وثاقته؛ لکونه صاحب الأصل، و لکثرة نقل المشایخ بل أصحاب الإجماع عنه، و لو کان فی الروایة ضعف، فهو منجبر بعمل الأصحاب و اعتمادهم علیها، و لیس فی طرقنا ما یستفاد منه العموم غیر هذه الروایة، لکن سیأتی التحقیق فی مفادها فانتظر.

و کالرّوایتین العامّیتین: القرعة لکل أمر مشکل، و القرعة لکل أمر

ص:423


1- 1) الوسائل 18:189 ب 13 من أبواب کیفیة الحکم ح 11.
2- 2) الفقیه 3:92 ح 3389.
3- 3) النهایة:346.
4- 4) القواعد و الفوائد 2:183.

مشتبه، و عن الحلّی (1)دعوی الإجماع علی ان کل مشکل فیه القرعة، و نقل عنه ایضاً انه قال فی باب سماع البینات: «و کل أمر مشکل یشتبه فیه الحکم فینبغی ان تستعمل فیه القرعة؛ لما روی عن الأئمة (علیهم السلام) و تواترت به الآثار و أجمعت به الشیعة الإمامیّة» .

و ما رواه فی المستدرک (2)عن دعائم الإسلام عن أمیر المؤمنین و أبی جعفر و أبی عبد الله (علیهم السلام) أنهم أوجبوا الحکم بالقرعة فیما أشکل، قال أبو عبد الله (علیه السلام) : و أیّ حکم فی الملتبس اثبت من القرعة، أ لیس هو التفویض الی اللّه جلّ ذکره؟ ثمّ ذکر قصة یونس و مریم و عبد المطلب.

و ما رواه فیه ایضاً عن الشیخ المفید (قده) فی الاختصاص (3)عن احمد بن محمد بن عیسی عن الحسین بن سعید و محمد بن خالد البرقی عن النضر بن سوید عن یحیی بن حمران الحلبی عن عبد الله بن مسکان عن عبد الرحیم قال سمعت أبا جعفر (علیه السلام) یقول: ان علیّاً (علیه السلام) کان إذا ورد علیه أمر لم یجیء فیه کتاب و لم تجر فیه سنّة رجم فیه یعنی ساهم فأصاب، ثمّ قال: یا عبد الرّحیم و تلک من المعضلات.

الطائفة الثانیة- ما یستفاد منه العموم فی الجملة

ککثیر من الروایات الواردة فی القرعة التی نقل أکثرها فی الوسائل فی الباب «12» و فی الباب «13» من أبواب کیفیة الحکم و فی المستدرک فی الباب «11» من تلک

ص:424


1- 1) السرائر 2:170 و 173.
2- 2) مستدرک الوسائل 17:373 ب 11 من أبواب کیفیّة الحکم ح 1.
3- 3) الاختصاص 310.

الأبواب، مثل ما ورد فی ذیل صحیحة أبی بصیر (1)بروایة الصّدوق من قول النبی (صلی الله علیه و آله) : لیس من قوم تقارعوا ثمّ فوضوا أمرهم الی اللّه عزّ و جلّ الّا خرج سهم الحق، و قریب منه ما عن أمیر المؤمنین (2)(علیه السلام) فی ذیل روایة العباس بن هلال (3)و مرسلة (4)الصّدوق عن الصادق (علیه السلام) و مرسلة فقه الرّضا عنه (علیه السلام) قال ای قضیة أعدل من القرعة إذا فوض الأمر الی اللّه أ لیس اللّه یقول فَساهَمَ فَکانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِینَ و کذا روایة (5)احمد البرقی (6).

الطائفة الثالثة- الروایات الواردة فی موارد خاصة

و هی کثیرة:

منها: ما إذا تعارضت البیّنتان و کان المرجح مفقوداً، ففی صحیحة (7)داود بن سرحان بروایة الصدوق عن ابی عبد الله (علیه السلام) فی شاهدین شهدا علی أمر واحد، فجاء آخران فشهدا علی غیر الذی شهدا علیه، و اختلفوا، قال: یقرع بینهم، فأیهم قرع علیه الیمین و هو اولی بالقضاء. و فی صحیحة (8)الحلبی قریب منها، الّا ان فی آخرها بدل هو اولی بالقضاء: فهو اولی بالحق و فی صحیحة (9)البصری بروایته ایضاً عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال: کان علیّ (علیه السلام) إذا أتاه رجلان

ص:425


1- 1) الوسائل 18:188 ب 13 من أبواب کیفیة الحکم ح 5.
2- 2) الوسائل 17:593 ب 4 من أبواب میراث الغرض ح 4.
3- 3) الوسائل أبواب میراث الغرقی، الباب الرابع، حدیث 32.
4- 4) الوسائل 18: ب 13 من أبواب کیفیة الحکم ح 13 و 17. من لا یحضره الفقیه 3:92 ح 3391.
5- 5) الوسائل 18: ب 13 من أبواب کیفیة الحکم ح 13 و 17.
6- 6) الوسائل أبواب کیفیة الحکم، الباب الثالث عشر، حدیث 13.
7- 7) الوسائل 18 ب 12 من أبواب کیفیة الحکم ح 6.
8- 8) الوسائل 18 ب 12 من أبواب کیفیة الحکم ح 11.
9- 9) الوسائل 18:183 ب 12 من أبواب کیفیة الحکم ح 5.

بشهود عدلهم سواء و عددهم، أقرع بینهما علی أیّهما تصیر الیمین.

و منها: الاشهاد علی الدّابة، ففی موثقة سماعة (1)عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال: ان رجلین اختصما الی علیّ (علیه السلام) فی دابة، فزعم کلّ واحد منهما أنّها أنتجت علی ندوده (معتلف الدواب) ، و أقام کل واحد منهما بینة سواء فی العدد، فأقرع بینهما سهمین.

و منها: الإشهاد بالإیداع علی الظاهر، ففی روایة (2)زرارة عن ابی جعفر (علیه السلام) قال: قلت له: رجل شهد له رجلان بانّ له عند رجل خمسین درهماً، و جاء آخران فشهدا بانّ له عنده مائة درهم، کلهم شهدوا فی موقف، قال: أقرع بینهم، ثمّ استحلف الذی أصابهم القرع.

و منها: مورد اشتباه الولد بین العبد و الحرّ و المشرک، ففی صحیحة (3)الحلبی عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال: إذا وقع الحرّ و العبد و المشرک علی امرأة فی طهر واحد، و ادّعوا الولد، أقرع بینهم و کان الولد للذی یقرع.

و منها (4): الاشهاد علی الزّوجیة.

و منها (5): قضیة الشاب الذی خرج أبوه مع جماعة، ثمّ جاءوا و شهدوا بموته.

ص:426


1- 1) الوسائل 18:185 ب 12 من أبواب کیفیة الحکم ح 12.
2- 2) الوسائل 18:183 ب 12 من أبواب کیفیة الحکم ح 7.
3- 3) الوسائل 18:187 ب 13 من أبواب کیفیة الحکم ح 1.
4- 4) الوسائل 18:184 ب 12 من أبواب کیفیة الحکم ح 8.
5- 5) مرآة العقول:221.

و منها (1): قضیة الوصیة بعتق ثلث العبید.

و منها: عتق ثلثهم (2).

و منها (3): الاشتباه بین الولد و العبد المحرّر.

و منها (4): الاشتباه بین صبیّین أحدهما حرّ و الآخر مملوک.

و منها (5): الخنثی المشکل.

و منها (6): مورد عتق أوّل مملوک.

و منها (7): مورد اشتباه المعتق بغیره.

و منها (8): مورد عتق العبید فی مرض الموت، و لا مال له سواهم.

و منها (9): مورد اشتباه الغنم الموطوءة.

و منها (10): مورد قسمة أمیر المؤمنین (علیه السلام) المال الذی اتی من أصفهان، المذکورة فی کتاب الجهاد.

ص:427


1- 1) الوسائل 16:77 ب 65 من أبواب العتق ح 1.
2- 2) الوسائل 13:464 ب 75 من أبواب الوصایا ح 1.
3- 3) الوسائل 13:427 ب 43 من أحکام الوصایا ح 1.
4- 4) الوسائل 18:188 ب 13 من أبواب کیفیة الحکم ح 7.
5- 5) الوسائل 17:580 ب 4 من أبواب میراث الخنثی ح 2.
6- 6) الوسائل 16:69 ب 57 من أبواب العتق ح 1 و 2.
7- 7) الوسائل 16:44 ب 34 من أبواب العتق ح 1.
8- 8) لم نعثر علی ذلک و لکن أوردنا المحقّق النراقی فی فوائده.
9- 9) الوسائل 16:436 ب 30 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1 الی 4.
10- 10) الوسائل 11:87 ب 41 من أبواب جهاد العدو ح 11.

و منها (1): قضیة مساهمة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قریشاً فی بناء البیت.

و منها (2): استعلام موسی (علیه السلام) النمام بالقرعة بتعلیم اللّه تعالی.

و منها (3): مساهمة رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) بین أزواجه إذا أراد سفراً.

و منها (4): اقتراعه (صلی الله علیه و آله) بین أهل الصّفة للبعث الی غزوة ذات السّلاسل.

و منها (5): اقتراعه (صلی الله علیه و آله) فی غنائم حنین.

و منها (6): اقتراع بنی یعقوب لیخرج علی واحد، فیحبسه یوسف عنده.

هذه هی الموارد التی تتبّعها سیدنا الأستاذ الأعظم الخمینی (دام ظله العالی) (7)و لعلّ المتتبع أزید من ذلک یجد موارد أخری أیضاً.

و قد ظهر من جمیع ذلک دلالة الروایات المتکثرة علی مشروعیة القرعة فی الجملة، و إن کانت مختلفة بحسب الظّاهر، من حیث السعة و الضیق، و سیأتی التحقیق فی مفادها إن شاء اللّه تعالی.

الثالث الإجماع المنقول بل المحصّل من تتبع الفتاوی و الکلمات؛

فان

ص:428


1- 1) مستدرک الوسائل 17:376 ب 11 من أبواب کیفیة الحکم ح 10.
2- 2) مستدرک الوسائل 17:375 ب 11 من أبواب کیفیة الحکم ح 10.
3- 3) مستدرک الوسائل 17:377 ب 11 من أبواب کیفیة الحکم ح 13. و فی البحار 6:551.
4- 4) البحار 6:590.
5- 5) البحار 6:615.
6- 6) البحار 5:180.
7- 7) الرسائل 1:338.

الظاهر انه لم ینقل عن أحد من الأصحاب إنکار مشروعیة القرعة بنحو الإطلاق، و إن وقع بینهم الاختلاف فی موارد متعددة، لکن أصل اعتبار القرعة بنحو الإجمال لم یقع مورداً للإنکار و الخلاف بوجه، و لکن الظاهر انه بعد دلالة الکتاب و السنّة المستفیضة بل المتواترة إجمالاً علی مشروعیة القرعة، لا یبقی للإجماع أصالة، و لا یکون دلیلاً مستقلا فی عرض الکتاب و السّنة؛ لانه من المحتمل بل المقطوع ان یکون مستند المجمعین الکتاب و السّنة، فالإجماع حینئذ لا یکون حجّة برأسه.

الرّابع بناء العقلاء علی الرجوع الی القرعة فی بعض الموارد،

و قد أشرنا الی أن المساهمة المحکیة فی الکتاب فی موردین لعلّها کانت هی المساهمة العقلائیة الجاریة فی مثل الموردین، من اشتباه العبد الآبق علی نقل، أو أشرافهم علی الغرق، فرأوا طرح واحد منهم لنجاة الباقین علی نقل آخر، و من یتکفّل مریم من الأشخاص المتعدّدین، فالظاهر ثبوت هذا البناء و عدم الردع عنه فی الشریعة، بل تحقق الإمضاء بمقتضی الکتاب و السّنة، لکن الکلام فی ضابط المورد الذی یرجع فیه العقلاء إلی القرعة، و سیأتی بیان الضابط فی تحقیق مفاد الرّوایات.

المقام الثانی- فی بیان مقدار دلالة الأدلة الواردة فی مشروعیّتها، سیّما مفاد الطوائف الثلاث من الروایات الواردة فیها،

فنقول: ان الذی یظهر بعد التتبع و التأمل فی غیر الطائفة الاولی من الطائفتین الأخیرتین ان مورد القرعة و محل جریانها هو موارد تزاحم الحقوق و عدم ثبوت المرجح لأحدها علی الأخر، و هذا هو الجامع بین جمیع الموارد التی حکم فیها بالقرعة بینهما، نعم مورد التخلف فیما ذکرنا انّما هی مسألة الغنم الموطوءة

ص:429

التی حکم فیها بالقرعة، مع عدم تحقق الجامع المذکور فیها.

و لکن یمکن الجواب عنه مضافاً الی انه یمکن فرض تزاحم الحقوق فیها أیضاً، بأن کان القطیع مرکّباً من أغنام أزید من مالک واحد، کما کان هو الشائع فی تلک الأزمنة، بل فی زماننا هذا أیضاً بأن یقال: ان الروایة الدالة علی ثبوت القرعة فی المورد المفروض مشعرة بکون هذا المورد ایضاً من موارد تزاحم الحقوق؛ لانه قد عبّر فیها بعد الحکم بالقرعة و استخراج الموطوءة بها، بأنّه قد نجت سائرها، فان نجاة السائر انّما هی مع التزاحم کما لا یخفی.

نعم لا بد من ملاحظة الطائفة الأولی الدالة بظاهرها علی ان کل مجهول ففیه القرعة، و نقول: ان عمدة ما یمکن ان یکون مستنداً للعموم هی روایة محمد بن حکیم المتقدّمة، و بما ان السؤال فیها ناقص، ضرورة ان السؤال عن الشیء لا ینطبق علیه الجواب بثبوت القرعة لکل أمر مجهول، بل نفس هذا السؤال لا یکاد یصدر من عاقل، فهذا یکشف عن ان السؤال کان عن أمر لم ینقل لنا، و حینئذ یبقی احتمال انّه لو کان السؤال مذکوراً لنا لکان من الممکن ان یکون قرینة علی عدم شمول الجواب لجمیع الموارد، هذا مع انه لو أغمض النظر عن ذلک نقول: قد عرفت ان القرعة لیست امراً شرعیّاً اخترعه الشارع، بل کانت معمولاً بها عند العقلاء قبل الشرع ایضاً، و قد عرفت ان المساهمة المحکیة فی الکتاب فی موردین کانت هی المساهمة العقلائیة ظاهراً، و من المعلوم ان مورد إجراء القرعة و محلّها عند العقلاء لا یکون عامّاً شاملاً لجمیع موارد الاشتباه و الجهل، بل العقلاء یعملون بها فی موارد مخصوصة، و الظاهر ان ضابطها تزاحم الحقوق، و بعد

ص:430

ثبوت هذا البناء لا یکاد یفهم من مثل روایة محمد بن حکیم العموم لغیر تلک الموارد.

و یؤید ما ذکرنا انه مع کون هذه الرّوایة بمرأی و مسمع من الأصحاب، بل ادعی الإجماع علی صدور مضمونها من الشیخ و الشهید و غیرهما، و تمسکوا بها فی غیر مورد من مسائل القضاء و أشباهها، و لم یظهر من أحد منهم التمسک بها و الفتوی بمضمونها فی غیر موارد تزاحم الحقوق، نعم حکی عن ابن طاوس الفتوی بالقرعة فی مورد اشتباه القبلة، و لکنه من الشذوذ بمکان، مضافاً الی کونه مخالفاً للنص الوارد فی تلک المسألة.

و یؤید بل یدل علی ما ذکرنا ما دلّ علی أن أصل القرعة من الکتاب، لانه لیس المراد دلالة الکتاب علی شرعیة القرعة، لأنه لم یرد فیه کما عرفت إلّا حکایة المساهمة فی موردین، و الحکایة أعم، بل المراد دلالة الکتاب علی وجود هذا الأمر و ثبوته بین العقلاء، فلا بد فی تشخیص مورده و مجراه من الرجوع إلیهم کما لا یخفی.

و أمّا قولهم فی مطاوی کتبهم الفقهیة: القرعة لکل أمر مجهول أو مشتبه، فالظاهر ان المراد بالأمر فیه هو الأمر الذی یرجع الی الحاکم، علی ما یشهد به استعمال هذه الکلمة فی باب القضاء، فإنه حیثما یطلق فی کتاب القضاء لا یراد منه الّا ذلک، کلفظ الحکم المعبّر به فی ذلک الکتاب، و من هنا یظهر سرّ تقیید الحلّی فی السرائر (1)مورد القرعة بما إذا کان الأمر المجهول مشتبه الحکم؛ فان مراده من الأمر المجهول هو الأمر الذی یرجع الی الحاکم، و من الحکم المشتبه هو الحکم الذی هو وظیفة القاضی لا الحکم

ص:431


1- 1) السرائر 2:173.

الشرعی الکلی.

و یؤید ایضاً ما ذکرنا ما ورد مما یدل علی عدم جواز استخراج المجهول بالقرعة لغیر الإمام، الذی یعنی به من یجوز له التصدی للقضاء، فان تخصیص جواز الاستخراج به لا یلائم ثبوت القرعة فی جمیع الأمور المشتبهة، بل المناسب له هو اختصاص موردها بموارد تزاحم الحقوق التی لا بد فیها من الرجوع الی الحاکم الشرعی لفصل الخصومة، و یؤید ما ذکرنا ایضاً عدم خروج الموارد الخاصة الواردة فیها القرعة عن الضابطة المذکورة.

و قد انقدح مما حققناه تمییز موارد القرعة عن غیرها، و حینئذ یظهر لک انّه لا یکون لعمومها بالنسبة إلی مواردها تخصیصات کثیرة، حتی یلزم الاستهجان، و یحتاج فی العمل بها الی عمل الأصحاب کما هو المشهور بین المعاصرین و غیرهم، بل لا یکون لعمومها تخصیص إلّا فی مسألة درهم الودعی؛ إذ ان مقتضی القاعدة القرعة فیها، و لکن النص الخاص قد حکم بالتنصیف.

ثمّ انه لو أبیت عما ذکرنا من کون المراد بالأمر فی الروایة النبویة و فی قولهم: کل أمر مجهول ففیه القرعة، هو الأمر الذی یرجع فیه الی الحاکم؛ نظراً إلی إطلاق لفظ الأمر فی الرّوایة و الفتوی، نقول: انّ المراد بالأمر هل هو الحکم أو الموضوع؟ و توصیفه بکونه مجهولاً هل یراد به الشبهة الحکمیة أو الشبهة الموضوعیة؟ لا مجال للأوّل؛ لأن الشبهات الحکمیة و إن کانت فی بادئ النظر متصفة بالجهل و الاشتباه، الّا انّها بلحاظ تبین حکمها فی لسان الشارع و بیان الوظیفة الشرعیة فیها، لا تتصف بالجهالة و الاشتباه، فان

ص:432

شرب التتن الذی یجری فیه احتمال الحرمة لا یکون مجهولاً؛ لانه قد حکم الشارع بحلیّته بمقتضی أصالة الحلیة الجاریة فی مثله، و کذا صلاة الجمعة التی یجری فیها استصحاب الوجوب فرضاً بمقتضی قوله (علیه السلام) : لا تنقض الیقین بالشک، لا تکون مشتبهة بوجه، و هکذا، و إن شئت قلت: ان الجهل فی المثالین انّما هو بالنسبة إلی الحکم الواقعی، و أمّا بلحاظ الوظیفة الشرعیة، فالحکم معلوم لا یجری فیه جهالة، و لا مجال لدعوی کون المراد من الجهل فی الروایة النبویّة و فی الفتاوی هو الجهل بالحکم الواقعی بعد إطلاق الجهل و عدم تقییده به، و یؤید ما ذکرنا التعبیر بالاعضال فی بعض الروایات الذی لا یبقی له مجال مع وضوح الوظیفة الشرعیة و لو بحسب الحکم الظّاهری، فالشبهة الحکمیة خارجة عن مفاد العبارة.

و أمّا الشبهة الموضوعیة، فإن کانت بدویة، فالحکم فیها معلوم غیر مجهول ایضاً، سواء کان هی البراءة أو الاحتیاط، و إن کانت مقرونة بالعلم الإجمالی، فهی أیضاً حکمها معلوم، سواء کان الشبهة محصورة أم غیر محصورة؛ لأن الحکم فی الأوّل هو الاحتیاط علی ما هو المشهور، و البراءة علی غیره؛ و فی الثانی هو البراءة علی المشهور ایضاً، فلم یبق لنا الّا موارد تزاحم الحقوق فی الشبهة الموضوعیة التی لم یبین حکمها فی الشریعة، فإذا دار أمر مال بین ان یکون لزید أو لعمرو، و أقام کل واحد منهما بیّنة علی مدعاه، فهذا هو الأمر المجهول و المشتبه و المعضل، الذی لا محیص فیه عن اعمال القرعة و الرجوع إلیها؛ لعدم بیان حکمه فی شیء من أدلة الأمارات الشرعیة و الأصول المعتبرة بوجه.

نعم، لا یختص إعمال القرعة بما کان له واقع، غایة الأمر کونه مجهولاً

ص:433

عندنا، بل یعم ما لم یکن له واقع أصلاً، غایة الأمر الإعضال لأجل انه لا ترجیح فی البین أصلاً.

المقام الثالث- فی ان القرعة هل تکون امارة أو أصلاً؟

فیه وجهان، و الظاهر هو الوجه الثانی:

امّا أوّلاً؛ فلان موارد ثبوت القرعة عند العقلاء علی قسمین: قسم یکون للمجهول المشتبه واقع معلوم عند اللّه و غیر معلوم عندنا، کالمساهمة فی قصة (1)یونس، بناء علی کونها لأجل تشخیص العبد الآبق کما فی أحد النقلین، و قسم لا یکون له واقع معین، کالمساهمة فی قصة تکفل مریم الواقعة فی الکتاب (2)العزیز، و من المعلوم انه لا تعقل الأماریة فی القسم الثانی؛ لعدم ثبوت واقع حتی تکون القرعة أمارة علیه، و الظاهر انه لا فرق بین هذا القسم و القسم الأول عند العقلاء.

و أمّا ثانیاً؛ فلانا لو قلنا: إن الطریقیة و الأماریة قابلة لتعلق الجعل بها علی خلاف ما حققناه فی محلّه و لکن مورده ما إذا کان المحلّ قابلاً لذلک الجعل، من جهة کونه واجداً لوصف الطریقیة تکویناً؛ ضرورة انه لا یعقل جعل الطریقیة للشک مثلاً و من المعلوم ان القرعة بالکیفیة المتداولة لا یکون فیها جهة کشف و إراءة أصلاً؛ ضرورة أن اجالة السهام ثمّ إخراج واحد منها، لا یکون فیها کشف و طریقیّة، و لیس مثل خبر الثقة و شهادة عدلین، الذی یکون مشتملاً علی الکشف و الإراءة فی نفسه، و حینئذ فکیف یمکن جعل الحجیة لها کما لا یخفی.

ص:434


1- 1) سورة الصافات: الآیة 141.
2- 2) سورة آل عمران: الآیة 40.

و أمّا ثالثاً: فلأنه حیث یکون موضوع القرعة هو المجهول بما انه مجهول، نظیر سائر الأصول التی موردها خصوص صورة الشک، کأصالة الحلیة و الاستصحاب فلا بد من الالتزام بکونها مثلها فی ذلک، أی فی عدم کونها امارة.

و دعوی انّ ظاهر قول أمیر المؤمنین (1)(علیه السلام) : ما من قوم فوّضوا أمرهم الی اللّه عزّ و جلّ و ألقوا سهامهم الّا خرج السّهم الأصوب، ان القرعة لا تخطئ أصلاً، بل الخارج سهم المحقّ دائماً، کما فی مرسلة (2)الفقیه عن الصادق (علیه السلام) ایضاً قال: ما یقارع قوم فوضوا أمرهم الی اللّه الّا خرج سهم المحقّ، و هو معنی الأماریّة بل هی الامارة الدائمة المطابقة، مدفوعة بأن غایة ما یدلّ علیه مثل هذا التعبیر هو مجرد تطبیق اللّه تعالی السهم الخارج علی الواقع دائماً، لأجل تفویض الأمر إلیه و جعله هو الحکم، و هذا یغایر معنی الأماریّة؛ فإنها متقومة بحیثیّة الکشف و الإراءة، و القرعة فاقدة لها، بل تکون القرعة علی هذا نظیر الاستخارة التی لیست بأمارة قطعاً. و من ذلک یظهر الخلل فیما افاده المحقق (3)البجنوردی من جعل القرعة و الاستخارة من الأمارات؛ نظراً الی وجود جهة الکشف فیهما و الظن بإصابة الواقع و دلالة الدلیل علی حجیة هذه الجهة، مثل قول ابی الحسن (4)موسی (علیه السلام) : کل ما حکم اللّه به

ص:435


1- 1) الوسائل 17:593 ب 4 من أبواب میراث الغرقی ح 4.
2- 2) من لا یحضره الفقیه 3:92 ح 3390.
3- 3) القواعد الفقهیة 1:55.
4- 4) الوسائل 18:189 ب 13 من أبواب کیفیة الحکم ح 11.

فلیس بمخطئ.

وجه الخلل ما عرفت من ان جهة الکاشفیة و الطریقیة التی هی أمر تکوینی متقوم بالطریق أمر، و تطبیق الله تعالی السهم الخارج علی الواقع غالباً أو دائماً أمر آخر لا ارتباط بینهما، و الدلیل انما یدل علی الثّانی، و أمّا الأوّل فهو مفقود فی القرعة و الاستخارة کلیهما، فالإنصاف انه لا مجال لدعوی الأماریة فی القرعة، بل هی أصل عند العقلاء و عند الشارع، یرجع إلیه فی ما لم یکن مرجح فی البین، و لم یکن هناک أصل أو امارة أصلاً.

المقام الرابع- فی تعارض القرعة مع الاستصحاب، و نقول: ان النّسبة بینهما و إن کانت عموماً من وجه؛ لان مورد الاستصحاب هو الشک مع لحاظ الحالة السّابقة، سواء کان فی مورد تزاحم الحقوق أو غیره، و مورد القرعة هو الشک فی مورد تزاحم الحقوق، سواء کان مع لحاظ الحالة السّابقة أم لا، إلّا انک عرفت فی المقام الثانی ان دلیل الاستصحاب حاکم علی دلیل القرعة؛ لأن مورد أدلة القرعة انّما هو الأمر المشکل الذی وقع التعبیر به فی کثیر من الفتاوی تبعاً لجملة من النصوص، أو مطلق المجهول الّذی وقع التعبیر به فی روایة محمد بن حکیم المتقدمة، و من المعلوم انّ الأمر المشکل معناه هو الأمر الذی أشکل رفع التحیّر عنه أو الحکم فیه؛ لان مورد استعماله یغایر مورد استعمال کلمة المجهول؛ فإنه لا تستعمل کلمة المجهول غالباً إلّا فی ما کان له واقع معین عند اللّه مجهول عند الناس، و المشکل هو ما یصعب رفع التحیر بالنسبة إلیه، و الدلیل علی اختلافهما انه یمکن توصیف الواقع بأنه مجهول و لا یمکن توصیفه بأنه مشکل، فقد ظهر ان المشکل یتقوم بالتّحیر، و من المعلوم انه مع جریان الاستصحاب لا تحیّر فی

ص:436

البین أصلاً.

و أمّا ما وقع فیه التعبیر بعنوان المجهول، فقد عرفت ان الجواب فیه و إن کان عامّاً، الا ان السّؤال حیث لا یکون تامّاً، بل کان من المعلوم وجود شیء آخر؛ لان السؤال عن نفس الشیء لا معنی له، فلا مجال للاستدلال بعموم الجواب، و لیس ذلک من باب الشک فی وجود القرینة الذی یکون بناء العقلاء علی عدم الاعتناء به کما لا یخفی.

هذا مضافاً الی ما عرفت من ان المراد بالمجهول المطلق هو ما کان مطلق حکمه مجهولاً، سواء کان واقعیّاً أو ظاهریّاً، و من المعلوم انه مع جریان الاستصحاب لا یبقی حینئذ مجال للرجوع إلی القرعة بعد تبین الحکم الظاهری بالاستصحاب.

ثمّ انه استظهر المحقق النائینی (قده) (1)انه لا یمکن اجتماع القرعة مع سائر الوظائف المقررة للجاهل حتی تلاحظ النسبة بینهما؛ لان التعبد بالقرعة انّما یکون فی مورد اشتباه موضوع التکلیف و تردّده بین الأمور المتباینة، و لا محلّ للقرعة فی الشبهات البدویة، سواء کانت الشبهة من مجاری أصالة البراءَة و الحلّ أو من مجاری الاستصحاب، لان المستفاد من قوله (صلی الله علیه و آله) : القرعة لکل مشتبه أو مجهول، هو مورد اشتباه الموضوع بین الشیئین أو الأشیاء، فیقرع بینهما لإخراج موضوع التکلیف، و لا معنی للقرعة فی الشبهات البدویة؛ فإنه لیس فیها الّا الاحتمالین و القرعة بین الاحتمالین خارجة عن مورد التعبد بالقرعة، فموارد البراءة و الاستصحاب خارجة عن عموم أخبار القرعة بالتخصص لا بالتخصیص، کما یظهر من

ص:437


1- 1) فوائد الأُصول 4:678.

کلام الشیخ (قده) .

و یرد علیه: انه بعد عدم اختصاص أدلة الاستصحاب بالشبهات البدویة تکون موارد اجتماع الاستصحاب و القرعة کثیرة جدّاً، خصوصاً فی موارد الجهل بتاریخ أحد الحادثین، کما لو عقد الوکیلان المرأة لرجلین، و جهل بتاریخ أحدهما، فبناء علی تقدم الاستصحاب علی القرعة، یحکم بصحة عقد معلوم التاریخ کما افتی به و بنظائره هذا المحقق فی حواشیه علی العروة، و أمّا لو قیل بعدم تقدمه علیها، یکون من موارد القرعة، و له أمثال کثیرة فی باب التنازع و القضاء.

کما انه ظهر مما ذکرنا انه لا وجه لما افاده الشیخ الأعظم (1)و تبعه المحقق الخراسانی (2)من خروج الاستصحاب عن عموم أدلة القرعة بالتخصیص، و ذلک لما عرفت من عدم شمول أدلة القرعة لمورد الاستصحاب بوجه.

المقام الخامس- فی ان القرعة هل هی وظیفة الإمام أو من بحکمه خاصّة، أو یعمل بها کلّ أحد؟

فیه وجهان، قال صاحب العناوین (3): «و الذی یقوی فی النظر القاصر بعد ملاحظة الرّوایات اختصاص أمر القرعة بالوالی، فإن کان یمکن الرجوع فیه الی امام الأصل اختصّ به؛ لانه مورد أکثر الأخبار، و انّها و إن لم تدل علی الاختصاص، لکنها لا تدل علی

ص:438


1- 1) فرائد الأُصول 2:733.
2- 2) کفایة الأُصول 2:360.
3- 3) العناوین:118.

العموم، فیقتصر علی المتیقن، و لما فی مرسلة (1)ثعلبة فی الممسوح قال: یجلس الامام و یجلس عنده ناس، و فی موثقة (2)ابن مسکان و روایة إسحاق و السکونی کذلک، و ما فی صحیحة (3)معاویة بن عمّار قال: أقرع الوالی بینهم، و ما فی صریح روایة یونس (4)و لا یجوز ان یستخرجه أحد إلّا الإمام، فإن له کلاماً وقت القرعة و دعاء لا یعلمه سواه و لا یقتدر علیه غیره، و ما فی صریح مرسلة عمّار: القرعة لا تکون إلّا للإمام، مضافا الی ان إطلاق ما مرّ من الروایات یعنی مثل روایة محمد بن حکیم موهون بما مرّ من انه مسوق لبیان المشروعیة و نحوه، و لو فرض فیه إطلاق، تقیّده هذه الروایات، و فیها الصحیح و الموثق و غیره، و دعوی ان الصحیح غیر صریح الدلالة، و الموثقة ایضاً، غیر ناف لغیر الوالی، و الروایات الصریحة خالیة عن الجابر؛ إذ لم یعهد من الأصحاب اشتراط القرعة بالإمام حتی ینجبر، مدفوعة أوّلاً بأن هذه النصوص و إن لم تکن صالحة للتقیید، لکنّها کافیة فی إفادة التشکیک و الوهن فی الإطلاق، و الأصل الاوّلی کاف فی المنع عن غیر المتیقن، و ثانیاً: ان دلالة الصحیحة و الموثقة علی التقیید و الاختصاص لیست بأضعف من تلک الإطلاقات فی التعمیم، و ثالثاً: ان هذه الروایات مرویة فی الکافی و التهذیب معللة بما علل معمول بها فی أصل

ص:439


1- 1) الوسائل 17:580 ب 4 من أبواب میراث الخنثی ح 3.
2- 2) مستدرک الوسائل 17:378 ب 11 من أبواب کیفیة الحکم ح 14.
3- 3) الفقیه 3:92 ح 3392 الوسائل 18:190 ب 13 من أبواب کیفیة الحکم ح 14.
4- 4) الوسائل 16:44 ب 34 من أبواب العتق ح 1.

الحکم، فراجعها، و هذا القدر کاف فی الظن بالصّدور، و هو المعتمد فی العمل، و تحقیق ذلک موکول الی محلّه، مضافاً الی ان القرعة فی هذه المقامات مثبتة للموضوع مستلزمة لترتب أحکام مخالفة للأصل، و الأصل عدم لحوقها الّا بالمتیقن، مع ان الغالب فی المثبتات کالبینة و الیمین و نحو ذلک من الشیاع و نحوه، عند الحاکم فکذلک القرعة، و بالجملة من اعطی النظر حقه فی هذا المقام لا یشک فی الاختصاص، و الذی أراه ان الظاهر من الأصحاب أیضاً ذلک، إذ لم یعهد منهم تعمیم القرعة، نعم کلامهم ایضاً غیر مقید بخصوص الوالی فی الموارد التی نقلناها عنهم، و من هنا قد یتوهم الإطلاق، لکنّه غیر دالّ علی ذلک؛ إذ الغالب فی تلک الموارد المذکورة کونها عند الحاکم؛ إذ الغالب انّها فی باب التنازع و التداعی، و لا یحتاج فی ذلک الی تقییدهم بکونه عند الامام، و بالجملة التأمل فی النص و الفتوی یقضی بالاختصاص» .

أقول: ان قلنا باختصاص مورد القرعة بباب القضاء و الحکومة، غایة الأمر کونها أعم من قضاء القاضی فی باب الدّعاوی و الخصومات، و حکومة الوالی فی المنازعات المرتبطة به، فلا إشکال فی اختصاص القرعة بالقاضی و الوالی، و إن لم نقل به، فالظاهر انه بعد عدم ثبوت إطلاق یعتدّ به ان القدر المتیقن هو الرجوع إلیهما؛ للشک فی ترتب الآثار مع عدم الرجوع، نعم لا تنبغی المناقشة فی جواز التراضی بالقرعة فی بعض الموارد، کباب القسمة و التزاحم فی المشترکات و نحوهما، کما انه لا مجال لتوهم الاختصاص بإمام الأصل، و عدم الجواز للنائب العام، و إن کان بعض التعلیلات فی الروایات توهم الاختصاص فتدبّر.

ص:440

المقام السادس- الظاهر انه لیس للقرعة کیفیة خاصة و طریق مخصوص،

بل هی کلّ تمتاز به الحقوق، و یکشف به عن الواقع، أو یتعین به أحد الأمور، و یدلُّ علیه مضافاً الی الإطلاقات الکثیرة انه قد ورد فی الکتاب العزیز بإلقاء الأقلام، و فی النصوص بأنواع مختلفة، مثل الکتابة علی السهم و الخواتیم من الشرکاء و من الحاکم، و الکتابة علی الرقاع و النوی، و غیر ذلک، و هو یکشف عن عدم تعین طریق خاص و کیفیة مخصوصة کما هو ظاهر.

المقام السّابع- ربما یستظهر اعتبار تفویض الأمر الی اللّه تعالی فی صحة القرعة،

بمعنی ان یوطن المقترعون أنفسهم علی التسلیم لما أمر به اللّه و إطاعته متی ینکشف لهم، فلو اتّفق ذلک منهم تجربة أو من دون التفات الی اللّه تعالی بطلب البیان فلا عبرة بذلک.

أقول: الأصل فی ذلک صحیحة جمیل المرویة فی التهذیب (1)قال: قال الطیّار لزرارة: ما تقول فی المساهمة أ لیس حقّا؟ فقال زرارة: بل هی حقّ، فقال الطیّار: أ لیس قد ورد انّه یخرج سهم المحقّ؟ قال: بلی، قال فقال: حتی ادّعی انا و أنت شیئاً ثمّ نساهم علیه و ننظر هکذا هو؟ فقال زرارة: انما جاء الحدیث بأنه لیس من قوم فوضوا أمرهم الی اللّه ثمّ اقترعوا الّا خرج سهم المحقّ، فامّا علی التجارب فلم یوضع علی التجارب، فقال الطیّار: أ رأیت ان کانا جمیعاً مدعیین ادّعیا ما لیس لهما من این یخرج سهم أحدهما؟ فقال زرارة: إذا کان کذلک جعل معه سهم مبیح و یحتمل

ص:441


1- 1) التهذیب 6:238 ح 584. الوسائل 18:188 ب 13 من أبواب کیفیة الحکم ح 4.

ان یکون منیح بالنون و هو أحد سهام المسیرة العشرة مما لا نصیب له فان کانا ادّعیا ما لیس لهما خرج سهم المبیح.

و هذه الروایة و إن کان فیها اشکال من جهة ظهورها فی التسالم بین زرارة و الطیّار علی ان مورد القرعة ما إذا کان هناک محقّ واقعاً، مع انک قد عرفت عدم الاختصاص به، الّا ان ظهورها فی انه لم توضع القرعة علی التجارب بل انّما هی فی ما فوضوا أمرهم الی اللّه تعالی، لا ینبغی ان ینکر.

و یستفاد من بعض الروایات المتقدمة اعتبار التفویض قبل القرعة، و من بعضها اعتباره بعدها، و من بعضها ان القرعة هی نفس التفویض الی الله تعالی، و المستفاد من المجموع بعد التأمل ان مورد القرعة ما إذا کان المراد الکشف عن الواقع، أو تعیّن أحد الأمور، و أمّا إذا کان المراد بها التجربة و نحوها، فلا مجال لها، و الظاهر انه لیس المراد لزوم التوجه الی اللّه تعالی و طلب البیان منه حتی یکون فیه شائبة العبادیة، بل المراد کون اعمالها لغرض جدّی و مقصود أصلی و هو ما ذکرنا.

ثمّ ان الظاهر عدم اعتبار الدعاء، فضلاً عن الدعاء المخصوص المشتمل علیه بعض الروایات فی صحة القرعة، و إن کان ظاهر بعض الروایات اعتباره، بل جعل ذلک علة لعدم اقراع غیر الامام کما عرفت، الّا ان الظاهر من اختلاف النصوص فی أصل الدعاء، و فی خصوصیة الحمل علی عدم الوجوب کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی قاعدة القرعة.

ص:442

قاعدة حرمة الإعانة علی الإثم

اشارة

و هی ایضاً من القواعد الفقهیة التی یتمسک بها الفقهاء (رض) فی جملة من الفروع الفقهیة، و یستدل بها فی مثل مسألة بیع العنب ممّن یعلم انه یجعله خمراً، و الخشب ممن یعلم انه یجعله صنماً، و الموارد الکثیرة الأخری، و تحقیق الحال فیها یقتضی التکلم فی جهات:

الجهة الأولی- مدرکها و مستندها،

اشارة

و هو أمور:

الأوّل الکتاب،

قال الله تعالی فی سورة المائدة (1)فی ضمن الآیة الثانیة تَعاوَنُوا عَلَی اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوی وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ و لو لا کون الجملة الثانیة واقعة عقیب الجملة الأولی معطوفة علیها، لکانت دلالتها علی حرمة التعاون علی الإثم و العدوان ممّا لا مناقشة فیه؛ لظهور النهی فی التحریم علی ما هو المحقق فی الأصول، و لکن لوقوعها عقیبها و عطفها علیها

ص:443


1- 1) سورة المائدة: الآیة 2.

صارت موجبة لتوهّم لزوم حمل النهی علی الکراهة؛ نظراً إلی انه یعلم من الخارج عدم وجوب مطلق التعاون علی البرّ و التقوی، نعم یجب التعاون فی بعض الموارد مما یکون التعاون فیه لأجل حفظ نفس محترمة، کإنقاذ غریق أو حریق، أو یکون من مصادیق الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، و أمّا التعاون فی جمیع موارد البرّ و التقوی فلیس بواجب، و مقتضی وحدة السیاق بعد حمل الأمر علی الاستحباب حمل النهی علی الکراهة أیضاً، فلا دلالة للآیة علی حرمة التعاون علی الإثم و العدوان.

و لکن الظّاهر بعد تسلم لزوم حمل الأمر علی الاستحباب انه لا وجه لحمل النهی علی الکراهة، بعد کون الآیة مشتملة علی حکمین مستقلین، سیّما بعد کون أحدهما امراً و الآخر نهیاً، و مجرد تتابع الجملتین فی الذکر لا یقتضی وحدة السّیاق، و هذا غیر ما ذکروه فی مثل حدیث الرفع من کون وحدة السیاق مقتضیة لحمل ما الموصولة علی الموضوع؛ لکون معناها فی بعض الفقرات ذلک، فیجب ان یکون فی الجمیع کذلک، و ذلک مضافاً الی منع الاقتضاء فی الحدیث ایضاً، و التحقیق فی محلّه لأجل الفرق بین المقام و بین الحدیث، من جهة ان الأشیاء و الأمور التسعة المذکورة کلّها مرفوعة بعبارة واحدة و برفع واحد، و لم یستعمل فی الجمیع الّا کلمة رفع واحدة، فهی مشترکة فی المرفوعیة، و فی اسناد الرفع إلیها، و هذا بخلاف المقام الذی یشتمل علی حکمین مستقلین غیر مرتبطین، أحدهما أمر و الآخر نهی، و لا ارتباط لأحدهما بالآخر أصلاً، فلا مجال فیه لدعوی وحدة السیاق کما لا یخفی.

نعم یجری فی الاستدلال بالآیة للقاعدة المناقشة من جهة أخری،

ص:444

و هی ان المأخوذ فی القاعدة انما هو عنوان الإعانة، التی مرجعها الی کون أحد الشخصین مباشراً و فاعلاً، و الآخر عوناً له و مساعداً فی إیجاد بعض مقدمات فعله، و المأخوذ فی الآیة الشریفة انما هو عنوان التعاون الذی هو من باب التفاعل، و معناه اشتراک شخصین و تعاونهما فی جهة صدور الفعل عنهما، فلا ینطبق الدلیل علی المدّعی.

و أجیب عن ذلک بان امره تبارک و تعالی بالتعاون علی البرّ و التقوی، و کذلک نهیه عن التعاون علی الإثم و العدوان، لیس باعتبار فعل واحد و قضیة واحدة و فی واقعة واحدة، بل الخطاب الی عموم المؤمنین و المسلمین بان یکون کل واحد منهم عوناً للآخر فی البرّ و التقوی، و لا یکون عوناً لأحد فی الإثم و العدوان، فإطلاق لفظ التعاون باعتبار مجموع القضایا لا باعتبار قضیة واحدة و فعل واحد، فالمأمور به فی الآیة الشریفة اعانة کل مسلم لکل مسلم فی ما یصدر عنه من فعل الخیر و البرّ و التقوی، و المنهی عنه اعانة کل شخص فی فعله الذی هو إثم أو عدوان، فینطبق الدلیل علی المدّعی.

و یؤیّد هذا الجواب انه مع وضوح کون حکم الإثم و العدوان متوجهاً بالفاعل الذی یسند الیه الفعل، یکون مفاد الآیة بیان حکم زائد، و هو التحریم المتعلق بالعون من آخر علی ذلک، و لو کان مفاد الآیة بیان حکم متعلق بعنوان التعاون، الذی مرجعه إلی إسناد الفعل الی شخصین و صدوره منهما، فلا یکون بیاناً لحکم زائد؛ لأن مرجع ثبوت الحکم لعنوان التعاون عدم ثبوت الحرمة للفعل الصادر من واحد منهما، لانه لا یکاد یجتمع ثبوت الحرمة للواحد مع ثبوتها للمشترک، کما لا یخفی، نعم یمکن ثبوت الحکم

ص:445

للمشترک فی بعض الموارد، کما إذا توقف حفظ نفس محترمة علی عمل شخصین و اشتراک رجلین مثلاً لکنه لا یکون فی هذه الصورة إلّا حکم واحد، و أمّا فی المقام فلا یجتمع الحکم الذی یتحقق بمخالفته الإثم، مع کون المنهی عنه هو التعاون المتقوم بشخصین مثلاً فتدبّر.

ثمّ ان الظاهر ان الإثم بمعنی مطلق المعصیة، و العدوان بمعنی الظلم، فان کان معناه مطلق الظلم الشامل لظلم النفس، المتحقق فی کل معصیة، کانا مترادفین، و إن کان معناه خصوص ظلم الغیر و العدوان علیه، یکون عطفه علی الإثم من قبیل عطف الخاص علی العام، و لعلّ النکتة فیه أهمیّته و کونه من حقوق الناس، و یظهر من مجمع (1)البیان حاکیاً له عن ابن عباس و أبی العالیة و غیرهما من المفسرین، ان الإثم هو ترک ما أمرهم اللّه تعالی به، و العدوان ارتکاب ما نهاهم عنه؛ لأنه مجاوزة ما حدّ الله لعباده فی دینهم و فرض لهم فی أنفسهم، و علیه فالإثم و العدوان کلاهما بمعنی العصیان، غایة الأمر ان الأوّل عدمی و الثانی وجودی، ثمّ انه یظهر منه ایضاً ان قوله تعالی وَ تَعاوَنُوا. . و إن کان جزءاً من الآیة الثانیة، الّا انه کلام مستقل و لیس بعطف علی ما قبله، و علیه فشأن نزول أصل الآیة أیّاً ما کان لا یرتبط بهذا الذیل، الذی هو کلام مستأنف، فلا مجال للبحث فی ان شأن نزول الآیة هل یضر بحجیّة عموم مفاد الآیة أم لا، کما لا یخفی.

الثانی الروایات الواردة فی الموارد الخاصة التی تدل علی حرمة الإعانة علی الإثم فیها،

أو علی حرمة مصادیق الإعانة و أفرادها، و لکنه یستظهر من مجموعها انّ الملاک هی نفس الإعانة علی الإثم بعنوانها الکلّی،

ص:446


1- 1) مجمع البیان 2:155.

سیما بالنسبة إلی المعاصی الکبیرة و هی کثیرة:

منها قوله (1)(صلی الله علیه و آله) : من أعان علی قتل مسلم و لو بشطر کلمة، جاء یوم القیامة مکتوباً بین عینیه: آیس من رحمة اللّه، و لا شبهة فی ان الإیعاد سیّما بهذا النحو، یکشف عن الحرمة، إنّما الکلام فی ان المستفاد منه هل هو کون الإعانة علی القتل خصوصاً مع أهمیّته حرام، أو ان الملاک مطلق الإعانة علی الإثم؟ لا یبعد الأوّل، و ذلک لانه لو کان المحمول هی الحرمة، لأمکن ان یقال بعدم الخصوصیة، و لکن المحمول هو الإیعاد الخاصّ، الذی لا یثبت فی غیر القتل ظاهراً؛ فان مطلق الإعانة علی الحرام لا یکون موضوعاً لمثل هذا الوعید، و علیه فالمحمول الکاشف عن الحرمة مختص بالموضوع، و لا یتجاوز عنه، فکیف یمکن استفادة العموم منه؟ و منها: قول النبی (صلی الله علیه و آله) فی ما حکاه عنه أبو عبد اللّه (علیه السلام) علی ما رواه فی الکافی (2): من أکل الطین فمات فقد أعان علی نفسه، فإنه یستفاد منه مفروغیة حرمة الإعانة علی النفس و کونها موجبة لاستحقاق العقوبة، لکنه لا یستفاد منها ان حرمة الإعانة علی نفسه هل هی من جهة کون المحرم مطلق الإعانة علی الإثم، أو انّ للإعانة علی النفس خصوصیة موجبة لحرمتها؟ و منها: الروایات الکثیرة الواردة فی معونة الظالمین فی ظلمهم، و هی

ص:447


1- 1) الوسائل 19:9 ب 2 من أبواب القصاص فی النفس ح 4. سنن ابن ماجة 2: کتاب الدیات ح 2620.
2- 2) الکافی 6:266 ح 8.

من المکاسب المحرمة المعنونة فیها، و قد تعرض لها الشیخ (1)الأعظم (قده) و فصل الکلام فیها، و من جملة الروایات التی أوردها ما عن کتاب الشیخ ورّام بن أبی فراس قال (2)قال (علیه السلام) من مشی الی ظالم لیعینه، و هو یعلم انه ظالم، فقد خرج عن الإسلام، قال: و قال (3)(علیه السلام) إذا کان یوم القیامة ینادی منادٍ: أین الظلمة أین أعوان الظلمة أین أشباه الظلمة حتی من بری لهم قلماً أو لاق لهم دواة، فیجتمعون فی تابوت من حدید، ثمّ یرمی به فی جهنم، و فی النبوی (4): من علق سوطاً بین یدی سلطان جائر جعلها اللّه حیة طولها سبعون ألف ذراع فیسلّطها اللّه علیه فی نار جهنم خالداً مخلّداً.

و هذه الروایات و إن وردت فی إعانة الظالم فی ظلمة، و لا دلالة لها فی نفسها علی کون حرمة هذه الإعانة لأجل کونه من مصادیق الإعانة علی الإثم، حتی یستفاد منها العموم، الّا انه یمکن ان یقال: إن ضم الآیة المتقدمة إلیها، لعلّه یوجب دلالتها علی التعمیم ایضاً، و ذلک لدلالة الآیة علی تساوی الإثم و العدوان من هذه الجهة، فإذا کان المراد بالعدوان هو الظلم کما هو المحتمل، یکون مقتضی مساواته مع الإثم ثبوت هذا الحکم فی مطلق الإثم أیضاً، فتدبّر.

و منها: ما ورد فی مورد اجارة داره لان یباع فیها الخمر، مثل خبر

ص:448


1- 1) المکاسب:17 18.
2- 2) کنز العُمّال 3:499 ح 7596.
3- 3) البحار 72:372.
4- 4) البحار 72:369.

جابر قال: سألت (1)أبا عبد اللّه (علیه السلام) عن الرجل یؤاجر بیته فیباع فیه الخمر، قال: حرام أجرته، و لکن حرمة الأجرة کاشفة عن بطلان الإجارة، و هو لا یستلزم حرمتها کما لا یخفی، و التحقیق فی محلّه.

و منها: ما رواه (2)الکلینی بإسناده عن جابر عن ابی جعفر (علیه السلام) قال: لعن رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) فی الخمر عشرة: غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقیها و حاملها و المحمولة الیه و بایعها و مشتریها و آکل ثمنها، مع ان ما عدا الشارب لا ینطبق علیه الّا عنوان الإعانة و المعین علی الإثم و تحقق المعصیة، نعم قد عرفت فی الروایة المتقدمة ان حرمة أکل الثمن انّما هی من أجل بطلان المعاملة؛ لإلغاء الشارع مالیة الخمر، فأکل الثمن أکل للمال بالباطل.

و منها: غیر ذلک من الروایات التی لا یبعد ان یستفاد من مجموعها حرمة الإعانة علی الإثم بعنوانها کما لا یخفی.

الثالث حکم العقل بقبح الإعانة علی الإثم،

لأنها مساعدة علی إتیان ما هو مبغوض للمولی، کحکمه بقبح نفس المخالفة و المعصیة؛ لکونها مبغوضة للمولی و مشتملة علی المفسدة اللازمة الترک، غایة الأمر ان دائرة الإعانة و المساعدة لا تشمل ما إذا هیّأ له مقدمات بعیدة، لا بقصد ترتب المعصیة و صدور ما هو المبغوض، بل کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی فی معنی الإعانة و مفهومها اختصاص ذلک بالمقدمات القریبة، أو البعیدة التی تکون

ص:449


1- 1) الوسائل 12:125 ب 39 من أبواب ما یکتسب به ح 1. الاستبصار 3:55 ح 179.
2- 2) الوسائل 12:165 ب 55 من أبواب ما یکتسب به ح 4.

مقرونة بقصد ترتّب المعصیة و تحققها، فانتظر، و فی هذه الدائرة لا مجال لإنکار حکم العقل بالقبح، الکاشف عن الحرمة الشرعیة؛ لقاعدة الملازمة، و إن کان حکمه بقبح نفس المعصیة و المخالفة لیس کاشفاً عن ثبوت الحرمة الشرعیة لها، کما لا یخفی وجهه.

الرّابع الإجماع و اتفاق الأصحاب علی حرمة الإعانة علی الإثم،

و هذا الأمر مفروغ عنه عندهم و یرسلونه إرسال المسلّمات، و لکنا قد ذکرنا مراراً انه لا أصالة لمثل هذا الإجماع، بعد دلالة الکتاب و السنة، بل و حکم العقل علی ما عرفت، فلا یکون دلیلاً مستقلا فی مقابلها.

الجهة الثانیة- فی المراد من القاعدة

فنقول:

امّا الإثم فهو فی القاعدة بمعنی مطلق المخالفة و المعصیة، سواء کان فی التکلیف الوجوبی أو التحریمی، و إن کان المراد به فی الآیة بلحاظ عطف العدوان علیه معصیة خاصة، علی ما عرفت من مجمع البیان، الّا انه لا مجال للإشکال فی ان المراد به فی القاعدة هو مطلق المخالفة.

و أمّا الإعانة التی هی العمدة، فهی لغة بمعنی المساعدة، یقال: أعانه علی ذلک، ای: ساعده علیه، و علیه فالمعین للإنسان هو المساعد له فی جهة خاصة أو سائر الجهات، و لکن الظاهر عدم اختصاص المساعدة بالمساعدة العملیة بل تعم المساعدة الفکریة، و إراءة الطریق و الإرشاد الی ما هو مطلوبه و مقصده، و علیه فالإعانة علی الإثم معناها مساعدة الآثم و إعانته فی جهة تحقق الإثم و صدور المعصیة، سواء کانت مساعدة عملیة أم مساعدة فکریة إرشادیّة، و الظاهر انه لا کلام فی ذلک، انّما الکلام فی أمرین

ص:450

أحدهما: انه هل یتوقف صدق الإعانة علی الإثم علی قصد ترتب الإثم و تحقق المعصیة، فإذا لم یکن المعین قاصداً لترتبها و صدورها من الآثم لم تتحقق الإعانة أصلاً؟ أو لا یتوقف صدقها علی قصد صدور المعصیة منه بوجه؟ ثانیهما: هل یتوقف الصدق المذکور علی تحقق الحرام فی الخارج و صدور الإثم من الآثم؟ أم یتحقق و لو لم تصدر المعصیة منه فی الخارج أصلاً؟ قد یقال بلزوم کلا الأمرین من القصد و تحقق الحرام فی الخارج، و قد یقال بعدم لزوم شیء من الأمرین، بل بمحض إیجاد المقدمة تتحقق الإعانة، سواء قصد ترتب الحرام أم لا، و سواء تحقق الحرام فی الخارج أم لا، و قد یقال بالتفصیل بین الأمرین؛ نظراً الی اعتبار الأمر الأوّل دون الثانی، أو العکس، فیتحصّل أربعة احتمالات، بل أقوال، اللّازم البحث فی کل واحدة من الصّور الأربع فنقول:

امّا الصورة الأولی و هی التی کانت مقرونة بالقصد، و ترتب الحرام علیها خارجاً، فلا إشکال فی صدق الإعانة علی الإثم فیها، و إن کان العمل الصّادر من المعین مقدمة بعیدة، کالغرس فی الروایة النبویة المتقدمة، فإن غرس شجر العنب ان کان بقصد صناعة الخمر من عنبه، و ترتب هذا القصد علیه فی الخارج، یکون اعانة علی الإثم، و یصیر الغارس ملعوناً کما فی الروایة.

کما ان الصورة الثانیة و هی عکس الصورة الأولی، تکون فاقدة للقصد و الترتب معاً، و لا ینبغی الإشکال فی عدم کونها اعانة، و إن قیل

ص:451

بالصدق فیها ایضاً، و لعلّ مستنده إطلاق الغارس فی الروایة النبویّة؛ إذ لم یقید بالقصد أو الترتب أصلاً، و لکن الظاهر انه لا مجال للالتزام به، و إلا یلزم ان یکون أکثر الافعال محرّمة بعنوان الإعانة لصلاحیتها لاستفادة المعصیة منها و ترتب الحرام علیها.

و یمکن ان یقال: انّ نسبة الغارس الی الخمر فی الرّوایة، مع عدم قابلیة الخمر للمغروسیة، و إنما القابل هو النخل و شجر العنب، انّما تصح علی تقدیر کون الغرض من الغرس ذلک، و إلا فمطلق غرس النخل لا یصحح إطلاق غرس الخمر، فالروایة حینئذ لا دلالة لها و لو بظاهرها علی حرمة مطلق الغرس و اللّعن علیه، کما لا یخفی.

و أمّا الصورة الثالثة فهی ما إذا کان هناک قصد، و لکنه لا یکون ترتب و صدور اثم و عدوان، و الظاهر انه لا مجال لتوهم صدق الإعانة علی الإثم و العدوان هنا، بعد عدم تحقق اثم و معصیة فی الخارج، حتی یعان علیها، نعم لو کان المعین قاطعاً بتحقق الحرام و ترتبه علیه بالقطع الوجدانی أو الحکمی، یصدق علیه عنوان المتجری؛ لقطعه بان عمله اعانة علی الإثم مع عدم کونه فی الواقع کذلک، کما انه یمکن ان یقال بالحرمة، لا من جهة الإعانة، بل من جهة أخری غیرها، و أمّا الإعانة فلا مجال لتوهمها بوجه، و العجب من الشیخ الأعظم الأنصاری (1)(قده) ؛ فإنه یظهر منه فی مسألة بیع العنب ممّن یعلم انه یجعله خمراً، بل یصرح بتقوم الإعانة بالقصد و الإتیان بالفعل بقصد حصول المعان علیه، سواء حصل أم لم یحصل إذ أنه ذکر فی مقام الجواب عن بعض المعاصرین، القائل باعتبار القصد و باعتبار وقوع

ص:452


1- 1) المکاسب:16.

المعان علیه فی تحقق مفهوم الإعانة فی الخارج، و تخیله انه لو فعل فعلاً بقصد تحقق الإثم الفلانی من الغیر فلم یتحقق منه، لم یحرم من جهة صدق الإعانة، بل من جهة قصدها، بناء علی ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدمات الحرام بقصد تحققه، و انه لو تحقق الفعل کان حراماً من جهة القصد الی المحرم، و من جهة الإعانة، ان فیه تأملاً، قال: فإن حقیقة الإعانة علی الشیء هو الفعل بقصد حصول الشیء، سواء حصل أم لا، و من اشتغل ببعض مقدمات الحرام الصادر عن الغیر بقصد التوصل الیه، فهو داخل فی الإعانة علی الإثم، و لو تحقق الحرام لم یتعدد العقاب.

وجه التعجب ان کون المعان علیه اثماً و معصیة لا یوجب التغییر فی معنی الإعانة، و من الواضح انه مع عدم تحقق المعان علیه فی الخارج کیف یعقل تحقق الإعانة علیه؟ فاذا لم یتحقق التزویج مثلاً لمانع، هل یجوز دعوی ان زیداً أعان عمراً علی التزویج، و لو کان هناک إطلاق فهو مبنی علی التسامح، و إلا فالإطلاق الحقیقی لا یکون له وجه أصلاً.

و أمّا الصورة الرّابعة، فهی عکس الصورة الثالثة، و هی ما إذا کان هناک ترتب و صدور معصیة، و لکنه لم یکن فی البین قصد، و الظاهر ان المسألة خلافیّة، فقد استظهر الشیخ (1)من الأکثر عدم اعتبار القصد، و حکی عن الشیخ فی المبسوط الاستدلال علی وجوب بذل الطّعام لمن یخاف تلفه بقوله (صلی الله علیه و آله) : من أعان علی قتل مسلم و لو بشطر کلمة جاء یوم القیامة مکتوباً بین عینیه آیس من رحمة اللّه، و عن العلّامة فی التذکرة انه استدل علی حرمة بیع السّلاح من أعداء الدین بانّ فیه اعانة علی الظّلم، و عن

ص:453


1- 1) المکاسب:17.

المحقق الثانی انه استدل علی حرمة بیع العصیر المتنجس ممّن یستحلّه، بان فیه اعانة علی الإثم، و عن المحکی عن المحقق الأردبیلی انّه استدل علی حرمة بیع العنب ممّن یعلم انه یجعله خمراً بان فیه اعانة علی الإثم، و عن الحدائق انه قرّره علی ذلک، و عن الریاض انه بعد ذکر الأخبار الدالة علی الجواز فی مسألة بیع العنب قال: و هذه النصوص و إن کثرت و اشتهرت و ظهرت دلالتها بل ربما کان بعضها صریحاً، لکن فی مقابلتها للأصول و النصوص المعتضدة بالعقول اشکال، ثمّ استظهر ان مراده بالأصول قاعدة حرمة الإعانة علی الإثم، و بالعقول حکم العقل بوجوب التوصل الی دفع المنکر مهما أمکن، ثمّ أیّد الشیخ ما ذکروه من صدق الإعانة بدون القصد، بإطلاقها فی غیر واحد من الاخبار، مع عدم تحقق القصد فی مواردها، مثل النبوی المتقدم من أکل الطین فمات، فقد أعان علی نفسه و غیره من الرّوایات.

و لکن یظهر من المحقق الثانی فی حاشیة الإرشاد (1)اعتبار القصد فی تحقق مفهوم الإعانة، و وافقه جماعة من متأخری المتأخرین، منهم صاحب الکفایة (2)و صاحب الجواهر (3)و هنا قول ثالث و هو التفصیل بین ما إذا کانت تلک المقدّمة بعد إرادة الآثم لذلک الإثم و عزمه علی ذلک الفعل و لکن یتوقف إیجاده علی تلک المقدّمة کما إذا أراد ضرب شخص و عزم علی ذلک، و لکن یتوقف وقوع الضرب فی الخارج علی وجود عصا بیده، فأعطاه

ص:454


1- 1) علی ما نُقل فی العوائد الأیام:27.
2- 2) الکفایة، کتاب التجارة.
3- 3) جواهر الکلام 22:33.

العصا بیده فی هذه الحالة مع علمه بإرادته و عزمه، فإن إعطاء العصا فی هذه الحالة مع العلم المذکور یکون اعانة علی الإثم، و إن لم یقصد ترتب الضرب، بل یرجو ان لا یضرب، و بین ما إذا کانت تلک المقدمة من مبادی الإرادة علی الإثم، و بعبارة اخری: التفصیل بین ما إذا کانت المقدمة جزء أخیراً من العلة التامة لتحقق الإثم، و بین ما إذا لم تکن کذلک، ففی الصورة الأولی تتحقق الإعانة و لو لم تکن المقدمة مقرونة بقصد المعین، و فی الصورة الثانیة یتوقف تحقق الإعانة علی القصد و ترتب المحرّم و المعصیة، امّا توقف الصورة الثانیة علی القصد فواضح، و قد عرفت ان روایة (1)لعن الغارس ناظرة الی هذا الفرض، و أمّا عدم توقف الصورة الأولی علی القصد؛ فلان المفروض تمامیة مقدمات وقوع الحرام و تحقق الإثم و نقصان هذه المقدمة، فإذا علم انه بإیجادها یتحقق الحرام فی الخارج، فهو اعانة لا محالة، و إن لم یکن قاصداً لتحققه، بل کان الغرض من إعطاء العصا فی المثال المذکور انه لا یرید مخالفة الآثم و الآباء عن إیجاد مطلوبه و هو التمکن من العصا، و قد اختار هذا القول جماعة منهم المحقق (2)البجنوردی، و قبله الشیخ (3)الأنصاری فی آخر کلامه، و قبله المحقق الأردبیلی فی آیات (4)أحکامه، قال فی کتاب الحج منه عند بیان آیة وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ : «و الظاهر انّ المراد الإعانة علی المعاصی مع القصد، أو علی الوجه الذی

ص:455


1- 1) الوسائل 12:165 ب 55 من أبواب ما یکتسب به ح 4.
2- 2) القواعد الفقهیة 1:310 311.
3- 3) المکاسب:19.
4- 4) لم نعثر فی کتابه و لکن حکی عنه العوائد:27.

یقال عرفاً انه کذلک، مثل ان یطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فیعطیه إیّاها، أو یطلب منه القلم لکتابة ظلم فیعطیه إیاه، و نحو ذلک مما یعدّ اعانة عرفاً، فلا یصدق علی التاجر الذی یتجر لتحصیل غرضه انه معاون للظالم العاشر فی أخذ العشور، و لا علی الحاجّ الذی یؤخذ منه بعض المال فی طریقه ظلماً، و غیر ذلک ممّا لا یحصی، فلا یعلم صدقها علی شراء من لم یحرم علیه شراء السلعة من الذی یحرم علیه البیع، و لا علی بیع العنب ممن یعمل خمراً أو الخشب ممن یعمل صنماً، و لهذا ورد فی الروایات الکثیرة الصحیحة جوازه، و علیه الأکثر، و نحو ذلک مما لا یخفی» .

قال صاحب العوائد (1)بعد نقل العبارة المذکورة: «و هو جیّد فی غایة الجودة» .

و لکن الشیخ (2)الأعظم (قده) أورد علی المحقق الأردبیلی بعد جعل مورد الإشکال فی بحث الإعانة ما إذا قصد الفاعل بفعله وصول الغیر الی مقدمة مشترکة بین المعصیة و غیرها، مع العلم بصرف الغیر إیاها فی المعصیة، و بعبارة اخری: ما إذا کان هناک اعانة علی شرط الحرام مع العلم بصرفه فی الحرام، بان الفرق بین إعطاء السّوط للظالم، و بین بیع العنب لا وجه له؛ فإن إعطاء السوط إذا کان اعانة کما اعترف به فی آیات الاحکام، کان بیع العنب کذلک، کما اعترف به فی شرح الإرشاد، و یرد علیه ما أفاده فی ذیل کلامه من الفرق من جهة انحصار فائدة الشرط عرفاً فی الحالة الخاصة فی الضّرب، بخلاف تملیک الخمّار؛ فإنه لا تنحصر فائدته

ص:456


1- 1) عوائد الأیام:27.
2- 2) المکاسب:17.

عرفاً فی التخمیر، و لو مع العلم بترتبه علیه، فالانحصار و عدمه هو الفارق بین المسألتین.

فحاصل الکلام یرجع الی ان العرف هو الفارق بین الفرضین، و ملاکه الانحصار العرفی و عدمه، کما ان ثبوت الإعانة مع فرض القصد فی غیر هذه الصورة انّما هو لحکم العرف بذلک، فإنه یری الفرق بین غارس النخل لأجل استفادة الخمر، و بین الغارس لا لذلک، نعم یبقی الکلام فی مثل قوله (صلی الله علیه و آله) من أکل الطین فمات فقد أعان علی نفسه، و اللازم ان یقال بعد ظهور عدم کونه فی مقام الاخبار عن تحقق الإعانة العرفیة بذلک: ان المراد هو تحقق الإعانة تعبّداً و ترتب آثارها علیه کذلک، و لا مانع من الالتزام به بعد دلالة الرّوایة علیه، و یمکن ان یقال بأنه حیث یترتب الموت غالباً علی أکل الطین، فآکل الطین لا یکاد ینفک عن القصد، و الإعانة انما هی بلحاظ القصد فتدبّر.

ثمّ ان الموارد المرتبطة بهذه القاعدة فی الفقه کثیرة، مثل مسألة بیع العنب ممن یعلم انه یجعله خمراً، و بیع الخشب ممن یعلم أنه یجعله صنماً، و إجارة الدکان لبیع الخمر، أو الدار لصنعها، و إجارة الدابة أو السفینة لحمل الخمر، و بیع السلاح من أعداء الدین، و إن کان یحتمل فیه ان لا تکون حرمته من باب الإعانة، بل من حیث نفسه، و الضابط فی الموارد الخالیة عن النص جوازاً أو منعاً مراعاة ما ذکرناه فی معنی الإعانة من اعتبار أحد أمرین علی سبیل منع الخلو، امّا القصد الی ترتب فعل الحرام علیه، بمعنی کون الغرض من الفعل و إیجاد المقدمة ترتب الحرام علیه و وجوده فی الخارج، و أمّا کون الفعل قریباً الی الحرام و جزءاً أخیرا من العلة التامة،

ص:457

الذی یوجب صدق الإعانة بنظر العرف، و إن لم یکن فی البین قصد أصلاً.

الجهة الثالثة- فی انه لا إشکال فی صدق الإعانة فیما إذا کان هناک شخصان أحدهما المعین و الآخر المعان،

و أمّا بالنسبة إلی شخص واحد، فهل تتحقق الإعانة أم لا؟ فالمشتری فی مثال بیع العنب إذا کان قاصداً باشترائه تخمیر العنب المشتری، و کان غرضه من الشراء ذلک، هل یکون عمله حراماً بعنوان الإعانة أم لا؟ یظهر من الشیخ (1)الأعظم (قده) الثانی، إذ انه ذکر ان محل الکلام ما یعد شرطاً للمعصیة الصادرة عن الغیر قال: فما تقدم من المبسوط من حرمة ترک بذل الطعام لخائف التلف مستنداً الی قوله (علیه السلام) من أعان علی قتل مسلم. . محلّ تأمل الّا ان یرید الفحوی.

و یؤید التعمیم الروایة الواردة فی لعن الغارس؛ فان حملها علی کون المراد من الغرس تخمیر الغیر، و عدم شمولها لما إذا کان المراد تخمیره بنفسه، فی غایة البعد، و کذا الروایة الواردة فی أکل الطین، الدالة علی انّه اعانة علی نفسه و لو بالمعنی الذی ذکرناه فی معنی الروایة.

و بالجملة ان کان مراد الشیخ (قده) مدخلیة وجود الغیر فی معنی الإعانة عرفاً، حتی لا یکاد یتحقق عندهم بدونه، فالظاهر انّه لا دلیل علیه، خصوصاً بعد ما عرفت من الإطلاق فی النصوص و بعض الفتاوی، و إن کان مراده مدخلیته زائداً علی المعنی العرفی، فلا مجال له کما هو ظاهر.

الجهة الرّابعة- فی انه إذا صارت معاملة محرمة لأجل الإعانة علی الإثم،

کبیع العنب لأجل صرفه فی التخمیر، لا یوجب ذلک بطلان المعاملة، و إن قلنا بأن النهی و التحریم المتعلق بالمعاملة یوجب فسادها، علی خلاف

ص:458


1- 1) المکاسب:18.

ما هو مقتضی التحقیق، کما بیّن فی محلّه؛ و ذلک لان التحریم بمقتضی النصوص و الفتاوی انّما تعلّق بعنوان الإعانة علی الإثم و العدوان، و قد حقق فی محلّه انه لا یعقل أن یسری الحکم من متعلقه إلی شیء آخر، و لو کان بینهما اتّحاد فی الخارج، و علی هذا المبنی قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهی فی المسألة الأصولیة، و فی المقام بیع العنب فی المثال المذکور، و إن کان منطبقاً علیه عنوان الإعانة علی الإثم، الّا انه لا یکاد یسری الحکم من عنوان الإعانة إلی عنوان البیع، فالمحرّم فی جمیع الحالات و فی جمیع المقامات هو نفس هذا العنوان، و أمّا عنوان البیع فهو محکوم بحکمه الاوّلی و هو الجواز، فلا مجال لان یصیر باطلاً لأجل الحرمة، بعد کون متعلّقها هو عنوان الإعانة دون المعاملة.

هذا تمام الکلام فی قاعدة حرمة الإعانة علی الإثم.

ص:459

ص:460

قاعدة حجیّة البیّنة

اشارة

و هی من القواعد الفقهیة المعروفة و المبتلی بها فی کثیر من أبواب الفقه، و الکلام فیها یقع فی مقامات:

المقام الأوّل- فی ما یدل أو یستدلّ به علی اعتبار البیّنة،

اشارة

و هو أمور:

الأوّل دعوی الإجماع علی اعتبارها فی الموضوعات الخارجیة التی یترتب علیها حکم أو أحکام فی الشریعة المقدّسة

کالنجاسة و الغصبیّة و الملکیة و العدالة و القبلة و الاجتهاد و أشباهها.

و قد أورد علی هذه الدّعوی بان هذا الإجماع علی تقدیر تحقّقه لیس واجداً لملاک الحجّیة و لا کاشفاً عن موافقة المعصوم؛ لاحتمال ان یکون مستند المجمعین شیئاً من الوجوه الآتیة، و علیه لا یبقی للإجماع أصالة، بل اللازم النظر فی تلک الوجوه و استفادة حکم البینة منها، کما لا یخفی.

و یمکن الجواب عن الإیراد بأنه حیث لا تکون الوجوه الآتیة ظاهرة

ص:461

الدلالة علی حجیة البیّنة بل أکثرها أو کلها مخدوشة، فالإجماع علی اعتبارها بنحو یکون کإرسال المسلمات لا یبعد ان یقال بکشفه عن موافقة المعصوم، لعدم التلاؤم بین هذا النحو من الإرسال و بین الوجوه التی لا تکون دلالتها علی حجیّة البیّنة ظاهرة، کما هو ظاهر.

الثانی انه لا إشکال فی اعتبار البیّنة فی مورد الترافع و الخصومة و تقدّمها علی غیر الإقرار مثل الیمین و نحوها،

فاذا کانت معتبرة فی ذلک الباب مع وجود المعارض و ثبوت المکذب إذ ان المنکر بإنکاره یکذب البیّنة و یعارضها ففیما إذا لم یکن لها معارض تکون معتبرة بطریق اولی، فالدلیل علی حجیة البینة فی ذلک الباب یدل بمفهوم الموافقة علی الحجیّة فی غیره مما لا یکون لها فیه معارض.

و أورد علیه بان اعتبار شیء فی باب المرافعات و الخصومات، لا دلالة له علی اعتباره فی غیرها أصلاً، فضلاً عن ان یکون بطریق أولی؛ لأن بقاء التنازع و التخاصم ینجرّ الی اختلال النظام، و هو مبغوض للشارع، و غرضه رفعه بأیّ نحو کان، فاعتبار شیء فی ذلک الباب لا یلازم الاعتبار فی غیره، کما انّ الیمین مع اعتبارها فی فصل الخصومة لا تکون معتبرة فی غیره.

الثالث الروایات الواردة فی هذا الباب،

و عمدتها روایة (1)مسعدة بن صدقة عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) قال: سمعته یقول: کل شیء هو لک حلال حتی تعلم انه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک، و ذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته و هو سرقة، و المملوک عندک، و لعلّه حرّ قد

ص:462


1- 1) الوسائل 12:60 ب 4 من أبواب ما یکتسب به ح 4.

باع نفسه، أو خدع فبیع قهراً، أو امرأة تحتک و هی أختک أو رضیعتک، و الأشیاء کلها علی هذا حتی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة.

و الکلام فی هذه الرّوایة تارة من حیث السند و أخری من جهة الدّلالة:

امّا من الجهة الأولی، فقد عبّر عنها الشیخ (1)الأعظم الأنصاری (قده) بالموثقة، و لعلّ هذا الاتصاف مشهور بینهم، مع انه لم یوثّق مسعدة راوی الحدیث فی شیء من الکتب الرّجالیة القدیمة التی هی الأساس لسائر الکتب، بل المحکی عن العلامة و المجلسی و غیرهما تضعیفه، و غایة ما ذکر فی مدحه ان روایاته غیر مضطربة المتن، و إن مضامینها موجودة فی سائر الموثقات.

هذا و لکن توثیق الشیخ الأعظم بضمیمة وقوع الرجل فی سند بعض الروایات الواقعة فی کامل الزیارات لابن قولویه مع تصریح مؤلّفه فی دیباجته بأنه لم یرد فی ذلک الکتاب الّا الاخبار التی رواها الثقات من الأصحاب، و لا تکون متصفة بالشذوذ، یکفی فی جواز الاعتماد علیها و إن کان الرجل عامیّاً.

و أمّا من الجهة الثانیة، فتقریب دلالتها انه (علیه السلام) بعد الحکم بثبوت الحلیة الظاهریة للأشیاء التی شک فی حلیتها و حرمتها، و إیراد أمثلة لذلک، حکم بأن الأشیاء کلها محکومة بالحلیة، إلا مع استبانة الحرمة و العلم بها أو قیام البینة و شهادة العدلین علیها، فیستفاد منها اعتبار البیّنة فی موارد الشک فی الحلیة و الحرمة، و بضمیمة انه لا فرق بین الشبهات الموضوعیة فی

ص:463


1- 1) فرائد الأصول 2:734.

باب الحلیة و الحرمة، و بینها فی غیر ذلک الباب، کموارد الطهارة و النجاسة، و لم یقل أحد بالفصل، یتم المطلوب و هی حجیة البیّنة فی جمیع الموارد.

و قد استشکل فیها بوجهین:

أولهما و هو العمدة: ان الروایة ظاهرة بل صریحة فی ان الحکم بالحلیة فی الموارد المذکورة فیها مستند إلی أصالة الحلیة، التی یدل علیها قوله (علیه السلام) فی صدر الروایة: «کل شیء هو لک حلال حتی تعلم انه حرام بعینه» و إن تلک الموارد من أمثلة القاعدة المذکورة و صغریات هذه الکبری الکلیة، مع ان الحلیة فیها لا تستند إلی قاعدة الحلیة بوجه؛ ضرورة ان الحلیة فی مثال الثوب مستندة الی الید التی هی امارة علی الملکیة عند العقلاء و فی الشریعة، و فی مثال العبد إلی الإقرار أو الید أیضاً، و فی مثال المرأة إلی استصحاب عدم تحقق الرضاع، و عدم اتصافها بکونها رضیعة له، و إلی استصحاب عدم الأختیّة بناء علی جریانه، و علی فرض عدم الجریان کما هو الحق لا یکون هناک حلیة أصلاً، بل الثابت هی أصالة الفساد، و عدم ترتب الأثر علی النکاح.

و من الواضح استهجان إیراد قاعدة کلیّة، ثمّ ذکر أمثلة خارجة عن تلک القاعدة، خصوصاً مع التصریح بالقاعدة ثانیاً و تکرارها فی الذیل، کما فی الروایة، و خصوصاً مع کون الحکم فی بعضها علی خلاف القاعدة المذکورة.

و الجواب: ان هذا الاشکال و إن کان ممّا لا سبیل الی حلّه، الّا بأن تحمل الموارد المذکورة فیها غیر المرتبطة بالقاعدة أصلاً علی بیان ذکر النظائر و الأشباه لا المصادیق و الصغریات، الّا انه لا یقدح فی الاستدلال

ص:464

بالروایة علی ما هو المقصود فی المقام من حجیة البیّنة؛ فإن عدم انطباق القاعدة علی الموارد المذکورة لا یستلزم خروج ذیل الروایة الدال علی اعتبار البینة و إن قیامها یوجب سقوط أصالة الحلیة عن الاعتبار و الحجیة و عدم جریانها، فتأمل.

ثانیهما: ان کلمة «البیّنة» لم تثبت لها حقیقة شرعیة و لا متشرعیّة، و إنما استعملت فی الکتاب و الاخبار بمعناها اللغوی، و هو ما به البیان و الظّهور، و بعبارة أخری: هی بمعنی الحجّة، فلا مجال للاستدلال بالروایة علی حجیّة البیّنة بالمعنی الاصطلاحی.

و الجواب: ان ظهور «البینة» مع الإطلاق و عدم وجود قرینة علی الخلاف فی هذا المعنی الاصطلاحی ممّا لا ینبغی إنکاره، و یدلُّ علیه استعمالها فیه من الصدر الأوّل فی مثل قوله (1)(صلی الله علیه و آله) : «البینة علی المدعی و الیمین علی من أنکر» و قوله (2)(صلی الله علیه و آله) : «إنما أقضی بینکم بالبیّنات و الإیمان» ، و غیرهما من الموارد الکثیرة، و لم یعلم استعمالها فی الکتاب و غیره فی غیر هذا المعنی الاصطلاحی من دون قرینة، کما فی التعبیر المعروف: «دعوی فلان خالیة عن البرهان و البیّنة» . نعم قد استعملت فی الکتاب فی خمسة عشر موضعاً منه بمعناها اللغوی و هو الظهور و البیان، لکن مع القرینة، فنری انه قد عبر فیه عن معجزتی موسی (علیه السلام) تارة بالبرهان فی قوله (3)تعالی فَذانِکَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّکَ و أخری بالبینة، فی قوله 1تعالی «قَدْ جِئْتُکُمْ بِبَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ» مع ان توصیف البیّنة بکونها من ناحیة الرّب ایضاً یدل علی کون المراد هی الحجّة الواضحة.

ص:465


1- 1) المفردات للراغب 67 مادة بین: مستدرک الوسائل 17:368 ب 3 من أبواب کیفیة الحکم ح 5.
2- 2) الوسائل 18:169 ب 2 من أبواب کیفیة الحکم ح 1.
3- 3) سورة القصص: الآیة 28.

و الجواب: ان ظهور «البینة» مع الإطلاق و عدم وجود قرینة علی الخلاف فی هذا المعنی الاصطلاحی ممّا لا ینبغی إنکاره، و یدلُّ علیه استعمالها فیه من الصدر الأوّل فی مثل قوله 1(صلی الله علیه و آله) : «البینة علی المدعی و الیمین علی من أنکر» و قوله 2(صلی الله علیه و آله) : «إنما أقضی بینکم بالبیّنات و الإیمان» ، و غیرهما من الموارد الکثیرة، و لم یعلم استعمالها فی الکتاب و غیره فی غیر هذا المعنی الاصطلاحی من دون قرینة، کما فی التعبیر المعروف: «دعوی فلان خالیة عن البرهان و البیّنة» . نعم قد استعملت فی الکتاب فی خمسة عشر موضعاً منه بمعناها اللغوی و هو الظهور و البیان، لکن مع القرینة، فنری انه قد عبر فیه عن معجزتی موسی (علیه السلام) تارة بالبرهان فی قوله 3تعالی فَذانِکَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّکَ و أخری بالبینة، فی قوله (1)تعالی «قَدْ جِئْتُکُمْ بِبَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ» مع ان توصیف البیّنة بکونها من ناحیة الرّب ایضاً یدل علی کون المراد هی الحجّة الواضحة.

و یدلّ علی کون المراد بالبیّنة فی الموثقة خصوص المعنی الاصطلاحی، انه لو کان المراد بها هو المعنی اللغوی، یلزم ان تکون الاستبانة أیضاً من مصادیق البیّنة، فیکون العطف من قبیل عطف العام علی الخاص، و هو خلاف ما هو المتفاهم عرفاً منها، کما لا یخفی.

و دعوی انه یمکن ان یکون المراد بالبیّنة فی النبویّین ایضاً هو المعنی اللغوی لا شهادة عدلین، مدفوعة مضافاً الی کونه خلاف ما فهمه الأصحاب منهما، و قد عبروا بمثلهما فی کتاب القضاء اقتباساً منه (صلی الله علیه و آله) مع وضوح کون مرادهم هو المعنی الاصطلاحی بأنه لو کان المراد بها هو المعنی اللغوی الذی هو الحجة، لکان المنکر ایضاً واجداً للحجة، خصوصاً لو کان تعریفه: انه من کان قوله موافقاً للأصل أو الظاهر؛ فان المنکر حینئذ یکون واجداً للحجة، فلا یبقی فرق بینه و بین المدعی، و لا وجه لترجیحه علیه بعد اشتراکهما فی ثبوت الحجة لهما، کما هو ظاهر.

فانقدح انه لا مجال لإنکار کون البینة فی الرّوایة بالمعنی الاصطلاحی الذی هو شهادة عدلین، و إن الروایة ظاهرة فی اعتبارها و حجّیتها.

ثمّ ان فی الروایة اشکالاً ثالثاً؛ و هو انه قد جعلت البیّنة فیها غایة للحلّ، فکأنه قال (علیه السلام) (2): کل شیء لک حلال حتی تعلم حرمته

ص:


1- 1) سورة الأعراف: الآیة 105.
2- 2) الوسائل 12:60 ب 4 من أبواب ما یکتسب به ح 4.

أو تقوم البیّنة علی حرمته، فغایة مدلول الروایة حجیة البیّنة لإثبات حکم الحرمة لا إثبات الموضوعات کخمریة هذا المائع و کریّة ذلک الماء و أشباههما، بل لا تدل علی حجیّتها لإثبات الاحکام الجزئیة، کنجاسة هذا الثوب و ملکیة ذلک الشیء لفلان و أمثال ذلک، فالموثقة لا تنطبق علی المدعی فی باب حجیة البیّنة.

و الجواب: انه لا خفاء فی کون الموثقة واردة فی الشبهات الموضوعیّة؛ فإن الأمثلة المذکورة فیها و إن کانت خارجة عن الصغرویة للکبری المذکورة فیها علی ما عرفت، الّا ان التعرض لها و إیرادها و لو بعنوان بیان النظائر و الأشباه، یدلّ علی ان المفروض فی الرّوایة خصوص الشبهة الموضوعیة التحریمیّة، و علیه فالمراد بالاستبانة المذکورة فی الرّوایة هو استبانة العنوان المحرم، و کون مورد الشبهة مصداقاً للخمر مثلا لا استبانة الحکم المتحقق فی الشبهة الحکمیة أیضاً، و قیام البینة صار معطوفاً علی الاستبانة بالمعنی المذکور، فلا بد من ان یکون المراد به هی البیّنة القائمة علی تشخیص الموضوع و بیان العنوان المحرّم، لا البینة علی الحکم کما هو ظاهر، فالإنصاف تمامیة دلالة الروایة علی اعتبار البینة فی الموضوعات الخارجیّة.

و من الرّوایات: روایة عبد الله بن سلیمان المرویة فی الکافی (1)و التهذیب عن الصادق (علیه السلام) فی الجبن: کل شیء حلال حتی یجیئک شاهدان یشهدان عندک ان فیه میتة. و الروایة بلحاظ ورودها فی الجبن الذی یکون منشأ الشک فی حلیّته وجود المیتة فیه، و بعبارة اخری کون الشبهة موضوعیة، و بلحاظ قوله (علیه السلام) : انّ فیه میتة، ظاهرة فی انّ مجیء

ص:467


1- 1) الکافی 6:339 ح 2.

شاهدین یشهدان بذلک حجة شرعیة علی ثبوت موضوع الحرمة و وجود المیتة فیه، و الرّوایة دالة علی قاعدة کلیة، و ذکر المیتة بلحاظ ورودها فی الجبن، و إلا فمن الواضح انه لا خصوصیة للجبن و المیتة، و الاّ لا مجال للتعبیر بقوله: کل شیء حلال، فإلقاء الضابطة الکلیة ناظر إلی انه لا خصوصیة للجبن، و معها لا یبقی مجال لخصوصیة المیتة من بین المحرمات؛ لان التعرض لها انّما هو لارتباطها بالجبن کما هو واضح، کما ان حصر الغایة فی البینة لیس فی مقابل العلم الذی هو حجة ذاتیّة، بل انّما هو لإفادة کون البیّنة قائمة شرعاً مقام العلم، و قد عرفت انّ عدم الفصل فی الشبهات الموضوعیة بین التحریمیة و غیرها من سائر الشبهات، یوجب تمامیة دلالة الروایة علی اعتبار البینة فی الموضوعات مطلقاً، فلا یتوهم اختصاص الروایة بالشبهات الموضوعیة التحریمیة.

و منها: الرّوایات المتعددة الواردة فی رؤیة الهلال الدالة علی ثبوتها بشهادة عدلین بها، مثل صحیحة (1)الحلبی عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) ان علیّاً (علیه السلام) کان یقول: لا أجیز فی رؤیة الهلال إلّا شهادة رجلین عدلین (2). و صحیحة (3)منصور بن حازم عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) ایضاً قال: صم لرؤیة الهلال و أفطر لرؤیته، فإن شهد عندکم شاهدان مرضیّان بأنهما رأیاه فاقضه. و غیرهما من الروایات الواردة فی هذا المجال.

و تقریب الاستدلال بها ان یقال: انّه (علیه السلام) بصدد انه لا یثبت الهلال

ص:468


1- 1) الوسائل 7:207 ب 11 من أحکام شهر رمضان ح 1.
2- 2) الوسائل کتاب الصوم، أبواب أحکام شهر رمضان، الباب الحادی عشر.
3- 3) الوسائل 7:208 ب 11 من أحکام شهر رمضان ح 4.

الّا بالرؤیة و العلم، أو بما هو بمنزلة العلم فی إثبات ما قام علیه، فکأنه (علیه السلام) جعل أماریة البیّنة و کونها بمنزلة العلم امراً مفروغاً عنه و من المسلمات، و یؤیده انه فی الصدر علّق الحکم بوجوب الصّوم و الإفطار علی الرؤیة التی هی المشاهدة، ثمّ فرّع علیه مسألة الشهادة و البیّنة، و لو لا قیام البیّنة مقام العلم و کونه بمنزلته لا یکاد یتمّ التفریع، کما لا یخفی.

هذا و لکن مقتضی ما ذکر: کون قیام البینة مقام العلم و اعتبارها و حجیّتها مفروغاً عنه فی مسألة الرؤیة، و أمّا کونها معتبرة فی جمیع الموارد و الشبهات فلا دلالة للروایات علیه.

و منها: الروایات المتعدّدة ایضاً الواردة فی لزوم تصدیق المسلم إذا شهد، و قبول شهادة المؤمن، مثل قوله (1)(علیه السلام) : إذا شهد عندک المسلمون فصدّقهم. و قوله (علیه السلام) : إذا شهد عندکم المؤمنون فاقبلوا، و غیرهما من الروایات الواردة بهذا المضمون.

و لکن الظاهر انه لا دلیل علی کون المراد بالشهادة فی مثل الروایتین هی شهادة المتعدد من المسلم أو المؤمن، بل یحتمل قویّا ان یکون المراد لزوم قبول قولهم و إن لم یکن متعدّداً، بل و إن لم یکن عادلاً، فلا دلالة لها علی اعتبار البیّنة المتقومة بالتعدد و العدالة، الّا ان یتحقق السّلوک من طریق الأولویة، و هی و إن کانت متحققة الا انّها تجدی فیما إذا کان الأصل مورداً للقبول، مع ان لزوم التصدیق بالنحو المذکور الذی هو مفاد الروایتین مما لم یقل به أحد. هذا و قد احتمل فی الروایتین ان یکون المراد

ص:469


1- 1) الوسائل 13:230 ب 6 من أحکام الودیعة ح 1.

منهما ما هو المراد من قوله (1)تعالی یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ من ان المراد هو القبول الصوری و عدم تکذیبهم، لا ترتیب الآثار الواقعیة علی مجرد اخبارهم و إن کان بضرر غیرهم.

الرّابع الکتاب،

و قد وقع التعرض فیه لشهادة العدلین فی موارد، ففی مورد الدین قوله (2)تعالی وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِیدَیْنِ مِنْ رِجالِکُمْ » ، و فی مورد الوصیّة، قوله (3)تعالی شَهادَةُ بَیْنِکُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَکُمُ اَلْمَوْتُ حِینَ اَلْوَصِیَّةِ اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ ، و فی مورد جزاء الصید فی حال الإحرام، و حکم رجلین عدلین و شهادتهما بالمثلیة للصید «یَحْکُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ» (4)، و فی مورد الطلاق «وَ أَشْهِدُوا ذَوَیْ عَدْلٍ مِنْکُمْ» (5).

و المستفاد منها بعد دلالتها علی اعتبار البینة فی الموارد المذکورة؛ ضرورة أن الاستشهاد انّما هو لغرض الشهادة، فلو لم تکن الشهادة حجة معتبرة لما کان وجه للاستشهاد، فلزوم إشهاد عدلین عند الطلاق لا ینفک عن اعتبار شهادتهما به بعداً ان البینة حجة شرعیة قائمة مقام العلم فی جمیع الموارد و الموضوعات، من دون ان تکون خصوصیة للموارد المذکورة، هذا و قد ورد فی الکتاب ایضاً آیات دالة علی وجوب تحمل الشهادة و وجوب أدائها و حرمة کتمانها، کقوله تعالی وَ أَقِیمُوا اَلشَّهادَةَ لِلّهِ 1و قوله تعالی وَ لا یَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا 2، و قوله تعالی وَ مَنْ یَکْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ 3، و ظاهرها بمقتضی الدلالة الالتزامیة الحجیة و الاعتبار کما عرفت، لانه لا معنی للزوم التحمل و الأداء و حرمة الکتمان مع عدم وجوب التصدیق و عدم لزوم القبول و ترتیب الأثر.

ص:470


1- 1) سورة التوبة: الآیة 61.
2- 2) سورة البقرة: الآیة 281.
3- 3) سورة المائدة: الآیة 105.
4- 4) سورة المائدة آیة 94.
5- 5) سورة الطلاق آیة 2.

و المستفاد منها بعد دلالتها علی اعتبار البینة فی الموارد المذکورة؛ ضرورة أن الاستشهاد انّما هو لغرض الشهادة، فلو لم تکن الشهادة حجة معتبرة لما کان وجه للاستشهاد، فلزوم إشهاد عدلین عند الطلاق لا ینفک عن اعتبار شهادتهما به بعداً ان البینة حجة شرعیة قائمة مقام العلم فی جمیع الموارد و الموضوعات، من دون ان تکون خصوصیة للموارد المذکورة، هذا و قد ورد فی الکتاب ایضاً آیات دالة علی وجوب تحمل الشهادة و وجوب أدائها و حرمة کتمانها، کقوله تعالی وَ أَقِیمُوا اَلشَّهادَةَ لِلّهِ (1)و قوله تعالی وَ لا یَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا (2)، و قوله تعالی وَ مَنْ یَکْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (3)، و ظاهرها بمقتضی الدلالة الالتزامیة الحجیة و الاعتبار کما عرفت، لانه لا معنی للزوم التحمل و الأداء و حرمة الکتمان مع عدم وجوب التصدیق و عدم لزوم القبول و ترتیب الأثر.

و بالجملة لا یبقی لمن أمعن النظر فی موارد قبول شهادة العدلین ارتیاب فی انه لا خصوصیة لتلک الموارد، بل حجیّتها انّما هی بنحو العموم و الشمول لجمیع الموضوعات الّا ما خرج بالدلیل، مثل الزنا و اللواط و غیرهما.

الخامس سیرة العقلاء من جمیع الملل و إن لم یکونوا متشرّعین بشریعة أصلاً؛

فإنّهم یرون شهادة شخصین موثقین طریقاً مثبتاً الی الموضوعات التی تترتب علیها الأحکام العرفیة و الآثار العقلائیّة.

و یرد علیه: عدم انطباق هذا الدلیل علی المدّعی؛ فان المدّعی کما عرفت یعتبر فیه التعدّد و العدالة، فإنه المراد من البیّنة بالمعنی الاصطلاحی، و الدلیل و هی سیرة العقلاء انّما یکون موردها مطلق الشهادة و لو لم یکن من الشخصین، کما انه لا یعتبر فیه العدالة بل یکفی مجرد الوثاقة، و سیأتی ان السیرة بهذا العرض الوسیع مردوع عنها فی الشریعة، الّا ان یقال: انّ الرّدع انما هو بالنسبة إلی قسم من مورد جریان السیرة، و أمّا بالنسبة الی ما کان مشتملاً علی التعدّد و العدالة فلم یتحقق الردع، بل إنْ

ص:


1- 1) سورة الطلاق آیة 2.
2- 2) سورة البقرة آیة 281.
3- 3) سورة البقرة آیة 282.

الأخبار الکثیرة المتقدمة بمنزلة الإمضاء له کما لا یخفی.

السادس ان الموضوعات لا ریب فی کون أکثرها خفیة علی أکثر الناس،

بمعنی ان کل صنف من الناس و إن کان لهم القدرة علی مغرقة صنف من الموضوعات، لکن الغالب لا بصیرة له فی الغالب، فلو کانت الأحکام معلقة علی العلم بالموضوعات، لزم تعطیل الاحکام غالباً و لزم الهرج و المرج، فلا بدّ من کون شیء معتبراً فی الشرع فی الموضوعات غیر العلم مما یوجب الوثوق بها، و لا قائل بما هو أزید من البینة من شهادة ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو نحو ذلک، نعم فی حجیة شهادة العدل الواحد کلام یأتی البحث عنه إن شاء اللّه تعالی.

السّابع لو دار ثبوت الموضوعات المترتبة علیها الاحکام فی الشریعة مدار حصول العلم لکل أحد،

لزم العسر و الحرج الشدید المنفی بالنص و الإجماع، فکذا المقدم، فتثبت حجیة البینة بعدم القول بالفصل؛ لان کل من اعتبر ما سوی العلم فقد اعتبر البیّنة.

و هنا وجوه أخری مذکورة لإثبات حجیة البینة فی الموضوعات، و لکن ملاحظة ما ذکرنا من الأدلة و إن کان بعضها لا یخلو من المناقشة و النظر، لا یبقی مجالاً للارتیاب فی الحجیة المذکورة، فلا وجه لما نسب إلی القاضی عبد العزیز البرّاج من عدم حجیة البیّنة فی إثبات النجاسة، و لا لما نسب الی ظاهر السیّد فی الذریعة و المحقق فی المعارج و المحقق الثانی فی الجعفریّة و بعض آخر من عدم ثبوت الاجتهاد بشهادة عدلین؛ لعدم الدلیل علیه.

و إن کان یمکن ان یکون الوجه فی الأخیر هو عدم کون الاجتهاد

ص:472

من الأمور المحسوسة، و حجیة البیّنة مقصودة علی الأمور المحسوسة، کما انه یمکن ان یکون الوجه فی الأوّل هو کون النجاسة امراً مسبّبیاً غیر محسوس، و البینة لا بد و إن تکون فی مورد أمر محسوس، و سیأتی البحث عن ذلک فی بعض المقامات الآتیة إن شاء اللّه تعالی.

المقام الثانی- فی مورد حجیّة البینة و سعة دائرتها و ضیقها

فنقول: لا ریب فی انّ الموضوع الذی تکون البیّنة حجة بالنسبة إلیه لا بد و إن یکون مترتّباً علیه أثر شرعی، حتی یکون اعتبارها لأجل ترتب ذلک الأثر علیه، فکما انه یعتبر فی جریان الاستصحاب فی الموضوعات الخارجیة ترتب الأثر الشرعی علیها، فکذلک یعتبر فی حجیة البینة ذلک، فلو کان هناک موضوع لم یترتب علیه حکم فی الشریعة، فلا مجال لاحتمال حجیة البینة فیه أصلاً، و هذا مما لا شبهة فیه، کما انه لا شبهة فی انه إذا کان موضوع الأثر امراً محسوساً کالماء و الخل و الخمر و الکلب و الخنزیر و أشباهها فإنه لا شک فی حجیة البینة فیه، بعد القول باعتبار البیّنة فی تمام الموارد من غیر اختصاص بموارد خاصّة.

و أمّا إذا لم یکن موضوع الأثر امراً محسوساً، فتارة تکون له آثار محسوسة بحیث یکون بینها و بین ذلک المشهود به ملازمة عرفیّة، أو یکون لها أسباب مخصوصة محسوسة، و أخری لا یکون کذلک، بمعنی انه لا یکون له اثر محسوس و لا سبب مخصوص محسوس أیضاً.

فإن کان من قبیل الأوّل کالعدالة و الاجتهاد و الأعلمیّة و نحوها فی الصّورة الأولی منه، و النجاسة و الزوجیة و الطلاق فی الصورة الثّانیة منه، فالظّاهر حجیّة البیّنة فیه أیضاً؛ لأنه و إن کانت کلمة «الشهادة» ظاهرة فی

ص:473

الحضور و الاخبار عن العین و العلم بإحدی الحواسّ الخمس، و کذلک کلمة «البینة» ظاهرة فی ما کان ظاهراً مشهوداً، لأنه صفة مشبهة من بان بمعنی ظهر، و مذکرها بیّن، الّا انه إذا کان الموضوع الذی قامت علیه البیّنة له اثر محسوس کالأمثلة المذکورة، فحیث یکون بینه و بین أثره المحسوس ملازمة عرفیة ففی الحقیقة یکون کأنّ المشهود به امراً محسوساً، و کذلک إذا کان له سبب محسوس کالأمثلة الأخری المذکورة أیضاً، مضافاً الی ان الشهادة بالمسبب شهادة بالسبب، بعد عدم انحصار دائرة الحجیة فی الأمارات بخصوص المدلول المطابقی منها، بل تسع دائرة الحجیّة اللوازم و الملزومات و الملازمات ایضاً.

و إن کان من قبیل الثانی، فالظاهر انه لا دلیل علی حجیة البیّنة فیه، لا من الآیات و الروایات و لا من السیرة و الإجماع و غیرهما، أمّا الأولی فلأنه مضافاً الی ان لفظ الشهادة الوارد فی کثیر منهما لا ینطبق علیه؛ لأنّک عرفت انه من الشهود بمعنی الحضور فی هذا الفرض لا معنی لتحقق الحضور بعد عدم خلو المشهود به من کونه محسوساً أو ثبوت اثر محسوس أو سبب محسوس له کما هو المفروض، و أمّا الثانیة؛ فلان القدر المتیقن من مثل السیرة و الإجماع غیر هذا الفرض، فلا دلیل علی الحجیّة، و من المعلوم افتقارها الی الدلیل علی ثبوتها.

المقام الثالث کما انه یعتبر فی مفهوم البیّنة و معناها بحسب الاصطلاح التعدد و العدالة،

فهل یعتبر فیه الرّجولیّة أیضاً، فلا یطلق عنوانها علی شهادة النساء أصلاً، و لو مع العدالة و التعدد البالغ أربع نساء، و علیه فیحتاج إثبات حجیة شهادة النساء إلی أدلة أخری غیر ما ذکرنا،

ص:474

أو لا یعتبر فیه الرجولیة بل شهادة أربع نساء بینة یشملها ما یدل علی اعتبار البیّنة؟ فالثمرة تظهر فیما إذا لم یکن هناک دلیل خاص علی أحد الطرفین من الاعتبار و عدمه، و بعبارة اخری: لا شبهة فی اعتبار شهادة النساء منفردات فی بعض الموارد و منضمات الی الرجال فی بعض موارد أخری، و قد وقع التعرض فی کتاب الشهادات للموردین، کما انه لا شبهة فی عدم اعتبارها فی بعض الموارد لا منفردات و لا منضمّات، کثبوت الهلال و الطلاق و غیرهما من الموارد، إنما الإشکال فی موارد الخلو من الدلیل الخاص، فان قلنا بعموم لفظ البیّنة، فمقتضی أدلة حجیّتها حجیّتها ایضاً، و إن قلنا بالعدم، فلا دلیل علی اعتبارها مطلقاً، و الظاهر انه لا سبیل الی استکشاف أحد الطرفین، و إن کان ربما یدعی ان المتبادر من لفظ البینة فی عرف المتشرعة هی الشهادة المقرونة بالتعدّد، من دون فرق بین الرجل و المرأة، کما انه ربما یدعی الانصراف الی خصوص الرّجل، و یؤید الأوّل عطف الرجل و المرأتین علی الرجلین، و إطلاق اسم الشاهد علیهما فی مثل قوله (1)تعالی فی آیة الدّین المفصّلة «وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِیدَیْنِ مِنْ رِجالِکُمْ فَإِنْ لَمْ یَکُونا رَجُلَیْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ» ، الّا انه مع ذلک لا سبیل الی تعیین أحد الاحتمالین، و مع التردید لا دلیل علی اعتبار البیّنة مع عدم الرّجولیة، نعم ربما یستشهد لعموم حجیة شهادة النساء الّا ما خرج بالدلیل بروایة (2)عبد الکریم بن ابی یعفور عن الباقر (علیه السلام) قال: تقبل شهادة المرأة و النسوة إذا کنّ مستورات من أهل البیوتات، معروفات

ص:475


1- 1) سورة البقرة: الآیة 282.
2- 2) الوسائل 18:294 ب 41 من أبواب الشهادات ح 20.

بالستر و العفاف، مطیعات للأزواج، تارکات للبذاء و التبرج الی الرجال فی أندیتهم (1).

و لکن الظاهر ان الروایة فی مقام بیان شروط قبول شهادة المرأة لا فی مقام بیان انّه فی أیّ مورد تقبل شهادتهن حتی یؤخذ بإطلاقها، و بعبارة أخری: هی ناظرة إلی العدالة المعتبرة فی الشاهد بالنسبة إلی المرأة لا الی الخصوصیات الأخری کما لا یخفی.

المقام الرابع هل اعتبار البیّنة یختص بمن تقوم عنده البیّنة

أو لا یختص به بل یشمل من لم، تقم عنده أیضاً، إذا أحرز قیامها عند غیره و شهادتهما عند الغیر بما له اثر لمن لم تقم عنده؟ فاذا علم بشهادة عدلین برؤیة الهلال عند عالم فلانی مثلاً یترتب علیها أثر الرؤیة بالنسبة إلیه أیضاً، و إن لم تقم البینة عنده بخلاف الاحتمال الأوّل، فی المسألة وجهان، و الظاهر هو الوجه الثانی؛ فإن مقتضی عموم أدلة حجیة البینة من الآیات و الروایات و السیرة بناء العقلاء علی عدم الاختصاص، و انّ المناط فی الاعتبار مجرّد قیام البیّنة و شهادتها بالموضوع المشهود به، و لا فرق فی ذلک بین من قامت عنده البینة، و بین غیره، غایة الأمر لزوم إحراز القیام و تحقق الشهادة، امّا بالعلم، و أمّا بقیام البینة علی ذلک ایضاً، کما لا یخفی.

تکملة:

و هی انه هل خبر الواحد العادل کما انه حجة فی باب الروایات التی تحکی الأحکام عن الامام (علیه السلام) حجة فی تشخیص الموضوعات و تبیینها أم لا؟ ذهب جماعة إلی الأوّل، و استدلّوا علیه بأمرین

ص:476


1- 1) الوسائل کتاب الشهادات، أبواب ما یعتبر فی الشهاد من العدالة، باب 41.

الأوّل استمرار السیرة العقلائیة و جریانها علی الاعتماد علیه فی الموضوعات الخارجیة، و لم یتحقق ردع ردع فی الشریعة، فلا محیص عن الالتزام بالحجیة کما فی الأحکام العملیة الفرعیّة، امّا جریان السیرة فی ذلک فممّا لا ریب فیه، و أمّا عدم الرّدع فلان ما یتخیل ان یکون رادعاً هو موثقة (1)مسعدة بن صدقة المتقدمة؛ نظراً الی انّ ذیلها و هو قوله (علیه السلام) : «و الأشیاء کلّها علی هذا حتی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة» یدلّ علی حصر المثبت بالاستبانة و قیام البیّنة، فلو کان خبر الواحد ایضاً مثبتاً، لما کان وجه للحصر، و لکان اللازم ذکره مع البیّنة کما هو ظاهر.

و أجیب عنه أوّلاً: بمنع کون الموثقة بصدد الحصر؛ لوضوح عدم اختصاص المثبت بالأمرین المذکورین فی الروایة؛ لأن الاستصحاب و الإقرار و حکم الحاکم و أشباهها ایضاً مثبتات للتحریم فی مواردها، فلو کانت بصدد الحصر یستلزم ذلک تخصیص الأکثر المستهجن.

و ثانیاً: بأن البینة فی الموثقة بمعنی الحجة و ما به البیان، و لا بد من تشخیص الصغری من الخارج، و لا دلالة لها علی انّ ما به البیان ما ذا، فاذا أقمنا الدلیل علی اعتبار الخبر فی الموضوعات الخارجیة، استکشفنا بذلک انه ایضاً کالبینة المصطلحة مصداق للکبری و من افراد الحجة.

و ثالثاً: بان عدم ذکر الخبر فی قبال العلم و البیّنة، انما هو من جهة خصوصیة فی موردها، و هی ان الحلیة فی مفروضها کانت مستندة الی قاعدة الید فی مسألة الثوب، و من الواضح عدم اعتبار خبر الواحد مع وجود الید، فکأنه (علیه السلام) کان بصدد بیان ما یعتبر فی جمیع الموارد علی

ص:477


1- 1) الوسائل 12:60 ب 4 من أبواب ما یکتسب به ح 4.

الإطلاق.

و الجواب عن هذا الدلیل مضافاً الی ما ذکرنا فی بیان المراد من الموثقة من عدم کون المراد بالبینة فیها غیر البینة المصطلحة ان رادعیّة الموثقة لا تتوقف علی دلالة ذیلها علی الحصر؛ فان نفس دلالتها علی اعتبار البیّنة مرجعها الی عدم اعتبار خبر الواحد العادل فضلاً عن الثقة المجرّدة، فإن البیّنة إنما تغایر خبر الثقة فی أمرین: أحدهما التعدد و الآخر العدالة، و مع اشتمالها علی هذه المزیة و النسبة من جهة الکمیة و الکیفیة، لو کان خبر الواحد الثقة مثل البینة معتبراً فی الموضوعات الخارجیّة، لکان ذکر البینة و الحکم علیها بالاعتبار خصوصاً فی مقام إلقاء القاعدة الکلیة و إفادة حکم کلّی لغواً، لا یترتب علیه الّا إیهام الخلاف، فذکر البینة فی هذا المقام من أقوی الشواهد علی دخالتها فی الحکم بالاعتبار، و عدم کون ما ینقص عنها من احدی الجهتین مشترکاً معها فی الحجیّة، خصوصاً مع ملاحظة ان شهادة الشخصین لا تقع فی الخارج نوعاً الّا تدریجاً، بمعنی وقوع احدی الشهادتین متأخرة عن الأخری، و علیه فلو کانت الشهادة الأولی کافیة فی مقام ترتیب الأثر و ثبوت الحکم، لکانت الشهادة الثانیة لغواً، و کالحجر فی جنب الإنسان، و من قبیل تحصیل الحاصل.

و بالجملة لو لم یکن خبر الواحد الثقة متسانخاً مع البینة أصلاً، بل کان کالاستصحاب و الإقرار و حکم الحاکم، لم یکن اعتبار البینة فی الموثقة دالّاً علی عدم اعتباره من جهة عدم إفادتها للحصر لما ذکر، و أمّا مع وجود التسانخ و ثبوت الاختلاف من جهة الکمیة فقط، فلا مناص عن الالتزام بان اعتبارها یدل علی مدخلیة الکیفیة و الکمیة فی الحکم به، و هو

ص:478

یدل علی عدم اعتبار الناقص من کلتا الجهتین أو من إحداهما، و من الواضح انه لا یکون من قبیل مفهوم اللّقب، و علیه فرادعیة الموثقة لا تتوقف علی دلالتها علی الحصر بوجه، بل نفس دلالتها علی حجیة البینة تصلح رادعة عن السیرة العقلائیّة و مانعة عن إعمالها فی الشریعة المطهّرة.

ثمّ ان استناد الحلیّة فی مسألة الثوب إلی قاعدة الید التی لا یکون خبر الواحد معتبراً معها، لا یصلح للإغماض عن ذکر خبر الواحد فی مقام افادة القاعدة الکلیة و إلقاء الضابطة العامّة، خصوصاً مع ملاحظة ما تقدم من الاشکال علی الروایة من عدم استناد الحلیّة فی شیء من الأمثلة المذکورة فیها الی نفس القاعدة الکلیة، التی هی محطّ نظر الروایة و الغرض الأصلی لها، کما لا یخفی.

و قد انقدح مما ذکرنا کفایة الموثقة فی مقام الرّدع عن السیرة، و علیه فالموارد التی قام الدلیل فیها علی حجیّة خبر الواحد الثقة لا یمکن ان یتعدی منها الی غیرها من الموضوعات الخارجیة، و تلک الموارد مثل الاخبار بدخول الوقت و الاخبار بعزل الوکیل و اخبار البائع باستبراء الأمة أو بوزن المبیع الموزون أو بکیل المبیع المکیل و أشباهها.

الثانی الروایات المتعددة التی:

منها: حسنة حریز أو صحیحته (1)المرویة فی الکافی، و فیها انّه بعد أن وبّخ الصادق (علیه السلام) ابنه إسماعیل لدفعه دنانیر الی رجل شارب الخمر بضاعة لیتاجر بها و یعطی مقداراً من النفع لإسماعیل، فأتلف ذلک الرّجل النقود، قال (علیه السلام) له: لم فعلت ذلک و لا أجر لک؟ فقال إسماعیل: یا

ص:479


1- 1) الوسائل 13:230 ب 6 من أحکام الودیعة ح 1.

أبت انی لم أره یشرب الخمر، انی سمعت الناس یقولون، فقال: یا بنیّ ان اللّه (عزّ و جلّ) یقول فی کتابه (1)«یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ» یقول یصدّق اللّه و یصدق المؤمنین، فإذا شهد عندک المؤمنون فصدّقهم.

بتقریب ان ذیل الروایة یدل علی مطلوبیة تصدیق شهادة المؤمنین و ترتیب الأثر علی اخبارهم، و من المعلوم انه لیس المراد هو التصدیق فیما إذا شهد جمیع المؤمنین کما هو مقتضی الجمع المعرف باللاّم بل المراد هو تصدیق شهادة کلّ مؤمن، فالمؤمن بما أنه مؤمن إذا شهد بشیء یرتب الأثر علی شهادته، و هو معنی وجوب قبول خبر الواحد العادل أو الثقة.

و فیه: أوّلاً ان النسبة بین الروایة و بین المدعی عموم و خصوص مطلق، أو من وجه؛ لان المدّعی اعتبار خبر العادل أو الثقة، و الروایة دالّة علی اعتبار خبر المؤمن، و النسبة بین العنوانین ما ذکر من العموم المطلق أو من وجه، فلا ینطبق الدلیل علی المدّعی.

و ثانیاً: انه لیس المراد من وجوب التصدیق فی الروایة وجوب ترتیب الأثر علی المخبر به بنحو یکون إخباره بمنزلة العلم المتعلق به فیرتب اثر شرب الخمر فی مورد الروایة، بل المراد هو التحذّر ممّا أخبر به، مع احتمال ان یکون علی تقدیر الصدق فیه ضرر علیه، کما یدل علیه التأمل فی الروایة و فی الاستشهاد بالآیة، فتدبّر.

و ثالثاً: انه لو فرض دلالة الروایة علی ذلک، تقع المعارضة بینها و بین موثقة مسعدة المتقدمة، فینبغی تقیید إطلاقها بها، و الحکم بالاعتبار مع التعدد و العدالة.

ص:480


1- 1) السورة التوبة: الآیة 61.

و منها: مضمرة (1)سماعة قال: سألته عن رجل تزوج جاریة أو تمتع بها، فحدثه رجل ثقة أو غیر ثقة، فقال: ان هذه امرأتی و لیس لی بینة، فقال: ان کان ثقة فلا یقربها، و إن کان غیر ثقة فلا یقبل منه.

و فیه أوّلاً: انها معارضة ببعض الروایات الأخری التی أفتی المشهور علی طبقها، مثل روایة (2)یونس قال: سألته عن رجل تزوج امرأة فی بلد من البلدان، فسألها أ لک زوج؟ فقالت: لا. فتزوجها، ثمّ ان رجلاً أتاه فقال: هی امرأتی، فأنکرت المرأة ذلک، ما یلزم الزوج؟ قال: هی امرأته الّا ان یقیم البیّنة.

و ثانیاً: اعتبار خبر الثقة فی مورد المضمرة لا دلالة فیه علی اعتباره فی جمیع الموضوعات الخارجیة الذی هو المدعی فی المقام، و من المحتمل ان یکون الوجه فی اعتباره فیه هی شدة حسن الاحتیاط فی الفروج، و قد مرّ انه قام الدلیل علی الاعتبار فی موارد متعددة، لکن البحث فی جواز التعدی عن تلک الموارد، و لم یقم دلیل الی الحال علی عمومیة الاعتبار و عدم الاختصاص بتلک الموارد.

خاتمة فی بیان أمرین:

أحدهما انّه ذکر فی «المستمسک» انه یثبت الاجتهاد بخبر الثقة،

(3)

مستدلاً بعموم ما دلّ علی حجیّته فی الأحکام الکلّیة؛ إذ المراد منه ما یؤدّی الی الحکم الکلّی، سواء کان بمدلوله المطابقی أم الالتزامی، و المقام من الثانی فإن مدلول الخبر المطابقی هو وجود الاجتهاد، و من هذه الجهة یکون

ص:481


1- 1) الوسائل 14:226 ب 23 من أبواب عقد النکاح و أولیاء العقد ح 2.
2- 2) الوسائل 14:226 ب 23 من أبواب عقد النکاح و أولیاء العقد ح 3.
3- 3) المستمسک 1:38.

اخباراً عن الموضوع، لکن مدلوله الالتزامی هو ثبوت الحکم الواقعی الکلی الذی یؤدّی إلیه نظر المجتهد، ثمّ قال:

«فان قلت: أدلة حجیة خبر الثقة مختصة بالاخبار عن حسّ، و لا تشمل الاخبار عن حدس، و لذا لا تکون تلک الأدلّة دالة علی حجیّة فتوی المجتهد مع أنّها اخبار عن الحکم الکلّی الا ان مستنده الحدس.

قلت: الاخبار عن الاجتهاد من قبیل الاخبار عن الحسّ، نعم المدلول الالتزامی و هو الحکم الکلی انما کان بتوسط الحدس، لکن هذا المقدار لا یقدح فی الحجیّة؛ لأنّ الحس انما یعتبر فی المدلول المطابقی لا فی الملازمة التی یتوقف علیها ثبوت المدلول الالتزامی؛ و إلا فأخبار زرارة عن قول الامام (علیه السلام) الذی هو اخبار عن موضوع، یکون اخباراً عن الحکم الکلی، و یکون حجة علی المجتهد، و ربما یکون بتوسط حدس المجتهد الذی هو حجة علیه ایضاً.

و بالجملة: الاخبار عن الاجتهاد کالاخبار عن قول الامام (علیه السلام) ، و دلالتها علی الحکم بالالتزام انما یکون بتوسط الحدس، غایة الأمر ان الحدس فی الثانی من المجتهد و حجة علیه، و الحدس فی الأوّل من المجتهد و حجة علی العامی المقلّد له، و علی هذا المبنی یکفی توثیق رجال السّند بخبر الثقة، و کذا فی إثبات المعنی باخبار اللغوی الثقة» .

و یرد علیه مضافاً الی ان أدلة حجیة خبر الواحد لا دلالة لها علی حجیة الخبر فی خصوص الأحکام الکلّیة، حتی تصل النوبة إلی البحث عن ان اخبار الثقة بالاجتهاد هل یکون مشمولاً لعمومها أم لا؟ فانّ عمدتها هی السیرة العقلائیة الجاریة علی العمل بخبر الثقة، و من الواضح

ص:482

کما عرفت انه لا فرق فی جریان السیرة بین ما إذا کان المخبر به حکماً أو موضوعاً، بل مورد آیة النبإ هو الاخبار بالموضوع الخارجی و هو ارتداد بنی المصطلق، و علیه فلا بدّ من البحث فی ثبوت المانع عن شمول الأدلّة لخبر الثقة فی الموضوعات الخارجیّة، لا فی وجود المقتضی للاعتبار و عدمه، و قد عرفت ثبوت المانع، و هی موثقة مسعدة بن صدقة الدالّة علی الرّدع و عدم الاکتفاء بالواحد بدلاً عن الاثنین، و بالوثاقة بدلاً عن العدالة.

أوّلاً: ان مجرد الاخبار عن الاجتهاد لا یکون اخباراً عن الحکم الکلّی الإلهی و لو بنحو المدلول الالتزامی؛ فإن الاجتهاد بمجرده الذی یرجع الی ثبوت الملکة و تحقق القدرة لا یلازم الحکم ما لم یتحقق منه الاستنباط خارجاً، فإنه یمکن ان لا یتحقق من المجتهد استنباط أصلاً، و إن کانت الملکة موجودة فیه، و علیه فکیف یکون مجرد الاخبار عن الاجتهاد اخباراً عن الحکم الإلهی؟ و کیف یمکن دعوی ثبوت الملازمة و تحقق المدلول الالتزامی، کما هو غیر خفیّ.

و ثانیاً: یکفی فی الفرق بین الاخبار عن الاجتهاد و اخبار زرارة مثلاً عن قول الامام (علیه السلام) ان اخبار زرارة یکون اخباراً عن الحکم و حاکیاً له بحیث لا یری الموضوع الخارجی و هو قول الامام (علیه السلام) واسطة أصلاً، و أمّا الاخبار عن الاجتهاد فلا یتجاوز عن المخبر به و لا یعدّ اخباراً عن الحکم بوجه، و کیف یکون اخباراً عن الحکم مع انه ربما لا یکون المخبر عالماً بوجود رسالة لمن یخبر عن اجتهاده فضلاً عن الأحکام الموجودة فیها، فالإنصاف ان اقامة الدلیل علی اعتبار خبر الثقة فی الموضوعات الخارجیة من هذا الطریق مشکلة، لو لم تکن ممنوعة کما عرفت.

ص:483

ثانیهما الظاهر ان حجیّة البیّنة انّما هی بعنوان کونها من الأمارات الشرعیّة؛

لأن اعتبارها عند العقلاء انما یکون بهذا العنوان، و الظاهر ان الشارع قد عاملها معاملة العقلاء، فاعتبارها فی الشرع ایضاً یکون بعنوان الامارة.

و علی هذا فلو وقع التعارض بین البینة و بین الأصول الموضوعیّة، کما إذا کان مقتضی الاستصحاب بقاء خمریة المائع المشکوک، و قامت البیّنة علی کونه خلّاً، أو کان مقتضی قاعدة الفراغ بناء علی کونها من الأصول البناء علی الصّحة مع الشک فی الإتیان بالجزء أو الشرط أو ترک المانع أو القاطع، و لکن قامت البیّنة علی الإخلال بما یعتبر وجوده، و علی إتیان ما یعتبر عدمه، و لم یکن هناک ما یدل علی الصحة کذلک، مثل قاعدة: لا تعاد، فی الصلاة، فمقتضی تقدم الأمارات علی الأصول و حکومة الاولی علی الثانیة کما قد حقق فی الأصول، لزوم الأخذ بالبیّنة و الحکم بالخلّیة فی المثال الأوّل، و بالبطلان فی الثانیة.

و أمّا لو وقع التعارض بین البیّنة و بین الید، فلا إشکال فی تقدیمها علی الید؛ لان عمدة تشریعها فی باب التنازع و التخاصم انّما هو لإبطال التمسک بالید، فإن العمدة فی تشخیص المدعی انّما هی لأجل کونه مدّعیاً فی مقابل ذی الید و مریداً لأخذ ما فی یده منه، و صاحب الید ینکر و یدعی کونه مال نفسه، فالأخذ بالبینة ابتداء لقوله (1)(صلی الله علیه و آله) البینة علی المدعی و الیمین علی من أنکر، انّما هو لأجل تقدم البیّنة علی الید، و إلا فلو کانت البینة فی عرض الید أو متأخرة عنها، لا یبقی مجال لتقدیم البیّنة و القضاء بنفع لصالح المدعی

ص:484


1- 1) مستدرک الوسائل 17:367 ب 3 من أبواب کیفیة الحکم ح 5.

إذا کانت له بیّنة.

و أمّا تعارضها مع سوق المسلم الذی هو امارة علی التذکیة و الحلیة، کما إذا اشتری لحماً من سوق المسلمین و قامت البینة علی عدم کونه مذکّی و انّه محرم، فربما یقال: ان تقدیم البینة علی السّوق من الواضحات و المسلّمات، و لعلّ الوجه فیه ان ملاحظة أدلة اعتبار السّوق و أماریّته تقتضی بأن موردها ما إذا لم یکن هناک امارة علی خلافه، و کانت التذکیة مشکوکة من رأس، و أمّا أدلة اعتبار البیّنة فلا تکون کذلک فراجع.

و أمّا لو وقع التعارض بین البیّنة بین الإقرار، کما إذا أقر بانّ ما فی یده لزید مثلاً و قامت البینة علی کونه للمقر دون زید، فمقتضی القاعدة تساقط الأمارتین، و لکن الظاهر ان بناء العرف و العقلاء علی تقدیم الإقرار، و لعلّ الوجه فیه اختصاص کاشفیة البینة عندهم بصورة عدم الإقرار، و انه مع وجوده لا یرون الکاشف إلّا الإقرار فالإقرار، عندهم بمنزلة العلم الذی لا مجال للبیّنة مع وجوده علی خلافها.

و لکن وردت روایات فی باب القتل فی انه إذا قامت البینة علی ان زیداً مثلاً قاتل، ثمّ أقرّ عمرو بأنه القاتل، یکون للولیّ الأخذ بآیة واحدة مع الأمارتین، و قتل ایّ واحد منهما، و قد عملوا بها و أفتوا علی طبقها، و لکن الظاهر انه خلاف القاعدة یجب الأخذ به لوجود النص.

و لو وقع التعارض بین البینتین، فمقتضی القاعدة تساقط الأمارتین و عدم ثبوت حجّة فی البین، من دون فرق بین ان تکون هناک مزیة من جهة الکمیة أو الکیفیة، کما إذا کان العدد فی أحد الطرفین زائداً علی اثنین، أو کان أحدهما أعدل من الأخر؛ و ذلک لعدم دلیل علی ثبوت الترجیح،

ص:485

نعم لو احتمل الثبوت، لکان مقتضی القاعدة الأخذ بذی الترجیح؛ لدوران الأمر بین التعیین و التخییر، و أمّا مع عدم الاحتمال فالقاعدة تقتضی التساقط.

هذا تمام الکلام فی قاعدة حجیة البینة.

ص:486

قاعدة حجیّة سوق المسلمین

اشارة

و هی ایضاً من القواعد المشهورة المبتلی بها لأکثر الناس، و الکلام فیها یقع فی مقامات:

المقام الأوّل- فی مدرکها و مستندها،

اشارة

و هو أمور:

الأوّل استقرار سیرة المتشرعة و المؤمنین علی دخول السوق و اشتراء اللحوم و الجلود من دون الفحص عن کونها میتة أو مذکّاة،

حتی انّ الأئمة (علیه السلام) و أصحابهم و وکلاءهم کانوا کذلک؛ فإنهم کانوا یستفیدون مما یشتری من السوق من دون تفحص عن کیفیة زهاق روح حیوانه، کما انهم یدخلون السّوق و یشترون العبید و الإماء من دون سؤال و تفتیش عن کونهم مملوکین أو أحراراً مقهورین، و لا شبهة فی ثبوت هذه السیرة و کونها ممضاة عند صاحب الشریعة و العترة الطاهرة صلوات اللّه علیه و علیهم أجمعین، هذا مع قطع النظر عن الروایات المتکثرة الآتیة الواردة فی

ص:487

السوق الدالة علی اعتبارها، و قد وقع فی بعضها التعلیل بأنه لو لم یجز هذا لما قام للمسلمین سوق، و إلا فمع ملاحظتها لا مجال للارتیاب فی المسألة بوجه.

الثانی الإجماع علی اعتبار السوق،

و لا شبهة فی تحقق الاتفاق و الإجماع، و لکنه لا أصالة له بعد ظهور مستند المجمعین و تمامیة کما مرّ مراراً.

الثالث الروایات المتعددة

الّتی:

منها: صحیحة (1)الفضیل و زرارة و محمد بن مسلم، أنهم سألوا أبا جعفر (علیه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق و لا یدری ما صنع القصّابون، فقال: کُل إذا کان ذلک فی سوق المسلمین و لا تسأل عنه.

و منها: صحیحة (2)الحلبی قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الخفاف التی تباع فی السّوق، فقال: اشتر و صل فیها حتی تعلم أنه میتة بعینه. و الظاهر ان السوق فیها إشارة إلی المعهود و هو سوق المدینة الذی کان سوق المسلمین.

و منها: صحیحة (3)احمد بن محمد بن أبی نصر قال: سألته عن الرجل یأتی السوق فیشتری جبّة فراء لا یدری أ ذکیّة هی أم غیر ذکیة أ یصلی فیها؟ فقال: نعم لیس علیکم المسألة ان أبا جعفر (علیه السلام) کان یقول: ان الخوارج ضیقوا علی أنفسهم بجهالتهم ان الدین أوسع من ذلک.

ص:488


1- 1) الوسائل 16:294 ب 29 من کتاب الصید و الذبائح ح 1.
2- 2) الوسائل 2:1071 ب 50 من أبواب النجاسات ح 2.
3- 3) الوسائل 2:1071 ب 50 من أبواب النجاسات ح 3.

و منها: صحیحته (1)الأخری عن الرّضا (علیه السلام) قال: سألته عن الخفاف یأتی السوق فیشتری الخفّ، لا یدری أ ذکی هو أم لا؟ ما تقول فی الصلاة فیه و هو لا یدری أ یصلی فیه؟ قال: نعم، انا اشتری الخف من السّوق و یصنع لی و أصلّی فیه و لیس علیکم المسألة.

و الظاهر اتحاد هذه الروایة مع الرّوایة السابقة و إن جعلهما فی الوسائل متعدّدتین، و الاختلاف فی بعض الأمور لا یضر بالاتحاد کما هو غیر خفیّ.

و منها: مرسلة (2)الحسن بن الجهم قال: قلت لأبی الحسن (علیه السلام) : اعترض السّوق فاشتری خفّاً لا ادری أ ذکیّ هو أم لا؟ قال: صلّ فیه، قلت: فالنعل؟ قال: مثل ذلک، قلت: انی أضیق من هذا قال: أ ترغب عما کان أبو الحسن یفعله.

و منها: غیر ذلک من الروایات الواردة فی هذا الباب، و بملاحظة المجموع لا یبقی ارتیاب فی اعتبار السّوق فی الجملة.

المقام الثانی- فی مفاد الروایات،

فنقول: لا إشکال فی ان المستفاد منها هو اعتبار سوق المسلمین لا مطلق السّوق، و یشهد له اضافة السوق إلیهم فی روایة الفضلاء الثلاثة المتقدمة الظاهرة فی الاختصاص، خصوصاً مع ملاحظة کون مورد السؤال فیها ایضاً ذلک؛ فان الظاهر انّ المراد من الأسواق فیها هی الأسواق المعهودة الموجودة فی المدینة، و مثلها من البلاد الإسلامیّة، و مع ذلک لم یکتف الامام (علیه السلام) فی الجواب بهذا الظهور، بل

ص:489


1- 1) الوسائل 2:1072 ب 50 من أبواب النجاسات ح 6.
2- 2) الوسائل 2:1073 ب 50 من أبواب النجاسات ح 9.

صرّح بإضافة السوق الی المسلمین، و علق الحکم بجواز الأکل علیه، و أمّا إطلاق السوق فی سائر الروایات أو ترک الاستفصال، فمضافاً الی ما عرفت من کونه إشارة إلی الأسواق المعهودة، یلزم تقییده بسبب روایة الفضلاء، فیصیر المستفاد من المجموع اعتبار سوق المسلمین، و الظاهر ان المراد من سوق المسلمین هو السوق الذی کان أکثر اهله مسلماً، و إن کان منعقداً فی بلد الکفر، لا السوق المنعقد فی البلد الذی یکون تحت سلطة الإسلام و حکومة المسلمین، و لو کان جمیع أهله أو أکثره مشرکاً، فالمراد به هو مرکز التجمع للکسب و التجارة، و کان أکثر اهله مسلماً.

المقام الثالث- الظاهر بملاحظة ما ذکرنا من المراد من سوق المسلمین و انه عبارة عن السوق الذی یکون أکثر اهله مسلماً،

ان المستفاد من أدلّة اعتبار السّوق ان السّوق بنفسه لا یکون امارة علی التذکیة و کاشفة عن الطهارة و الحلیة، بل هو کاشف عن الأمارة الأصلیة و هی ید المسلم، فالسوق امارة علی الامارة؛ نظراً الی ان الغالب فی أسواق المسلمین انّما هم المسلمون، و قد جعل الشارع هذه الغلبة معتبرة و حکم بإلحاق من شک فی إسلامه فی أسواقهم بالمسلمین، فالسوق انّما هو کاشف عن کون البائع مسلماً، و بهذا یظهر ما فی کلام بعض من الاکتفاء بمجرد الأخذ من سوق المسلمین، و لو أخذ من ید الکافر، فی قبال الأخذ من ید الکافر و بعبارة اخری: الظاهر ان اعتبار السوق انما هو بالنسبة الی من کان مجهول الحال و لا یعلم انه مسلم أو کافر، فإنه یبنی علی إسلامه؛ لمکان غلبة المسلمین فیه، و یکون إسلامه امارة علی وقوع التذکیة الشرعیة علی الحیوان، و إلا فلو علم بکفر البائع و الذابح، أو بکفر الأوّل فقط، مع الشک فی کفر الثانی،

ص:490

فلا یؤثر فی حلیة اللحم المشتری منه کون أکثر أهل السوق مسلماً، و علیه فیرجع اعتبار السّوق الی اعتبار ید المسلم، غایة الأمر انه لا فرق بین ما إذا أحرز إسلامه بالقطع، أو بنی علیه للغلبة و نحوها.

کما انه مما ذکرنا ظهر الخلل فیما أفاده فی «المستمسک» (1)من ان الظاهر منه خصوص ما لو کان البائع مسلماً ای کان إسلامه محرزاً و إن الداعی لذکر السوق کونه الموضع المعتاد لوقوع المعاملة فیه، لا الخصوصیة فیه فی قبال الدار و الصحراء و نحوهما، فالمراد من الشراء من السوق الشراء من المسلم الذی هو أحد التصرفات الدالة علی التذکیة، و لا خصوصیة له، فهو راجع الی الاستعمال المناسب للتذکیة.

وجه الخلل: ان مقتضی ما افاده خروج عنوان السوق عن المدخلیة رأساً، و هو خلاف ظاهر أدلة اعتباره جدّاً.

و ما أبعد ما بینه و بین کلام البعض المتقدم، و أقلّ بعداً منه ما افاده المحقق (2)البجنوردی، من کون السوق امارة برأسه، و انه أقوی من ید المسلم، قال فی وجهه ما ملخّصه: «انه بعد العلم بانّ المسلمین یجتنبون عن لحم غیر المذکّی، فتعاطی اللحم بالبیع و الشراء فی أسواق المسلمین یوجب الظن القوی بأنه مذکّی، و هذا الظن أقوی بکثیر من الظن الحاصل عن کونه فی ید مسلم خارج السوق، لانّ احتمال الخلاف فیه أکثر مما یباع فی سوق المسلمین علناً، هذا بناء علی کون المستند هی السیرة، و أمّا بناء علی کون المدرک الاخبار، فلعل الأمر أوضح؛ لأن قوله (علیه السلام) : انا اشتری الخف

ص:491


1- 1) المستمسک 1:328.
2- 2) القواعد الفقهیة 4:154.

من السوق و یصنع لی و أصلی فیه و لیس علیکم المسألة، ظاهر فی ان مراده (علیه السلام) من نفی لزوم السؤال نفی السؤال عن کونه مذکی أو غیر مذکی، لا نفی السؤال عن ان البائع مسلم أو لا. و مرجع هذا الی ان کونه فی السوق کاف فی إثبات أنه مذکی، فلا یحتاج إلی السؤال و الفحص، و کون المراد منه ان السّوق کاف فی إثبات ان الید ید المسلم و انها تثبت ان اللحم مذکی، یکون من قبیل الأکل من القفا، و أمّا قوله (علیه السلام) فی خبر إسماعیل بن عیسی قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن جلود الفراء یشتریها الرجل فی سوق من أسواق الجبل، أ یسأل عن ذکاته إذا کان البائع مسلماً غیر عارف؟ قال: علیکم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأیتم المشرکین یبیعون ذلک و إذا رأیتم یصلّون فیه فلا تسألوا عنه (1)، لا یدلّ علی عدم اعتبار السّوق بالنسبة إلی کشفه عن التذکیة، نظراً إلی انه لو کان السّوق کاشفاً، فلا معنی للسؤال إذا رأوا و إن المشرکین یبیعونه و أیضاً لم یکن معنی لتعلیق عدم السؤال علی صلاتهم فیه.

و ذلک ای: وجه عدم الدّلالة ان کلامه (علیه السلام) ظاهر فی ان السّوق امارة علی التذکیة، فیما کان السوق مخصوصاً بالمسلمین، و أمّا لو کان السوق مشترکاً أو کان مخصوصاً بالمشرکین، فعند ذلک یجب علیکم المسألة و الفحص، و لا اثر لکون البائع وحده فی ذلک السوق مسلماً فی عدم وجوب السؤال، و علیه فیمکن ان تعدّ هذه الروایة شاهدة علی ان دلالة السوق إذا کان مخصوصاً بالمسلمین أهم من دلالة ید المسلم، خصوصاً إذا کان ذلک المسلم فی السوق المخصوص بالکفّار، بل و فی السوق المشترک

ص:492


1- 1) الوسائل 2:1072 ب 50 من أبواب النجاسات ح 7.

ایضاً.

و أمّا قوله (علیه السلام) بعد ذلک: و إذا رأیتم یصلّون فیه فلا تسألوا عنه، فمن جهة ان صلاتهم فیه بمنزلة شهادتهم عملاً بأنه مذکّی، فهو ایضاً طریق إلی انه صار مذکّی، الی آخر ما ذکرناه من المؤیّدات لکون سوق المسلم بنفسه طریقاً إلی أنه مذکّی» .

أقول: الظاهر عدم کون سوق المسلمین امارة علی التذکیة مستقلاًّ فی قبال ید المسلم، بحیث لو کان البائع فی سوق المسلمین محرز الإسلام کان هناک أمارتان علی التذکیة: السوق و ید المسلم، و ما افاده من الوجه فی ذلک غیر تام؛ لأن سیرة المتدینین علی معاملة ما تقع علیه المعاملة فی سوق المسلمین معاملة المذکّی، لا دلیل علی ان وجهها کون السوق و التعاطی بالبیع و الشراء فیه امارة علی التذکیة مستقلاًّ، بل یحتمل قویّاً ان یکون الوجه فیها ما ذکرنا، خصوصاً مع ان السّوق بنفسه لا یکون کاشفاً و أمارة علیها، فان المهمّ فی ذلک هو البائع، و إلا فمع قطع النظر عنه، لا یکون مجرد سوق المسلمین کاشفاً عنها بوجه، کما لا یخفی.

و أمّا قوله (1)(علیه السلام) : انا اشتری الخف من السوق. . فهو و إن کان المراد من المسألة غیر اللازمة فیه هی التفحص و التفتیش عن کونه مذکی أو غیر مذکّی، الّا ان دلالته علی هذا التقدیر علی اعتبار السّوق بنفسه ممنوعة؛ فإنّه حیث لا دلیل علی اعتبار إسلام البائع و لا کاشف عنه، جعل الشارع الغلبة معتبرة و کاشفة عن إسلام البائع الذی هو الطریق إلی التذکیة و الأمارة علیها، و لم یعلم وجه کونه أکلاً من القفا.

ص:493


1- 1) الوسائل 2 1072 ب 50 من أبواب النجاسات ح 6.

و أمّا خبر إسماعیل، فمع انه مضطرب المتن؛ لانه بعد کون مفروض السؤال هو ما إذا کان البائع مسلماً، غایة الأمر کونه غیر عارف، لا یلائم الجواب بأنه إذا رأیتم المشرکین. . الّا ان یکون المراد منه بیان المفهوم، و هو اختصاص وجوب السؤال بما إذا کان البائع مشرکاً، فان مفاده ملاحظة حال البائع، و انه إذا کان مشرکاً تجب المسألة، و إذا کان مسلماً و الکاشف عنه هی صلاته فیه لا تجب المسألة، و بقرینة الروایات الأخری یستفاد عدم کون السوق المذکور فی السؤال سوق المسلمین، و إلا لا یحتاج إلی الصلاة فیه، سواء کان سوق المسلمین امارة بنفسه أو امارة علی الامارة، و بالجملة لم یثبت ان الشارع جعل للتذکیة طریقین: سوق المسلمین و ید المسلم، بل الظاهر ان الثانی أمارة علیها، و الأوّل امارة علی الثانی.

المقام الرّابع- انه لا فرق فی المسلم الذی یؤخذ من یده و یکون السوق امارة علی إسلامه،

بین من کان عارفاً بالإمامة، و من لم یکن؛ لانه مضافاً الی کون أکثر المسلمین فی تلک الأزمنة غیر عارفین، و إلی ان الجمع المحلّی باللام فی «المسلمین» الذی أضیف إلیه «السوق» فی روایة الفضلاء المتقدمة یقتضی العموم لکلّ مسلم علی ما هو المشهور، یدل علیه روایة (1)إسماعیل بن عیسی قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن جلود الفراء یشتریها الرجل فی سوق من أسواق الجبل (الجیل) أ یسأل عن زکاته إذا کان البائع مسلماً غیر عارف؟ قال: علیکم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأیتم المشرکین یبیعون ذلک، و إذا رأیتم یصلون فیه فلا تسألوا عنه (2)، و علیه فالحکم

ص:494


1- 1) الوسائل 2:1072 ب 50 من أبواب النجاسات ح 7.
2- 2) الوسائل أبواب النجاسات، حدیث 7.

باعتبار ید المسلم لیس لکونها أمارة شرعیة علی کون الحیوان مذکّی بالتذکیة المعتبرة عند العارف؛ و ذلک لاختلافنا معهم فی بعض الأمور المعتبرة فی التذکیة، کاجتزائهم فی الصید بإرسال غیر الکلب المعلم، و کذلک فی بعض الفروع، کحکمهم بطهارة جلد المیتة بالدباغ، و بطهارة ذبائح أهل الکتاب، و غیر ذلک من الموارد، فلا یکون مجرّد کونه فی یده أو مع ترتیبه آثار المذکی علیه أمارة علی وقوع التذکیة المعتبرة عندنا علیه، فالحکم باعتبار ید المسلم حینئذ لیس لأماریتها، بل لأجل ان الحکم بعدم الاعتبار مع ان الغالب فی تلک الأزمنة هو کون المسلمین غیر عارفین، مستلزم للعسر، فلذا جعل الشارع الأصل فی الحیوان التذکیة تعبّداً، فیما إذا لم یکن بایعه مشرکاً.

و أمّا ما افاده المحقق البجنوردی (1)(قده) من ان کونه أصلاً غیر تنزیلی أمر لا ینبغی ان یحتمل؛ لانه لو کان أصلاً غیر تنزیلی لکانت أصالة عدم التذکیة حاکمة علیه، و کان لا یبقی مورد لجریانه، کما هو الشأن فی کل أصل حاکم مع محکومة، فیرد علیه مضافاً الی ان جریان أصالة عدم التذکیة محل خلاف و إشکال انه علی هذا التقدیر تکون الحکومة ممنوعة، بل تکون أدلة اعتبار السّوق مخصصة لدلیل اعتبار الاستصحاب، و قاضیة بعدم جریان أصالة عدم التذکیة فی مورد جریان أدلة اعتبار السّوق.

و قد استدلّ هو علی الأماریّة بأن قیام السیرة علی دخول المتدینین فی الأسواق الإسلامیة و شرائهم مشکوک التذکیة، و معاملتهم إیّاه معاملة المزکّی مع انهم یرون ان الصلاة فی غیر المذکی لیست بجائزة، دلیل علی

ص:495


1- 1) القواعد الفقهیة 4:158.

انهم یرون أسواق المسلمین طریقاً و کاشفاً عن کونه مذکّی؛ لان الأماریة متقوّمة بأمرین، أحدهما: کون ذلک الشیء فیه جهة کشف عن مؤدّاه و لو کان کشفاً ناقصاً، و الآخر: کون نظر الجاعل فی مقام جعل الحجیة إلی تلک الجهة من الکشف الموجود فیه فی حدّ نفسه، فالاماریة متوقفة علی ان یکون جعل حجیته بلحاظ تتمیم ذلک الکشف الناقص الموجود فیه تکویناً فی عالم التشریع و الاعتبار، و من المعلوم فی المقام وجود کلا الأمرین؛ لأنه لا شک فی کون اللحم أو الجلد المشتری فی سوق المسلمین فیه جهة کشف عن انه مذکی؛ لأنهم غالباً لا یقدمون علی بیع لحم المیتة أو جلدها، کما انه لا شک فی ان سیرة المتدینین علی دخولهم الأسواق و اشترائهم اللحوم و الجلود باللحاظ المذکور، و سیرة المتدینین لا تحتاج إلی الإمضاء؛ فإنها کاشف مثل الإجماع عن موافقته لرأی المعصوم (علیه السلام) .

و یظهر الجواب عن هذا الدلیل ممّا ذکرنا من ان شمول أدلة اعتبار السوق المسلمین غیر العارفین مع وضوح اختلافنا معهم فی بعض الأمور المعتبرة فی التذکیة یکشف عن عدم الأماریة؛ لأن المسلمین غالباً لا یقدمون علی بیع لحم ما هو میتة بنظرهم و لا جلده لا بیع لحم ما هو میتة بنظر الإمامیة العارفین بالإمامة کما لا یخفی، و علیه فالأمر الأوّل من الأمرین اللذین تتقوم بهما حجیة الامارة غیر متحقق فی المقام؛ لعدم وجود الکشف و لو بنحو ناقص علی ما عرفت.

و أمّا الرّوایات، فسیأتی البحث عنها فی المقامات الآتیة إن شاء اللّه تعالی.

المقام الخامس- انه یستفاد من بعض الروایات الواردة فی السّوق اعتبار ضمان البائع و اخباره بکون مبیعه مذکّی،

ص:496

و هی روایة (1)محمد بن الحسن الأشعری، قال: کتب بعض أصحابنا الی ابی جعفر الثانی (علیه السلام) : ما تقول فی الفرو یشتری من السّوق؟ فقال: إذا کان مضموناً فلا بأس.

و لکن الظاهر انه یتعین حملها علی الاستحباب؛ بقرینة روایة (2)الفضلاء الدالة علی النهی عن السّؤال عنه؛ فان المراد من النهی هو عدم الوجوب؛ لأنّه فی مقام توهمه، فالمراد عدم وجوب السؤال، و من الواضح ان المراد من السؤال هو السؤال الذی یتعقبه الجواب بوقوع التذکیة، فمرجع ذلک الی عدم اعتبار الاخبار بوقوعها فی جواز الأکل من اللحوم، و کذا یدل علی عدم اعتبار السؤال صحیحتا البزنطی (3)و روایة إسماعیل بن عیسی المتقدمة، فلا بد من حمل هذه الروایة علی الاستحباب.

المقام السادس- الظاهر ان ید المسلم المبحوث عنها فی المقام أخص من الید التی تکون امارة علی الملکیة،

لا من جهة اعتبار إسلام ذی الید هنا دونه، بل من جهة انه لا یعتبر فی الأماریة هناک سوی أصل ثبوت الید و کون المال تحت استیلاء ذی الید و سلطنته، و لا یلزم فیه ان یتصرف فیه تصرّفاً متوقفا علی الملکیة، و أمّا فی المقام فیعتبر فی الید التصرف المتوقف علی التذکیة؛ و ذلک لان مورد أخبار الاشتراء من السوق وجود هذا التصرف؛ لان نفس المعرضیة للبیع کاشفة عن معاملته معاملة المذکی؛

ص:497


1- 1) الوسائل 2:1073 ب 50 من أبواب النجاسات ح 10.
2- 2) الوسائل 16:294 ب 29 من أبواب الذبائح ح 1.
3- 3) الوسائل 2:1071 ب 50 من أبواب النجاسات ح 3.

لعدم صدورها من المسلم إذا کانت میتة، و کذلک روایة إسماعیل ظاهرة فی تعلیق الجواز علی رؤیة الصلاة فیه، فمجرد کونه تحت ید المسلم أو استعماله فی شیء ما و لو لم یکن مقتضی الدواعی النوعیة طهارته، مثل ان یتخذ ظرفاً للنجاسة، لا دلیل علی جواز معاملته معاملة المذکی، و الظاهر انه لا فرق فی هذا المقام بین ما إذا قلنا: إن ید المسلم امارة علی التذکیة شرعاً، أو قلنا: إِن المجعول فی السوق هو الأصل (1)، کما لا یخفی.

المقام السابع- ان اعتبار ید المسلم هل یکون بنحو الإطلاق،

حتی فیما لو علم بمسبوقیتها بید الکافر، بل و بعدم فحص المسلم؛ لکونه ممن لا یبالی بکونه من میتة أو مذکی، أو یکون اعتباره فی خصوص ما إذا لم یکن کذلک، سواء علم بالمسبوقیة بید مسلم آخر أم لم تعلم الحالة السّابقة، وجهان بل قولان، اختار المحقق النائینی (قده) بعد قوله بالاماریة و جماعة الثانی؛ نظراً الی منع الإطلاق فی دلیل الاعتبار، لا من جهة اللفظ و لا من ناحیة ترک الاستفصال:

امّا الأوّل؛ فلکونها قضایا خارجیة وردت فی محلّ الحاجة، و هی الجواب عما وقع عنه السؤال من الأیدی و الأسواق الخارجیة فی تلک الأزمنة، و لیست من قبیل القضایا الحقیقیة التی حکم فیها علی الأفراد مطلقاً و لو کانت مقدرة الوجود غیر محقّقة، و من المعلوم ان مثل ذلک لا إطلاق له، و لذا لا تکون متعارفة فی العلوم، و لا یکون شأن العلوم هو البحث عنها؛ لکونها فی قوة الجزئیة، و إن کانت مسوّرة بکلمة «کلّ» مثل: کل من فی البلد مات.

ص:498


1- 1) فوائد الأُصول 4:605.

و أمّا الثانی؛ فلان منشأ الشک فی کون المأخوذ مذکّی هو غلبة العامّة علی أسواق المسلمین، لا کون أیدیهم مسبوقة بأیدی الکفّار، إذ لم یکن جلب الجلود من بلاد الشرک معمولاً به فی ذلک الزمان، و انّما هو أمر حدث فی هذه الأعصار، فهذه الجهة مغفول عنها بالکلیة عند أذهان السّائلین، و فی مثله لا مجال لترک الاستفصال و جعله دلیلاً علی الإطلاق لظهور الحال.

و یمکن الإیراد علیه مضافاً الی منع کون أدلة اعتبار السّوق بأجمعها قضایا خارجیة، فإن مثل حکم الامام (علیه السلام) فی روایة الفضلاء المتقدمة بجواز الأکل إذا کان ذلک فی سوق المسلمین قضیة حقیقیّة موضوعها سوق المسلمین أعم من الافراد المحققة و المقدرة، و لذا لا نحتاج فی التمسک به الی دلیل الاشتراک من ضرورة أو إجماع بأنه لو سلم کون ذلک علی نحو القضایا الخارجیة، نقول: منشأ الشک فی کون المأخوذ مذکّی لا ینحصر بغلبة العامة علی أسواق المسلمین، بل کما اعترف به قبل ذلک، ربما کان المنشأ اختلاط أهل الذمة بالمسلمین من الیهود و النصاری و غیرهما المقیمین فی البلاد الإسلامیة، و من الواضح ان هذه الجهة لا تکون بمثابة موجبة للغفلة عنها، خصوصاً مع التصریح فی روایة (1)إسماعیل المتقدمة، بأنه إذا رأیتم المشرکین یبیعون. . فقد فرض کون البائع مشرکاً، بل لو بنی علی کفر الخوارج و النواصب و الغلاة یتحقق منشأ آخر لتداول ذبحهم للحیوانات و أکلهم لها و بیع جلودها، فاحتمال سبق ید الکافر علی ید المسلم من الاحتمالات العقلائیة غیر المغفول عنها فی مورد الروایات، و علیه فلا مانع

ص:499


1- 1) تقدّم فی ص 436.

من استکشاف الإطلاق من جهة ترک الاستفصال فتدبّر.

المقام الثامن- المشهور ان ید المسلم امارة علی التذکیة مطلقاً،

حتی مع العلم بکونه مستحلا للمیتة بالدباغ، و قیل باختصاص الأماریّة بما إذا علم بکونه غیر مستحلّ لها به، و عن جملة من الکتب کالمنتهی (1)و نهایة (2)الاحکام التفصیل بین ما لم یعلم باستحلاله، فتکون یده امارة، و ما علم بکونه مستحلا، فلا تکون کذلک، و هنا قول رابع، و هو التفصیل بین ما إذا أخبر بالتذکیة و لو کان مستحلا، و بین ما إذا لم یخبر بها، فتکون یده أمارة فی الأوّل دون الثانی.

و یدلّ علی المشهور المطلقات المتقدمة فی السّوق الناظرة الی هذه الجهة و هی کون المسلم غیر عارف مستحلا للمیتة نوعاً، و هی کالصریحة فی الشمول لذلک، خصوصاً بعد ملاحظة کون منشأ الشک للسائل الباعث له علی السؤال ذلک، و مرسلة (3)ابن الجهم المتقدمة ناظرة الی هذه الجهة، و إن الضیق الواقع فیه السائل و حکمه (علیه السلام) بأنه یرغب عما کان یفعله امامه (علیه السلام) ، انما هو لأجل ذلک، مضافاً الی التصریح بعدم اعتبار المعرفة بالإمامة فی روایة إسماعیل المتقدمة.

فالإنصاف انه مع ملاحظة الروایات و التأمل فیها، لا یبقی ارتیاب فی ان أماریة ید المسلم أماریة تعبدیة مجعولة لغرض التسهیل و التوسعة، و عمدة النظر فیها کون البائع مسلماً غیر عارف، خصوصاً فی زمن

ص:500


1- 1) المنتهی 1:226.
2- 2) نهایة الأحکام 1:373.
3- 3) الوسائل 2:1073 ب 50 من أبواب النجاسات ح 9.

الصادقین (علیهما السلام) الذی شاع فیه فتوی أبی حنیفة و استحلاله للمیتة و کثر متابعوه، و مع ذلک حکم فی الروایات بالاماریة و الاعتبار.

هذا و لکن قد عرفت فی بعض المقامات السابقة ان الظّاهر جعل الحکم بذلک فی الروایات دلیلاً علی عدم کون ید المسلم امارة أصلاً؛ لعدم وجود الکشف فیها و لو بالنحو الناقص، بل المجعول انّما هو أصل تعبدی لغرض التسهیل و التوسعة، فجعل ذلک دلیلاً علی عدم الأماریة أولی من الحکم بثبوت الأماریة بنحو الإطلاق، کما لا یخفی.

و أمّا القول الثانی، فیدل علیه روایة (1)أبی بصیر، قال: سألت أبا عبد اللّه (علیه السلام) عن الصلاة فی الفراء، فقال: کان علی بن الحسین (علیهما السلام) رجلاً صرداً لا یدفئه فراء الحجاز، لان دباغها بالقرظ، فکان یبعث الی العراق، فیؤتی مما قبلکم بالفرو فیلبسه، فاذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقی القمیص الذی یلیه، فکان یسأل عن ذلک فقال: ان أهل العراق یستحلون لباس جلود المیتة، و یزعمون ان دباغه زکاته.

و تقریب الاستدلال بها: ان موردها صورة الشک فی کون البائع مستحلا؛ لظهور عدم اعتماده (علیه السلام) فی هذه الجهة علی علم الغیب الثابت له، و من الواضح عدم کون جمیع أهل العراق مستحلّین، بل کان فیهم من المسلمین العارفین ایضاً، فالروایة ناظرة إلی صورة الشک و حاکمة بعدم جواز الاعتماد علی یده؛ لانه (علیه السلام) کان یلقی فی حال الصلاة الفراء المأتی الیه به من العراق، و کذا یلقی القمیص الذی یلیه، فالروایة دالة علی عدم الأماریّة مع الشّک.

ص:501


1- 1) الوسائل 3:338 ب 61 من أبواب لباس المصلّی ح 2.

و یرد علی الاستدلال بها مضافاً الی ضعف السند إجمالها من حیث الدلالة؛ لأنه (علیه السلام) کان یجمع علی طبق الروایة بین اللبس و الانتفاع و بین الإلقاء المذکور، مع انه علی تقدیر عدم الأماریة لا یجوز الانتفاع به أصلاً، و لو فی غیر حال الصلاة، و دعوی کون لبسه انما هو لأجل الضرورة المسوّغة له کما یشعر به قوله (علیه السلام) : کان رجلاً صرداً، ای: شدید التألم من البرد، و عدم کون فراء الحجاز دافئاً، مدفوعة بوضوح عدم کون الضرورة بالغة الی حدّ یجوز معه المحرّم، و دعوی الفرق بین اللبس و بین الصلاة لأجل نفس هذه الرّوایة، کما ربما نسب إلی إشعار بعض الکتب مدفوعة مضافاً الی کونها خلاف الإجماع بأنها توجب عدم انطباق الدلیل علی المدّعی، فالإنصاف إجمال الروایة من حیث الدّلالة، و لا یرفعه احتمال کون الإلقاء احتیاطاً من الامام (علیه السلام) فی حال الصلاة و إن کان هذه الاحتمال مخالفاً لمدّعی المستدل، الّا انه فی نفسه لیس صحیحاً، لعدم انحصار احتیاط الامام (علیه السلام) بالصلاة، کما لا یخفی، هذا کله مضافاً الی مخالفة الروایة للمطلقات المتقدمة الدالة علی الاعتبار مع العلم بالاستحلال فضلاً عن الشک، کما عرفت.

و أمّا القول الثالث، فعمدة الدلیل علیه ما رواه (1)عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبی عبد اللّه (علیه السلام) : انی ادخل سوق المسلمین، اعنی هذا الخلق الذین یدّعون الإسلام، فاشتری منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أ لیس هی ذکیّة، فیقول: بلی، فهل یصلح أن أبیعها علی انها ذکیة؟ فقال: لا و لکن لا بأس ان تبیعها و تقول: قد شرط لی الذی

ص:502


1- 1) الوسائل 2:1081 ب 61 من أبواب النجاسات ح 4.

اشتریتها منه انها ذکیة، قلت: و ما أفسد ذلک؟ قال استحلال أهل العراق للمیتة، و زعموا انّ دباغ جلد المیتة ذکاته، ثمّ لم یرضوا ان یکذبوا فی ذلک الّا علی رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله) .

فان موردها صورة العلم بکون البائع مستحلا، و حینئذ فالحکم بعدم جواز البیع بشرط التذکیة دلیل علی عدم اعتبار یده، و عدم کونها حجة علیها، و إلا فلا وجه لعدم جواز البیع کذلک، کما هو ظاهر.

و یرد علیه انه لو لم تکن یده حجة علیها، فلم کان الاشتراء منه جائزاً کما هو المفروغ عنه عند السّائل و قد قرره الامام (علیه السلام) علی ذلک؟ فالحکم بالجواز دلیل علی وجود الحجة، و أمّا عدم جواز الاشتراط، فلیس لأجل عدم ثبوت الحجة، بل انما هو لأجل کون مثلها غیر کاف فی ذلک؛ لظهور الاشتراط فی ثبوت التذکیة وجداناً، و عدم کفایة إحرازها و لو کانت امارة کما فی سائر الشرائط، و کما فی مثل الشهادة، بناء علی عدم جواز الاستناد فیها إلی الامارة، نعم یبقی الإشکال فی ان مقتضی ما ذکرنا عدم جواز الاشتراط و لو لم یکن البائع مستحلا، مع ان مقتضی ذیل الرّوایة ان الموجب لعدم جواز الاشتراط استحلال البائع الأوّل للمیتة، فتدبّر.

و أمّا القول الرابع، فقد استدل له بروایة (1)محمد بن الحسین الأشعری قال: کتب بعض أصحابنا الی ابی جعفر الثانی (علیه السلام) : ما تقول فی الفرو یشتری من السّوق؟ فقال: إذا کان مضموناً فلا بأس؛ نظراً الی ان المراد من الضمان هو الاخبار و الإعلام بالتذکیة، لا التعهد المتضمن لقبول الخسارة، و الظاهر حینئذ ان عدم البأس مشروط بالإعلام.

ص:503


1- 1) الوسائل 2:1073 ب 50 من أبواب النجاسات ح 10.

و الجواب: انه مع ظهور الروایات المتقدمة، بل صراحة بعضها فی عدم لزوم السؤال و الاستعلام من البائع، و من الواضح ان ذلک انّما هو لأجل عدم اعتبار الجواب و الإعلام، و إلا فلا بد من الاستعلام، لا یبقی مجال للأخذ بهذه الروایة، فلا بد من الحمل علی الاستحباب، و الفرق بین صورتی الاعلام و عدمه من هذه الجهة کما لا یخفی، و قد مرّ ذلک فی المقام الخامس فراجع.

المقام التاسع- لا شبهة فی تقدّم هذه القاعدة علی استصحاب عدم التذکیة، بناء علی جریانه،

امّا علی تقدیر الأماریة فواضح؛ لتقدم الامارة علی الاستصحاب، و أمّا علی تقدیر کونها أصلاً، فلما عرفت من ان لازم عدم التقدم، لغویّة هذه القاعدة؛ لثبوت المعارضة الدائمیة بینها و بین الاستصحاب المذکور، و أمّا تقدمها علی البیّنة إذا کانت علی خلافها فممنوع، و لو فرض کونها امارة؛ و ذلک لأن البیّنة من أقوی الأمارات، و لذا جعلها الشارع فی باب القضاء مقدمة علی الید التی تکون امارة علی ملکیّة ذیها، هذا مضافاً الی وضوح اختصاص مورد الروایات المتقدمة علی کثرتها بصورة عدم وجود البینة، فلا دلیل علی حجیّتها مع وجودها، کما لا یخفی.

المقام العاشر- هل المصنوعیة فی أرض الإسلام امارة علی وقوع التذکیة مطلقاً،

و لو مع العلم بکون الصانع غیر مسلم، أو أنها أمارة علیه مع عدم العلم بکفر الصانع، أو انها لیست أمارة فی عرض ید المسلم، بل هی امارة علی الامارة، کسوق المسلمین، علی ما عرفت من أنه امارة علی کون البائع مسلماً، و هو امارة علی التذکیة؟ وجوه و احتمالات ناشئة من

ص:504

الاحتمالات الجاریة فی الرّوایة الواردة فی هذا الباب، و هی روایة (1)إسحاق بن عمار المعتبرة عن العبد الصالح (علیه السلام) انه قال: لا بأس بالصلاة فی الفراء الیمانی و فی ما صنع فی أرض الإسلام، قلت: فان کان فیها غیر أهل الإسلام؟ قال: إذا کان الغالب علیها المسلمین فلا بأس (2).

و المراد من الجواب یحتمل ان یکون ما حکی عن الشهید (3)الثانی (قده) من غلبة افراد المسلمین و أکثریتهم بالنسبة الی غیر أهل الإسلام، و یحتمل ان یکون غلبة المسلمین علی الأرض و حکومتهم و سلطنتهم علیها کما رجحه سیدنا العلامة الأستاذ البروجردی (قدّس سرّه الشریف) مستظهراً ذلک من تعدیة الغلبة بعلی.

فعلی الأوّل الذی مرجعه الی ان الامارة أرض الإسلام، أی ما کان تحت غلبة المسلمین و ریاستهم بضمیمة کون الغلبة العددیّة لأفراد المسلمین، تکون الامارة هی ید المسلم، و ما ذکر امارة علی الامارة؛ لان الأکثریة طریق الی استکشاف مجهول الحال، و إلا لم یترتب علیها ثمرة، فعلی ما قاله الشهید لا تکون أرض الإسلام أمارة إلی جانب ید المسلم أصلاً.

و علی الثانی ان کان المراد هو کون المصنوعیة فی أرض الإسلام امارة علی التذکیة، و لو مع العلم بکون الصّانع غیر مسلم، تصیر المصنوعیة امارة مستقلة فی مقابل ید المسلم، و إن کان المراد هو ان المصنوعیة فیها امارة علی کون الصانع مسلماً؛ لأنه یبنی علی إسلام من کان مجهول الحال

ص:505


1- 1) الوسائل 2:1072 ب 50 من أبواب النجاسات ح 5.
2- 2) الوسائل أبواب النجاسات، الباب الخمسون، حدیث 5.
3- 3) روض الجنان فی شرح إرشاد الأذهان:213.

فی أرض الإسلام، فیرجع ایضاً الی اعتبار ید المسلم، و کونها امارة علی التذکیة، غایة الأمر ان الامارة علی الامارة علی هذا مجرد المصنوعیة فی أرض الإسلام، و علی ما قاله الشهید هو ذلک بضمیمة کون الغلبة لأفراد المسلمین کما لا یخفی.

هذا و الظاهر ما قاله الشهید (قده) ؛ لان الظاهر دلالة الجواب علی اعتبار أمر زائد علی عنوان أرض الإسلام، و إذا فسّرناه بغیره ینطبق علی معنی أرض الإسلام، و لا یکون أمراً زائداً علیها؛ لان معناها کما عرفت هو کون الغلبة و السلطنة علیها للمسلمین، فلا یکون الجواب دالّاً علی أمر آخر بوجه، و بعبارة اخری: الضمیر فی قوله (علیه السلام) : إذا کان الغالب علیها، یرجع الی أرض الإسلام، لا مطلق الأرض، و لا معنی لتقیید أرض الإسلام بما یرجع الی تفسیرها، و حمل الجواب علی التوضیح و التفسیر مستبعد جدّاً، بل الظاهر کونه ناظراً الی اعتبار أمر زائد، و هو لا ینطبق الّا علی تفسیر الشهید، و قد عرفت ان مقتضاه انه لا أصالة للمصنوعیة فی أرض الإسلام، بل هی بضمیمة الغلبة امارة علی کون الصانع مسلماً، نعم مقتضی ذلک اعتبار إسلام الصانع من دون فرق بین ان یکون البائع أیضاً مسلماً و بین ان لا یکون کذلک.

المقام الحادی عشر- هل المطروحیة فی أرض الإسلام امارة علی وقوع التذکیة علی المطروح أو علی الامارة علیه،

أو انّها لا تکون أمارة أصلاً إلّا إذا کان علیه اثر استعمال المسلم، و جریان یده علیه؟ و من المعلوم انّه حینئذ یرجع الی اعتبار ید المسلم و أماریّتها.

ص:506

و الدلیل فی هذا المقام روایة (1)السکونی عن ابی عبد اللّه (علیه السلام) انّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) سأل عن سفرة وجدت فی الطریق مطروحة کثیر لحمها و خبزها و جبنها و بیضها، و فیها سکین فقال أمیر المؤمنین (علیه السلام) یقوّم ما فیها ثمّ یؤکل؛ لانه یفسد و لیس له بقاء، فاذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قیل له: یا أمیر المؤمنین (علیه السلام) لا یدری سفرة مسلم أو سفرة مجوسی؟ فقال: هم فی سعة حتی یعلموا، و یجری فی معنی الرّوایة احتمالات:

أوّلها: ان تکون الرّوایة بصدد بیان أصالة الطهارة عند الشک فی النجاسة، و منشأ الشک عدم العلم بکون السفرة لمسلم أو مجوسی من جهة ملاقاة المجوسی، و علیه فالمراد بقوله (علیه السلام) : هم فی سعة حتی یعلموا، هی التوسعة من جهة الطهارة إلی حصول العلم بالنجاسة.

ثانیها: ان تکون الرّوایة بصدد افادة أماریة المطروحیة فی أرض الإسلام علی وقوع التذکیة علی الحیوان المأخوذ منه اللحم الموجود فی السفرة، و منشأ الشک احتمال کونها لمجوسی، و هو لا یراعی شرائط التذکیة المعتبرة فی الإسلام، و لا یجتمع هذا الاحتمال مع ذکر مثل الخبز و البیض بجانب اللّحم؛ لعدم الشک فیه من هذه الجهة، کما هو ظاهر.

ثالثها: ان تکون الروایة بصدد بیان ان الحکم فی مورد الشک فی الحلیة مطلقاً هی الحلیة و الإباحة، و منشأ الشک احتمال عدم رضا المالک بالتصرف فیها.

إذا ظهر لک هذه الاحتمالات، فاعلم ان الاستدلال بالروایة علی

ص:507


1- 1) الوسائل 2:1073 ب 50 من أبواب النجاسات ح 11.

الأماریة متوقف علی کون المراد بها هو الاحتمال الثانی، و من الواضح عدم ظهور الروایة فیه، لو لم نقل بظهورها فی غیره؛ لما مرّ من عدم ملائمته لذکر مثل الخبز و البیض، الّا ان یقال: إن السؤال الثانی فی الروایة لا یرتبط بما هو محطّ النظر فی السؤال الأوّل، بل یمکن ان یکون من شخص آخر لا من السائل الأوّل، و علیه فیمکن دعوی کون الثانی ناظراً الی خصوص اللحم من جهة التذکیة و عدمها، فالحکم بالتوسعة الی ان یعلم بکونه من مجوسی دلیل علی أماریة المطروحیّة فی أرض الإسلام.

و لکن هذه الدّعوی لا توجب ظهور الرّوایة فیها، و إن کانت تصلح لان یجاب بها عن الاشکال الوارد علی الاحتمال الثالث، و هو انه یوجب طرح الرّوایة؛ إذ لم یذهب أحد إلی الإباحة عند الشک فیها من هذه الجهة، فإن الإباحة حینئذٍ إنّما هی لأجل وجود الامارة لا لمجرد الشک، کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی بحث حجیة سوق المسلمین.

ص:508

قاعدة أخذ الأجرة علی الواجب

اشارة

و هی ایضاً من القواعد المشهورة المبتلی بها، و نقول:

قد وقع الکلام فی جواز أخذ الأجرة علی الواجب تعبّدیاً کان أو توصّلیاً، عینیّاً کان أو کفائیّاً، تخییریّاً کان أو تعیّنیاً، و نسب الی المشهور القول بالعدم، بل قد ادّعی الإجماع علیه کما فی محکیّ البرهان (1)و جامع (2)المقاصد، و لعلّه یجیء التکلم علی هذه الجهة.

و کیف کان فهل یجوز أخذ الأجرة علی الواجب مطلقا، أو لا یجوز کذلک، أو یفصّل بین التعبدی و التوصّلی، أو بین العینی و الکفائی، أو فی الکفائی بین القسمین الأوّلین، أو فیه بین ما إذا کان وجوبه بعنوانه الخاص و ما إذا کان وجوبه من جهة حفظ النظام؟ وجوه و احتمالات.

ص:509


1- 1) مجمع الفائدة و البرهان 8:89.
2- 2) جامع المقاصد 4:35.

و لیعلم ان موضوع المسألة ما إذا کان عقد الإجارة الواقعة علی الواجب صحیحاً و واجداً لجمیع الأمور المعتبرة فیه، عدا کون متعلقه واجباً علی الأجیر و لازماً علیه إتیانه شرعاً، فإنه لذلک وقع الکلام فی ان وجوبه علی الأجیر هل یوجب بمجرده اختلال بعض الأمور المعتبرة فی الإجارة من حیث المتعلق أو لا؟ و أمّا لو فرض بطلانها بسبب أمر آخر، کما إذا لم یکن للمستأجر غرض عقلائی و نفع دنیوی أو أخروی أو غیرهما، فهو خارج عن مفروض البحث، فاستیجار الشخص لفعل صلاة الظهر عن نفسه باطل من حیث انه لا یکون فی ذلک غرض عقلائی للمستأجر، لا لکون الفعل واجباً علی الأجیر.

نعم لو فرض ثبوت غرض عقلائی فی مثله، کما إذا أراد اعتیاد ولده بالصلاة بحصول التمرین علیها، و لو من ناحیة دفع الأجرة إلیه، فهو یدخل فی محلّ النزاع.

إذا عرفت، ذلک فاعلم ان الکلام تارة یقع فی ثبوت المنافاة بین الوجوب بما هو وجوب و بین أخذ الأجرة و عدمه، و أخری فی ثبوت المنافاة بین الوجوب التعبدی بما هو تعبدی لأخذ الأجرة و عدمه، و علی هذا التقدیر لا فرق بین الواجب و المستحبّ، و ثالثة فی منافاة الوجوب التعبدی النّیابی لأخذ الأجرة و عدمه، و علی هذا التقدیر ایضاً لا یکون فرق بینهما، فالکلام یقع فی مقامات:

المقام الأوّل- فی منافاة الوجوب بما هو وجوب لأخذ الأجرة و عدمه

قد استدل لها بوجوه:

منها: انه یعتبر فی صحة الإجارة ان یکون متعلقها مملوکاً للأجیر

ص:510

حتی یصح نقله إلی المستأجر، سواء کان اعتبار المملوکیة ثابتاً له قبل العقد، کمنافع الدار المملوکة لصاحبها قبل الإجارة و عمل العبد المملوک لمولاه کذلک، أو کان اعتبار المملوکیة بعد العقد، کعمل الحرّ؛ فإنه و إن لم یعتبر مملوکاً لعامله قبل العقد، الّا انه بالعقد یعتبر مملوکاً للمستأجر، و تعلق الوجوب به یوجب ان لا یکون مملوکاً للفاعل حتی یصح نقله الی الغیر؛ لانه یصیر حینئذ مستحقّاً للّه تعالی، و المملوک المستحق لا یستحق ثانیاً، أ لا تری انه إذا آجر نفسه لدفن المیت لشخص، لم یجز له ان یوجر نفسه ثانیاً من شخص آخر لذلک العمل، و لیس ذلک إلّا لأن الفعل صار مملوکاً للاوّل و مستحقّاً له، فلا معنی لتملیکه ثانیاً.

أقول: هذا الوجه هو أقوی الوجوه التی استدلّ بها فی جامع المقاصد و کشف الغطاء، و لو تم لکان مقتضاه القول بعدم الجواز مطلقاً، نعم ظاهره الاختصاص بالواجب العینی.

و یمکن تقریره فی الواجب الکفائی بأن یقال: ان العمل قبل صدوره من العامل و إن لم یکن مملوکاً له تعالی؛ لان المفروض عدم تعیّنه علیه، الّا انه بعد الصّدور یتصف بکونه مملوکاً له تعالی، بمعنی انّه صدر ما یکون بعد الصدور غیر مملوک الّا للّه، فلا یمکن ان تتعلق به الإجارة المقتضیة لکون العمل صادراً مملوکاً للمستأجر کما لا یخفی.

و لکن أصل الوجه لا یخلو عن خدشة بل منع؛ فان الوجوب الذی هو بمعنی مجرّد بعث الغیر إلی إتیان الفعل، لا یوجب ان یکون ذلک الفعل مملوکا للباعث و مستحقاً له، حیث ینافی مملوکیة الغیر؛ لأن مطلوبیة الصدور و تحریک المأمور إلی الإصدار أمر، و مملوکیة الفعل الصّادر

ص:511

و استحقاقه أمر آخر، لا یرتبط أحدهما بالآخر، و لو کان الوجوب مساوقاً للملکیة لما صحّ أمر أحد الأبوین بشیء بعد أمر الأخر به؛ لأنّه إذا قال الأب مثلاً-: أکرم زیداً، فمقتضی وجوب إطاعته الثابت بالشرع و کونه مساوقاً للملکیة علی ما هو المفروض، هی صیرورة العمل و هو إکرام زید مملوکاً للأب و مستحقّا له حینئذ، فکیف یمکن ان یؤثر أمر الأمّ فی الوجوب المساوق لها بعد عدم إمکان ان یصیر المملوک المستحق مملوکاً ثانیاً، فاللازم هو القول بلغویّة أمرها، مع انه من الواضح خلافه، و لیس ذلک الّا لعدم کون الوجوب موجباً لمملوکیة الواجب للموجب، کیف و قد حققنا فی علم الأصول ان متعلق الاحکام انّما هی نفس الطبائع و العناوین لا الافراد و الوجودات؛ لأنها قبل التحقق لیست بفرد، و بعده یحصل الغرض المطلوب منها، فیسقط الأمر، و الطبیعة لا معنی لکونها مملوکة أصلاً.

و منها: ما ذکره کاشف الغطاء و تبعه المحقق (1)النائینی (قده) علی ما فی التقریرات، و تقریره بنحو التلخیص: انه یعتبر فی الإجارة و ما یلحق بها من الجعالة ان یکون العمل الذی یأخذ الأجیر أو العامل بإزائه الأجرة و الجعل ملکاً له، بان لا یکون مسلوب الاختیار بإیجاب أو تحریم شرعی علیه، لأنه إذا کان واجباً علیه فلا یقدر علی ترکه، و إذا کان محرّماً علیه فلا یقدر علی فعله، و یعتبر فی صحّة المعاملة علی العمل کون فعله و ترکه تحت سلطنته و اختیاره، و من هنا لا یجوز أخذ الأجرة علی الواجبات؛ لعدم القدرة علی ترکها، و لا علی المحرّمات؛ لعدم القدرة علی فعلها؛ فلا یجوز لشاهد الزور أخذ الأجرة علی شهادته؛ لخروج عمله عن سلطنته

ص:512


1- 1) مُنیة المطالب 1:15.

بنهی الشارع، فلا یقدر علی فعله، فأخذ الأجرة أکل للمال بالباطل.

و أمّا الواجبات النظامیّة فیجوز أخذ الأجرة علیها ما عدا القضاء؛ لأن الأجیر فیها مالک لعمله و قادر علیه؛ لان الواجب علیه هو بذل عمله بالمعنی المصدری، لا نتیجة عمله التی هی معنی الاسم المصدری و هما و إن لم یکونا أمرین متمایزین، إلّا أنهما شیئان اعتبارا، فللشارع التفکیک بین وجوب المصدر و ملکیة اسم المصدر، و أمّا التکلیف فی باب القضاء فقد تعلّق بنتیجة عمل القاضی و هو فصله الخصومة، فلا یجوز له أخذ الأجرة علیه، بخلاف غیره من الطبیب و الخیاط و الصباغ.

و کیف کان لو وجب بذل العمل و حرم احتکاره، فلا مانع من أخذ الأجرة علیه، و لو وجب علیه نتیجة العمل فلا یجوز أخذ الأجرة؛ لأن المعنی المصدری آلیّ و لا یقابل بالمال، و اسم المصدر خارج عن ملکه.

و فیه وجوه من النّظر:

الأوّل ان المراد بالقدرة المعتبرة فی صحة الإجارة و الجعالة و نحوهما ان کان هی القدرة علی فعل العمل و ترکه حقیقة و تکویناً، فلا شبهة فی عدم منافاتها لتعلق التکلیف الوجوبی أو التحریمی، کیف و وجودها شرط فی تعلق کل واحد منهما کما هو واضح، و إن کان المراد بها هی القدرة شرعاً، بمعنی ان یکون العمل جائز الفعل و الترک عند الشارع، لا ان یکون واجباً أو محرّماً، فیرد علیه: ان الاستدلال بهذا النحو مصادرة؛ لان مرجعه إلی انه یعتبر فی صحة الإجارة علی العمل عدم کونه واجباً، و هذا عین المدّعی.

الثانی ان بطلان الإجارة علی فعل شیء من المحرّمات لیس لعدم

ص:513

کونه قادراً علیه شرعاً، و القدرة بهذا المعنی معتبرة فی صحّتها، بل لانه لا یعقل اجتماع الأمر بالوفاء بها مع النهی عن فعلها، فمع ثبوت الثانی کما هو المفروض لا یبقی مجال للاوّل، و لیعلم ان المراد بالقدرة علی التسلیم التی اعتبرها الفقهاء فی صحة المعاملة، لیس هی القدرة المبحوث عنها فی الکتب العقلیة التی مرجعها إلی صحة الفعل و الترک، کیف و هم یحکمون بصحة المعاملة فیما لم یتحقق فیه هذا المعنی؟ أ لا تری انهم یحکمون بالصّحة فیما لو کان المبیع عند المشتری الغاصب و لم یکن البائع قادراً علی أخذه منه بوجه، حتی یصحّ منه التسلیم و عدمه، و کذلک یحکمون بالصّحة فیما لم یکن البائع قادراً علی التسلیم بهذا المعنی، و لکن المشتری بقدر علی الوصول الیه، و السرّ ان هذا العنوان لم یکن مأخوذاً فی شیء من النصوص حتی یتبع ما هو ظاهره، بل هو شیء یحکم به العقل؛ لإخراج المعاملات السّفهیة الواقعة علی مثل السّمک فی الماء و الطیر فی الهواء، فمرجع اعتباره الی لزوم اشتمال المعاملة علی غرض عقلائی، و هو موجود فی المقام، فلا وجه للإشکال فی جواز أخذ الأجرة علی الواجب من هذه الجهة.

ثمّ انه لو سلّم اعتباره فی صحّة المعاملة بالمعنی الرّاجع إلی صحة الفعل و الترک، و سلم ایضاً ان تعلق الإیجاب أو التحریم ینافیه، فدعوی ثبوته فی الواجبات النّظامیة ما عدا القضاء؛ نظراً الی ان الوجوب تعلق بالمصدر، و الأجرة واقعة فی مقابل اسم المصدر، ممنوعة؛ لاعترافه بان التغایر بین الأمرین انّما هو بحسب الاعتبار، و إلا فهما فی الواقع شیء واحد، و حینئذ فیقال علیه: انه کیف یمکن ان یکون الشیء الواحد مقدوراً و غیر مقدور معاً؟ فمع فرض تعلق الوجوب به المنافی لکونه مقدوراً، کیف

ص:514

یعقل ان یکون مقدوراً ایضاً.

و إن شئت قلت: انه کیف تجتمع مقدوریة اسم المصدر مع خروج نفس المصدر عن تحت الاختیار بعد تبعیته له، بل عینیّته له؟ کما هو ظاهر.

الثالث ان التفصیل بین القضاء و غیره من الواجبات النّظامیة بکون الواجب فیه هو اسم المصدر دونها ممنوع؛ لان الواجب فی باب القضاء ایضاً هو فصل الخصومة بالمعنی المصدری، و هو الحکم و القضاء، لا کون الخصومة مفصولة، و الدلیل علی ذلک مراجعة کتاب القضاء؛ فإن الأحکام المذکورة فیه انما تکون مترتبة علی نفس القضاء.

و منها: ان الظاهر من تعلق الوجوب بشیء کون المطلوب إتیانه مجّاناً و بلا عوض، فأخذ الأجرة علیه ینافی ذلک.

و یرد علیه: منع ذلک؛ لانه مجرد ادعاء بلا بینة و برهان:

و منها: ان المعهود فی باب الإجارة کون العمل الذی استوجر علیه بید المستأجر من حیث الاسقاط و الإبراء و التأجیل و التعجیل، و لو قیل بصحة الإجارة فی المقام یلزم نفی تلک الآثار الثابتة فی کل اجارة، فیستکشف من ذلک بطلانها.

و یرد علیه: منع انتفاء هذه الآثار فی الإجارة علی الواجب، فإنه یمکن للمستأجر الاسقاط و یسقط حقّه بذلک، و لا ینافی ذلک ثبوت حقّ من اللّه تعالی، و تظهر الثمرة فیما لو لم یکن المکلف مریداً لا طاعة أمر اللّه تعالی؛ فإنّه یستحق الأجرة مع الاسقاط.

ص:515

و منها: ما عن الشیخ (1)الأعظم (قده) فی مکاسبه من ان عمل المسلم مال، لکنه غیر محترم مع الوجوب، لکون العامل مقهوراً علیه من دون دخل اذنه و رضاه، فالإیجاب مسقط لاعتبار اذنه و رضاه المقوّمین لاحترام المال.

و أجاب عنه المحقق (2)الأصفهانی (قده) بان لمال المسلم حیثیتین من الاحترام: إحداهما حیثیة إضافته إلی المسلم، و هذه الحیثیة یقتضی احترامها ان لا یتصرف أحد فیه بغیر اذنه و رضاه، و له السلطان علی ماله و لیس لأحد مزاحمته فی سلطانه، و هی الثابتة بقوله (3)(علیه السلام) : لا یجوز لأحد ان یتصرف فی مال غیره بغیر اذنه، و بقوله (4)(علیه السلام) : لا یحلّ مال امرئ الّا عن طیب نفسه.

ثانیتهما: حیثیة مالیّته، و مقتضی حرمتها ان لا یذهب هدراً و بلا تدارک، فلا یجوز ان یعامل مال المسلم معاملة الخمر و الخنزیر، ممّا لا مالیّة له شرعاً، و لا یتدارک بشیء أصلاً.

و من الواضح ان الإیجاب و اللّابدیة و المقهوریة و سقوط اذنه و رضاه کلها موجبة لسقوط احترام العمل من الحیثیة الأولی دون الحیثیة الثانیة، و لذا جاز أکل مال الغیر فی المخمصة من دون اذنه، مع بقاء المال علی حاله من احترامه و تضمن قیمته بلا اشکال، مع ان هدر المال غیر هدر المالیّة

ص:516


1- 1) علی ما نقل فی حاشیة المکاسب للأصفهانی 2:210.
2- 2) حاشیة المکاسب للأصفهانی 2:211.
3- 3) الوسائل 17:309 ب 1 من أبواب الغصب ح 4.
4- 4) سنن الدارقطنی 3: کتاب البیوع ح 91. عوالی اللآلی 2:113.

کما فی مال الکافر الحربی؛ فإنه ساقط الاحترام من الجهتین، فیجوز أخذه منه و تملکه بغیر عوض بدون اذنه، و مع ذلک فهو مال و مملوک للحربی، و لذا یجوز إیقاع المعاملة علیه و استیجاره علی عمله، و ما یضرّ بالإجارة هدر المالیّة لا هدر المال.

و منها: غیر ذلک من الوجوه الضعیفة غیر التّامة، فالمتحصل فی هذا المقام ان الوجوب بما هو وجوب لا ینافی جواز أخذ الأجرة، و لم یقم دلیل علی عدم جواز الاستیجار علی الواجب بما هو کذلک.

المقام الثانی- فی منافاة العبادیة للإجارة و عدمها،

فنقول:

ربما یقال بالمنافاة؛ نظراً الی انّ أخذ الأجرة علی العبادات ینافی القربة المعتبرة فیهما، فلا یجوز؛ لانه مع الأخذ لا یقدر علی الإتیان بمتعلّق الإجارة، و القدرة علیه معتبرة فی صحتها بلا اشکال.

و قد تغصّی عنه بوجهین:

الأوّل ما حکی عن صاحب الجواهر (1)(قده) من ان تضاعف الوجوب بسبب الإجارة لا ینافی الإخلاص بل یؤکّده.

و قد أورد علیه بأنه ان أرید ان تضاعف الوجوب یؤکد اشتراط الإخلاص، فلا ریب فی ان الأمر الإجاری توصلی لا یشترط فی حصول ما وجب به قصد القربة، و إن أرید أن یؤکد تحقق الإخلاص من العامل، فهو مخالف للواقع قطعاً؛ لان ما لا یترتب علیه أجر دنیوی أخلص مما یترتب علیه ذلک بحکم الوجدان.

ص:517


1- 1) الجواهر 22:117.

و لکن السیّد الطباطبائی (1)(قده) تصدّی فی حاشیة مکاسب الشیخ الأعظم (قده) لتوجیه کلام صاحب الجواهر و بیان عدم المنافاة بین قصد القربة و أخذ الأجرة، و قد ذکر فی تقریره وجهین:

أولهما: هی مسألة الدّاعی علی الدّاعی التی ستجیء مفصلاً إن شاء اللّه تعالی.

ثانیهما: ما ملخّصه: انه یمکن ان یقال بصحة العمل من جهة امتثال الأمر الإجاری المتّحد مع الأمر الصلاتی فإن حاصل قوله: فِ باجارتک، صلّ وفاء بالإجارة، و دعوی کونه توصّلیاً مدفوعة أوّلاً بأن غایته انه لا یعتبر فی سقوطه قصد القربة، و إلا فاذا اتی بقصد الامتثال یکون عبادة قطعاً، و لذا قالوا: ان العبادة قسمان: عبادة بالمعنی الأخص و عبادة بالمعنی الأعمّ، و دعوی ان المعتبر قصد الأمر الصلاتی لا الأمر الإجاری مدفوعة بالمنع، غایة الأمر انه یعتبر فیه کون الدّاعی هو اللّه من ایّ وجه کان.

و ثانیاً لا نسلّم کونه توصّلیاً مطلقا، بل هو تابع لمتعلّقه، فان کان توصّلیاً فهو توصّلی، و إن کان تعبّدیاً فتعبدی؛ لأن مرجع قوله تعالی أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الی قوله: صلّوا و صوموا و خیطوا و افعلوا کذا و کذا، فالأمر الإجاری عین الأمر الصلاتی أ لا تری انه لو لم یکن له داعٍ الی امتثال الأمر الندبی بالنافلة و نذرها، و کان داعیه امتثال الأمر النذری کان کافیاً فی الصّحة.

و الحاصل: ان امتثال الأمر المتعلق بالعمل من جهة وجوب الوفاء بالإجارة کاف فی الصّحة.

ص:518


1- 1) حاشیة السید علی المکاسب:24.

ان: قلت ان ذلک مستلزم للدّور؛ لان الوجوب من حیث الإجارة موقوف علی صحّتها، و هی موقوفة علی صحة العمل، الموقوفة علی عدم الوجوب؛ لتوقف قصد القربة المعتبرة فیه علیه، قلت: التحقیق فی الجواب ان یقال: ان المعتبر فی متعلق الإجارة لیس أزید من إمکان إیجاده فی الخارج فی زمان الفعل، و فی المقام کذلک، غایة الأمر ان تعلق الإجارة و الأمر الإجاری سبب فی هذا الإمکان، و هذا ممّا لا مانع منه، و حینئذ نقول: ان الوجوب من حیث الإجارة موقوف علی صحتها، و هی موقوفة علی القدرة علی إیجاد الفعل صحیحاً زمان الفعل، و هی حاصلة بالفرض، و إن لم تکن حاصلة مع قطع النظر عن تعلق الإجارة، و الحاصل: انه لا یلزم فی صحة الإجارة إلّا إمکان العمل و لو بسببها، و أمّا الإمکان مع قطع النظر عنها فلا دلیل علی اعتباره.

أقول: لا یخفی ان الأمر الإجاری لا یعقل ان یکون متّحداً مع الأمر الصلاتی، کیف و عنوان الوفاء بالإجارة مغایر لعنوان الصلاة، و النسبة بینهما العموم من وجه، و لا یعقل أن یسری الأمر من متعلقه إلی شیء آخر مغایر له، و مجرّد اتّحاد الوفاء مع الصلاة خارجاً لا یوجب اتحاد الأمرین، بعد وضوح ان متعلق الاحکام و التکالیف هی نفس الطبائع و العناوین کما حققناه فی الأصول و حینئذ فکیف یعقل ان یکون الأمر بالوفاء داعیاً إلی الصلاة مع ان الأمر لا یدعو الّا الی متعلّقه؟ فتصحیح العبادیة بإتیان الصلاة بداعی الأمر المتعلق بالوفاء بالإجارة ممّا لا یتم أصلاً.

و تنظیر ذلک بمسألة النذر و إن کان فی محلّه، الّا ان کفایة الإتیان بداعی امتثال الأمر النّذری فیها محلّ نظر، بل منع، بل الظاهر فیها ایضاً

ص:519

لزوم الإتیان بالنافلة بداعی الأمر الاستحبابی المتعلق بها إِذ النذر لا یوجب انقلاب النافلة فریضة، فلو نذر الإتیان بصلاة اللیل مثلاً یصیر ذلک موجباً للزوم الإتیان بها بما أنّها صلاة اللّیل، و تکون متعلقة للأمر الاستحبابی، و لذا لو حصل منه خلف النذر یعاقب لا علی ترک اللیل اللیل؛ لأنها مستحبة، بل علی عدم الوفاء بالنذر الذی کان واجباً.

و بالجملة: لا وجه لکفایة الإتیان بقصد امتثال الأمر الإجاری بعد وضوح عدم اتّحاده مع الأمر الصلاتی لاختلاف متعلّقیهما، و منه ظهر فساد ما ذکره من تبعیة الأمر الإجاری من حیث التعبدیة و التوصلیة لمتعلّقه؛ فإنه لا یسری إلیه حتی یکتسب منه ذلک کما عرفت، مضافاً الی ان معنی الوفاء بالإجارة هو الإتیان بالعمل بما انه مستحق للغیر و مملوک له، فلا یجتمع مع الإتیان به بداعی القربة، فتأمل، و کیف کان فالإشکال لا یندفع بما ذکره؛ لابتنائه علی اتّحاد الأمرین، و قد عرفت منعه.

الثانی: ما اختاره جمع من المحققین من کون الأجرة داعیة، لا فی عرض داعی القربة، بل فی طوله، و تقریره کما افاده السید (قده) فی حاشیة (1)المکاسب مع توضیح منّا ان یقال: انّ ما یضرّ بالإخلاص انّما هو الداعی الدنیوی الذی هو فی عرض داعی الامتثال، کالریاء و سایر الدواعی النفسانیّة، و أمّا إذا کان فی طوله، کما فی مثل المقام، بان کان الداعی لنفس العمل هو امتثال الأمر المتعلق به، و الداعی لإتیان العمل بداعی امتثال امره غرض آخر دنیوی أو أخروی لا یرجع الی الله تعالی، فلا بأس به؛ لانه لا دلیل علی لزوم ان تکون سلسلة العلل کلها راجعة الی

ص:520


1- 1) حاشیة المکاسب للسیّد:25.

اللّه، کیف و لازمه الحکم ببطلان عبادة جلّ الناس بل کلّهم عدا من عصمه اللّه تعالی منهم؛ لان داعیهم الی امتثال أوامر اللّه انّما هو الخوف من العقاب أو الطمع فی الثواب، و هما ای الثواب و العقاب و إن کانا من الأمور الأخرویّة، إلّا أنهما یشترکان مع المقاصد الدنیویة فی انه لا یرجع شیء منهما الی اللّه تعالی.

و دعوی ان قیاس الأجرة علی الغایات المترتبة بجعل الهی مع الفارق؛ لأن سلسلة العلل إذا انتهت الی اللّه تعالی لا تخرج المعلول عن کونه عبادیّاً، و هذا بخلاف ما إذا انتهت الی غیره، فإنه لیس من وظیفته جعل غایة للفعل بقصد الأمر، و بالجملة فرق بین ان یأتی بالصلاة لأمر اللّه سبحانه حتی یوسّع فی رزقه و إن یأتی لأمر اللّه حتی یأخذ الأجرة.

مدفوعة بمنع انتهاء سلسلة العلل فی عبادات العامّة الی اللّه تعالی؛ لأن الجنّة مطلوبة لهم بما أنّها جنّة مشتملة علی النعم الّتی لا تعدّ و لا تحصی، لا بما أنّها مخلوقة للّه تعالی و لها نسبة الیه، و النار مبغوضة لهم بذاتها، فإتیان الصلاة لأمر اللّه لأجل التوسعة فی الرّزق لا ینتهی الی اللّه أصلاً، لأن محبوب النفس هی نفس التوسعة من حیث هی، مع قطع النظر عن کونها بید اللّه تعالی.

و بالجملة الجنّة محبوبة و النّار مبغوضة بما إنّهما جنّة و نار، کیف و لو کان المحبوب هی الجنّة بما انّها من نعم اللّه تعالی و لها نسبة الیه بحیث کان مرجعه الی محبوبیته تعالی لکان اللازم الإتیان بالواجبات و لو لم یترتب علی فعلها دخول الجنّة، أو ترتب دخول النّار، و لا نری من أنفسنا ذلک أصلاً.

ص:521

و الحاصل: أن الدّاعی إلی العبادة فی أکثر النّاس بل جمیعهم الّا القلیل منهم، هو نفس الطمع فی الجنّة بما انّ فیها جمیع المشتهیات، أو الخوف من العقاب بما انّ فی النّار خلافها، و حینئذ لا یبقی فرق بینهما و بین المقاصد الدنیویة أصلاً، فاللازم هو الالتزام بکفایة توسط الامتثال و إن کان الباعث علیه هو الغرض الدنیوی أو الأخروی، الذی لا یرجع الی اللّه تعالی، و إلا انحصرت العبادة فی ما کان من أمیر المؤمنین (علیه السلام) و غیره ممّن لا یرون إلّا أهلیة المعبود للعبادة.

و دعوی انه مع أخذ الأجرة لا یتوسط الامتثال أیضاً مدفوعة بالمنع؛ فان المکلف بعد علمه بأن ملکیة العوض تتوقف علی الإتیان بالعمل الصحیح، و هو یتوقف علی قصد الامتثال، فلا محالة یقصده، کما انه إذا علم ان الجنّة موقوفة علی ذلک یقصده کذلک.

و أمّا ما عن الشهید الأوّل (قده) فی قواعده (1)من قطع الأصحاب ببطلان العبادة إذا أتی بها بداعی الثواب أو دفع العقاب، فالظاهر ان مراده ما إذا کانت الغایة المذکورة غایة لنفس العمل لا للعمل المأتی به بداعی الأمر، کیف و قد عرفت ان الغایة فی عبادات غالب الناس هی ما ذکر، فالمراد ما ذکرنا، و الوجه فی البطلان عدم ترتب الثواب علی ذات العمل، و لا یدفع به العقاب.

فالتحقیق فی الجواب عن منافاة العبودیة لأخذ الأجرة ما ذکرنا من الوجه الثانی، الذی ملخّصه یرجع الی ثبوت الطولیّة و نفی العرضیة فتدبّر.

و ربما یقال فی بیان المنافاة ایضاً: ان دلیل صحة الإجارة هو عموم

ص:522


1- 1) القواعد و الفوائد 1:77.

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، و یستحیل شموله للمقام؛ لان الوفاء بالشیء هو إتمامه و إنهاؤه، فالوفاء بعقد الإجارة هو الإتیان بالعمل المستأجر علیه أداءً لحق المستأجر و من الواضح ان هذا لا یجتمع مع الإتیان به أداءً لحق اللّه و امتثالاً لأمره، فلا یعقل اجتماعهما فی محلّ واحد.

و فیه مضافاً الی عدم انحصار دلیل صحة الإجارة بالآیة المذکورة بل یدل علیها آیة التجارة (1)عَنْ تَراضٍ ایضاً ان الوفاء بالعقد لا یتوقف علی عنوان خاص، بل یکفی فیه إیجاد متعلّق العقد فی الخارج فقط، بأیّ نحو اتفق، بل لا یلزم ان یکون الأجیر مباشراً للإیجاد؛ فإنه یکفی فی حصول الوفاء الموجب لاستحقاق الأجرة حصوله من المتبرع بقصد التبرع عن الأجیر، کما ثبت فی محلّه من کتاب الإجارة، فالمراد من الوفاء هو حصول المتعلق فی الخارج من إلی الأجیر و لا یتوقف علی عنوان خاص أصلاً.

المقام الثالث- فی منافاة الوجوب التعبدی النیابی لأخذ الأجرة و عدمها،

فنقول:

التحقیق: ان ما یمکن ان یقع مورداً للبحث فی هذا المقام بعد الفراغ عن المقامین المتقدمین هی صحة النیابة عن الغیر فی الأعمال العبادیّة و لو لم تکن اجرة فی البین؛ لانه مع فرض الصحة و المشروعیة لا یبقی مجال للنزاع فی جواز أخذ الأجرة، بعد ما ثبت فی المقام الأوّل ان الوجوب بما هو وجوب لا ینافی جواز أخذها، و فی المقام الثانی ان العبادیة بما هی کذلک لا ینافیها، ضرورة ان النیابة ان کانت توصلیّة و فرض وجوبها

ص:523


1- 1) سورة النساء الآیة:29.

لجهة، فلا مانع من الاستیجار علیها، و إن کانت غیر توصلیة بل تعبدیة، فهی أیضاً کذلک، فمدار البحث فی هذا المقام هو أصل صحة النیابة و عدمها، و لا وجه للنزاع فی ان الأجرة فیها فی مقابل أیّ شیء، کما لا یخفی.

إذا عرفت ذلک نقول: النیابة فی العبادات الواجبة و المستحبّة ممّا دلّ علیه ضرورة الفقه نصّاً و فتوی، و قد عقد فی الوسائل (1)باباً لاستحباب التطوع بجمیع العبادات عن المیت، و قد ورد الأمر الاستحبابی بالنیابة عن الحیّ فی بعض الموارد، و ربما یؤیّد ذلک ما ورد فی شأن بعض الواجبات الإلهیّة من انه دین اللّه، أو من التعبیر الظاهر فی هذه الجهة کقوله تعالی وَ لِلّهِ عَلَی اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَیْتِ ، و غیره بضمیمة ان الاعتبار فی باب دین الخلق انه کما ان المدیون له السلطنة علی إفراغ ذمّته من الدین، و جعل الکلی المتعلق بعهدته مشخّصاً فی فرد یدفعه الیه بعنوان أداء الدین، کذلک هذه السلطنة ثابتة لغیر المدیون؛ فان له ان یفرّغ ذمّته بأداء دینه تبرّعاً، و جعلت له هذه السّلطنة أیضاً، فیمکن له ان یجعل الکلّی المتعلق بعهدة المدیون مشخّصاً فی فرد یدفعه بذلک العنوان إلی الدائن، فیقال فی العرف: انه قضی عن فلان دینه، و هکذا فی باب دین الخالق؛ إِذ انه لا فرق بینه و بین دین الخلق من هذه الجهة.

و بالجملة لا إشکال فی مشروعیّة النیابة فی العبادة فی الجملة فی الشریعة، و هذا یکفی لنا فی هذا المقام و إن لم نقدر علی تصویرها بحیث تنطبق علی القواعد، الّا ان یقال بالاستحالة؛ فإنّها توجب صرف الأدلة الظاهرة فی المشروعیة عن ظاهرها، و لأجله لا بد من البحث فی هذه الجهة

ص:524


1- 1) الوسائل 5:365 ب 12 من أبواب القضاء الصلاة.

فنقول:

ربما یقال بالاستحالة؛ نظراً الی ان التقرب اللازم فی العمل العبادی غیر قابل للنیابة، فتقرب النائب یوجب قرب نفسه لا قرب المنوب عنه، فالقرب المعنوی کالقرب الحسّی، فان تقرب شخص من شخص مکاناً یوجب قربه منه، لا قرب غیره، و إن قصده ألف مرّة.

کما انه ربما یقال بها؛ نظراً الی ان النائب لا أمر له بذات العمل، فلا یمکنه التقرب، و أوامر النیابة توصّلیة، و علی فرض تقرب النائب بأمر النّیابة فهو تقرب له بالنسبة إلی أمر نفسه، لا بأمر المنوب عنه المتعلق بالمنوب فیه.

و أجیب عن الوجه الثانی بوجوه:

منها: ما حکی عن بعض الاعلام فی کتاب القضاء من ان النیابة من الأمور الاعتباریة العقلائیة التی لها آثار عند العقلاء، فاذا کانت ممضاة شرعاً کان مقتضاها ترتب تلک الآثار علیها، و إلا فلا معنی لإمضائها، و کما ان الضمان أمر اعتباری عقلائی و فائدته صیرورة الضامن بمنزلة المضمون عنه، و صیرورة ما فی ذمة المضمون عنه دیناً علی الضامن، کذلک إذا کان المنوب فیه من العبادات، فان معنی ترتب فائدة النیابة الاعتباریة علیها شرعاً توجه تکلیف المنوب عنه إلی النائب؛ إذ لا معنی للمنزلة الّا ثبوت ما کان علی المنوب عنه فی حق النائب من الأحکام التکلیفیة و آثارها.

و أورد علیه بأنه ان أرید توجه تکلیف المنوب عنه إلی النائب حقیقة فهو محال؛ لان تشخّص الإضافات و الاعتباریات بتشخص أطرافها،

ص:525

و یستحیل خروجها من حدّ الی حدّ مع بقائها علی شخصیتها، و إن أرید انتساب تکلیف المنوب عنه بعد التنزیل إلی النائب بالعرض؛ نظراً الی ان ذات النائب نزلت منزلة ذات المنوب عنه، فهو هو بالعنایة، فکذا فعله فعله بالعنایة، و أمره امره کذلک، ففیه: ان التکلیف العرضی لا یجدی فی الانبعاث الحقیقی، و هو مضایف للبعث الحقیقی و قصد الامتثال متفرّع علیه.

و إن أرید انّ مقتضی تنزیل الذات منزلة ذات اخری شرعاً جعل تکلیف مماثل جدّاً لتکلیف المنوب عنه، نظیر تنزیل المؤدّی منزلة الواقع فی باب الخبر، فالتکلیف المماثل و إن کان حقیقیّا فی حدّ نفسه، الّا انه بعنایة أنّه الواقع فهو تکلیف حقیقی من حیث ذاته، و واقعی من حیث العنوان عنایة، فکذا هنا، فتکلیف النائب حقیقی من حیث نفسه، و تکلیف المنوب عنه عیناً بالعنایة، فهو معنی صحیح، و لکنّه یحتاج الی الدلیل، و لیس مجرد الإمضاء دالّاً علی هذا المعنی، الّا علی تقدیر عدم إمکان قصد الامتثال الّا بتوجیه تکلیف حقیقی إلی النائب، مع انه ممکن.

و منها: ان مباشرة الفاعل قد تکون دخیلة فی الغرض المترتب من الفعل للمولی، فلا یسقط الأمر بفعل الغیر و لو کان توصّلیاً، و قد لا یکون لها دخل فی الغرض، فیمکن ان یکون مثل هذا الأمر محرّکاً للغیر نحو هذا الفعل مراعاة لصدیقه و استخلاصاً له عن العقاب و عن بعده عن ساحة المولی، فیصحّ تقرب النائب بأمر المنوب عنه.

و أورد علیه بان الغرض ان کان مترتّباً علی فعل کان منهما بما هما هما، فمثله یجب کفایة لا عیناً، و إن کان مترتّباً علی فعل المنوب عنه فقط، غایة الأمر انه أعم من المباشری و التسبیبی، بل أعم ممّا بالذات

ص:526

و ما بالعرض، فمثله یوجب توجه تکلیف حقیقی إلی المنوب عنه فیحرکه نحو الفعل الأعم، و یستحیل ان یکون المحرّک له محرّکاً لغیره، و لو کان الغرض أعمّ، غایة الأمر سقوط التکلیف بسقوط غرضه الحاصل بفعل الغیر إذا کان توصّلیاً، و حیث ان المفروض هی التعبدیة، فلا یسقط الغرض الا مع قصد الامتثال و هو متوقف علی محرّکیة الأمر.

و منها: ان فعل النائب تارة باستنابة من المنوب عنه، و أخری بمجرد نیابة الغیر من دون استنابة، فان کان بالنحو الأوّل فالمنوب عنه کما یتقرب بامره بفعله المباشری، کذلک یتقرب بامره بفعله التسبیبی، فلا حاجة الی تقرب النائب حتی یطالب بالأمر المقرّب له، فالتوسعة حینئذ فی الآلة العاملة لا فی الأمر المتعلق بالعمل، و إن کان بالنحو الثانی فرضی المنوب عنه بالفعل المنوب فیه کاف فی تقرّبه، و لا حاجة الی تقرب النائب، و مبنی الشقین معاً علی عدم لزوم قصد التقرب من النائب أصلاً، بل یأتی بذات العمل القابل للانتساب الی المنوب عنه و التقرب به شأنه.

و أورد علیه بان الشق الأوّل مبنی علی إمکان تعلق التکلیف بالأعمّ ممّا هو تحت اختیاره و ما هو تحت اختیار الغیر کما فی المقام؛ إذ انه یتوسط بین الفعل التسبیبی و بین ما یتسبب إلیه إرادة الفاعل المختار، و هو محلّ الکلام، و الشق الثانی یرجع الی الجواب عن الوجه الأوّل من وجهی الإشکال فتدبّر.

و منها: ما افاده المحقق (1)الأصفهانی (قده) فی کتاب الإجارة ممّا حاصله ان دفع الاشکال موقوف علی تقدیم أمرین

ص:527


1- 1) کتاب الإجارة للمحقّق الأصفهانی 1:206.

الأوّل ان غایة کل فعل هی فائدته القائمة به، و هی بوجودها الخارجی غایة، و بوجودها العلمی علة غائیة، و الأمر لیس من فوائد الفعل بوجوده الخارجی، کیف و هو متقدم علیه و لا یعقل بقاؤه بعد وجود الفعل؟ فلیس بوجوده العلمی علة غائیة حتی یوصف بکونه داعیاً و باعثاً.

الثانی ان موافقة المأتی به للمأمور به من عناوین الفعل، و قصد الامتثال مرجعه الی قصد إتیان المماثل للمأمور به من حیث انه کذلک، و قصد موافقة الأمر مرجعه الی قصد ما یوافق المأمور به من حیث انه کذلک، و لا یخفی علیک ان موافقة المأتیّ به تارة بالإضافة إلی ذات المأمور به و أخری بالإضافة إلی المأمور به بما هو مأمور به، و مرجع الأوّل إلی موافقة الفرد للطبیعی و هو أجنبی عن قصد القربة و لا ینطبق علیه عنوان من العناوین الحسنة.

إذا عرفت ذلک فاعلم ان النائب تارة یأتی بالفعل الموافق لما أمر به المنوب عنه من دون قصد عنوانه، بل یدعوه الیه داع آخر، فالفعل المنسوب الی المنوب عنه غیر عبادی، و أخری یأتی بالفعل بقصد کونه موافقاً لما أمر به المنوب عنه، لا عن المنوب عنه، فالفعل لا یقع عبادیّاً لا عن المنوب عنه؛ لعدم إتیانه عنه، و لا عن النائب، لعدم المضایف فیه، إذ لا مأمور به له حتی یقصد کون المأتی به موافقاً للمأمور به، و مجرد کونه موافقا لذات المأمور به لا یجدی فی العبادیة، و ثالثة یأتی بالفعل بقصد کونه موافقاً للمأمور به عن المنوب عنه، فهذا العنوان المقصود لمّا کان عن المنوب عنه فمضایفه بالإضافة إلیه فعلیّ، و بعد فرض انتسابه الی من کان مضایفه فعلیّاً فیه یمکن إتیان الفعل المعنون بهذا العنوان فی ذاته بقصد

ص:528

عنوانه من ایّ شخص کان؛ لأنه لا یتفاوت تعنون الفعل بهذا العنوان بتفاوت الأشخاص، و إن صیرورته عبادیّاً بقصده لا بدّ فیها من انتسابه الی من کان مضایف العنوان فعلیّاً فیه.

و مرجع ما أفاده إلی انه لا یلزم فی ثبوت وصف العبادیة توجّه الأمر إلی الفاعل و إتیانه المأمور به بداعی الأمر المتوجه الیه، بل یکفی فیه کون العمل المأتی به موافقاً للمأمور به، و الإتیان به، کذلک مع إمکان صحّة الانتساب الی من کان مأموراً بذاک الأمر، فإذا فرض قیام الدّلیل علی صحة النّیابة، و مرجعه إلی إمکان الانتساب الی المنوب عنه، فلا یبقی من جهة العبادیّة نقصان و خلل أصلاً، من دون فرق بین ما إذا کان هناک استنابة أم لا، فان ثبوت الأمر و توجهه الی المنوب عنه و صحة الانتساب الیه علی ما هو مقتضی أدلّة مشروعیة النّیابة و الإتیان بقصد الموافقة للمأمور به بما هو کذلک، یکفی فی وقوعه عبادة؛ لثبوت الأمر من ناحیة و صحة الانتساب من ناحیة أخری، و الإتیان بها بهذا العنوان من ناحیة ثالثة، و علیه فلا حاجة فی حصول التقرّب المقوم للعبادیة لتوجّه الأمر إلی الفاعل أصلاً.

و هذا هو الجواب الصحیح عن الوجه الثانی، و به یظهر الجواب عن الوجه الأوّل؛ فإن مقتضی ما ذکرنا هو حصول القرب للمنوب عنه بسبب إتیان النائب المنوب فیه بقصد کونه موافقاً للمأمور به عن المنوب عنه؛ بداهة انه إذا کانت عبادیّته لأجل الإتیان به بذلک القصد عن المنوب عنه، فلازمه هو حصول القرب للمنوب عنه، و لا وجه لتقرّب النائب أصلاً، فالقصد یتحقق من النائب، و القرب یقع للمنوب عنه من دون محذور،

ص:529

و لا وجه للالتزام بعدم لزوم قصد التقرب علی النائب، و انّ رضا المنوب عنه بما نسب الیه کاف فی مقربیّة العمل له، کما انه لا وجه للالتجاء إلی إنکار النیابة بالمعنی المعروف و إرجاع النّیابة الی ما یساوق إهداء الثواب.

مضافاً الی ما أورد علی الأوّل بعد توجیهه بان غرضه لیس تعلق التکلیف بالأعم من الفعل و من الرّضا بما یؤتی به عنه بحیث یکون الرّضا أحد فردی الواجب التخییری، و أیضاً لیس غرضه تعلق التکلیف بالأعم من الفعل المباشری و الفعل المرضی به، لاستحالة تعلق التکلیف بما لیس من ایجادات المکلف، کما انه لیس المراد ان صدور الفعل مع الرّضا به کاف فی المقرّبیة، بل الغرض ان الفعل المنسوب إلیه بالنیابة المشروعة، إذا رضی به المنوب عنه بما هو موافق لأمره و بما هو دین اللّه علیه قربیّ منه، بحیث لو صدر منه مباشرة من حیث کونه کذلک لکان مقرّباً له بلا شبهة.

و محصّل الإیراد: انه لا یتم فی النیابة عن المیت، فان المکلف به هو العمل مع قصد الامتثال، فلا بد فی سقوط التکلیف من حصول هذا المقیّد فی هذه النشأة فکون العمل فی هذه النشأة، و قیده فی نشأة الآخرة لیس امتثالاً للتکلیف الذی لا موقع له الّا فی النشأة الدنیویّة.

و إلی ما أورد علی الثانی بأنّه مناف لظاهر النصوص و الفتاوی؛ فان الحجّ الذی یستنیب فیه الحیّ العاجز، لا یراد منه الّا إسقاط التکلیف المتوجه إلیه بالاستنابة، لا مجرّد تحصیل ثوابه، مضافاً الی ان تقرّب النائب و إیصال الثواب انّما یتصور فیما کان مستحبّاً فی حق النائب کالحج و الزیارة المندوبین، و أمّا القضاء عن المیت وجوباً أو تبرّعاً فلا أمر للنائب إلّا الأمر الوجوبی أو النّدبی بالنیابة لا بالمنوب فیه و أوامر النیابة توصّلیة.

ص:530

فانقدح من جمیع ما ذکرنا ان الجواب الصحیح عن الوجه الأوّل ما ذکر فتدبّر.

بقی الکلام فی الواجبات النظامیّة التی قام الإجماع بل الضرورة علی جواز أخذ الأجرة فیها، فان قلنا بعدم استلزام القول بالجواز فی غیرها لشیء من الإیرادات العقلیة المتقدمة کما هو الحقّ و قد عرفته فلا یکون الحکم بالجواز فیها مخالفاً لحکم العقل و للقاعدة، و أمّا ان قلنا بالاستلزام فلا بد من ان یکون خروج الواجبات النظامیة و الحکم بالجواز فیها مستنداً الی دلیل، و فی الحقیقة یرد علی المشهور القائلین بالمنع النقض بالواجبات النظامیة، و لا بدّ لهم من الجواب، و قد أجیب عن ذلک بوجوه:

منها: خروجها بالإجماع و السیرة القائمین علی الجواز فی خصوصها.

و یرد علیه: انه انما یجدی إذا کان المنع لدلیل تعبدی؛ فإنه علی هذا التقدیر یخصص عمومه بالإجماع و السیرة المذکورین، و أمّا إذا کان المنع لأمر عقلی کما عرفت فلا موقع لتخصیصه بما عدا الواجبات النظامیة، کما هو الظاهر.

و منها: ما عن جامع (1)المقاصد من تخصیص الجواز بصورة سبق قیام من به الکفایة بالعمل، و علیه یخرج عن أخذ الأجرة علی الواجب تخصّصاً.

و یرد علیه: انه مناف لإطلاق کلام الأصحاب؛ فإن ظاهرهم ثبوت الجواز بالنسبة إلی السابق ایضاً، و بعبارة اخری: مرجعه الی تسلیم الإشکال؛ لأنه مع سبق قیام من به الکفایة یسقط الوجوب و لا یکون أخذ

ص:531


1- 1) لم نعثر علی ذلک غیر هذا ص 35.

الأجرة حینئذ فی مقابل الواجب کما عرفت.

و منها: ما نسب الی صاحب الریاض (1)(قده) من اختصاص المنع بالواجبات الذاتیّة النفسیّة، کدفن المیت و تعلیم الاحکام، لا الواجبات المقدمیّة کالصناعات التی هی مقدمة لحفظ النظام الواجب.

و أورد علیه بان المنع لیس لدلیل لبّی یؤخذ فیه بالمتیقن، و لا لفظی لیدّعی انصرافه عن الواجب الغیری، بل المانع أمر عقلی ینافی طبیعة الوجوب نفسیّاً کان أم غیریّاً.

و یمکن الجواب عنه بان القدر المسلّم من حفظ النظام الواجب هو حفظه بنحو لا یوجب الهرج و المرج، و الأجرة لا تقع فی مقابل ما تعلّق به التکلیف، بل هی واقعة فی مقابل المقدمات؛ ضرورة انّها تقع فی مقابل الطبابة و الخیاطة و نحوهما، و هذه الأمور مقدمة لتحقق الواجب، و قد حقق فی محلّه انه لا یسری الوجوب من ذی المقدمة إلیها، فلا یستلزم القول بالجواز فیها شیئاً من الإیرادات العقلیة المتقدّمة، و لکن مقتضاه التصرف فی کلام الریاض؛ لان لازمه جواز أخذ الأجرة مع حفظ الوجوب الغیری و ثبوته کما لا یخفی.

و منه یظهر بطلان ما عن بعض الاعلام فی مقام الجواب عن صاحب الریاض، من ان تلک الصناعات مع انحفاظ النظام متحدان فی الوجود کالإلقاء و الإحراق، و الضرب و التأدیب، و المقدمة المتحدة الوجود مع ذیها لا تجب بوجوب مقدمی؛ لاستحالة التوصل بشیء إلی نفسه.

وجه البطلان ان الفعل التولیدی یستحیل ان یکون متّحد الوجود مع

ص:532


1- 1) ریاض المسائل 1:505.

المتولّد منه، و من الواضح مغایرة الخیاطة و انحفاظ النظام، و کذا غیرها، فهذا الوجه خال عن الاشکال، و إن کان لا یلائم التعبیر عن مثل الخیاطة بالواجب النظامی؛ فان الواجب هو ذو المقدمة، و الخیاطة لا تکون واجبة أصلاً، و فی الحقیقة یخرج ذلک عن محلّ البحث، و هو أخذ الأجرة علی الواجب کما هو ظاهر.

و منها: غیر ذلک من الوجوه المذکورة التی تظهر مع ما یمکن ان یجری فیها من المناقشة للمتتبع المتأمل.

هذا تمام الکلام فی بحث قاعدة أخذ الأجرة علی الواجب.

ص:533

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.